تفسير المراغي/سورة الرحمن
هي مكية وآيها ثمان وسبعون، نزلت بعد سورة الرعد.
ووجه صلتها بما قبلها:
(1) إن فيها تفصيل أحوال المجرمين والمتقين التي أشير إليها في السورة السابقة إجمالا في قوله: « إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ » وقوله: « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ » (2) إنه عدّد في السورة السابقة ما نزل بالأمم التي قد خلت من ضروب النقم وبين عقب كل ضرب منها أن القرآن قد يسّر لتذكر الناس وإيقاظهم، ثم نعى عليهم إعراضهم - وهنا عدد ما أفاض الله على عباده من ضروب النعم الدينية والدنيوية في الأنفس والآفاق، وأنكر عليهم إثر كل فن منها إخلالهم بموجب شكرها.
(3) إن قوله: « الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ » كأنه جواب سائل يقول: ما ذا صنع المليك المقتدر، وما أفاد برحمته أهل الأرض؟.
[سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 13]
بسم الله الرحمن الرحيم
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) والْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
تفسير المفردات
الرحمن: اسم من أسماء الله الحسنى، والإنسان هو هذا النوع، البيان: تعبير الإنسان عما في ضميره وإفهامه لغيره، بحسبان: أي بحساب دقيق منظم، والنجم: ما لا ساق له من النبات كالحنطة والفول، والشجر: ما له ساق كالنخل والبرتقال، يسجدان: أي ينقادان لله طبعا كما ينقاد المكلفون اختيارا، رفعها: أي خلقها مرفوعة المحل والمرتبة، والميزان: العدل والنظام، وأقيموا الوزن بالقسط: أي قوّموا وزنكم بالعدل، ولا تخسروا الميزان: أي لا تنقصوه، للأنام: أي للخلق، والأكمام: واحدها كمّ (بالكسر) وعاء الثمر، والعصف: ورق النبات الذي على السنبلة، والريحان: كل مشموم طيب الرائحة من النبات، والآلاء: النعم واحدها إلى (بفتح الهمزة وكسرها) وإلى وإلو.
المعنى الجملي
بين سبحانه ما صنعه المليك المقتدر من النعم لعباده، رحمة بهم فأفاد:
(1) أنه علم القرآن وأحكام الشرائع لهداية الخلق وإتمام سعادتهم في معاشهم ومعادهم.
(2) أنه خلق الإنسان على أحسن تقويم وكمله بالعقل والمعرفة.
(3) أنه علمه النطق وإفهام غيره، ولا يتم هذا إلا بنفس وعقل.
(4) أنه سخر له الشمس والقمر والنجوم على نظام بديع ووضع أنيق لحاجته إليها في دنياه ودينه.
(5) أنه سخر له النجم والشجر ليقتات منهما.
(6) أنه رفع السماء وأقامها بالحكمة والنظام.
(7) أنه أوجد الأرض وما فيها من نخل وفاكهة وحب ذي عصف وريحان.
الإيضاح
(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي الله سبحانه علم محمدا ﷺ القرآن، ومحمد علمه أمته.
وهذه الآية نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا: « إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ».
ولما كانت هذه السورة لتعديد نعمه التي أنعم بها على عباده - قدّم النعمة التي هي أجلّها قدرا وأكثرها نفعا، وأتمها فائدة، وهي نعمة تعليم القرآن الكريم، فباتباعه تكون سعادة الدارين، وبالسير على نهجه تنال الرغائب فيهما وهو سنام الكتب السماوية، وقد نزل على خير البرية.
ثم امتنّ بعد هذه النعم بنعمة الخلق التي هي مناط كل الأمور ومرجع جميع الأشياء فقال:
(خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي خلق هذا الجنس وعلمه التعبير عما يختلج بخاطره ويدور بخلده، ولو لا ذلك ما علم محمد القرآن لأمته.
ولما كان الإنسان مدنيا بطبعه لا يعيش إلا مجتمعا بسواه - كان لا بد له من لغة يتفاهم بها مع سواه من أبناء جنسه ويكتب إليه في الأقطار النائية، والبلاد النازحة، ويحفظ علوم السلف، لينتفع بها الخلف، ويزيد فيها اللاحق، على ما فعل السابق.
وهذه منة روحية كبرى لا تعدلها منة أخرى في هذه الحياة، ومن ثم قدمها على النعم الأخرى الآتية.
وقد بدأ أوّلا بما يتعلّم وهو القرآن الذي به السعادة، ثم ثنى بالتعلم، ثم ثلث بطريق التعلم وكيفيته، ثم انتقل إلى ذكر الأجرام العلوية التي ينتفع بها الناس في معاشهم فقال:
(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي إن الشمس والقمر وهما من أعظم الأجرام يجريان في بروجهما ومنازلهما بحساب مقدر معلوم، وبهما تنتظم أمور المخلوقات الأرضية، وتختلف الفصول، وبهذا الحسبان انتفع بهما الناس في شئون الزراعات كمواعيد البذر والحصاد، وما ينفع منها في كل فصل من الفصول، وفى الأمور المالية من بيع وشراء لآجال محدودة من شهور وسنين، وفى تقدير الأعمار والآجال التي تقدمت، وجاءت في أخبار الماضين، والتي ستكون للحاضرين.
وبعد أن ذكر أن الشمس والقمر طوع قدرته وقد جعل لهما النظم الدقيقة في الحسبان - أردفه انقياد العوالم الأرضية له فقال:
(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) أي والزرع والشجر ينقادان لله فيما أراد بهما طبعا كما ينقاد المكلف اختيارا، فما اختلاف ثمرهما في الشكل والهيئة واللون والمقدار والطعم والرائحة، إلا انقياد للقدرة التي أرادت ذلك.
(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أي وجعل العالم العلوي رفيع القدر، إذ هو مبتدأ أحكامه، ومتنزّل أوامره ونواهيه لعباده، وسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه، وجعل نظم العالم الأرضى تسير على نهج العدل، فعدل في الاعتقاد كالتوحيد، إذ هو وسط بين إنكار الإله والشرك به، وعدل في العبادات والفضائل والآداب، وعدل بين القوى الروحية والبدنية، فأمر عباده بتزكية نفوسهم وأباح لهم كثيرا من الطيبات لحفظ البدن، ونهى عن الغلوّ في الدين والإسراف في حب الدنيا، وهكذا ترى أن عدله شامل لكل ما في هذا العالم لا يغادر الصغير ولا الكبير منه.
(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي فعل ذلك لئلا تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي من العدل والنّصفة وجرى الأمور وفق ما وضع لكم من سنن الميزان في كل أمر، فترقى شئونكم، وتنتظم أعمالكم وأخلاقكم.
ثم أكد هذا بقوله:
(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي وقوّموا وزنكم بالعدل، ولا تنقصوه شيئا وفى هذا إشارة إلى مراعاته في جميع أعمال الإنسان وأقواله.
والتكرير للتوصية به، وتأكيد الأمر باستعماله والحث عليه، وقد أمر سبحانه أوّلا بالتسوية، ثم نهى عن الطغيان الذي هو مجاوزة الحد، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس.
وقال قتادة في الآية: اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل لك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن في العدل صلاح الناس.
وبعد أن ذكر نعمه الدالة على قدرته برفع السماءذكر مقابلها وهو الأرض فقال:
(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي والأرض بسطها لسكنى الحيوان من كل ما له روح وفيه حياة، لينتفع بما في ظاهرها وما في باطنها في معايشه على ضروب مختلفة وأشكال لا حصر لها.
ثم فصل ما تقدم بقوله:
(فِيها فاكِهَةٌ) أي فيها ما يتفكه به من ألوان الثمار طازجة ومطبوخة ومجففة على شتى الأشكال وضروب الألوان.
(وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أي والنخل ذات الأوعية لثمرها حين ظهوره.
وأفردها بالذكر لكثرتها بالبلاد العربية، وكثرة فوائدها، لأنه ينتفع بثمارها رطبة ويابسة، وينتفع بجميع أجزائها، فيتخذ من خوصها السلال والزنابيل، ومن ليفها الحبال، ومن جريدها سقف البيوت، ويؤكل جمّارها، ومن ثم ذكرها باسمها، وذكر الفاكهة دون أشجارها.
(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) أي وجميع الحبوب التي يقتات بها كالحنطة والشعير، ولها عصف من الورق على سنابلها، وكل مشموم من النبات تطيب رائحته.
وذكر أولا الفاكهة، لأنها للتفكهة فحسب، ثم النخل لأن ثمرها فاكهة وغذاء ثم الحب الذي عليه المعول في الغذاء في جميع البلاد، فهو أتم نعمة لموافقته لمزاج الإنسان، ومن ثم خلقه الله في سائر البلاد، وجعل النخل في البلاد الحارة دون غيرها.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي النعم المتقدمة يا معشر الثقلين من الجن والإنس تكذبان؟ والمراد من تكذيب آلائه كفرهم بربهم، لأن إشراكهم آلهتهم به في العبادة دليل على كفرانهم بها، إذ من حق النعم أن تشكر، والشكر إنما يكون بعبادة من أسداها إليهم.
والتعبير (بالرب) للاشارة إلى أنها نعم صادرة من المالك المربّى لهما الذي ينميهما أجساما وعقولا، فهو الحقيق بالحمد والشكر على ما أولى وأنعم، والعبادة له دون سواه.
وقد كررت هذه الآية في واحد وثلاثين موضعا من السورة تقريرا للنعمة، وتأكيدا للتذكير بها، فتراه عدّد نعمه على الخلق وفصل بين كل نعمتين بما يذكرهم ويقررهم بها.
وهذا أسلوب كثير الاستعمال في كلام العرب، فترى الرجل يقول لمن أحسن إليه بنعمة وهو يكفر بها: ألم تكن فقيرا فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك؟ أفتنكر هذا، ألم تكن خاملا فرفعت قدرك، أفتنكر هذا؟.
فكأنه سبحانه قال: ألم أخلق الإنسان. وأعلمه البيان. وأجعل الشمس والقمر بحسبان. وأنوّع الشجر. وأبدع الثمر. وأعممها في البدو والحضر، لمن آمن بي وكفر. وأسقيها حينا بالمطر، وآونة بالجداول والنّهر. أفتنكران ذلك أيها الإنس والجن؟.
وقد جاء مثل هذا في أشعارهم: انظر قول مهلهل يرثي أخاه كليبا:
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبّأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما خار جأش المستجير
وهي قصيدة طويلة على هذا النسق، ولها نظائر أيضا في رثائه، ولو لا خشية التطويل لأوردنا شيئا منها. وعدلا أي مثلا ونظيرا.
[سورة الرحمن (55): الآيات 14 الى 25]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) ولَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
تفسير المفردات
الصلصال: الطين اليابس الذي له صلصلة وصوت إذا نقر، والفخار: الخزف وهو الطين المطبوخ، والجان: نوع من الجن، والمارج: اللهب الخالص الذي لا دخان فيه، رب المشرقين: أي مشرقى الشمس صيفا وشتاء، ورب المغربين: أي مغربيهما كذلك، مرج البحرين: أي أرسلهما وأجراهما من قولك مرجت الدابة في المرعى: أي أرسلتها فيه، يلتقيان: أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما في رأي العين، برزخ: أي حاجز، لا يبغيان: أي لا يبغى أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال خاصته، واللؤلؤ: الدر المخلوق في الأصداف، والمرجان: الخرز الأحمر، الجواري: السفن الكبار، المنشئات: أي المصنوعات، والأعلام: الجبال واحدها علم وهو الجبل العالي.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه كثيرا من النعم وكان بعضها يحتاج إلى زيادة إيضاح وبيان كخلق الإنسان، وحساب الشمس والقمر، وأسباب نمو الزرع والشجر - فصل أحوالها على الترتيب السابق.
الإيضاح
(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) أي خلق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام من طين يابس له صلصلة إذا نقر، وهو كالخزف المطبوخ في صلابته.
إيضاح هذا أن الطين المطبوخ مركب من الطين والحرارة التي أنضجته وسوّته لتحفظ كيانه وهكذا الإنسان له شهوة الطعام والشراب والتزاوج، لتبقى بنيته وتدوم حياته بالمادة الأرضية التي اجتذبها النبات من الأرض، وله قوة غضبية تورثه الشجاعة والقوة، ليحافظ على بقائه وحياته، ويمنع عن نفسه عاديات الكواسر، ومهاجمات الجيوش والأعداء المحيطة به من كل جانب، وهذه القوة في الإنسان تقابل طبخ الطعام ليصير فخارا، فتتماسك أجزاؤه، ولولاها لما استطاع المحافظة على هيكله المنصوب، وجسمه المحبوب، من الكواسر وأهل القسوة من بنى الإنسان، ولأصبح قتيلا في الفلوات تأكله الطير، أو تهوى بأجزائه الريح في مكان سحيق، كما أن الطين إذا لم يطبخ يتفتت وتذروه الرياح أو يذوب في أجزاء الأرض.
وقد جاء في الكتاب الكريم عبارات مختلفة في خلق الإنسان باعتبار مراتب الخلق، فمرة قال إنه خلقه من تراب وأخرى قال إنه من طين لازب: أي لاصق باليد لما اختلط به من الماء، وهنا قال من صلصال.
(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) أي وخلق الجن من النار الصافية المختلط بعضها ببعض، فمن لهب أصفر إلى أحمر إلى مشوب بالخضرة، فكما أن الإنسان من عناصر مختلفات، فالجانّ من أنواع من اللهب مختلطات.
ولقد أظهر الكشف الحديث أن الضوء مركب من ألوان سبعة، ولفظ (المارج) يشير إلى ذلك، وإلى أن اللهب مضطرب دائما.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم.
روى نافع عن ابن عمر قال: « إن رسول الله ﷺ قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال: مالى أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم؟ قالوا وما ذاك يا رسول الله؟ قال ما أتيت على قول الله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلا قالت الجن: لا بشىء من نعمة ربنا نكذب ».
ولما فرغ من إيضاح خلق الإنسان شرع يوضح خلق الشمس والقمر بحسبان قال:
(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي رب مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما، اللذين يترتب عليهما تقلب الفصول الأربعة، وتقلب الهواء وتنوعه، وما يلي ذلك من الأمطار والشجر والنبات والأنهار الجاريات.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعمة من هذه النعم تكذبان؟ أفتنكران الأمطار وفوائدها؟ أم تنكران ما لاختلاف الفصول من منافع، فبها تختلف صنوف المزروعات من صيفية إلى شتوية، أم تنكران ما لاختلاف الأجواء من مزايا في تنظيم مزاج الإنسان والحيوان.
ولما ذكر نعمه التي تترى على عباده في البر أعقبها بنعمه عليهم في البحر فقال:
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين لا يبغى أحدهما على الآخر، فلا الملح يطغى على العذب فيجعله ملحا، ولا العذب يجعل البحر الملح مثله، فقد حجز بينهما ربهما بحاجز من قدرته، أو بحاجز من الأجرام الأرضية، فترى نهر النيل بمصر يخرج من جبال الحبشة، ويجرى شمالا ختى يصب في البحر الأبيض المتوسط، ولا يبغى أحدهما على الآخر.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأي هذه المنافع تكذبان؟ إذ لو بغى الملح على العذب لم نجد ماء للشرب ولا لسقى الحيوان والنبات ولم نجد ما نقتات به فنهلك جوعا، ولو بغى العذب على الملح لم نجد ما يصلح الهواء ويمنع عاديات الجراثيم التي فيه.
(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) وقد ثبت في الكشف الحديث أن اللؤلؤ كما يستخرج من البحر الملح يستخرج من البحر العذب، وكذلك المرجان وإن كان الغالب أنه لا يستخرج إلا من الماء الملح.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعم تكذبان؟
(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي وله السفن الكبار التي رفعت شرعها في الهواء كالجبال الشاهفة، تجرى في البحر بما ينفع الناس، فتنقل المتاجر من بلد إلى آخر، والأقوات من إقليم هي كثيرة فيه إلى آخر هو محروم منها، وبذا يتمّ تبادل السلع، وسدّ حاجات الأمم في أقواتها ومشاربها.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعم تكذبان - أبخلق موادّ السفن أم بكيفية تركيبها، أم بإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر عليها غيره سبحانه.
أي عبادي، هل ظننتم أن مجرد الإيمان كاف لكم في شكر هذه النعم، فهل خلقت الشمس والقمر والنجم والشجر والزرع والحب، والأنهار والبحار، والدّر والمرجان لقوم لا يعقلون، أو خلقتها لقوم يقبلون مني النعمة، وكيف يقبلونها دون أن يعرفوها؟
[سورة الرحمن (55): الآيات 26 الى 30]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
تفسير المفردات
فان: أي هالك، وجه ربك: أي ذاته، ذو الجلال والإكرام: أي ذو العظمة والكبرياء، يسأله من في السموات والأرض: أي يطلبون منه ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثا وبقاء وفى سائر أحوالهم بلسان المقال أو بلسان الحال، هو في شأن: أي في أمر من الأمور، فيحدث أشخاصا ويجدد أحوالا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر النعم التي أنعم بها على عباده في البر والبحر، في السماء والأرض ردف ذلك بيان أن هذه النعم تفنى ولا تبقى، فكل شيء يفنى إلا ذاته تعالى، وكل من في الوجود مفتقر إليه، فهو المدبر أمره، والمتصرف فيه، فهو يحيى قوما ويميت آخرين، ويرفع قوما ويخفض آخرين.
الإيضاح
(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي إن جميع أهل الأرض يذهبون ويموتون، وكذلك أهل السموات، ولا يبقى سوى وجه ربك الكريم، فإنه الحي الذي لا يموت أبدا.
قال قتادة: أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله فان، وقد ورد في الدعاء المأثور يا حي يا قيّوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك.
ثم وصف سبحانه نفسه بالاستغناء المطلق، والفضل العام، وأنه ذو الجود والكبرياء، يعطى خلقه من النعم والإكرام ما يليق بحالهم، ولا يحجب فضله عن مخلوق خلقه.
انظر إلى هذه النجوم الثواقب في ظلمات الليل، ترها مشرقة ساطعة تتلألأ نورا تنشرح له الصدور، وتقرّ به العيون، فتتجلى لك عظمة الخالق وكبرياؤه، تموت الأحياء وتلك النجوم باقية، والأرض لم تتغير على ما نشاهد، وهذا مظهر الجلال والعظمة، جمال في النجوم، بهجة في الإشراق، مناظر باهرة، أنوار ساطعة، أجسام عظيمة أحوال تتقلب، وأهوال تتعاقب، والناس من بينها يخرون صعقين، فهذا لعمرك هو الجلال والعظمة، فسبحان الخلاق العظيم.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعم تكذبان؟ فالفناء باب للبقاء وللحياة الأبدية، والنعم السرمدية، ولو لا تحليل أجسامنا بالموت لتعطلت الحياة، إذ المادة الأرضية إذا بقيت على حال واحدة كانت قواها محدودة، لكن انبعاث الصور الكثيرة وتعاقبها جيلا بعد جيل يلبس المادة جميع الصور والأشكال ويجعل العالم في تجدد مستمر.
انظر إلى بنى الإنسان مثلا إذا توالدوا جيلا بعد جيل ولم يمت منهم أحد، فلا تمضى إلا أجيال معدودة حتى يكون على القدم ألف قدم، وتمتلئ الأرض بالآدميين، فلا يكفيهم حيوان أرضى ولا نبات مأكول ولا يجدون وسيلة للعيش إلا أن يأكل بعضهم بعضا، وتمتلىء الأرض رمما آدمية من السغب والمخمصة.
والخلاصة - إن في الفناء نعمتين: نعمة الرحمة بتعاقب الأجيال، ونعمة الخروج من سجن المادة إلى فسيح العالم الروحي وإلى التمتع بنعيم آخر بعد الموت.
ولما كان ما ذكر يتضمن الافتقار المتجدد إليه تعالى أوضحه بقوله:
(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأن المادة دائما تلبس جديدا وتخلع قديما، فأجسامنا وأجسام الحيوان على هذا المنوال، فهما في حاجة إلى بقاء الأجسام وتغذيتها وإذا انحل جسم افتقر إلى شيء يعوّض ما ذهب، فالتغيرات المستمرة افتقار، وهذا الافتقار مستمر في كل لحظة، وذلك يدعو إلى السؤال من الواهب المعطى إما بالنطق وإما بتوجه النفس وطلبها العون والمدد والفيض من فضله.
وجماع القول - أن المادة مفتقرة إلى بقاء ما يناسبها، فالنبات في كل لحظة مفتقر إلى ما يبقيه من ماء وهواء وموادّ أخرى، والحيوان يطلب ما يحتاج إليه، والإنسان يسأل ما هو في حاجة إليه: إما سؤال حال، وإما سؤال مقال في كل وقت وآن.
(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فمن شئونه أنه يحيى ويميت ويرزق، ويعزّ ويذل، ويمرض ويشفى، ويعطى ويمنع، ويغفر ويعاقب، ويرحم ويغضب، إلى نحو أولئك.
ومن شئونه إعطاء أهل السموات والأرض ما يطلبون منه على اختلاف حاجاتهم وتباين أغراضهم.
عن عبد الله بن منيب قال: « تلا علينا رسول الله ﷺ هذه الآية فقلنا يا رسول الله وما ذلك الشأن؟ قال: أن يغفر ذنبا، ويفرّج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين » أخرجه الحسن بن سفيان والبزار وابن جرير والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر.
وقال ابن عيينة: الدهر عند الله يومان: يوم الدنيا وشأنه فيه الأمر والنهي، والإماتة والإحياء. ويوم القيامة وشأنه فيه الجزاء والحساب، وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية، وما صح من
قوله ﷺ « جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة » فقال: شئون يبديها، لا شئون يبتديها.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي هذه النعم تكذبان؟ فكم من سؤال أجبته، وكم من جديد أحدثته، وكم من ضعيف في الحياة أرحته، إما بصحة تسعده، أو بموت من سجن المادة يخرجه.
[سورة الرحمن (55): الآيات 31 الى 36]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
تفسير المفردات
سنفرغ لكم: أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، والمراد التوفر على الجزاء والانتقام منهما. قال الزجاج: الفراغ في اللغة على ضربين: أحدهما الفراغ من الشغل، والآخر القصد للشىء والإقبال عليه كما هنا اهـ.
والثقلان: الجن والإنس كما علمت، أن تنفذوا: أي تخرجوا، والأقطار: الجوانب واحدها قطر، والسلطان: القوة والقهر، والشواظ: اللهب الخالص، والنحاس: الدخان الذي لا لهب فيه، قال النابغة الذبياني:
تضىء كضوء السراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا
فلا تنتصران: أي فلا تمتنعان من الله ولا يكون لكما منه ناصر.
المعنى الجملي
بعد أن عدّد سبحانه نعماءه على عباده في البر والبحر وفى الأرض والسماء، ليشكروه على ما أنعم، ويعبدوه وحده على ما أعطى وتمم، وذكر أنهم مفتقرون إليه آناء الليل وأطراف النهار، ثم أرشد إلى أن هذه النعم لا تدوم، بل هي إلى زوال، فكل ما على وجه الأرض سيفنى، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات نبههم إلى أنه في يوم القيامة سيلقى كل عامل جزاء ما عمل، وثواب ما اكتسب، ولا مهرب حينئذ من العقاب، ولا سبيل إلى الامتناع منه، وسيكون جزاء المشركين به العاصين لأوامره، نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كفر بربه وكذب برسله، فاستعدوا لهذا اليوم قبل أن تندموا، ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنقصد لحسابكم ومجازاتكم على أعمالكم، وهذا وعيد شديد وتهديد من الله لعباده، كما يقول القائل لمن يهدده: إذا أتفرغ لك: أي أقصد قصدك.
هذا، وإن شأن الآخرة ما هو إلا شأن من الشئون، فلا يشغله شأن عن شأن وهو القائل: « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » والقائل: « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ».
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي نعم ربكما تكذبان يا معشر الثقلين، ومن جملتها التنبيه إلى ما ستلقونه من الجزاء في هذا اليوم، تحذيرا مما سيؤدى إلى سوء الحساب، وشديد العقاب.
ثم ذكر أنه لا مهرب في هذا اليوم من جزاء كل عامل على عمله فقال:
(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من عقاب الله، فارّين من عذابه فافعلوا، والمراد أنكم لا تستطيعون ذلك، فهو محيط بكم لا تقدرون على الخلاص منه، فأينما ذهبتم أحيط بكم.
ثم بين السبب في عدم إمكان المهرب فقال:
(لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي إن المهرب إنما يكون بالقوة والقهر، وأنّى لكم بهما؟ وممن تستمدونهما وأنتم لا تجدون إذ ذاك حولا ولا طولا؟
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ومن جملتها النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد، فإنها تزيد المحسن إحسانا، وتكف المسيء عن إساءته، مع أن من حذّركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم دون مهلة، والعفو عن المذنب مع كمال القدرة عليه من أجلّ النعم التي يسديها الله إلى عباده.
ثم بين السبب في طلب المهرب فقال:
(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) أي يصب عليكما ألوان من النيران، فمن لهب خالص يضىء كضوء السراج، إلى نار مختلطة بالدخان، فلا تستطيعان المهرب منها، بل يسوقكم إلى الحشر سوقا.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأي هذه النعم تكذبان، فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالإنعام على الأول والانتقام من الثاني، من أجلّ نعم الإله القادر على جزاء عباده.
[سورة الرحمن (55): الآيات 37 الى 45]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
تفسير المفردات
انشقت: تصدعت، وردة: أي كالوردة في الحمرة، والدهان: ما يدهن به: أي كانت مذابة كالدهان، والسيما: العلامة، والنواصي: واحدها ناصية وهي مقدم الرأس، والأقدام: واحدها قدم، وهي قدم الرجل المعروفة، والحميم: الماء الحارّ، وآن: أي متناه في الحرارة لا يستطاع شر به من شدة حرارته.
المعنى الجملي
بعد أن عدد عزت قدرته نعماءه على عباده، وما يجب من شكرهم عليها، ثم أرشدهم إلى أن هذه النعم لا بقاء لها ولا ثبات، ثم ذكر أن الناس محاسبون على الصغير والكبير من أعمالهم، وسيلقون الجزاء عليها، ولا مهرب حينئذ منها، ولا نصير لهم ينقذهم مما سيحل بهم من العذاب - ذكر هنا أنه إذا جاء ذلك اليوم اختل نظام العالم، فتتصدع السموات، ويحمر لونها، وتصير مذابة غير متماسكة، كالزيت ونحوه مما يدّهن به، ويكون للمجرمين حينئذ علامات يمتازون بها عن سواهم، فيتعرفهم الرائي لهم دون حاجة إلى سؤال نكالا وخزيا لهم، ثم يجرّون إلى جهنم من نواصيهم وأرجلهم، ويقال لهم توبيخا وتقريعا: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها، وينتقل بهم من جهنم إلى ماء حار كالمهل يشوى الوجوه ومن عذاب إلى ما هو أشد منه.
الإيضاح
(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) أي فإذا جاء يوم القيامة تصدعت السموات واختلت نظمها، وتبعثرت أجرامها وكواكبها عن مداراتها، واحمر لونها وأذيبت حتى صارت كأنها الزيت ونحوه مما يدّهن به.
ونحو الآية قوله: « إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ». وقوله: « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ » وقوله: « وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ».
والخلاصة - إنها تذوب كما يذوب دردئ الزيت والفضة حين السبك، وتتلوّن كما تتلون الأصباغ التي يدّهن بها، فتارة تكون حمراء وأخرى صفراء وثالثة زرقاء.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن الإخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر، فهو لطف أي لطف، ونعمة أيّما نعمة.
(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) لأنهم يعرفون بسيماهم حينما يخرجون من القبور ويحشرون إلى الموقف.
ونحو الآية قوله تعالى: « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » ثم يسألون بعدئذ كما يدل على ذلك قوله: « فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ».
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي فبأي هذه النعم تكذبان، فإن تخويف المجرم نعمة عليه، حتى يرتدع عن ذنبه، ويثوب إلى رشده، ويتوب إلى ربه.
ثم ذكر السبب في عدم سؤال الإنس والجان عن ذنوبهم فقال:
(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يعرف المجرمون حينئذ بعلامات يمتازون بها عن سواهم، فلا حاجة حينئذ إلى السؤال والجواب، لأن السيما ميزت كل مجرم بنوع جرمه.
ولقد اهتدى الإنسان بعقله إلى فوائد هذه العلامات في الدنيا، فأنشأت الحكومات إدارات خاصة لعلامات المشتبه في سلوكهم ومعتادى الأجرام، فتأخذ إبهاماتهم وتحفظها في أضابير خصّيصى بهم، ولكل امرئ خطوط في إبهامه لا تشابه خطوط غيره فيه ولا يحصل فيها التباس، فمتى أحدث أحدهم حدثا وجاء بجرم روجع ملفّه الخاص، واستخرجت صورة إبهامه من ملفه، وطبقت على الصورة الخارجية ولاقى في المحاكم ما يستحقه من عقاب.
والخلاصة - إن لكل امرئ أحوالا تخصه في جسمه وعقله وأخلاقه، يعرف الناس منها الآن قليلا، وبقية علمها عند الله يعلمها ملائكته يوم القيامة فيعرفون المجرمين بها.
ثم تسحبهم الملائكة تارة بأخذ النواصي، وأخرى بأخذ الأقدام، روى عن الضحاك « أن الملك يجمع بين ناصية أحدهم وقدميه في سلسلة من وراء ظهره، ثم يكسر ظهره ويلقيه في النار، وقيل: تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبا بالناصية، وبعضهم سحبا بالقدم، ولا نجزم بشىء من ذلك إلا بالنص القاطع.
وهذا الوضع معهم سبيل من سبل الإهانة والإذلال والنكال.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يقال هنا مثل ما سلف حذو القذّة بالقذّة.
(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها في الدنيا، فهأنتم الآن قد شاهدتموها ورأيتموها رأي العين، فذوقوا عذابها واشربوا من الحميم الذي يقطّع الأمعاء والأحشاء فأنتم بين الجحيم والحميم.
والخلاصة - إنهم إذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآني الذي صار كالمهل (دردىء الزيت: أي عكره).
ونحو الآية قوله: « إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ».
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يقال هنا مثل ما قيل فيما سلف.
[سورة الرحمن (55): الآيات 46 الى 61]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
تفسير المفردات
الخوف في الأصل: توقع المكروه عند ظهور أمارة مظنونة أو محققة، وضده الأمن ويراد به هنا الكفّ عن المعاصي مع فعل الطاعات، ومقام ربه: أي قيامه عليه واطلاعه على أعماله، جنتان: أي جنة روحية لقلبه، وجنة جسمانية على شاكلة ما عمل في الدنيا، وقيل إنهما منزلان ينتقل بينهما لتتوافر دواعى لذته، وتظهر آثار كرامته، ذواتا: مثنى ذات بمعنى صاحبة، والأفنان: الأنواع واحدها فنّ: أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، زوجان: أي صنفان رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، والفرش: واحدها فراش، والبطائن: واحدها بطانة، والإستبرق: الديباج أي الحرير الثخين، والجنى: الثمر، دان: أي قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع، قاصرات الطرف: أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، لم يطمثهن: أي لم يمسسهن، وأصل الطمث: خروج الدم، ويراد به قربان النساء، كأنهن الياقوت: أي في الصفاء، والمرجان: أي صغار اللؤلؤ في البياض.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما يراه المشركون بربهم، والعاصون لأوامره ونواهيه من الأهوال، من إرسال الشواظ من النار عليهم، ومن أخذهم بالنواصي والأقدام، إهانة لهم واحتقارا ومن التنقل بهم بين النار والحميم الآني الذي يشوى الوجوه - ذكر هنا ما أعده من النعيم الروحي والجسماني لمن خشى ربه، وراقبه في السر والعلن، فمن جنات متشابهة الثمار والفواكه تجرى من تحتها الأنهار، جناها دان لمن طلبه وأحب نيله، يجلس فيها على فرش بطائنها من الديباج، ومن نساء حسان لم يقرب منهن أحد لا من الإنس ولا من الجن، وهن كالياقوت صفاء واللؤلؤ بياضا، وذلك كفاء ما قدموا من صالح العمل، وما أسلفوا في الأيام الخالية، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟.
الإيضاح
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أي ولمن خشى ربه وراقبه في أعماله، وأيقن بأنه مجازيه عليها يوم العرض والحساب، يوم تجزى كل نفس بما كسبت، فإذا هو همّ بمعصية ذكر الله وأنه عليم بسره ونجواه، فتركها مخافة عقابه، وشديد حسابه، ففعل الخير وأحب الخير للناس - جنتان: جنة روحية تصل به إلى حظيرة القدس، وجمال الملكوت ورضا الله عنه « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » وجنة جسمانية بمقدار ما عمل في الدنيا من خير، وقدم من صالح عمل، فبأي نعم ربكما أيها الثقلان تكذبان، فإثابته المحسن منكم بما وصف، وعقابه العاصي بما عاقب من النعم العظمى، والمنن الكبرى.
(ذَواتا أَفْنانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ذواتا أنواع وألوان من الأشجار والثمار من قولهم « افتن فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب مختلفة، والمتنوقون في الدنيا يتنقلون من فاكهة إلى أخرى فيكون ذلك أدعى إلى زيادة اللذة، وأكثر شهوة للطعام، كما قال قائلهم:
ومن كل أفنان اللذاذة والصّبا لهوت به والعيش أخضر ناضر
(فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فيهما عينان تسرحان وتسقيان تلك الأشجار والأغصان، إحداهما يقال لها التسنيم، والأخرى السلسبيل قاله الحسن البصري. وقال أبو بكر الوراق: تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل، فتجريان في كل مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه، كما تصعد المياه في الأشجار في كل غصن منها وإن زاد علوها.
(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فيهما من كل فاكهة صنفان: رطب ويابس، لا ينقص أحدهما عن الآخر لذة وطيبا، بخلاف ثمار الدنيا فإن الطازج فيها ألذ طعما وأشهى مأكلا.
وبعد أن ذكر طعامهم ذكر فراشهم فقال:
(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي مضطجعين على فرش بطائنها من الديباج الغليظ، وإذا كانت هذه حال البطائن فما ظنكم بالظهائر؟ ومن ثم روى عن ابن مسعود أنه قال: أخبرتم بالبطائن، فكيف لو أخبرتم بالظهائر؟ وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله فيه « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » وبمثله قال ابن عباس.
وفي هذا دليل على شرف هذه الفرش، وتمتع أهلها بالثواب العظيم، والنعيم المقيم.
وإنما ذكر الاتكاء، لأنه هيئة تدل على صحة الجسم، وفراغ القلب، إذ العليل لا يستطيع أن يستلقى أو يستند إلى شيء، وهو مشغول القلب يتحرك تحرك المحضر للعقاب.
(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وثمرهما قريب منهم متى شاءوا، ونحو الآية قوله: « قُطُوفُها دانِيَةٌ » وقوله: « وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا » فهي لا تمتنع ممن أرادها، بل تنحط إليه من أغصانها.
ثم ذكر أوصاف النساء اللواتى يمتعون بهنّ فقال:
(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في تلك الجنات نساء غضيضات الطرف عن غير أزواجهن، فلا يرين شيئا فيها أحسن منهم، وهن أبكار لم يمسسهن أحد قبل أزواجهن لا من الجن ولا من الإنس.
(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي كأنهن الياقوت صفاء وصغار اللؤلؤ بياضا.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية: في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ.
ثم بين السبب في هذا الجزاء فقال:
(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في المثوبة.
ونحو الآية قوله: « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ».
وعن أنس بن مالك قال: « قرأ رسول الله ﷺ: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وقال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة » أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي. وروى عن ابن عباس « هل جزاء من قال: لا إله إلا الله في الدنيا إلا الجنة في الآخرة؟ ».
[سورة الرحمن (55): الآيات 62 الى 78]
ومِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
تفسير المفردات
ومن دونهما: أي من ورائهما وأقل منهما، مدهامتان: أي خضراوان بسواد لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري بالماء ونحوه، نضاختان: أي فوارتان بالماء، والنضخ: فوران الماء، حور واحدتهن حوراء: أي بيضاء.
قال ابن الأثير: الحوراء هي الشديدة بياض العين والشديدة سوادها، خيرات: أي خيّرات بالتشديد فخفف كما جاء في الحديث « هينون لينون »
، مقصورات في الخيام: أي مخدّرات، يقال امرأة قصيرة ومقصورة: أي مخدرة ملازمة بيتها لا تطوف في الطرق. قال قيس بن الأسلت:
وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتعتلّ من إتيانهن فتعذر
والخيام: واحدها خيمة وهي أربعة أعواد تنصب وتسقف بشىء من نبات الأرض، وما يتخذ من شعر أو وبر فهو خباء، والرفرف واحده رفرفة: وهي الوسادة (المخدّة) أو ما تدلّى من الأسرّة من غالى الثياب، والعبقري: منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد يسكنه الجن ويسندون إليه كل شيء عجيب، والمراد العجيب النادر الموشى من البسط، تبارك اسم ربك: أي تقدس وتنزه ربنا الذي أفاض على عباده نعمه.
المعنى الجملي
هذا تتميم لوصف الجنات بما يشوق الراغبين فيها، ليعملوا ما يوصلهم إليها، ويرضى ربهم عنهم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الإيضاح
(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مُدْهامَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ومن وراء هاتين الجنتين وأقل منهما فضلا جنتان تنبتان النبات والرياحين الخضراء التي تضرب إلى السواد من شدة خضرتها، لكثرة الري، وأما الجنتان السابقتان ففيهما أشجار وفواكه، وفرق ما بين الحالين، فبأي هذه النعم تكذبان وهي نعم واضحة لا تجحد ولا تنكر.
قال الحسن: الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين لهم.
وعن أبي أيوب الأنصاري قال: « سألت النبي ﷺ عن قوله مدهامتان؟ قال: خضراوان » أخرجه الطبراني وابن مردويه.
(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) النضح كالرش فهو دون الجري، ومن ثم قال البراء بن عازب فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم: « العينان اللتان تجريان خير من النضاختين ». أي فيهما عينان تفوران بالماء. وقال مجاهد: نضاختان بالخير والبركة.
(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) خص النخل والرمان مع دخولهما في الفاكهة، تنبيها إلى ما لهما من ميزة عن غيرهما من الفواكه، لأنهما يوجدان في الخريف والشتاء، ولأنهما فاكهة وإدام، وقد جاء مثل هذا في قوله تعالى: « حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى » وقوله: « وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ ».
(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي في تلك الجنات نساء خيّرات الأخلاق، حسان الوجوه.
روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: « قلت لرسول الله ﷺ: يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى خيرات حسان؟ قال: خيّرات الأخلاق حسان الوجوه ».
وقال الرازي: في باطنهن الخير، وفى ظاهرهن الحسن. وروي أن الحور يغنّين:
نحن الخيّرات الحسان، خلقن لأزواج كرام.
(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهؤلاء الخيّرات الحسان واسعات العيون مع صفاء البياض حول السواد، محبوسات في الحجال، فلسن بطوّافات في الطرقات، والعرب يمدحون النساء الملازمات للبيوت للدلالة على شدة الصيانة.
(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم الكلام في نظيره قبل.
(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهم يتكئون على ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج، ووسائد عظيمة، وبسط لها أطراف فاخرة، غاية في كمال الصنعة وحسن المنظر.
(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي تعالى ربك ذو الجلال والعظمة والتكريم على ما أنعم به وتفضل من نعم غوال، ومنن عظام.
وهذا تعليم منه لعباده بأن كل هذا من رحمته، فهو قد خلق السماء والأرض والجنة والنار، وعذّب العاصين، وأثاب المطيعين، وآتاهم من فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.