شرح العقيدة الطحاوية/قوله:(وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء)
وهو المبعوث إلى عامة الجن 1 وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء
شرح: أما كونه مبعوثاً إلى عامة الجن، فقال تعالى حكاية عن قول الجن: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } 2 الآية.
وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضاً. قال مقاتل: لم يبعث الله رسولاً إلى الأنس والجن قبله. وهذا قول بعيد.
فقد قال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم } 3، الآية، والرسل من الأنس فقط، وليس من الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن: { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } 4، الآية: تدل على أن موسى مرسل اليهم أيضاً. والله أعلم.
وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتج بهذه الآية الكريمة. وفي الإستدلال بها على ذلك نظر لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } 5 والمراد: من أحدهما.
وأما كونه مبعوثاً إلى كافة الورى، فقد قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } 6 وقال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } 7 وقال تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } 8 أي: وأنذر من بلغه، وقال تعالى: { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } 9 وقال تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } 10، وقال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } 11 وقال تعالى: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ } 12.
وقال ﷺ: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث إلى الناس عامة، 13.
وقال ﷺ: لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار، 14. وكونه ﷺ مبعوثاً إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة.
وأما قول بعض النصارى إنه رسول إلى العرب خاصه -: فظاهر البطلان، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال إنه رسول الله إلى الناس عامة، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتماً، فقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف، يدعو إلى الإسلام.
وقوله: وكافة الورى في جر { كَافَّة } نظر، فإنهم قالوا: لم تستعمل كافة في كلام العرب إلا حالاً، واختلفوا في إعرابها في قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } 15، على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها حال من الكاف في أرسلناك وهي إسم فاعل والتاء فيها للمبالغة، أي: إلا كافاً للناس عن الباطل، وقيل: هي مصدر كف، فهي بمعنى كفا أي: إلا أن تكف الناس كفا، ووقوع المصدر حالاً كثير.
الثاني: أنها حال من الناس. واعترض بأن حال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور، وأجيب بأنه قد جاء عن العرب كثيراً فوجب قبوله، وهو اختيار ابن مالك رحمه الله، أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة.
الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف، أي: رسالة كافة. واعترض بما تقدم أنها لم تستعمل إلا حالاً.
وقوله: بالحق والهدى وبالنور والضياء. هذه أوصاف ما جاء به رسول الله ﷺ من الدين والشرع المؤيد بالبراهين الباهرة من القرآن وسائر الأدلة. والضياء: أكمل من النور، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً } 16.
هامش
- ↑ [قال الألباني: ومن ضلالات القاديانية إنكارهم ل ( الجن ) كخلق غير الإنس ويتأولون كل الآيات والأحاديث المصرحة بوجودهم ومباينتهم للإنس في الخلق بما يعود إلى أنهم الإنس أنفسهم أو طائفة منهم حتى إبليس نفسه يقولون إنه إنسي شرير فما أضلهم. بسقر حيث قال تعالى ( سأصليه سقر ) المدثر: 26 فلما أوعد الله بسقر لمن قال: ( إن هذا إلا قول البشر ) المدثر: 32 علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر ( نقل هذا الكلام عن المصنف رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 12 / 507 ) مستشهدا به وقال الشارح ابن أبي العز رحمه الله ( ص 179 الطبعة الرابعة ) الصفحة 168 - 169 الطبعة التاسعة طبع المكتب الإسلامي: " وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة. وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال ": ثم ساقها ومنها الثالث وهو أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره قال: وسابعها أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره وهذا قول أبي منصور الماتريدي... وتاسعها أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة. وقوله: " كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا " - رد على المعتزلة وغيرهم. فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبد منه كما تقدم حكاية قولهم. وقال الشيخ محمد بن مانع رحمه الله تعالى ( ص 8 ): " القرآن العظيم كلام الله لفظه ومعانيه فلا يقال اللفظ دون المعنى كما هو قول أهل الاعتزال ولا المعنى دون اللفظ كما هو قول الكلابية الضلال ومن تابعهم على باطلهم من أهل الكلام الباطن المذموم فأهل السنة والجماعة يقولون ويعتقدون أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ألفاظه ومعانيه عين كلام الله سمعه جبريل من الله والنبي سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من النبي فهو المكتوب بالمصاحف المحفوظ بالصدور المتلو بالألسنة. قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: وكذلك القرآن عين كلامه ال مسموع منه حقيقة ببيان هو قول ربي كله لا بعضه لفظا ومعنى ما هما خلقان تنزيل رب العالمين ووحيه اللفظ والمعنى بلا روغان ". وقال الشارح رحمه الله ( ص 194 - 195 ) 181: " وكلام الطحاوي رحمه الله يرد قول من قال: إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه وأن المسموع المنزل المقروء والمكتوب ليس كلام الله وإنما هو عبارة عنه. فإن الطحاوي رحمه الله يقول: " كلام الله منه بدا ". وكذلك قال غيره من السلف ويقولون: منه بدا وإليه يعود. وإنما قالوا: منه بدا لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون إنه خلق الكلام في محل فبدا الكلام من ذلك المحل. فقال السلف: " منه بدا " أي هو المتكلم به فمنه بدا لا من بعض المخلوقات كما قال تعالى: ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) الزمر: 1 ( ولكن حق القول مني ) السجدة: 13 ( قل نزله روح القدس من ربك الحق ) النحل: 102. ومعنى قولهم: " وإليه يعود ": يرفع من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف. كما جاء ذلك في عده آثار. وقولهم " بلا كيفية ": أي: لا تعرف كيفية تكلمه به " قولا " ليس بالمجاز " وأنزله على رسوله وحيا " أي: أنزله إليه على لسان الملك فسمعه الملك جبرائيل من الله وسمعه الرسول محمد ﷺ من الملك وقرأه على الناس. قال تعالى: ( وقرآنا عربيا لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) الإسراء: 106 وقال تعالى: ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) الشعراء: 193 وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى ) ]
- ↑ [الأحقاف: 31]
- ↑ [الأنعام: 130]
- ↑ [الأحقاف: 30]
- ↑ [الرحمن: 22]
- ↑ [سـبأ: 28]
- ↑ [الأعراف: 158]
- ↑ [الأنعام: 19]
- ↑ [النساء: 79]
- ↑ [يونس: 2]
- ↑ [الفرقان: 1]
- ↑ [آل عمران: 20]
- ↑ [أخرجاه في الصحيحين]
- ↑ [رواه مسلم]
- ↑ [سـبأ: 28]
- ↑ [يونس: 5]