الروح/المسألة السادسة عشرة/فصل التلفظ بإهداء العمل
فإن قيل: فهل تشترطون في وصول الثواب أن يهديه بلفظه أم يكفي في وصوله مجرد نية العامل أن يهديها إلى الغير.
قيل السنّة: لم تشترط التلفظ بالإهداء في حديث واحد بل أطلق صلى اللّه عليه وآله وسلم الفعل عن الغير كالصوم والحج والصدقة ولم يقل لفاعل ذلك وقل اللهم هذا عن فلان ابن فلان واللّه سبحانه يعلم نية العبد وقصده بعلمه فإن ذكره جاز وإن ترك ذكره واكتفى بالنية والقصد وصل إليه ولا يحتاج أن يقول اللهم إني صائم غدا عن فلان ابن فلان، ولهذا واللّه أعلم اشترط من اشترط نية الفعل عن الغير قبله ليكون واقعا بالقصد عن الميت.
فأما إذا فعله لنفسه ثم نوى أن يجعل ثوابه للغير لم يصر للغير بمجرد النية كما لو نوى أن يهب أو يعتق أو يتصدق لم يحصل ذلك بمجرد النية.
و مما يوضح ذلك أنه لو بنى مكانا أن يجعله مسجدا أو مدرسة أو ساقية ونحو ذلك صار وقفا بفعله مع النية ولم يحتج إلى لفظ.
و كذلك لو أعطى الفقير مالا بنية الزكاة سقطت عنه الزكاة وإن لم يتلفظ بها.
و كذلك لو أدى عن غيره دينا حيا كان أو ميتا سقط من ذمته وإن لم يقل هذا عن فلان.
فإن قيل: فهل يتعين عليه تعليق الإهداء بأن يقول: اللهم إن كنت قبلت هذا العمل وأثبتني عليه فاجعل ثوابه لفلان أم لا؟
قيل: لا يتعين ذلك لفظا ولا قصدا بل لا فائدة في الشرط فإن اللّه سبحانه إنما يفعل هذا، سواء شرطه أو لم يشرطه. فلو كان سبحانه يفعل غير هذا بدون الشرط كان في الشرط فائدة.
و أما قوله: اللهم إن كنت أثبتني على هذا فاجعل ثوابه لفلان، فهو بناء على أن الثواب يقع للعامل ثم ينتقل منه إلى من أهدى له، وليس كذلك بل إذا قوي حال الفعل أنه عن فلان وقع الثواب أولا عن المعمول له كما لو أعتق عبده عن غيره لا تقول إن الولاء يقع للمعتق ثم ينتقل منه إلى المعتق عنه فهكذا هذا.
و باللّه التوفيق.
فإن قيل: فما الأفضل أنه يهدي إلى الميت؟ قيل: الأفضل ما كان أنفع في نفسه، فالعتق عنه والصدقة أفضل من الصيام عنه، وأفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق عليه وكانت دائمة مستمرة، ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أفضل الصدقة سقي الماء» وهذا موضع يقل فيه الماء ويكثر فيه العطش وإلا فسقي الماء على الأنهار لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة، وكذلك الدعاء والاستغفار له إذا كان يصدق من الداعي وإخلاص وتضرع فهو في موضعه أفضل من الصدقة عنه، كالصلاة على الجنازة والوقوف لدعاء على قبره.
و بالجملة فأفضل ما يهدي إلى الميت العتق والصدقة والاستغفار له والدعاء له والحج عنه.
و أما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعا بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج.
فإن قيل: فهذا لم يكن معروفا في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصها على الخير ولا أرشدهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إليه، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه لكانوا يفعلونه.
فالجواب أن مردود هذا السؤال إن كان معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار.
قيل له ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب [القراءة] 1 واقتضت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات، وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنّة والإجماع وقواعد الشرع.
و أما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى، ولا كانوا يعرفون ذلك البتة، وكانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم، ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم.
ثم يقال لهذا القائل: لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال: اللهم ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت، فإن القوم كانوا أحرض شي ء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا ليشهدوا على اللّه بإيصال ثوابها إلى أمواتهم.
فإن قيل: فرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج دون القراءة.
قيل هو صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم فهذا سأله عن الحج عن ميتة فأذن له، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك.
و أي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك بين وصول ثواب القراءة والذكر.
و القائل أن أحدا من السلف لم يفعل ذلك قائل ما لا علم له به، فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه، فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يشهدون من حضرهم عليه، بل يكفي اطلاع علّام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم لا سيما والتلفظ بنيّة الإهداء لا يشترط كما تقدم.
و سر المسألة أن الثواب ملك للعامل، فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله اللّه إليه، فما الذي خص من هذا ثواب قراءة القرآن، وحجر على العبد أن يوصله إلى أخيه، وهذا عمل سائر الناس حتى المنكر في سائر الأعصار والأمصار من غير نكير من العلماء.
فإن قيل: فما تقولون في الإهداء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟
قيل: من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومنهم لم يستحبه ورآه بدعة، فإن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، وأن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شي ء، لأنه هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه، ومن دعا إلى هدى فله من الأجر مثل من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شي ء، وكل هدى وعلم فإنما نالته أمته على يده فله مثل أجر من اتبعه أهداه إليه أو لم يهده. واللّه أعلم.
هامش
- ↑ وردت في المطبوع القرآن.