تفسير المراغي/سورة السجدة
هي مكية إلا من آية 16 إلى آية عشرين فمدنية وآيها ثلاثون، نزلت بعد سورة (المؤمنين).
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه:
(1) اشتمال كل منهما على دلائل الألوهية.
(2) إنه ذكر في السورة السالفة دلائل التوحيد، وهو الأصل الأول، ثم ذكر المعاد، وهو الأصل الثاني، وهنا ذكر الأصل الثالث، وهو النبوة.
(3) إن هذه السورة شرحت مفاتح الغيب التي ذكرت في خاتمة ما قبلها، فقوله: « ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ » شرح لقوله: « إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ » وقوله: « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ » شرح لقوله: « وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ » وقوله: « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » تفصيل لقوله: « وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ » وقوله: « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ » إيضاح لقوله: « وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَدًا » وقوله: « أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ » إلخ شرح لقوله: « وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ».
[سورة السجده (32): الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
الإيضاح
(الم) تقدم الكلام في مثل هذا من قبل، في معناه، وكيفية النطق به.
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزل على محمد لا شك أنه من عند الله، وليس بشعر، ولا سجع كاهن، ولا هو مما تخرّصه محمد ﷺ.
وفي هذا تكذيب لقولهم: « وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ».
ثم فنّد تكذيبهم له، وأكد أنه من لدن رب العالمين، فقال:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي بل هو الحق والصدق من عند ربك أنزله إليك، لتنذر قومك بأس الله وسطوته أن تحل بهم على كفرهم به، وإنه لم يأتهم نذير من قبلك، ليبين لهم سبيل الرشاد، وأن محمدا لم يختلقه كما يزعمون.
وفي هذا ردّ لقولهم: « إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ».
[سورة السجده (32): الآيات 4 الى 9]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (9)
المعنى الجملي
بعد أن أثبت سبحانه صحة الرسالة - بيّن ما يجب على الرسول من الدعاء إلى توحيد لله، وإقامة الأدلة على ذلك.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي الله سبحانه هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما في ستة أطوار في نظر الناظرين إليها، وليس المراد اليوم المعروف، لأنه قبل خلق السموات لم يكن ليل ولا نهار، وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة الفرقان.
(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم بيان هذا في سورة يونس وهود وطه.
(ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي ليس لكم أيها الناس من يلي أموركم، وينصركم منه إن أراد بكم ضرا، ولا يشفع لكم عنده إن هو عاقبكم على معصيتكم إياه.
والخلاصة: فإياه فاتخذوه وليّا، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم، فإنه يمنعكم ممن أرادكم بسوء، ولا يقدر أحد على دفع السوء عنكم، إذا هو أراد وقوعه بكم، لأنه لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب.
ثم أمرهم بالتذكر والتدبر في الأدلة، فقال:
(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟) أي أفلا تعتبرون وتتفكرون أيها العابدون غيره، المتوكلون على من عداه، تعالى الله وتقدس أن يكون له نظير أو شريك، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) تدبير الأمر: النظر في دابره وعاقبته ليجىء محمود المغبّة، وتدبير الأمر من السماء إلى الأرض، ثم عروجه إليه، تمثيل لإظهار عظمته، كما يصدر الملك أوامره، ثم يتلقى من أعوانه ما يدل على تنفيذها.
(فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يصير الأمر كله إليه، ليحكم فيه في يوم مقداره ألف سنة مما كنا نعده في هذه الحياة.
والمراد بالألف الزمن المتطاول، وليس المقصد منه حقيقة العدد، إذ هو عند العرب منتهى المراتب العددية، وأقصى غاياتها، وليس هناك مرتبة فوقه إلا ما يتفرع منه من عداد مراتبها.
قال القرطبي: المعنى إن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة قاله ابن عباس، والعرب تصف أيام المكروه بالطول، وأيام السرور بالقصر، قال شاعرهم:
ويوم كظلّ الرمح قصّر طوله دم الزقّ عنا واصطفاق المزاهر ا هـ
(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي لك المدبر لهذه الأمور، هو العالم بما يغيب عن أبصاركم، مما تكنّه الصدور وتخفيه نفوس، وما لم يكن بعد مما هو كائن، وبما شاهدته الأبصار وعاينته، وهو الشديد انتقامه ممن كفر به، وأشرك معه غيره، وكذب رسله، وهو الرحيم بمن تاب من ضلالته، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله، وعمل صالحا، وهو الذي أحسن خلق الأشياء وأحكمها.
ولما ذكر خلق السموات والأرض شرع يذكر خلق الإنسان، فقال:
(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) أي وبدأ خلق آدم أبى البشر من الطين، وقد يكون المعنى إن الطين ماء وتراب مجتمعان، والآدمي أصله مني، والمني من الغذاء والأغذية إما حيوانية، وإما نباتية. والحيوانية ترجع إلى النباتية، والنبات وجوده بالماء والتراب وهو الطين.
(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ثم جعل ذريته يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين الصلب والترائب في كل من الرجل والمرأة كما دل على ذلك علم الأجنة، وسيأتي إيضاح هذا عند قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي ثم عدّله بتكميل أعضائه في الرحم، وتصويره على أحسن صورة، ونفخ فيه من روحه، وجعلها تتعلق ببدنه، فيبدأ يتحرك، وتظهر فيه آثار الحياة، ثم ينطق ويتكلم.
(وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي وأنعم عليكم، فأعطاكم السمع تسمعون به الأصوات، والأبصار تبصرون بها المرئيات، والأفئدة تميزون بها بين الخير والشر، وبين الحق والباطل.
وجاء الترتيب هكذا: لما ثبت من أن الطفل بعد الولادة يسمع ولا يبصر مدى ثلاث أيام، ثم يبتدئ يبصر، ثم يبتدئ يدرك ويميز كما هو مشاهد.
ثم بين أن الإنسان قابل هذه النعم بالكفران إلا من رحم الله، فقال:
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي وأنتم تشكرون ربكم قليلا من الشكر على هذه النعم التي أنعم بها عليكم باستعمالها في طاعته وعمل ما يرضيه.
[سورة السجده (32): الآيات 10 الى 11]
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الرسالة بقوله: « لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ »، والوحدانية بقوله: « اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » إلخ. أردف ذلك ذكر البعث، واستبعاد المشركين له، ثم الرد عليهم.
الإيضاح
(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي وقال المشركون بالله المكذبون بالبعث: أئذا صارت لحومنا وعظامنا ترابا في الأرض؟ أنبعث خلقا جديدا؟.
وخلاصة مقالهم: عظيم الاستبعاد للإعادة، بأنها كيف تعقل وقد تمزقت الجسوم، وتفرقت في أجزاء الأرض؟.
وهم قد قاسوا قدرة الخالق الذي بدأهم أول مرة، وأنشأهم من العدم بقدرة المخلوق العاجز - شتان بينهما - إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
ثم زاد في النعي عليهم، والإنكار لآرائهم بقوله:
(بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) أي ما بهؤلاء المشركين جحود قدرة الله على ما يشاء فحسب، بل هم تعدّوا ذلك إلى الجحود بلقاء ربهم حذر عقابه، وخوف مجازاته إياهم على معاصيهم.
ثم رد عليهم مقالتهم، وشديد استنكارهم بقوله (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أصل التوفي أخذ الشيء وافيا كاملا، أي قل لهؤلاء المشركين: إن ملك الموت الذي وكّل بقبض أرواحكم يستوفى العدد الذي كتب عليه الموت منكم حين انتهاء أجله، ثم تردون إلى ربكم يوم القيامة أحياء كهيئتكم قبل وفاتكم، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته، وفى هذا إثبات للبعث مع تهديدهم وتخويفهم، وإشارة إلى أن القادر على الإماتة قادر على الإحياء.
[سورة السجده (32): الآيات 12 الى 14]
ولَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
المعنى الجملي
بعد أن أثبت البعث والرجوع - بين حال المشركين حين معاينة العذاب، ووقوفهم بين يدي الله أذلاء ناكسى رءوسهم من الحياء والخجل طالبى الرجوع إلى الدنيا لتحسين أعمالهم، ثم بين أنه لا سبيل إلى العودة، لأنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه، وأنه قد ثبت في قضائه، وسبق في وعيده أن جهنم تمتلئ من الجنة والناس ممن ساءت أعمالهم، وقبحت أفعالهم، فلا يصلحون لدخول الجنة، ويقال لهم: ذوقوا عذاب النار جزاء ما عملتم في الدنيا، وقد نسيتم لقاء ربكم، فجازاكم، بفعالكم، وجعلكم كالمنسيين من رحمته.
الإيضاح
(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا) أي ولو ترى أيها الرسول هؤلاء القائلين: أئذا ضللنا في الأرض أإنا لفى خلق جديد - ناكسى رءوسهم عند ربهم حياء وخجلا منه، لما سلف منهم من معاصيهم له في الدنيا، قائلين: ربنا أبصرنا الحشر، وسمعنا قول الرسول وصدّقنا به، فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالح الأعمال، وهذا منهم عود على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار، كما حكى عنهم سبحانه قولهم: « لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ».
ثم ادّعوا اطمئنان قلوبهم حينئذ، وقدرتهم على فهم معاني الآيات، والعمل بموجبها، كما حكى الله عنهم بقوله:
(إِنَّا مُوقِنُونَ) أي إنا قد أيقنا الآن ما كنا به في الدنيا جهالا من وحدانيتك، وأنه لا يصلح للعبادة سواك، وأنك تحيى وتميت، وتبعث من في القبور بعد الممات والفناء، وتفعل ما تشاء.
ونحو الآية قوله: « وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا » الآية.
(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي ولو أردنا أن نلهم كل نفس ما تهتدى به إلى الإيمان والعمل الصالح لفعلنا، ولكن تدبيرنا للخلق على نظم كاملة، كفيلة بمصالحه، قضى أن نضع كل نفس في المرتبة التي هي أهل لها بحسب استعدادها، كما توضع في الإنسان العين في موضع لا يصلح له الظفر والإصبع، والمعدة في موضع لا يصلح له القلب، وهذا هو المراد من قوله:
(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي ولكن سبق وعيدي بملء جهنم من الجنة والناس الذين هم أهل لها، بحسب استعدادهم، ولا يصلحون لدخول الجنة كما لا يعيش البعوض والذباب، إلا في الأماكن القذرة، ليخلّص الجو من العفونات، ولو جعلا في القصور النظيفة النقية ما عاشا فيها، إذ لا يجدن فيها غذاء ولا منفعة لهما. وهكذا هؤلاء إذا رأوا العالم المضيء المشرق، والأنوار المتلألئة، والحياة الطيبة في الجنة لم يستطيعوا دخولها، وعجزوا عن ذلك، فما مثلهم إلا مثل السمك الذي لا يعيش في البر، ومثل ذوات الأربع التي لا تعيش في البحر.
ولما بين لهم أنه لا رجوع إلى الدنيا أنّبهم على ما عملوا من تدسية نفوسهم بفعل المعاصي، وترك الطاعة له، فقال:
(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي فذوقوا العذاب بسبب تكذيبكم بهذا اليوم، واستبعادكم وقوعه، وعملكم عمل من لا يظن أنه راجع إلى ربه فملاقيه.
ثم ذكر لهم جزاءهم على فعل المعاصي، فقال:
(إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي إنا سنعاملكم معاملة الناسي، لأنه تعالى لا ينسى شيئا، ولا يضل عنه شيء، وهذا أسلوب في الكلام يسمى أسلوب المشاكلة، ونحوه: « الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا » وقوله: « تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ » وقوله: « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ».
(وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وذوقوا عذابا تخلدون فيه إلى غير نهاية، بسبب كفركم وتكذيبكم بآيات ربكم، واجتراحكم للشرور والآثام.
[سورة السجده (32): الآيات 15 الى 17]
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)
تفسير المفردات
ذكروا بها: أي وعظوا، خروا: أي سقطوا، سبحوا بحمد ربهم: أي نزهوه عما لا يليق به، تتجافى: أي ترتفع وتبتعد، قال عبد الله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشقّ معروف من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
والجنوب: واحدها جنب، وهو الشق، والمضاجع: واحدها مضجع، وهو مكان النوم، أخفى لهم: أي خبّئ لهم، من قرة أعين: أي من شيء نفيس تقرّ به أعينهم وتسرّ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه علامة أهل الكفر من طأطأة الرءوس خجلا وحياء مما صنعوا في الدنيا، وذكر ما يلاقونه من العذاب المهين يوم القيامة - عطف على ذلك ذكر علامة أهل الإيمان من تذللهم لربهم، وتسبيحهم بحمده، ومحافاة جنوبهم للمضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا، ثم أردفه ذكر ما يلاقونه من نعيم مقيم، وقرة أعين جزاء لهم على جميل أعمالهم، ومحاسن أقوالهم.
الإيضاح
(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي ما يصدّق بحججنا وآيات كتابنا إلا الذين إذا وعظوا بها خروا لله سجدا، تذللا واستكانة لعظمته، وإقرارا بعبوديته، ونزهوه في سجودهم عما لا يليق به، مما يصفه به أهل الكفر من الصاحبة والولد والشريك، يفعلون ذلك وهم لا يستكبرون عن طاعته، كما يفعل أهل الفسق والفجور حين يسمعونها، فإنهم يولون مستكبرين، كأن لم يسمعوها.
ثم ذكر بقية محاسن أعمالهم بقوله:
(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي يتنحون عن مضاجعهم التي يضطجعون فيها لمنامهم، فلا ينامون، داعين ربهم خوفا من سخطه وعذابه، وطمعا في عفوه عنهم، وتفضله عليهم برحمته ومغفرته، ومما رزقناهم من المال ينفقون في وجوه البر، ويؤدون حقوقه التي أوجبها عليهم فيه، قال أنس بن مالك: « نزلت فينا معاشر الأنصار، كنا نصلى المغرب، فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلى العشاء مع النبي ﷺ ».
وعن معاذ بن جبل عن النبي ﷺ في قوله: « تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ » قال: هي قيام العبد أول الليل.
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: « عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبّه وأهله إلى ضلاته رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي ورجل غزا في سبيل الله تعالى فانهزم، فعلم ما عليه من الفرار، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي، فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي، ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه ».
وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال: « كنت مع النبي ﷺ في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه، ونحن نسير فقلت: يا نبي الله أخبرني عما يدخلنى الجنة، ويباعدنى عن النار. قال: لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسّره الله تعالى عليه - تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: تتجافى جنوبهم عن المضاجع - حتى بلغ - جزاء بما كانوا يعملون، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى يا رسول الله، فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك مملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، ثم قال: كفّ عليك هذا، فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية: « تَتَجافى جُنُوبُهُمْ لذكر الله، كلما استيقظوا ذكروا الله عز وجل، إما في الصلاة، وإما في قيام أو قعود، أو على جنوبهم، لا يزالون يذكرون الله تعالى » وقال الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعى وغيرهم إن المراد بالتجافي القيام لصلاة النوافل بالليل.
وبعد أن ذكر حال المؤمنين المتواضعين ذكر جزاءهم بقوله:
(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يعلم أحد عظيم ما أخفى لهم من النعيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد جزاء وفاقا بما كانوا يعملون من صالح الأعمال، أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.
روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: « يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتكم عليه، اقرءوا إن شئتم: « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ».
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: « إنه لمكتوب في التوراة، لقد أعدّ الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، وإنه لفى القرآن: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ».
[سورة السجده (32): الآيات 18 الى 22]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كانَ فاسِقًا لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
تفسير المفردات
أصل الفسق: الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها، ثم استعمل في الخروج من الطاعة وأحكام الشرع مطلقا، فهو أعم من الكفر، وقد يخص به كما في قوله: « وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » والمأوى: المسكن وأصل النزل: ما يعدّ للنازل من الطعام والشراب والصلة، ثم أطلق على كل عطاء، والمراد به هنا الثواب والجزاء، الأدنى: أي الأقرب، والمراد به عذاب الدنيا، فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه، وقد ابتلاهم الله بسنى جدب وقحط أهلكت الزرع والضرع، والعذاب الأكبر: عذاب يوم القيامة.
المعنى الجملي
لما بيّن حالى المجرمين والمؤمنين - عطف على ذلك سؤال العقلاء: هل يستوى الفريقان؟ وبين أنهما لا يستويان، ثم فصّل ذلك ببيان مآل كل منهما يوم القيامة.
الإيضاح
(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كانَ فاسِقًا؟ لا يَسْتَوُونَ) أي أفهذا الكافر المكذّب وعد الله ووعيده، المخالف أمره ونهيه، كهذا المؤمن بالله المصدّق وعده ووعيده، المطيع لأمره ونهيه - كلا - لا يستوون عند الله ولا يتعادل الكفار به والمؤمنون.
وخلاصة ذلك: أبعد ظهور ما بينهما من تفاوت بيّن يظن أن المؤمن الذي حكيت أوصافه كالكافر الذي ذكرت قبائح أعماله؟ كلا - إن الفضل بينهما لا يخفى على ذي عينين.
ونحو الآية قوله: « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ »
وقوله: « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » وقوله: « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ » الآية.
وبعد أن نفى استواءهما أتبعه بذكر حال كل منهما على سبيل التفصيل:
(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أما الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا صالح الأعمال - فلهم مساكن فيها البساتين والدور، والغرف العالية، جزاء لهم على جليل أعمالهم، وطيب أفعالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا.
(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي وأما الذين كفروا بالله، واجترموا الشرور والآثام، فمساكنهم التي يأوون إليها في الآخرة، ويستريحون فيها هي النار، وبئس القرار.
وفي هذا ضرب من التهكم بهم، إذ جعلت النار ملجأ ومستراحا لهم يستريحون إليها، فهو كقوله: « فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ».
ثم بين حالهم فيها ونفورهم منها، فقال:
(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) أي كلما شارفوا الخروج منها، وظنوا أنه قد تيسر لهم ذلك، وهم بعد في غمراتها أعيدوا فيها، ودفعوا إلى قعرها.
روي أن لهب النار يضربهم فيرتفعون إلى أعلاها، حتى إذا قربوا من أبوابها، وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها - وهكذا يفعل بهم أبدا.
قال الفضيل بن عياض: والله إنّ الأيدي لموثقة، وإن اللهب ليرفعهم، والملائكة تقمعهم.
ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ:
(وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي ذوقوا عذابها الذي كنتم تكذبون في الدنيا أن الله قد أعده لأهل الشرك به.
ثم بين أن عذاب الآخرة له مقدمات في الدنيا لأن الذنب مستوجب لنتائجه عاجلا وآجلا، فقال:
(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ولنبتلينهم بمصايب الدنيا وأسقامها وآفاتها من المجاعات والقتل، ونحو ذلك، عظة لهم ليقلعوا عن ذنوبهم قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب يوم القيامة.
ثم ذكر حال من قابل آيات الله بالإعراض، بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد، فقال:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها؟) أي لا أظلم ممن ذكّره الله بحججه، وآي كتابه ورسله، ثم أعرض عن ذلك كله، ولم يتعظ به، بل تناساه، كأنه لا يعرفه.
ثم بين جزاءه على ذلك، فقال:
(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أي إنا سننتقم أشد الانتقام من الذين اجترحوا السيئات، واكتسبوا الآثام والمعاصي.
روى ابن جرير بسنده عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم ينصره، يقول الله: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) ».
[سورة السجده (32): الآيات 23 الى 25]
ولَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه في أول السورة الرسالة والتوحيد والبعث - عاد في آخرها إلى ذكرها مرة أخرى، فقال:
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) المرية: الشك، أي إنا آتينا موسى التوراة مثل ما آتيناك القرآن، وأنزلنا عليك الوحي مثل ما أنزلناه عليه، فلا تكن في شك من لقائك الكتاب، فأنت لست ببدع من الرسل كما قال تعالى: « قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ».
وذكر موسى من بين سائر الرسل لقرب عهده من النبي ﷺ ووجود من كان على دينه بينهم إلزاما لهم، ولم يذكر عيسى، لأن اليهود ما كانوا يعترفون بنبوته، والنصارى كانوا يقرون بنبوة موسى، فذكر المجمع عليه.
وقد يكون ذكره لأن الآية جاءت تسلية لرسوله ﷺ، فإنه لما أتى بكل آية وذكّرهم بها، وأعرض قومه عنها حزن حزنا شديدا، فقيل له: تذكّر حال موسى ولا تحزن، فإنه قد لقى مثل ما لقيت، وأوذى كما أوذيت، فإنّ من لم يؤمن به آذاه، كفرعون وقومه، ومن آمنوا به من بني إسرائيل آذوه أيضا بالمخالفة له كقولهم: « أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً » وقولهم: « فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا »، وغيره من الأنبياء لم يؤذه إلا من لم يؤمن به.
(وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي وجعلنا الكتاب الذي آتيناه مرشدا لبني إسرائيل إلى طريق الهدى كما جعلناك مرشدا لأمتك.
ونحو الآية قوله: « وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ».
(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أي وجعلنا من بني إسرائيل رؤساء في الخير، يهدون أتباعهم وأهل القبول منهم، بإذننا لهم وتقويتنا إياهم، لأنهم صبروا على طاعتنا، وعزفت أنفسهم عن لذات الدنيا وشهواتها، وكانوا من أهل اليقين بحججنا وبما تبين لهم من الحق.
وفي ذلك إيماء إلى أن الكتاب الذي آتيناكه سيكون هداية للناس، وسيكون من أتباعه أئمة يهدون مثل تلك الهداية.
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن ربك يقضى بين خلقه يوم القيامة فيما كانوا فيه في الدنيا يختلفون من أمور الدين والثواب والعقاب، فيدخل الجنة أهل الحق، ويدخل النار أهل الباطل.
[سورة السجده (32): الآيات 26 الى 27]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
المعنى الجملي
بعد أن أعاد ذكر الرسالة في قوله: « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ » أعاد هنا ذكر التوحيد مع ذكر البرهان عليه بما يرونه من المشاهدات التي يبصرونها.
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ؟) أي أو لم يبين لهم طريق الحق كثرة من أهلكنا من القرون الماضية الذين يمشون في أرضهم، ويشاهدون آثار هلاكهم كعاد وثمود وقوم لوط.
والخلاصة: أو لم يرشد هؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم لرسلهم، ومخالفتهم إياهم فيما جاءوهم به من سبل الحق، فلم يبق منهم باقية.
ونحو الآية قوله: « هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا » وقوله: « فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا » وقوله: « فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ».
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي إن في خلاء مساكن القرون الذين أهلكناهم من أهلها لما كذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا، وعبدوا غيرنا - لآيات لهم وعظات يتعظون بها لو كانوا من أولى الحجا.
(أَفَلا يَسْمَعُونَ؟) عظاتنا وتذكيرنا إياهم، وتعريفهم مواضع حججنا سماع تدبر وتفكر ليعتبروا بها.
وبعد أن بين قدرته على الإهلاك - أرشد إلى قدرته على الإحياء ليبين أن النفع والضر بيده تعالى، فقال:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) الأرض الجرز: هي التي جرز نباتها وقطع، إما لعدم الماء، وإما لأنه رعى وأكل، يقال: ناقة جروز إذا كانت تأكل كل شيء، ورجل جروز أي أكول: أي ألم يشاهد هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت، والنشر بعد الفساد - أنا بقدرتنا نسوق الماء إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها، فنخرج به زرعا أخضر تأكل منه ما شيتهم وتتغذى به أجسامهم، فيعيشون به؟.
(أَفَلا يُبْصِرُونَ؟) أي أفلا يرون ذلك بأعينهم، فيعلموا أن القدرة التي بها فعلنا ذلك لا يتعذر عليها أن تحيى الأموات وتنشرهم من قبورهم، وتعيدهم بهيئاتهم التي كانوا عليها قبل موتهم؟.
[سورة السجده (32): الآيات 28 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
تفسير المفردات
الفتح: أي الفصل في الخصومة بيننا وبينكم، وينظرون: أي يمهلون ويؤخرون.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت الرسالة والتوحيد - عطف على ذلك ذكر الحشر، وبذلك صار ترتيب آخر السورة متناسقا مع ترتيب أولها، فقد ذكر الرسالة في أولها بقوله (لِتُنْذِرَ قَوْمًا) وفى آخرها بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وذكر التوحيد في أولها بقوله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وفى آخرها بقوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) وقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) وذكر الحشر في أولها بقوله (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) وفى آخرها بقوله:
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ؟).
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي ويقول المشركون على طريق الاستهزاء والاستبعاد: متى تنصر علينا أيها الرسول كما تزعم، ومتى ينتقم الله منا؟ وما نراك وأصحابك إلا مختفين خائفين أذلة - إن كنتم صادقين في الذي تقولون من أنا معاقبون على تكذيبنا الرسول، وعبادة الآلهة والأوثان، وهم ولا شك لا يستعجلونه إلا لاستبعادهم حصوله وإنكارهم إياه، وتكذيبهم له.
وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن استبعادهم موبخا لهم بقوله:
(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي قل لهم: إذا حل بكم بأس الله وسخطه في الدنيا وفى الآخرة لا ينفعكم إيمانكم الذي تحدثونه في هذا اليوم، ولا تؤخّرون للتوبة والمراجعة.
والخلاصة: لا تستعجلوه ولا تستهزئوا، فكأني بكم وقد حل ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم حلول العذاب، فلم تنظروا.
ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم، وانتظار الفتح بينه وبينهم، فقال:
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي فأعرض عن هؤلاء المشركين، ولا تبال بهم، وبلّغ ما أنزل إليك من ربك، وانتظر ما الله صانع بهم، فإنه سينجزك ما وعد، وسينصرك على من خالفك، إنه لا يخلف الميعاد، وهم منتظرون يتربصون بكم الدوائر كما قال « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ».
وسترى عاقبة صبرك عليهم، وعلى أداء رسالة ربك، بنصرك وتأييدك، وسيجدون نحب ما ينتظرون فيك، وفى أصحابك من وبيل عقاب الله لهم، وحلول عذابه بهم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إثبات رسالة النبي ﷺ وبيان أن مشركي العرب لم يأتهم رسول من قبله.
(2) إثبات وحدانية الله، وأنه المتصرف في الكون، المدبر له على أتم نظام وأحكم وجه.
(3) إثبات البعث والنشور، وبيان أنه يكون في يوم كألف سنة مما تعدون.
(4) تفصيل خلق الإنسان في النشأة الأولى، وبيان الأطوار التي مرت به، حتى صار بشرا سويا.
(5) وصف الذلة التي يكون عليها المجرمون يوم القيامة، وطلبهم الرجوع إلى الدنيا لإصلاح أحوالهم، ورفض ما طلبوا لعدم استعدادهم للخير والفلاح.
(6) تفصيل أحوال المؤمنين في الدنيا، وذكر ما أعده الله لهم من النعيم، والثواب العظيم في الآخرة.
(7) استعجال الكفار لمجئ يوم القيامة استبعادا منهم لحصوله.