التاج في أخلاق الملوك/باب في صفة ندماء الملك/امتحان من يطعن في المملكة
امتحان من يطعن في المملكة
وكان قد نصب رجلاً يمتحن به من فسدت نيته، وطعن في المملكة، فكان الرجل يظهر التأله والدعاء إلى التخلي عن الدنيا، والرغبة في الآخرة، وترك أبواب الملوك.
وكان يقص على الناس ويبكيهم ويشوب في خلال ذلك كلامه بالتعريض بذم الملك، وتركه شرائع ملته وسنن دينه ونواميس آبائه. وكان هذا الرجل الذي نصبه لهذا، أخاه من الرضاعة، وتربه في الصبا. فكان إذا تكلم هذا الرجل بهذا الذي قد مثله له أبرويز، وأمره به ليمتحن بذلك خاصته، أخبر به. وأنا أعلم به. وإن كان كذلك فإنه لا يقصدني بسوءٍ، ولا المملكة بما يوهنها.
فيظهر الاستهانة بأمره، والثقة من الطمأنينة إليه. ثم يوجه إليه في خلال ذلك من يدعوه غليه، فيأبى أن يجيبه، ويقول: لاينبغي لمن يخاف الله أن يخاف أحداً سواه. فكان الطاعن على الملك والمملكة يكثر الخلوة بهذا الرجل في الزيارة له والأنس به. فإذا خلوا تذاكروا أمر الملك، وابتدأ الناسك يطعن على الملك، وفي صلب المملكة.
فأعانه الخائن، وطابقه على ذلك، وشايعه عليه، فيقول له الناسك: إياك أن تظهر هذا الجبار على كلامك! فإنه لا يحتمل لك ما يحتمله لي. فحصن منه دمك. فيزداد الآخر إليه استنامةً، وبه ثقةً. فإذا علم الناسك أنه قد بلغ من الطعن على الملك ما يستوجب به القتل في الشريعة، قال له: إني عاقد غداً مجلساً للناس، أقص عليهم، فاحضره! فإنك رجل رقيق القلب عند الذكر، حسن النية، ساكن الريح، بعيد الصوت، وإن الناس إذا رأوك قد حضرت مجلسي، زادت نياتهم خيراً، وسارعوا إلى استجابتي.
فيقول له الرجل: إني أخاف هذا الجبار، فلا تذكره إن حضرت مجلسك.
وكانت العلامة فيما بينه وبين أبرويز أن ينصرف الرجل عن مجلس الناسك إذا ابتدأ في قصة الملك، وكان أبرويز قد وضع عيوناً تحضر مجلس الناسك، متى جلس. فبكر الناسك، وقص على العامة، وزهد في الدنيا، ورغب في الآخرة. وحضره الرجل الخائن، فلما فرغ من قصصه، وأخذ في ذكر الملك، نهض الرجل، وجاءت عيون أبرويز فأخبرته بما كان. فإذ زال عنه الشك في أمره، وجهه إلى بعض البلدان، وكتب إلى عامله: قد وجهت إليك رجلاً وهو قادم عليك بعد كتابي هذا في كذا وكذا. فأظهر بره، والأنس به، والثقة بناحيته. فإذا اطمأنت به الدار، فاقتله قتلةً تحيي بها بيت النار، وتصل بها حرمة النوبهار. فإنه من فسدت نيته لغير علةٍ في الخاصة والعامة، لم يصلح بعلة.