تفسير المراغي/سورة الأحقاف
هي مكية إلا ثلاث آيات: 10، 15، 35 فمدنية.
وآياتها خمس وثلاثون، نزلت بعد الجاثية.
ووجه اتصالها بما قبلها - أنه تعالى ختم السورة السالفة بالتوحيد، وذمّ أهل الشرك وتوعدهم عليه، وافتتح هذه بالتوحيد وتوبيخ المشركين على شركهم أيضا.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 1 الى 6]
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)
تفسير المفردات
أجل مسمى: هو يوم القيامة، أنذروا: أي خوّفوا، معرضون: أي مولّون لاهون، تدعون: أي تعبدون، شرك: أي نصيب، أثارة: أي بقية، ومثلها الأثرة (بالتحريك) يقال (سمنت الإبل على أثارة) أي بقية شحم كان قبل ذلك، حشر: أي جمع، كافرين: أي مكذبين.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه السورة بإثبات أن هذا القرآن من عند الله، لا من عند محمد كما تدّعون ثم ذكر أن خلق السموات والأرض مصحوب بالحق قائم بالعدل والنظام، ومن النظام أن تكون الآجال مقدرة معلومة لكل شيء، إذ لا شيء في الدنيا بدائم، ولا بد من يوم يجتمع الناس فيه للحساب، حتى لا يستوي المحسن والمسيء، ولكن الذين كفروا أعرضوا عن إنذار الكتاب ولم يفكروا فيما شاهدوا في العالم من النظام والحكمة، فلا هم بسماع الوحي متعظون، ولا هم بالنظر في العالم المشاهد يعتبرون ثم نعى على المشركين حال آلهتهم وأمر رسوله ﷺ أن يقول لهم: أخبروني ماذا خلق آلهتكم من الأرض، أم لهم شركة في خلق السموات حتى يستحقون العبادة؟ فإن كان لهم ما تدّعون فهاتوا دليلا على هذا الشرك المدّعى بكتاب موحى به من قبل القرآن أو ببقية من علوم الأولين، وكيف خطر على بالكم أن تعبدوها وهي لا تستجيب لكم دعاء إلى يوم القيامة وهي غافلة عنكم، وفى الدار الآخرة تكون لكم أعداء وتجحد عبادتكم لها.
الإيضاح
(حم) الكلام في مثلها قد تقدم من قبل.
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) اعلم أنّ نظم أول هذه السور كنظم أول سورة الجاثية وقد تقدم إيضاحه وتفسيره.
(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالعدل، وبتقدير أجل مسمى لكل مخلوق، إليه ينتهى بقاؤه في هذه الحياة الدنيا، وهذا يستدعى أن يكون خلقه لحكمة وغاية، وأن يكون هناك يوم معلوم للحساب والجزاء، لئلا يتساوى من أحسن في الدار الأولى ومن أساء فيها، ومن أطاع ربه واتبع أوامره ونواهيه، ومن دسّى نفسه، وركب رأسه، واتبع شيطانه وهواه، وسلك سبل الغواية فلم يترك منها طريقا إلا سلكه، ولا بابا إلا ولجه.
ثم بين غفلة المشركين وإعراضهم عما أنذروا به فقال:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي مع ما نصبنا من الأدلة، وأرسلنا من الرسل، وأنزلنا من الكتب - بقي هؤلاء الكفار معرضين عنه، غير ملتفتين إليه، فلا هم بما أنزلنا من الكتب اتعظوا، ولا بما شاهدوا من أدلة الكون اعتبروا، وأنّى لهم ذلك؟ فهم صم بكم عمى لا يعقلون.
وبعد أن أثبت لنفسه الألوهية، وأنه رحيم عادل، وأثبت البعث والجزاء يوم القيامة، ردّ على عبدة الأصنام فقال:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي قل لهم أيها الرسول: أخبروني عن حال آلهتكم بعد التأمل في خلق السموات والأرض وما بينهما، والنظام القائم فيهما، المبنى على الحكمة ودقة الصنع، والإبداع في التكوين: هل تعقلون لهم مدخلا في خلق جزء من هذا العالم السفلى، فيستحقوا لأجله العبادة؟ ولو كان لهم ذلك لظهر التفاوت في هذا النظام، والمشاهد أنه على حال واحدة يستمد أدناه من أعلاه، ويرتبط بعضه ببعض، وكل فرد في الأرض مخدوم بجميع الأفراد فيها، أم هل تظنون أن لهم شركة في خلق العالم العلوي شموسه وأقماره، كواكبه ونجومه، سياراتها وثوابتها.
وقصارى ذلك - نفى استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتمّ وجه، فقد نفى أن لها دخلا في خلق شيء من أجزاء العالم السفلى استقلالا، ونفى ثانيا أن لها دخلا على سبيل الشركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلوي، ونفى ذلك يستلزم نفى استحقاق المعبودية أيضا.
وتخصيص الشركة في النظم الجليل بقوله سبحانه « في السّموات » مع أنه لا شركة فيها ولا في الأرض أيضا - لأن الغرض إلزامهم بما هو مسلّم لهم، ظاهر لكل أحد، والشركة في الحوادث السفلية ليست كذلك، لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة.
وبعد أن بكّتهم وعجّزهم عن الإتيان بسند عقلى، عجزهم وبكتهم عن الإتيان بسند نقلى فقال:
(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان ما تقولونه حقا فائتونى أيها القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب كالتوراة والإنجيل يشهد بصحة ما تدّعون لآلهتكم، أو ببقية بقيت عندكم من علم الأولين المفكرين في خلق السموات والأرض ترشد إلى استحقاق الأصنام والأوثان للعبادة. وتدل على صحة المسلك الذي سلكتموه.
والخلاصة - إن الدليل: إما وحي من الله، أو بقية من كلام الأوائل، وإما إرشاد من العقل، فإن كان الأول فأين الكتاب الذي يدل على أنهم شركاء؟ وإن كان الثاني فأين هو؟
وبعد أن أبطل شركة الأصنام في الخلق بعدم قدرتها على ذلك - أتبعه إبطاله بعدم علمها بالعبادة فقال:
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي لا أضل ممن يعبد من دون الله أصناما ويتخذهم آلهة، وهم إذا دعوا لا يسمعون ولا يجيبون إلى يوم القيامة أي لا يجيبون أبدا ماداموا في الدنيا، إذ هم في غفلة عن دعائهم، لأنهم أحجار، فهم صم بكم لا يسمعون ولا يتكلمون.
وما أنكى هذا التوبيخ وما أمضّ ألمه لهؤلاء المشركين على سوء رأيهم وقبح اختيارهم في عبادتهم ما لا يعقل شيئا ولا يفهم، وتركهم عبادة من بيده جميع نعمهم، ومن به إغاثتهم حين تنزل بهم الجوائح والمصايب.
وبعد أن أبان أنهم لا ينفعونهم في الدنيا ولا يستجيبون لهم دعاء - أبان حالهم في الآخرة فقال:
(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) أي وإذا جمع الناس لموقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يعبدونها في الدنيا أعداء لهم، إذ يتبرءون منهم، وكانوا بعبادتهم كافرين، فهم يقولون: ما أمرناهم بعبادتنا ولا شعرنا بهم، تبرأنا إليك ربنا منها.
ونحو الآية قوله تعالى: « وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا » وقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام « وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ».
[سورة الأحقاف (46): الآيات 7 الى 9]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
تفسير المفردات
المراد بالحق آيات القرآن، افتراه: كذب عليه عمدا، فلا تملكون لي من الله شيئا: أي لا تغنون عنى من الله شيئا إن أراد عقابي، تفيضون فيه: أي تخوضون فيه من تكذيب القرآن، يقال أفاض القوم في الحديث: أي اندفعوا فيه، والبدع والبديع من كل شيء: المبتدع المحدث دون سابقة له.
المعنى الجملي
بعد أن تكلم في تقرير التوحيد ونفى الأضداد والأنداد - أعقب هذا بالكلام في النبوة، وبين أنه كلما تلا عليهم الرسول شيئا من القرآن قالوا إنه سحر، بل زادوا في الشناعة وقالوا: إنه مفترى، فرد عليهم بأنه لو افتراه على الله فمن يمنعه من عقابه لو عاجله به؟ وهو العليم بما تندفعون فيه من الطعن في نبوّتى، ويشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والجحود.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم: إني لست بأول الرسل حتى تنكروا دعائى لكم إلى التوحيد، ونهى لكم عن عبادة الأصنام، وما أدرى ما يفعل بي في الدنيا؟ أأموت أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي، ولا ما يفعل بكم، أترمون بالحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض، أم يفعل بكم غير ذلك مما عمل مع سائر المكذبين للرسل؟ وإني لا أعمل عملا ولا أقول قولا إلا بوحي من ربى، وما أنا إلا نذير، لا أستطيع أن آتى بالمعجزات والأخبار الغيبية، فالقادر على ذلك هو الله تعالى.
الإيضاح
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وإذا تتلى على هؤلاء المشركين حججنا التي أودعناها كتابنا الذي أنزلناه عليك قالوا: هذا خداع وتمويه يفعل فعل السحر في قلب من سمعه.
ثم انتقل من هذه المقالة الشنعاء إلى ما هو أشنع منها فقال:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي دع هذا واسمع القول المنكر العجيب: إنهم يقولون إن محمدا افتراه على الله عمدا، واختلقه عليه اختلاقا.
وقد أمر الله رسوله أن يبطل شبهتهم بقوله:
(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي قل لهم: لو كذبت على الله، وزعمت أنه أرسلنى إليكم، ولم يكن الأمر كذلك لعاقبنى أشد العقاب، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرنى منه، فكيف أقدم على هذه الفرية وأعرّض نفسي لعقابه، فالملوك لا يتركون من كذب عليهم دون أن ينتقموا منه، فما بالكم بمن يتعمد الكذب على الله في الرسالة، وهي الجامعة لأمور عظيمة، ففيها الإخبار عن تكليف الناس بما يصلح شأنهم في دينهم ودنياهم.
ونحو الآية قوله: « قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ » وقوله: « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ ».
ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام منهم بقوله:
(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه، من التكذيب بالقرآن، والطعن في آياته، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى.
ثم أكد صدق ما يقول بنسبة علم ذلك إلى الله فقال:
(كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو يشهد لي بالصدق في البلاغ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود.
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الشديد على إفاضتهم في الطعن في الآيات.
ثم فتح لهم باب الرحمة بعد الإنذار السابق لعلهم يتوبون ويثوبون إلى الحق فقال:
(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي ومع كل ما صدر منكم من تلك المطاعن الشنعاء، إن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم وصح عزمكم على الرجوع عما أنتم عليه، تاب عليكم، وعفا عنكم، وغفر لكم ورحمكم.
وبعد أن حكى عنهم طعنهم في القرآن - أمر رسوله أن يرد عليهم مقترحاتهم العجيبة، وهي طلبهم من الرسول ﷺ أن يأتيهم بمعجزات بحسب ما يريدون ويشتهون، وكلها تدور حول الإخبار بشئون الغيب فقال:
(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) أي قل لهم: لست بأول رسول بلّغ عن ربه، بل قد جاءت رسل من قبلي، فما أنا بالفذّ الذي لم يعهد له نظير حتى تستنكرونى وتستبعدون رسالتي إليكم، وما أنا بالذي يستطيع أن يأتي بالمعجزات متى شاء، بل ذلك باذنه تعالى وتحت قبضته وسلطانه، وليس لي من الأمر شيء، وإلى ذلك أشار بقوله:
(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ولا أعلم ما يفعل بي في الدنيا، أأخرج من بلدي كما أخرجت أنبياء من قبلي، أم أقتل كما قتل منهم من قتل؟ ولا ما يفعل بكم أيها المكذبون، أترمون بحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض؟ كل هذا علمه عند ربي.
وفي صحيح البخاري وغيره من حديث أمّ العلاء أنها قالت: « لما مات عثمان ابن مظعون رضي الله عنه، قلت: رحمة الله عليك يا أبا السائب، لقد أكرمك الله تعالى، فقال رسول الله ﷺ: وما يدريك أن الله أكرمه؟ أمّا هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدرى - وأنا رسول الله - ما يفعل بي ولا بكم، قالت أمّ العلاء فوالله ما أزكى بعده أبدا ».
وفي رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس « أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئا لك ابن مظعون الجنة، فنظر إليها رسول الله ﷺ نظر مغضب وقال: وما يدريك؟ والله إني لرسول الله، وما أدرى ما يفعل الله بي، فقالت: يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم، فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه ».
ومن هذا يعلم أن ما ينسب إلى بعض الأولياء من العلم بشئون الغيب، فهو فرية على الله ورسوله، وكفى بما سلف ردّا عليهم.
ثم أكد ما سلف وقرره بقوله:
(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي ما أتبع إلا القرآن، ولا أبتدع شيئا من عندي.
ثم زاد الأمر توكيدا فقال:
(وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وما أنا إلا نذير، أنذركم عقاب الله، وأخوّفكم عذابه، وآتيكم بالشواهد الواضحة على صدق رسالتي، ولست أقدر على شيء من الأعمال الخارجة عن قدرة البشر.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 10 الى 14]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)
المعنى الجملي
لا يزال الكلام موصولا بسابقه، فبعد أن نعى عليهم استهزاءهم بكتابه وقولهم فيه: إنه سحر مفترى وردّ الرسول عليهم بأنه ليس بأول رسول حتى يستنكرون نبوته ويطلبون منه ما لا قبل له به من المعجزات التي أمرها بيد الله لا بيده - أردف هذا أمر رسوله أن يقول لهم: ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله الله علي لأبلغكموه فكفرتم به وكذبتموه؟ وقد شهد شاهد من بني إسرائيل الواقفين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل ما قلت، فآمن واستكبرتم؟ ثم حكى عنهم شبهة أخرى بشأن إيمان من آمن منهم من الفقراء كعمار وصهيب وابن مسعود فقالوا: لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء، ثم ذكر أنهم حين لم يهتدوا به قالوا: إنه من أساطير الأولين، ثم ذكر أن مما يدل على صدق القرآن أن التوراة وهي الإمام المقتدى به، بشرت بمقدم محمد ﷺ فاقبلوا حكمها في أنه رسول حقا من عند الله، ثم أعقب هذا ببيان أن من آمنوا بالله وعملوا صالحا لا يخافون مكروها، ولا يحزنون لفوات محبوب، وأولئك هم أهل الجنة، جزاء ما عملوا من عمل صالح، وما أخبتوا لربهم، وانقادوا لأمره ونهيه.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي قل لهم: أخبروني إن ثبت أن القرآن من عند الله لعجز الخلق عن معارضته، لا أنه سحر ولا مفترى كما تزعمون، ثم كذبتم به وشهد أعلم بني إسرائيل بكونه من عند الله فآمن واستكبرتم - أفلستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟.
والخلاصة - أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، وشهادة منصف من بني إسرائيل عارف بالتوراة على مثل ما قلت فآمن به مع استكباركم - أفلا تكونون ظالمين لأنفسكم؟
وهذا الشاهد هو عبد الله بن سلام -
فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: « ما سمعت رسول الله ﷺ يقول لأحد يمشى على وجه الأرض: إنه من أهل لجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه، نزلت: (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) ».
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال: نزل في آيات من كتاب الله، نزلت في (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) ونزل في: (قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).
ثم ذكر أن في استكبارهم عن الإيمان ظلما لأنفسهم وكفرا بآيات ربهم فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يوفق لإصابة الحق وهدى الصراط المستقيم من ظلموا أنفسهم باستحقاقهم سخط الله لكفرهم به بعد قيام الحجة الظاهرة عليهم.
عن عوف بن مالك الأشجعى قال « انطلق النبي ﷺ وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله ﷺ: يا معشر اليهود أرونى اثنى عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يحطّ الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه، فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا، فقال: أبيتم، فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفّى، آمنتم أو كذبتم، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا تخرج، فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمونى فيكم يا معشر اليهود، فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدّك، فقال فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل، قالوا كذبت، ثم ردوا عليه وقالوا شرّا، فقال رسول الله ﷺ: كذبتم لن يقبل منكم قولكم، فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله وأنا وعبد الله ابن سلام فأنزل الله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - إلى قوله - إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
أخرجه أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه السيوطي.
ثم حكى نوعا آخر من أقاويلهم الباطلة في القرآن العظيم والمؤمنين به فقال:
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْرًا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي وقال كفار مكة لأجل إيمان من آمن من فقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود ومن لفّ لفّهم:
لو كان ما أتى به محمد خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء، فإن معالى الأمور لا تنالها أيدي الأراذل، وهؤلاء سقّاط الناس ورعاة الإبل والشاء، وقد قالوا ذلك زعما منهم أنهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة، وأن الرياسة الدينية مما تنال بأسباب دنيوية، وقد غاب عنهم أنها منوطة بكمالات نفسية وملكات روحية مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية والإقبال على الآخرة، وأن من فاز بها فقد حازها بحذافيرها، ومن حرمها فما له فيها من خلاق، ولم يعلموا أن الله يختص برحمته من يشاء ويصطفى لدينه من يشاء.
وعن قتادة: قال ناس من المشركين نحن أعز ونحن ونحن فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان فنزلت هذه الآية.
وروي أنه لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأشجع وأسد: لو كان هذا خيرا ما سبقتنا إليه رعاء البهم والشاء.
فأجابهم الله عن هذا بقولهم:
(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي وقد ظهر عنادهم واستكبارهم إذ لم يهتدوا به، وسيقولون الفينة بعد الفينة والحين بعد الحين: هذا كذب مأثور عن الأقدمين، انتقاصا له ولأهله، واستكبارا عن اتباع الحق.
قال رسول الله ﷺ « الكبر بطر الحق وغمص (احتقار) الناس ».
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم: « وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ».
ثم رد عليهم طعنهم في القرآن وأثبت صحته فقال:
(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِمامًا وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِسانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي ومما يدل على صحة القرآن أنكم لا تنازعون في أن الله أنزل التوراة على موسى وجعلها إماما لبني إسرائيل ورحمة لهم، وهي قد اشتملت على البشارة بمقدم محمد ﷺ فلا بد أن يكون محمد صادقا في رسالته، وأن يكون القرآن من عند الله، وقد جاء بلسان عربي لينذر الذين ظلموا أنفسهم وهم مشركو مكة وهو بشرى لمن أحسن عملا.
والخلاصة - كيف يكون إفكا قديما وهو مصدق لكتاب موسى الذي تعترفون بصدقه، وهو بلسان عربي، والتوراة بلسان عبرى، فتصديق الأول للثاني دليل على اتحادهما صدقا - فبطل كونه إفكا قديما وثبت الصدق القديم.
وبعد أن ذكر طريق المبطلين أرشد إلى طريق المحقين وذكر جزاءهم فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين قالوا ربنا الله، لا إله غيره، ثم استقاموا على تصديقهم بذلك، ولم يخلطوه بشرك ولم يخالفوا الله في أمر ولا نهى - فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم بعد مماتهم.
(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هؤلاء الذين قالوا هذا القول واستقاموا - هم أهل الجنة ماكثين فيها أبدا ثوابا منا لهم كفاء ما قدموا من صالح الأعمال في الدنيا.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 15 الى 16]
ووَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)
تفسير المفردات
الإيصاء والوصية: بيان الطريق القويم لغيرك ليسلكه، والإحسان: خلاف الإساءة، والحسن: خلاف القبح، والمراد أنه يفعل معهما فعلا ذا حسن، والكره (بالضم والفتح) كالضعف والضعف: المشقة، وحمله: أي مدة حمله، وفصاله: فطامه والمراد به الرضاع التام المنتهى بالفطام، والأشد: استحكام القوة والعقل، أوزعنى: أي رغبنى ووفقني، من أوزعته بكذا: أي جعلته مولعا به راغبا في تحصيله، والقبول: هو الرضا بالعمل والإثابة عليه، في أصحاب الجنة: أي منتظمين في سلكهم كما تقول أكرمنى الأمير في أصحابه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر في سابق الآيات توحيده سبحانه وإخلاص العبادة له والاستقامة في العمل - أردف هذا الوصية بالوالدين، وقد فعل هذا في غير موضع من القرآن الكريم كقوله: « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا » وقوله: « أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ».
روي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر إذ أسلم والداه ولم يتفق ذلك لأحد من الصحابة، فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو، وأمه أمّ الخير بنت صخر بن عمرو.
الإيضاح
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسانًا) أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنوّ عليهما، والبر بهما في حياتهما وبعد مماتهما، وجعلنا البر بهما من أفضل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ثم ذكر سبب التوصية وخص الكلام بالأم لأنها أضعف وأولى بالرعاية، وفضلها أعظم كما ورد في صحيح الأحاديث ومن ثم كان لها ثلثا البر فقال:
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) أي إنها قاست في حمله مشقة وتعبا من وحم وغثيان وثقل إلى نحو أولئك مما ينال الحوامل، وقاست في وضعه مشقة من تعب الطلق وألم الوضع، وكل هذا يستدعى البر بها واستحقاقها للكرامة وجميل الصحبة.
ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال:
(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) أي ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا تكابد الأمّ فيها الآلام الجسمية والنفسية، فتسير الليالي ذوات العدد إذا مرض، وتقوم بغذائه وتنظيفه وكل شئونه بلا ضجر ولا ملل، وتحزن إذا اعتل جسمه أو ناله مكروه يؤثّر في نموّه وحسن صحته.
وفي الآية إيماء إلى أن أقل الحمل ستة أشهر، لأن أكثر مدة الإرضاع حولان كاملان لقوله تعالى: « وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر، وبذلك يعرف أقل الحمل وأكثر الإرضاع.
وأول من استنبط هذا الحكم منها علي كرم الله وجهه ووافقه عليه عثمان وجمع من الصحابة رضي الله عنهم.
روى محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج منا رجل من امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها، فقالت لها: وما يبكيك؟ فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضى الله في ما شاء، فلما أتى بها عثمان أمر برجمها، فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال ما تصنع؟ قال ولدت لتمام ستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له علي: أما تقرأ القرآن؟ قال بلى، قال: أما سمعت الله عز وجل يقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) وقال: « حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ » فلم تجده أبقى إلا ستة أشهر، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، علي بالمرأة، فوجدها قد فرغ منها، قال معمر فوالله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشك فيه.
وعن ابن عباس أنه كان يقول: إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهرا، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا، وإذا ولدت لستة أشهر فحولان كاملان لأن الله يقول: (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا).
(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي حتى إذا اكتهل واستوفى السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وهي فيما بين الثلاثين والأربعين.
(وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وهذا نهاية استحصاد العقل واستكماله، ومن ثم روى عن ابن عباس: من أتى عليه الأربعون ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ولهذا قيل:
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه فلا تنفس عليه الذي مضى وإن جرّ أسباب الحياة له العمر
قال المفسرون: لم يبعث الله نبيا قط قيل الأربعين إلا ابني الخالة « عيسى ويحيى » (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) أي رب وفقني لشكر نعمك التي غمرتنى بها في ديني ودنياى، بما أتمتع به من سعة في العيش، وصحة في الجسم، وأمن ودعة، للإخلاص لك، واتباع أوامرك، وترك نواهيك، وأنعمت بها على والدي من تحننهما علي حين ربياني صغيرا.
(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ) أي واجعل عملي وفق رضاك لأنال مثوبتك.
(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي واجعل الصلاح ساريا في ذريتى، متمكنا من نفوسهم، راسخا في قلوبهم.
قال ابن عباس: أجاب الله دعاء أبي بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال وعامر بن فهيرة، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه عليه، ودعا فقال: أصلح لي في ذريتى، فأجابه الله تعالى، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي ﷺ وآمنوا به، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي إني تبت إليك من ذنوبى التي فرطت مني في أيامي الخوالي، وإني من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
روى أبو داود في سننه « أن رسول الله ﷺ كان يعلّمهم أن يقولوا في التشهد: اللهم ألّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجّنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، وأتمها علينا ».
ثم ذكر جزاء أصحاب هذه الأوصاف الجليلة فقال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالح الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه، ويصفح عن سيئات أعمالهم التي فرطت منهم في الدنيا لماما ولم تكن عادة لهم، بل جاءت بحافز من القوة الشهوانية، أو القوة الغضبية، فلا يعاقبهم عليها، وهم منتظمون في سلك أصحاب الجنة، داخلون في عدادهم.
ثم أكد الوعد السابق بقوله:
(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وعدهم الله الوعد الحق الذي لا شك فيه، وأنه موفّ به.
وهذه الآية كما تنطبق على سعد بن أبي وقاص وعلى أبي بكر الصديق اللذين قيل في كل منهما إن الآية نزلت فيه تنطبق على كل مؤمن، فهو موصّى بوالديه، مأمور أن يشكر نعمة الله عليه وعلى والديه، وأن يعمل صالحا، وأن يسعى في إصلاح ذريته، ويدعو الله أن يوفقه لعمل أهل الجنة.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 17 الى 20]
والَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
تفسير المفردات
أفّ: صوت يصدر من الإنسان حين تضجره، أخرج: أي أبعث من القبر للحساب، خلت القرون من قبلي: أي مضت ولم يخرج منها أحد، يستغيثان الله: أي يقولان الغياث بالله منك، يقال استغاث الله واستغاث بالله، والمراد أنهما يستغيثان بالله من كفره، إنكارا واستعظاما له، حتى لجأ إلى الله في دفعه كما يقال العياذ بالله من كذا، ويلك: دعاء عليه بالثبور والهلاك، ويراد به الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن مرتكبه حقيق بأن يهلك، فإذا سمع ذلك ارعوى عن غيّه وترك ما هو فيه وأخذ بما ينجيه، أساطير الأولين: أي أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة، حق عليهم القول: أي وجب عليهم قوله لإبليس « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ »
من الخاسرين: أي الذين ضيعوا نظرهم الشبيه برءوس الأموال باتباعهم همزات الشياطين، والدرجات: المنازل واحدها درجة، وهي المنزلة، ويقال لها منزلة إذا اعتبرت صعودا، ودركة إذا اعتبرت حدورا، ومن ثم يقال درجات الجنة، ودركات النار، فالتعبير بالدرجات هنا على سبيل التغليب، طيباتكم: أي شبابكم وقوتكم يقولون ذهب أطيباه أي شبابه وقوته، الهون: أي الهوان والذل، تفسقون: أي تخرجون من طاعة الله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه حال الداعين للوالدين، البررة بهما، ثم ذكر ما أعد لهما من الفوز والنجاة في الدار الآخرة - أعقب هذا بذكر حال الأشقياء العاقّين للوالدين، المنكرين للبعث والحساب، المحتجين بأن القرون الخوالى لم تبعث، ثم رد الآباء عليهم بأن هذا اليوم حق لا شك فيه، ثم بإجابة الأبناء لهم بأن هذه أساطير الأولين وخرافاتهم، ثم ذكر أن أمثال هؤلاء ممن حق عليهم القول بأن مصيرهم إلى النار.
ثم أردف هذا أن لكل من البررة والكفرة منازل عند ربهم كفاء ما قدموا من عمل وسيجزون عليها الجزاء الأوفى، ثم أخبر بأنه يقال للكفار حين عرضهم على النار: أنتم قد تمتعتم في الحياة الدنيا، واستكبرتم عن اتباع الحق، وتعاطيتم الفسوق والمعاصي، فجازاكم الله بالإهانة والخزي والآلام الموجبة للحسرات المتتابعة في دركات النار.
الإيضاح
(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما، أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي؟) أي والذي قال لوالديه أن دعواه إلى الإيمان والإقرار ببعث الله خلقه من قبورهم ومجازاته إياهم بأعمالهم: أفّ لكما: إني لضجر منكما، أتقولان إني أبعث من قبرى حيا بعد موتى وفنائى، وما لحقنى من بلى وتفتت عظام؟ إن هذا لعجب عاجب فها هي ذي قرون مضت، وأمم قد خلت من قبلي كعاد وثمود ولم يبعث منهم أحد، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان لبعث من قبلي من القرون الغابرة ألا ترى إلى قول من قال:
ما جاءنا أحد يخبّر أنه في جنة لمّا مضى أو نار
وزعم مروان بن الحكم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد ردت عليه عائشة رضي الله عنها. أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال: إني لفى المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد رأى لأمير المؤمنين (يعنى معاوية) في يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه، فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر 1 إن أبا بكر رضي الله عنه ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان: ألست « الّذى قال لوالديه أفّ لكما » فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله ﷺ أباك، فسمعت عائشة فقالت لمروان: أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا، كذبت والله ما فيه نزلت، نزلت في فلان بن فلان.
والحق أن الآية لم ترد في شخص معين، بل المراد كل شخص يقول أمثال هذه المقالة فيدعوه أبواه إلى الإيمان بالبعث وإلى الدين الصحيح فيأبى وينكر.
(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه أن يوفقه إلى الإيمان بالبعث، ويقولان له حثا وتحريضا: هلاكا لك، صدّق بوعد الله، وأنك مبعوث بعد وفاتك، إن وعد الله الذي وعده خلقه أنه باعثهم من قبورهم ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم حق لا شك فيه.
والخلاصة - إنهما يستعظمان قوله، ويلجآن إلى الله في دفعه، ويدعوان عليه بالويل والثبور، ليستحثاه على ترك ما هو فيه، ويشعراه بأن ما يرتكبه جدير بأن يهلك فاعله.
ثم ذكر ردّه عليهما مع الاستهزاء بهما والتعجيب من حالهما.
(فَيَقُولُ: ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي فيقول مجيبا والديه، رادّا عليهما نصحهما، مكذبا بوعد الله: ما هذا الذي تقولان لي، وتدعوان إليه، إلا ما سطره الأولون من الأباطيل، فأصبتماه أنتما وصدقتما به، ولا ظلّ له من الحقيقة.
ثم ذكر سبحانه جزاء هؤلاء على ما قالوا واعتقدوا فقال:
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي هؤلاء الذين هذه أوصافهم هم الذين وجب عليهم عذاب الله، وحلت عليهم عقوبته وسخطه، فيمن حل به العذاب من الأمم الذين قد مضوا من قبلهم من الجن والإنس ممن كذّبوا الرسل، وعتوا عن أمر ربهم.
وفي الآية إيماء إلى أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس. قال أبو حيان في البحر: قال الحسن البصري في بعض مجالسه: الجن لا يموتون، فاعترضه قتادة بالآية فسكت.
وفيها ردّ أيضا على من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، لأنه رضي الله عنه أسلم وجبّ عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة، أما من حق عليه القول فهو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدا.
ثم ذكر العلة في هذا العذاب المهين فقال:
(إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنهم ضيعوا فطرهم التي فطرهم الله عليها واتبعوا الشيطان، فغبنوا ببيعهم الهدى بالضلال، والنعيم بالعذاب.
ثم ذكر أن لكل من الفريقين الذين قالوا ربنا الله، والذي قال لوالديه مراتب متفاوتة فقال:
(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ولكل من الأبرار والفجار من الإنس والجن مراتب عند الله يوم القيامة بحسب أعمالهم من خير أو شر في الدنيا، وليوفيهم أجور أعمالهم، المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، وهم لا يظلمون شيئا، فلا يعاقب المسيء إلا بعقوبة ذنبه، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يبخس المحسن منهم ثواب إحسانه.
وبعد أن بين سبحانه أنه يعطى كل ذي حق حقه - بين الأهوال التي يلاقيها الكافرون فقال:
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي واذكر لقومك حال الذين كفروا حين يعذبون في النار، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: إن كل ما قدر لكم من اللذات والنعيم قد استوفيتموه في الدنيا ونلتموه ولم يبق لكم منه شيء، ولكن بقيت لكم الإهانة والخزي جزاء استكباركم وفسوقكم عن أمر ربكم وخروجكم من طاعته.
وفي هذا تحريض على التقلل من زخرف الدنيا وزينتها والأخذ بالتقشف فيها.
أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه رأى في يد جابر بن عبد الله رضي الله عنه درهما فقال ما هذا الدرهم؟ قال أريد أن أشترى به لأهلي لحما قرموا إليه، فقال: أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية: « أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها » وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء 2 وصنابا وصلائق ولكني أستبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال: « أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها ».
وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان رضي الله عنه قال: « كان رسول الله ﷺ إذا سافر كان آخر عهده من أهله بفاطمة، وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضي الله عنها، فقدم من غزاة فأتاها فإذا بمسح (بكسر فسكون، وهو ثوب من شعر غليظ) على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين (مثنى قلب بضم فسكون: السوار) من فضة فرجع ولم يدخل عليها، فلما رأت ذلك ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا، فقسمت ذلك بينهما، فانطلقا إلى رسول الله ﷺ وهما يبكيان، فأخذ ذلك رسول الله منهما، وقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بنى فلان (أهل بيت بالمدينة) واشتر لفاطمة قلادة من عصب (بفتح فسكون خرز أبيض) وسوارين من عاج، فإن هؤلاء أهل بيتي: ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا ».
وقد كان السلف الصالح يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، لا أن التمتع بزخارف الدنيا مما يمتنع، بدليل قوله تعالى « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ».
نعم إن الاحتراز عن التنعم أولى، لأن النفس إذا اعتادت ذلك وألفته صعب عليها تركه والاكتفاء بما دونه، ولله درّ البوصيري إذ يقول:
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: أن على المرء أن يأكل ما وجد، طيبا كان أو قفارا (الطعام بلا أدم) ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، وقد كان النبي ﷺ يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمده أصلا، ولا يجعله ديدنا له.
قصص هود عليه السلام مع قومه عاد
[سورة الأحقاف (46): الآيات 21 الى 28]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) ولَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصارًا وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)
تفسير المفردات
أخا عاد: هو هود عليه السلام، والأحقاف: واحدها حقف (بالكسر والسكون) وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء، سمى به واد بين عمّان ومهرة كانت تسكنه عاد، وكانوا أهل عمل، سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وهم من قبيلة إرم، والنذر: واحدهم نذير أي منذر، من بين يديه: أي من قبله، ومن خلفه: أي من بعده، لتأفكنا: أي لتصرفنا، عن آلهتنا: أي عن عبادتها، بما تعدنا: أي من معاجلة العذاب على الشرك: إنما العلم عند الله، أي العلم بوقت نزوله عند الله، والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق السماء قال الأعشى:
يا من رأى عارضا قد بتّ أرمقه كأنما البرق في حافاته الشّعل
مستقبل أوديتهم: أي متجها إليها، تدمّر: أي تهلك، حاق: أي نزل، صرفنا: أي بيّنا ونوّعنا، الآيات: الحجج والعبر، فلو لا: أي فهلا، نصرهم: أي منعهم، قربانا: أي متقربا بها إلى الله، ضلوا عنهم: أي غابوا عنهم، إفكهم: أي أثر إفكهم وصرفهم عن الحق، وما كانوا يفترون أي وأثر افترائهم وكذبهم.
المعنى الجملي
بعد أن أورد سبحانه الدلائل على إثبات التوحيد والنبوة التي أعرض عنها أهل مكة ولم يلتفتوا إليها ولم تجدهم فتيلا ولا قطميرا، لاستغراقهم في الدنيا واشتغالهم بطلبها - أردف هذا ذكر قصص عاد وما حدث منهم مع نبيهم هود عليه السلام وضرب لهم به المثل ليعتبروا فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدنيا، ويقبلوا على طاعة الله، فقد كانوا أكثر منهم أموالا وأقوى منهم جندا، فسلط الله عليهم العذاب بسبب كفرهم، ولم يغن عنهم مالهم من الله شيئا.
الإيضاح
(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك المكذبين ما جئتهم به من الحق - هودا أخا عاد، فقد كذبه قومه بالأحقاف حين أنذرهم بأس الله وشديد عذابه، وقد مضت رسل من قبله ومن بعده منذرة أممها ألا تشركوا مع الله شيئا في عبادتكم إياه، بل أخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهة، وقد كانوا أهل أوثان يعبدونها من دون الله، فقال لهم ناصحا: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم الهول « يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ».
وحين نصحهم بذلك أجابوه:
(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال قومه له: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، وإلى اتباعك فيما تقول؟ هلمّ فهات ما تعدنا به من العذاب على عبادة ما نعبد من الآلهة إن كنت صادقا في قولك وعدتك.
والخلاصة - أتزيلنا بضروب من الكذب عن آلهتنا وعبادتها؟ فأتنا بما تعدنا من معالجة العذاب على الشرك إن كنت صادقا في وعيدك، وقد استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعادا منهم لوقوعه كما قال تعالى. « يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ».
فردّ هود عليهم مقالهم:
(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قال: إنما العلم بوقت نزوله عند الله وحده لا عندي، فلا أستطيع تعجيله ولا أقدر عليه، ثم بين وظيفته فقال:
(وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، لا أن آتى بالعذاب، فليس ذلك من مقدورى، بل هو من مقدورات ربي.
ثم بين لهم أنهم جاهلون بوظيفة الرسل فقال:
(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) أي وإني لأعتقد فيكم الجهل، ومن ثم بقيتم مصرّين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل اقترحتم علي ما ليس من شأن الرسل، وهو الإتيان بالعذاب.
ثم ذكر مجىء العذاب إليهم وانتقامه منهم واستئصال شأفتهم فقال:
(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوا سحابا يعرض في أفق السماء متجها إلى أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا، ظنا منهم أن غيثا قد أتاهم وفيه حياتهم.
روي أنه قد حبس عنهم المطر أياما، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المعتّب، فلما رأوها تستقبل أوديتهم استبشروا بها خيرا.
ولما سمع هود مقالهم وشام العارض مليا قال:
(بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب إذ قلتم « فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ».
ثم فسر هذا العارض وبين حقيقته فقال:
(رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي بل هو ريح فيها عذاب يهلككم ويجعلكم كأمس الدابر.
ثم وصف هذه الريح فقال:
(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) أي تهلك كل شيء مرت به من نفوس عاد وأموالها بإذن ربها.
ونحو الآية قوله تعالى: « ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ » أي كالشيء البالي الخلق.
ثم ذكر مآل أمرهم بعدها فقال:
(فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي فجاءتهم الريح فدمرتهم، فصاروا بعد الهلاك لا يرى إلا آثار مساكنهم، إذ قد اجتاحت الأموال، وأذهبت الأنفس، وجعلتها أثرا بعد عين.
روي عن ابن عباس: أن أول ما عرفوا أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلّقوا أبوابهم، فقلعتها الريح وصرعتهم: وأحال الله عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، ثم كشفت الريح عنهم الرمال فاحتملتهم فطرحتهم في البحر.
أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان رسول الله ﷺ إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فإذا أخيلت السماء تغير لونه ﷺ وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرّى عنه، فسألته فقال عليه السلام لا أدرى لعلّه كما قال قوم عاد (هذا عارض ممطرنا) ».
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: « ما رأيت رسول الله مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته 3 وإنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيما وريحا عرف ذلك في وجهه، قلت يا رسول الله: الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية، قال: يا عائشة وما يؤمّننى أن يكون فيه عذاب، عذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا ».
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال « نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور. »4
قال شاعرهم يحكى هذا القصص فيما رواه ابن الكلبي:
فدعا هود عليهم دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم تركت عادا خمودا
سخّرت سبع ليال لم تدع في الأرض عودا
(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جازينا عادا بكفرهم بالله ذلك العقاب في الدنيا، فأهلكناهم بعذابنا، كذلك نجزى كل مجرم كافر بالله متماد في غيّه.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد.
ثم أخبر سبحانه عن قوة عاد بقوله:
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي ولقد مكنا عادا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه، من الأموال الكثيرة، وبسطة الأجسام، وقوة الأبدان - وهم على ذلك ما نجوا من عقاب الله، فتدبروا أمركم، وفكروا فيما تعملون قبل أن يحل بكم العذاب، ولا تجدون منه مهربا.
ونحو الآية قوله « كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثارًا فِي الْأَرْضِ ».
(وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصارًا وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ) أي إنا فتحنا عليهم أبواب نعمنا، فأعطيناهم سمعا فما استعملوه في سماع الأدلة والحجج ليعتبروا ويتذكروا، وأعطيناهم أبصارا ليروا ما نصبناه من الشواهد الدالة على وجودنا فما انتفعوا بها، وأعطيناهم قلوبا تفقه حكمة الله في خلق الأكوان فما استفادوا منها ما يفيدهم في آخرتهم ويقرّبهم من جوار ربهم، بل صرفوها في طلب الدنيا ولذاتها، لا جرم لم ينفعهم ما أعطيناهم من السمع والأبصار والأفئدة، إذ لم يستعملوها فيما خلقت له من شكر من أنعم بها ودوام عبادته.
ثم بين العلة في عدم إغناء ذلك عنهم فقال:
(إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي لأنهم كانوا يكذبون رسل الله، وينكرون معجزاتهم.
(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ونزل بهم ما سخروا به فاستعجلوه من العذاب.
وفي هذا تخويف لأهل مكة حتى يحذروا من عذاب الله، ويخافوا عقابه، فإنّ عادا لما اغتروا بدنياهم، وأعرضوا عن قول الحق - نزل بهم العذاب، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم شيئا - فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى.
ولما أخبر بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة، ليتعظ بهم من سمع أمرهم، أتبعه بذكر من كان مشاركا لهم في التكذيب، فأدركه سوء العذاب كما أدركهم فقال:
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) أي ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حول قريتكم من القرى المكذبة للرسل كعاد، وقد كانوا بالأحقاف بحضرموت، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وسبإ باليمن، ومدين، وكانت في طريقهم في رحلاتهم صيفا وشتاء، بعد أن أنذرناهم بالمثلات، فلم يغن ذلك عنهم شيئا فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر.
(وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وبيّنا لهم دلائل قدرتنا، وبديع حججنا ليرجعوا عن غيّهم الذي استمسكوا به لمحض التقليد، أو لشبهة عرضت لهم، فحلّ بهم سوء العذاب ولم يجدوا لهم نصيرا ولا دافعا لعذاب الله، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي فهلا نصرهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتهم قربانا يتقربون به إلى ربهم فيما زعموا، حين جاءهم بأسه فأنقذوهم من عذابه إن كانوا يشفعون عنده، لكنهم غابوا عنهم ولم يفيدوهم شيئا.
وفي هذا تقريع لأهل مكة وتأنيب لهم على أنه لو كانت آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تغنى عنهم شيئا، أو تنفعهم عنده - لأغنت عمن كان قبلهم من الأمم الذين أهلكوا بعبادتهم لها، فدفعت عنهم العذاب إذ نزل بهم، أو لشفعت لهم عند ربهم، لكنها أضرّتهم ولم تنفعهم، وغابت عنهم أحوج ما كانوا إليها، فما أحراهم أن يتنبهوا لما هم فيه من خطل الرأي وسوء التقدير للأمور.
(وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وامتناع نصرة آلهتهم لهم وصلالهم عنهم - أثر من آثار إفكهم الذي هو اتخاذهم إياهم آلهة، وثمرة افترائهم على الله الكذب.
استماع الجن للقرآن
[سورة الأحقاف (46): الآيات 29 الى 32]
وإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
تفسير المفردات
صرفنا: أي وجهنا، والنفر: ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال، سموا بذلك لأنهم ينفرون إذا حزبهم أمر لكفايته، أنصتوا: أي اسكتوا، قضى: أي فرغ من تلاوته، ولّوا: أي رجعوا، منذرين: أي مخوّفين لهم عواقب الضلال. روى أن هؤلاء الجن كانوا من جنّ نصيبين من دياربكر قريبة من الشام، أو من نينوى بالموصل، وكان الاجتماع بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة، وقد أمر الرسول ﷺ أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرا منهم فاستمعوا منه، حتى إذا انقضى من تلاوته رجعوا إلى قومهم منذريهم عقاب الله إذا هم استمروا على الضلال. أجاره من كذا: أنقذه منه، وداعى الله: هو الرسول ﷺ، فليس بمعجز في الأرض: أي لا ينجو منه هارب، ولا يسبق قضاءه سابق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن في الإنس من آمن ومنهم من كفر - أعقب هذا ببيان أن الجن كذلك، فمنهم من آمن ومنهم من كفر وأن مؤمنهم معرّض للثواب، وكافرهم معرض للعقاب، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كما أرسل إلى الإنس أرسل إلى الجن.
واعلم أن عالم الملائكة وعالم الجن لا يقوم عليهما دليل من العقل فهما بمعزل عن ذلك، وإنما دليلهما السمع وإخبار الأنبياء بذلك فقط، فعلينا أن نؤمن بما جاء به فحسب ولا نزيد على ذلك شيئا، ولا نتوسع في بحثه وتأويله وتفصيله، فإن ذلك من عالم الغيب الذي لم نؤت من علمه كثيرا ولا قليلا، فعلينا أن نؤمن بأن اتصالا قد تمّ بين النبي ﷺ وعالم الملائكة، وبه تلقّى الوحي على أيديهم، وأنه اتصل بعالم الجن، فعلّمهم وبشرهم وأنذرهم، لكنا لا ندري كيف كان الاتصال ولا كيف تلقّوا عنه القرآن، ولعل تقدم العلوم في مستأنف الأيام يلقى علينا ضواءا من هذه المعرفة، أو لعل قراءة علم الروح والتوسع في دراسته ينير لنا بعض السر في ذلك ففي هذه الدراسة معرفة شيء من أحوالنا في الحياة الأخرى بعد هذه الحياة وسيأتي تفصيل لهذا القصص في سورة الجن.
الإيضاح
(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أيواذكر أيها الرسول لقومك موبخا لهم على كفرهم بما آمنت به الجن، لعلهم يتنبهون لجهلهم، ويرعوون عن غيّهم وقبح ما هم فيه من كفر بالقرآن وإعراض عنه، مع أنهم أهل اللسان الذي به نزل، ومن جنس الرسول الذي جاء به، وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عند الله وآمنوا به، وليسوا من أهل لسانه، ولا من جنس رسوله - في ذلك الوقت الذي وجه الله إليه جماعة من الجن، ليستمعوا القرآن ويتعظوا بما فيه من عبر وعظات، فلما حضروا الرسول قال بعضهم لبعض: أنصتوا مستمعين، فلما فرغ من تلاوته رجعوا إلى قومهم لينذروهم بأس الله وشديد عذابه.
وذكر الوقت ذكر لما فيه من الأحداث التي يراد إخبار السامع بها، لما لها من خطر جليل وشأن عظيم، فيراد علمه بها ليكون لها في نفسه الأثر الذي يقصد منها من ترغيب أو ترهيب، ومسرة أو حزن إلى نحو أولئك من أغراض الكلام ومقاصده.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبي ﷺ بالجن ليلة استمعوا القرآن، قال آذنته بهم الشجرة.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب رسول الله ﷺ منكم أحد ليلة الجن؟ قال ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل. استطير. ما فعل؟ قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجىء من قبل حراء فأخبرناه فقال: إنه أتاني داعي الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.
وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله ﷺ مرة بعد مرة، وأخذت عنه الشرائع والأحكام الدينية.
ثم فصل ما قالوه لهم في إنذارهم.
(قالُوا: يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي قالوا لهم يا قومنا من الجن: إنا سمعنا كتابا أنزله الله من بعد توراة موسى، يصدّق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله، ويرشد إلى سبيل الحق، وإلى ما فيه لله رضا، وإلى الطريق الذي لا عوج فيه.
وخصوا التوراة بالذكر لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين. وقال عطاء لأنهم كانوا على اليهودية، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح.
(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدا ﷺ إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله، وصدقوه فيما جاء به من أمر الله ونهيه - يغفر لكم بعض ذنوبكم ويسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته لكم عليها، وينقذكم من عذاب موجع، إذا أنتم تبتم من ذنوبكم وأنبتم إلى ربكم، وأخلصتم له العبادة.
وفي الآية إيماء إلى أن حكم الجن حكم الإنس في الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي.
ثم حذروا قومهم وتوعدوهم وأوجبوا إجابتهم داعي الله بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب فقالوا:
(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي ومن لا يجب رسول الله محمدا ﷺ إلى مادعا إليه من التوحيد والعمل بطاعته، فلا يفوت ربه ولا يسبقه هربا إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه، ولا يجد له نصراء ينصرونه ويدفعون عنه عذابه.
ثم بيّن أن من فعل ذلك فقد بلغ الغاية في الضلال، والبعد عن الصراط السوي فقال:
(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وأولئك الذين يفعلون ذلك يكونون في ضلال بيّن، وجور عن قصد السبيل، لأن طريق الحق واضحة وأعلامه منصوبة، والوصول إليه ميسور، فمن جانفه وأعرض عنه فقد أجرم واستحق الجزاء الذي هو له أهل.
[سورة الأحقاف (46): الآيات 33 الى 35]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
تفسير المفردات
لم يعى: أي لم يعجز، قال الكسائي: يقال أعييت من التعب، وعييت من انقطاع الحيلة والعجز، قال عبيد بن الأبرص:
عيّوا بأمرهم كما عيّت ببيضتها الحمامة
أولو العزم: أي ذوو الحزم والصبر، قال مجاهد: هم خمسة نظمهم الشاعر في قوله:
أولو العزم نوح والخليل الممجّد وموسى وعيسى والحبيب محمد
بلاغ: أي كفاية في الموعظة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر في أول السورة ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم، وأبطل قول عبدة الأصنام، ثم ثنى بإثبات النبوة وذكر شبهاتهم في الطعن فيها وأجاب عنها - أردف ذلك إثبات البعث وأقام الدليل عليه، فذكر أن من خلق السموات والأرض على عظمهن فهو قادر على أن يحيى الموتى، ثم أعقب هذا بما يجرى مجرى العظة والنصيحة لرسوله ﷺ بالصبر على أذى قومه كما صبر من قبله أولو العزم من الرسل، وبعدم استعجال العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وحين نزوله بهم سيستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار لهول ما عاينوا، ثم ختم السورة بأن في هذه العظات كفاية أيّما كفاية، وما يهلك إلا من خرج عن طاعة ربه، ولم ينقد لأمره ونهيه.
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) أي أولم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الخلق بعد وفاتهم، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلاهم، فيعلموا أن الذي خلق السموات والسبع والأرض فابتدعهن من غير شيء، ولم يعى في إنشائهن - بقادر على أن يحيى الموتى فيخرجهم من بعد بلاهم في قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم؟.
ونحو الآية قوله عز وجل: « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ».
والخلاصة - إن من قال للسموات والأرض كونى فكانت لا ممانعة ولا مخالفة، طائعة خائفة وجلة - أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى؟
ثم أجاب عن ذلك مقرّرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود فقال:
(بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي بلى إن الذي خلق ذلك - ذو قدرة على كل شيء أراد خلقه، ولا يعجزه شيء أراد فعله.
وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال لوضوح الجواب إذ لا يختلف فيه أحد، ولا يعارض فيه ذو لبّ.
ولما أثبت البعث بما أقام من الأدلة ذكر ما يحدث حينئذ من الأهوال فقال:
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي ويوم يعرض هؤلاء المكذبون بالبعث وبثواب الله لعباده على أعمالهم الصالحة، وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة - على نار جهنم يقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم وقد كنتم تكذبون به في الدنيا - بالحق الذي لا شك فيه؟
قالوا من فورهم: بلى وربنا إنه لحق.
(قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي قال آمرا لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار الآن جزاء جحودكم به في الدنيا، وإبائكم الاعتراف به إذا دعيتم للتصديق به.
ولما قرر التوحيد والنبوة والبعث وأجاب عن شبهاتهم - أردف ذلك ما يجرى مجرى العظة والنصيحة لنبيّه، لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوغرون صدره فقال:
(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي فاصبر أيها الرسول على ما أصابك في الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم منذرا، كما صبر أولو العزم من الرسل على القيام بأمر الله والانتهاء إلى طاعته.
والخلاصة - اصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك.
وعن عائشة قالت: ظلّ رسول الله ﷺ صائما ثم طوى، ثم ظلّ صائما ثم طوى، ثم ظل صائما قال يا عائشة: « إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفنى ما كلفهم فقال: « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » وإني والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله » أخرجه ابن أبي حاتم والديلمي.
ولما أمره بالصبر، وهو أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة وهي أخسّ الرذائل فقال:
(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي ولا تعجل بمسألة ربك العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة.
ونحو الآية قوله تعالى: « وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا » وقوله: « فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ».
ثم أخبر بأن العذاب إذا نزل بالكافرين استقصروا مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال:
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي كأنهم حين يرون عذاب الله الذي أوعدهم بأنه نازل بهم - لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار - لأن شدة ما ينزل بهم منه ينسيهم قدر ما مكثوا في الدنيا من السنين والأعوام، فيظنونها ساعة من نهار.
ونحو الآية قوله: « كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟. قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ » وقوله: « كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ».
(بلاغ) أي هذا القرآن بلاغ لهم، وكفاية إن فكروا واعتبروا، ودليله قوله تعالى: « هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ » وقوله: « إِنَّ فِي هذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عابِدِينَ ».
ثم أوعد وأنذر فقال:
(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ؟) أي وما يهلك بالعذاب إلا الخارجون عن طاعة الله، المخالفون لأمره ونهيه إذ لا يعذب إلا من يستحق العذاب.
قال قتادة: لا يهلك على الله إلا هالك مشرك، وهذه الآية أقوى آية في الرجاء ومن ثم قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون، وهذا تطميع في سعة فضل الله سبحانه وتعالى.
أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس أن النبي ﷺ كان يدعو: « اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل برّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرّجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين ».
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(1) إقامة الأدلة على التوحيد والرد على عبدة الأصنام والأوثان.
(2) المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوة والإجابة عنها وبيان فسادها.
(3) ذكر حال أهل الاستقامة الذين وحدوا الله وصدقوا أنبياءه، وبيان أن جزاءهم الجنة.
(4) ذكر وصايا للمؤمنين من إكرام الوالدين وعمل ما يرضى الله.
(5) بيان حال من انهمكوا في الدنيا ولذاتها.
(6) قصص عاد، وفيه بيان أن صرف النعم في غير وجهها يورث الهلاك.
(7) استماع الجن للرسول ﷺ وتبليغهم قومهم ما سمعوه.
(8) عظة للنبي ﷺ والمؤمنين من أمته.
(9) بيان أن القرآن فيه البلاغ والكفاية في الإنذار.
(10) من عدل الله ورحمته ألا يعذب إلا من خرج من طاعته ولم يعمل بأمره ونهيه.
هامش
- ↑ يريد أن البيعة لأولاد الملوك ستة ملوك الروم، وهرقل: اسم ملك الروم.
- ↑ الصلاء. الشواء بالمد والكسر، والصناب: صباغ (سلطة) يتخذ من الخردل والزبيب، والصلائق: الحملان المشوية.
- ↑ واحدها لهاة: وهي اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى سقف الفم.
- ↑ الصبا: ريح الشمال، والدبور: ريح الجنوب. [.....]