التاج في أخلاق الملوك/باب في المنادمة/في عهد الأمويين
في عهد الأمويين
ثم لم يكن ذلك، بعد، في أخلاق الملوك من الأعاجم والعرب حتى ملك يزيد بن عبد الملك، فسوى بين الطبقة العليا والسفلى، وأفسد أقسام المراتب، وغلب عليه اللهو، واستخف بآيين المملكة، وأذن للندماء في الكلام والضحك والهزل في مجلسه والرد عليه. وهو أول من شتم في وجهه من الخلفاء، على جهة الهزل والسخف.
قلت لإسحق بن إبراهيم: هل كانت الخلفاء من بني أمية تظهر للندماء والمغنين؟.
قال: أما معاوية ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمد، فكان بينهم وبين الندماء ستارة. وكان لا يظهر أحد من الندماء على ما يفعله الخليفة، إذا طرب للمغنى والتذه، حتى ينقلب ويمشي ويحرك كتفيه، ويرقص، ويتجرد حيث لا يراه إلا خواص جواريه. إلا أنه كان، إذا ارتفع من خلف الستارة، صوت أو نعير طرب أو رقص أو حركة بزفيرٍ تجاوز المقدار، قال صاحب الستارة: حسبك يا جارية! كفي! انتهى! أقصري! يوهم الندماء أن الفاعل لذلك بعض الجواري. فأما الباقون من خلفاء بني أمية، فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا أو يتجردوا، ويحضروا عراةً بحضرة الندماء والمغنين. وعلى ذلك، لم يكن أحد منهم في مثل حال يزيد بن عبد الملك، والوليد بن يزيد في المجون والرفث بحضرة الندماء، والتجرد، ما يباليان ما صنعا.
قلت: فعمر بن عبد العزيز؟
قال: ما طن في سمعه حرف غناء، منذ أفضت الخلافة إليه إلى أن فارق الدنيا. فأما قبلها، وهو أمير المدينة، فكان يسمع الغناء، ولا يظهر منه إلا الأمر الجميل. وكان ربما صفق بيديه، وربما تمرغ على فراشه، وضرب برجليه وطرب. فأما أن يخرج عن مقدار السرور إلى السخف، فلا.
في عهد العباسيين
قلت: فخلفاؤنا؟ قال: كان أبو العباس في أول أيامه يظهر للندماء، ثم احتجب عنهم بعد سنة. أشار بذلك عليه أسيد بن عبد الله الخزاعي؛ وكان يطرب ويبتهج ويصيح من وراء الستارة: أحسنت والله! أعد هذا الصوت! فيعاد له مراراً.
فيقول في كلها: أحسنت. وكانت فيه فضيلة لا تجدها في أحد؛ كان لا يحضره نديم ولا مغنٍ ولا ملهٍ، فينصرف، إلا بصلةٍ أو كسوةٍ، قلت أم كثرت.
وكان لا يؤخر إحسان محسنٍ لغدٍ، ويقول: العجب ممن يفرح أنساناً، فيتعجل السرور، ويجعل ثواب من سره تسويفاً وعدةً؛ فكان في كل يومٍ وليلة يقعد فيه لشغله، لا ينصرف أحد ممن حضره إلا مسروراً. ولم يكن هذا لعربي ولا عجمي قبله؛ غير أنه يحكى عن بهرام جورٍ ما يقارب هذا.
فأما أبو جعفر المنصور، فلم يكن يظهر لنديم قط، ولا رآه أحد يشرب غير الماء. وكان بينه وبين الستارة عشرون ذراعاً، وبين الستارة والندماء مثلها؛ فإذا غناه المغني فأطربه، حركت الستارة بعض الجواري، فاطلع إليه الخادم صاحب الستارة فيقول: قل له: أحسنت، بارك الله فيك! ؛ وربما أراد أن يصفق بيديه، فيقوم عن مجلسه، ويدخل بعض حجر نسائه، فيكون ذاك هناك، وكان لا يثيب أحداً من ندمائه وغيرهم درهماً، فيكون له رسماً في ديوان. ولم يقطع أحداً ممن كان يضاف إلى ملهيةٍ أو ضحك أو هزلٍ، موضع قدم من الأرض. وكان يحفظ كل ما أعطى واحداً منهم عشر سنين، ويحسبه، ويذكره له.
وكان أبو جعفر المنصور يقول: من صنع مثل ما صنع إليه، فقد كافأ، ومن أضعف، كان مشكوراً، ومن شكر، كان كريماً، ومن علم أن ما صنع، فإلى نفسه صنع، لم يستبطيء الناس في شكرهم، ولم يستزدهم في مودتهم. ولا تلتمس في غيرك شكر ما أتيته إلى نفسك ووقيت به عرضك. وأعلم أن الطالب إليك الحاجة، لم يكرم وجهه عن مسألتك، فأكرم وجهك عن رده.
وكان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء، متشبهاً بالمنصور نحواً من سنة، ثم ظهر لهم. فأشار عليه أبو عونٍ بأن يحتجب عنهم، فقال: إليك عني، يا جاهل!
إنما اللذة في مشاهدة السرور وفي لدنو من سرني. فأما من وراء وراء، فما خيرها ولذتها؟ ولو لم يكن في الظهور للندماء والإخوان إلا أني أعطيهم من السرور بمشاهدتي مثل الذي يعطونني من فوائدهم، لجعلت لهم في ذلك حظاً موفراً.
وكان كثير العطايا، وافرها، قل من حضره إلا أغناه. وكان لين العريكة، سهل الشريعة، لذيذ المنادمة، قصير المناومة، ما يمل نديماً ولا يتركه إلا عن ضرورة، قطيع الخنا، صبوراً على الجلوس، ضاحك السن، قليل الأذى والبذاء. وكان الهادي شكس الأخلاق، صعب المرام، قليل الإغضاء، سيء الظن. قل من توقاه وعرف أخلاقه، إلا أغناه. وما كان شيء أبغض إليه من ابتدائه بسؤال. وكان يأمر للمغني بالمال الخطير الجزيل، فيقول: لا يعطيني بعدها شيئاً، فيعطيه، بعد أيام، مثل تلك العطية.
ويقال: إنه قال يوماً، وعنده ابن جامع وإبراهيم الموصلي ومعاذ ابن الطبيب، وكان أول من دخل عليه معاذ، وكان حاذقاً بالأغاني، عارفاً بها: من أطربني اليوم منكم، فله حكمه.
فغناه ابن جامع غناءً لم يحركه، وكان إبراهيم قد فهم غرضه، فغناه:
- سليمى أجمعت بينا ... فأين تظنها أينا
فطرب، حتى قام عن مجلسه، ورفع صوته، وقال: أعد بالله، وبحياتي!.
فأعاد، فقال: أنت صاحبي، فاحتكم.
فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، حائط عبد الملك بن مروان وعينه الخرارة بالمدينة قال: فدارت عيناه في رأسه، حتى صارتا كأنهما جمرتان، ثم قال: يا ابن اللخناء! أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني، وأني حكمتك فأقطعتك! أما والله، لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك وفكرك، لضربت الذي فيه عيناك! ثم سكت هنيهةً.
قال إبراهيم: فرأيت ملك الموت قائماً بيني وبينه ينتظر أمره. ثم دعا إبراهيم الحراني، فقال: خذ بيد هذا الجاهل، فأدخله بيت المال، فليأخذ منه ما شاء!.
فأخذ الحراني بيدي، حتى دخل بي بيت
المال. فقال: كم تأخذ؟ فقلت: مائة بدرة. فقال: دعني أؤامره.
قلت: فآخذ تسعين. قال: حتى أؤامره.
قلت: فثمانين. قال: لا.
فأبى إلا أن يؤامره، فعرفت غرضه، فقلت له: آخذ سبعين لي، ولك ثلاثون.
قال: شأنك.
قال: فانصرف بسبعمائة ألف، وانصرف ملك الموت عن الدار.
قال: وكان الرشيد في أخلاق أبي جعفر المنصور، يمتثلها كلها إلا في العطايا والصلات والخلع. فإنه كان يقفو فعل أبي العباس والمهدي. ومن خبرك أنه رآه قط وهو يشرب إلا الماء، فكذبه. وكان لا يحضر شربه إلا خاص جواريه، وربما طرب للغناء، فتحرك حركةً بين الحركتين في القلة والكثرة. وهو، من بين خلفاء بني العباس، من جعل للمغنين مراتب وطبقات، على نحو
ما وضعهم أردشير بن بابك وأنوشروان. فكان إبراهيم الموصلي، واسماعيل أبو القاسم بن جامع، وزلزل منصور الضارب في الطبقة الأولى وكان زلزل يضرب، ويغني هذان عليه.
والطبقة الثانية: سليم بن سلام أبو عبيد الله الكوفي، وعمرو الغزال ومن أشبههما.
والطبقة الثالثة: أصحاب المعازف والونج والطنابير.
وعلى قدر ذلك كانت تخرج جوائزهم وصلاتهم. وكان إذا وصل واحداً من الطبقة الأولى بالمال الكثير الخطير، جعل لصاحبه اللذين معه في الطبقة، نصيباً منه، وجعل للطبقتين اللتين تليانه منه أيضاً نصيباً. وإذا وصل أحداً من الطبقتين الأخريين بصلة، لم يقبل واحد من الطبقة العالية منه درهماً، ولا يجتريء أن يعرض ذلك عليه. قال: فسأل الرشيد يوماً برصوما الزامر، فقال له: يا إسحق! ما تقول في ابن جامع؟ فحرك رأسه، وقال: خمر قطربل، يعقل الرجل، ويذهب العقل.
قال: فما تقول في إبراهيم الموصلي؟
قال: بستان فيه خوخ وكمثرى وتفاح وشوك وخرنوب.
قال: فما تقول في سليم بن سلام؟
فقال: ما أحسن خضابه!
قال: فما تقول في عمرو الغزال؟
قال: ما أحسن بنانه!
قال: وكان منصور زلزل من أحسن وأحذق من برأ الله بالجس؛ فكان إذا جس العود، فلو سمعه الأحنف ومن تحالم في دهره كله، لم يملك نفسه حتى يطرب.
قال إبراهيم: فغنيت، يوماً، على ضربه، فخطأني.
فقلت لصاحب الستارة: هو، والله، اخطأ!.
قال: فرفع الستارة،
ثم قال: يقول لك أمير المؤمنين: أنت، والله، أخطأت!.
فحمي زلزل، وقال: يا إبراهيم، تخطئني؟ فوالله ما فتح أحد من المغنين فاه بغير لفظٍ إلا عرفت غرضه! فكيف أخطيء، وهذه حالي؟.
فأداها صاحب الستارة، فقال الرشيد: قل له: صدقت! أنت كما وصفت نفسك، وكذب إبراهيم وأخطأ.
قال إبراهيم: فغمني ذلك، فقلت لصاحب الستارة: أبلغ أمير المؤمنين، سيدي ومولاي، أن بفارس رجلاً يقال له سنيد، لم يخلق لله أضرب منه بعود، ولا أحسن مجساً، وغن بعث إليه أمير المؤمنين فحمله، عرف فضله، وتغنيت على ضربه. فغن زلزلاً يكايدني مكايدة القصاص والقرادين.
قال: فوجه الرشيد إلى الفارسي، فحمل على البريد، فأقلق ذلك زلزلاً وغمه. فلما قدم بالفارسي، أحضرنا، وأخذنا مجالسنا، وجاؤوا بالعيدان قد سويت. وكذلك كان يفعل في مجلس الخلافة، ليس يدفع إلى أحدٍ عوده، فيحتاج إلى أن يحركه، لأنها قد سويت وعلقت مثالثها مشاكلةً للزيرة على الدقة والغلظ.
قال: فلما وضع عود الفارسي في يديه، نظر إليه منصور زلزل فأسفر وجهه، وأشرق لونه، فضرب وتغنى عليه إبراهيم. ثم قال صاحب الستارة لزلزل: يا منصور، إضرب.
قال: فلما جس العود، ما تمالك الفارسي أن وثب من مجلسه بغير إذن، حتى قبل رأس زلزلٍ وأطرافه، وقال: مثلك، جعلت فداك
لايمتهن ويستعمل. مثلك يعبد.
فعجب الرشيد من قوله، وعرف فضيلة زلزل على الفارسي، فأمر له بصلةٍ، ورده إلى بلده.
وكان منصور زلزل من أسخى الناس وأكرمهم؛ نزل بين ظهراني قومٍ، وقد كان يحل لهم اخذ الزكاة. فما مات حتى وجبت عليهم الزكاة.
وكان إسحق برصوما في الطبقة الثانية. قال: فطرب الرشيد يوماً لزمره، فقال له صاحب الستارة: يا إسحق! أزمر على غناء ابن جامع. قال: لا أفعل.
قال: يقول لك أمير المؤمنين، ولا تفعل؟ قال: إن كنت أزمر على الطبقة العالية، رفعت إليها. فأما أن أكون في الطبقة الثانية، وأزمر على الأولى، فلا أفعل.
فقال الرشيد لصاحب الستارة: ارفعه إلى الطبقة الأولى؛ فإذا قمت، فادفع البساط الذي في مجلسهم إليه. فرفع إسحق إلى الطبقة العالية، وأخذ البساط، وكان يساوي ألفي دينار. فلما حمله إلى منزله، استبشرت به أمه وأخواته، وكانت أمه نبطية لكناء.
فخرج برصوما عن منزله لبعض حوائجه، وجاء نساء جيرانه يهنئن أمه بما خص به، دون أصحابه، ويدعون لها. فأخذت سكيناً، وجعلت تقطع لكل من دخل عليها قطعة من البساط، حتى أتت على أكثره.
فجاء برصوما، فإذا البساط قد تقسم بالسكاكين. فقال: ويلك ما صنعت؟ قالت: لم أدر، ظننت أنه كذا يقسم فحدث الرشيد بذلك، فضحك، ووهب له آخر.
وزعم سعيد بن وهب أن إبراهيم الموصلي غنى أمير المؤمنين هارون صوتاً، فكاد
يطير طرباً، فاستعاده عامة ليله،
وقال: ما رأيت صوتاً يجمع السخاء والطرب وجودة الصنعة والسخف غير هذا الصوت! فأقبل إبراهيم، فقال: يا أمير المؤمنين! لو وهب لك إنسان مائة ألف درهم، أو لو وجدت مائة ألف درهم مطروحةً، كنت أسر بها أو بهذا الصوت؟
قال: والله، لأنا أسر بهذا الصوت مني بألف ألف، ألف ألف. قال: فلو فقدت من بيت مالك مائة ألف كان أشد عليك، أو لو فقدت هذا الصوت وفاتك هذا السرور؟ قال: بل ألف ألف، وألف ألف أهون علي.
قال: فلم لا تهب مائة ألف أو مائتي ألف لمن أتاك بشيءٍ فقد ألفي ألفٍ أهون عليك منه؟ فأمر له بمائتي ألف درهم.