مجموع الفتاوى/المجلد الثالث/ما قاله رحمه الله تعالى في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان
ما قاله رحمه الله تعالى في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان
[عدل]قال رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ظهير له، ولا معين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ الذي أرسله إلى الخلق أجمعين. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، وعلى سائر عباد الله الصالحين.
أما بعد: فقد سئلت غير مرة، أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة، المعقودة للمناظرة، في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان، من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد. لما سعى إليه قوم من الجهمية، والاتحادية، والرافضة، وغيرهم من ذوى الأحقاد.
فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة قضاة المذاهب الأربعة وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشائخ، ممن له حرمة وبه اعتداد. وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد، وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة.
فقال لي: هذا المجلس عقد لك، فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك، وعما كتبت به إلى الديار المصرية، من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد، وأظنه قال: وأن أجمع القضاة والفقهاء، وتتباحثون في ذلك.
فقلت: أما الاعتقاد، فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله ﷺ، وما أجمع عليه سلف الأمة، فما كان في القرآن وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة، مثل صحيح البخاري، ومسلم.
وأما الكتب، فما كتبت إلى أحد كتابًا ابتداءً أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية وغيرهم، وكان قد بلغني أنه زور على كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير، أستاذ دار السلطان، يتضمن ذكر عقيدة محرفة، ولم أعلم بحقيقته، لكن علمت أنه مكذوب.
وكان يرد عليَّ من مصر وغيرها من يسألني عن مسائل في الاعتقاد وغيره، فأجيبه بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة.
فقال: نريد أن تكتب لنا عقيدتك.
فقلت: اكتبوا. فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب، فكتب له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات والقدر، ومسائل الإيمان والوعيد، والإمامة والتفضيل.
وهو أن اعتقاد أهل السنة والجماعة: الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
والإيمان بأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه أمر بالطاعة، وأحبها ورضيها، ونهي عن المعصية وكرهها، والعبد فاعل حقيقة، والله خالق فعله، وأن الإيمان والدين قول وعمل، يزيد وينقص، وألا نكفر أحدًا من أهل القبلة بالذنوب، ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحدًا، وأن الخلفاء بعد رسول الله ﷺ أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ومن قدم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وذكرت هذا أو نحوه؛ فإني الآن قد بعد عهدي، ولم أحفظ لفظ ما أمليته، لكنه كتب إذ ذاك.
ثم قلت للأمير والحاضرين: أنا أعلم أن أقوامًا يكذبون على، كما قد كذبوا عليّ غير مرة، وإن أمليت الاعتقاد من حفظي، ربما يقولون: كتم بعضه، أو داهن وداري، فأنا أحضر عقيدة مكتوبة، من نحو سبع سنين قبل مجيء التتر إلى الشام.
وقلت قبل حضورها كلامًا قد بعد عهدي به، وغضبت غضبًا شديدًا، لكني أذكر أني قلت: أنا أعلم أن أقوامًا كذبوا على وقالوا للسلطان أشياء، وتكلمت بكلام احتجت إليه، مثل أن قلت: من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيرى؟ ومن الذي أوضح دلائله وبينه؟ وجاهد أعداءه وأقامه لما مال حين تخلى عنه كل أحد، ولا أحد ينطق بحجته ولا أحد يجاهد عنه، وقمت مظهرًا لحجته مجاهدًا عنه، مرغبًا فيه؟
فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام في فكيف يصنعون بغيري؟ ! ولو أن يهوديًا طلب من السلطان الإنصاف، لوجب عليه أن ينصفه، وأنا قد أعفو عن حقى وقد لا أعفو، بل قد أطلب الإنصاف منه، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون؛ ليوافقوا على افترائهم، وقلت كلامًا أطول من هذا الجنس، لكن بعد عهدي به.
فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محيي الدين بأن يكتب ذلك.
وقلت أيضا : كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه، وما أدري هل قلت هذا قبل حضورها أو بعده، لكنني قلت أيضا بعد حضورها وقراءتها: ما ذكرت فيها فصلًا إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف، ثم أرسلت من أحضرها، ومعها كراريس بخطى من المنزل، فحضرت العقيدة الواسطية.
وقلت لهم: هذه كان سبب كتابتها أنه قدم عليَّ من أرض واسط بعض قضاة نواحيها شيخ يقال له: رضى الدين الواسطي من أصحاب الشافعي قدم علينا حاجًا، وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة التتر من غلبة الجهل والظلم، ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيت من ذلك، وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة، فخذ بعض عقائد أئمة السنة. فألح في السؤال، وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة، وأنا قاعد بعد العصر، وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر والعراق، وغيرهما.
فأشار الأمير بألا أقرأها أنا لرفع الريبة، وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين، فقرأها على الحاضرين حرفًا حرفًا، والجماعة الحاضرون يسمعونها، ويورد المورد منهم ما شاء ويعارض فيما شاء. والأمير أيضا: يسأل عن مواضع فيها، وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين، من الخلاف والهوى، ما قد علم الناس بعضه، وبعضه بسبب الاعتقاد، وبعضه بغير ذلك.
ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام والمناظرات في هذه المجالس؛ فإنه كثير لا ينضبط، لكن أكتب ملخص ما حضرني في ذلك، مع بعد العهد بذلك، ومع أنه كان يجرى رفع أصوات ولغط لا ينضبط.
فكان مما اعترض عليَّ بعضهم لما ذكر في أولها، ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل فقال: ما المراد بالتحريف والتعطيل؟ ومقصوده أن هذا ينفي التأويل، الذي أثبته أهل التأويل، الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، إما وجوبًا، وإما جوازًا.
فقلت: تحريف الكلم عن مواضعه كما ذمه الله تعالى في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} 1. أي جَرَّحَهُ بأظافير الحكمة تجريحًا. ومثل تأويلات القرامطة والباطنية وغيرهم من الجهمية والرافضة والقدرية، وغيرهم فسكت وفي نفسه ما فيها.
وذكرت في غير هذا المجلس أني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف؛ لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة، فنفيت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات؛ لأنه لفظ له عدة معان، كما بينته في موضعه من القواعد.
فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين، من أهل الأصول والفقه، وغير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف؛ لأن من المعانى التي قد تسمى تأويلًا ما هو صحيح، منقول عن بعض السلف، فلم أنف ما تقوم الحجة على صحته، فإذا ما قامت الحجة على صحته وهو منقول عن السلف، فليس من التحريف.
وقلت له أيضا: ذكرت في النفي التمثيل، ولم أذكر التشبيه؛ لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 2، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} 3، وكان أحب إلى من لفظ ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله ﷺ، وإن كان قد يعني بنفيه معنى صحيح، كما قد يعني به معنى فاسد.
ولما ذكرت أنهم لا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، جعل بعض الحاضرين يتمعض من ذلك؛ لاستشعاره ما في ذلك من الرد الظاهر عليه، ولكن لم يتوجه له ما يقوله، وأراد أن يدور بالأسئلة التي أعلمها، فلم يتمكن لعلمه بالجواب.
ولما ذكرت آية الكرسي أظنه سأل الأمير عن قولنا: لا يقربه شيطان حتى يصبح فذكرت حديث أبي هريرة في الذي كان يسرق صدقة الفطر، وذكرت أن البخاري رواه في صحيحه، وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم، ويطنبون في هذا، ويعرضون لما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك.
فقلت: قولي: من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل، وإنما اخترت هذين الاسمين؛ لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف كما قال ربيعة، ومالك، وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
فاتفق هؤلاء السلف على أن التكييف غير معلوم لنا، فنفيت ذلك اتباعًا لسلف الأمة.
وهو أيضا منفي بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف، وحقيقة صفاته. وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، كما قد قررت ذلك في قاعدة مفردة، ذكرتها في التأويل والمعنى، والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله.
وكذلك التمثيل، منفي بالنص، والإجماع القديم، مع دلالة العقل على نفيه، ونفي التكييف؛ إذ كُنْه البارى غير معلوم للبشر، وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطأبي الذي نقل أنه مذهب السلف، وهو إجراء آيات الصفات، وأحاديث الصفات على ظاهرها، مع نفي الكيفية والتشبيه عنها؛ إذ الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه، ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف.
فقال أحد كبار المخالفين: فحينئذ يجوز أن يقال: هو جسم لا كالأجسام، فقلت له أنا وبعض الفضلاء الحاضرين: إنما قيل: إنه يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم، حتى يلزم هذا السؤال.
وأخذ بعض القضاة الحاضرين والمعروفين بالديانة يريد إظهار أن ينفي عنا ما يقول وينسبه البعض إلينا، فجعل يزيد في المبالغة في نفي التشبيه والتجسيم، فقلت: ذكرت فيها في غير موضع من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وقلت في صدرها: ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
ثم قلت: وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح، التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول، وجب الإيمان بها كذلك، إلى أن قلت: إلى أمثال هذه الأحاديث الصحاح، التي يخبر فيها رسول الله ﷺ بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم.
فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية، وبين أهل التمثيل المشبهة.
ولما رأى هذا الحاكم العدل ممالأتهم، وتعصبهم، ورأي قلة العارف الناصر، وخافهم قال: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فتقول: هذا اعتقاد أحمد، يعني والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه، فإن هذا مذهب متبوع، وغرضه بذلك قطع مخاصمة الخصوم.
فقلت: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي ﷺ، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة محمد ﷺ.
وقلت مرات: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي ﷺ، حيث قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك، وعلىَّ أن آتى بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة، توافق ما ذكرته من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والأشعرية، وأهل الحديث، والصوفية، وغيرهم.
وقلت أيضا في غير هذا المجلس: الإمام أحمد رحمه الله لما انتهي إليه من السنة، ونصوص رسول الله ﷺ، أكثر مما انتهي إلى غيره، وابتلى بالمحنة، والرد على أهل البدع، أكثر من غيره، كان كلامه وعلمه في هذا الباب أكثر من غيره، فصار إمامًا في السنة أظهر من غيره، وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة العلماء الصلحاء قال: المذهب لمالك والشافعي، والظهور لأحمد بن حنبل. يعني: أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام، وإن كان لبعضهم من زيادة العلم والبيان، وإظهار الحق، ودفع الباطل ما ليس لبعض.
ولما جاء فيها: وما وصف به النبي ﷺ ربه في الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل العلم بالقبول. ولما جاء حديث أبي سعيد المتفق عليه في الصحيحين عن النبي ﷺ، يقول الله يوم القيامة: «يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعثًا إلى النار» الحديث سألهم الأمير هل هذا الحديث صحيح؟ فقلت: نعم. هو في الصحيحين، ولم يخالف في ذلك أحد، واحتاج المنازع إلى الإقرار به، ووافق الجماعة على ذلك.
وطلب الأمير الكلام في مسألة الحرف والصوت؛ لأن ذلك طلب منه.
فقلت: هذا الذي يحكيه كثير من الناس عن الإمام أحمد وأصحابه، أن صوت القارئين، ومداد الصحف قديم أزلي كما نقله مجد الدين ابن الخطيب وغيره كذب مفترى، لم يقل ذلك أحمد، ولا أحد من علماء المسلمين، لا من أصحاب أحمد ولا غيرهم.
وأخرجت كراسًا قد أحضرته مع العقيدة، فيه ألفاظ أحمد، مما ذكره الشيخ أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الإمام أحمد، وما جمعه صاحبه أبو بكر المروذى من كلام الإمام أحمد، وكلام أئمة زمانه وسائر أصحابه: أن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي. ومن قال: غير مخلوق، فهو مبتدع.
قلت: وهذا هو الذي نقله الأشعري في كتاب المقالات عن أهل السنة وأصحاب الحديث. وقال: إنه يقول به. قلت: فكيف بمن يقول: لفظي قديم؟ فكيف بمن يقول: صوتي غير مخلوق؟ فكيف بمن يقول: صوتي قديم؟
ونصوص الإمام أحمد في الفرق بين تكلم الله بصوت، وبين صوت العبد كما نقله البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد وغيره من أئمة السنة.
وأحضرت جواب مسألة كنت سئلت عنها قديمًا، فيمن حلف بالطلاق، في مسألة الحرف والصوت، ومسألة الظاهر في العرش، فذكرت من الجواب القديم في هذه المسألة، وتفصيل القول فيها، وأن إطلاق القول أن القرآن هو الحرف والصوت، أو ليس بحرف ولا صوت، كلاهما بدعة، حدثت بعد المائة الثالثة. وقلت: هذا جوابي.
وكانت هذه المسألة قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة، ممن كان بعضهم حاضرا في المجلس، فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم، وكانوا قد ظنوا أني إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله، حصل مقصودهم من الشناعة، وإن أجبت بما يقولونه هم، حصل مقصودهم من الموافقة، فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة وليس هو ما يقولونه هم، ولا ما ينقولونه عن أهل السنة؛ إذ قد يقوله بعض الجهال بهتوا لذلك وفيه: أن القرآن كله كلام الله حروفه ومعانيه، ليس القرآن اسمًا لمجرد الحروف، ولا لمجرد المعاني.
وقلت في ضمن الكلام لصدر الدين ابن الوكيل لبيان كثرة تناقضه، وأنه لا يستقر على مقالة واحدة، وإنما يسعى في الفتن والتفريق بين المسلمين: عندي عقيدة للشيخ أبي البيان، فيها: أن من قال: إن حرفًا من القرآن مخلوق، فقد كفر.
وقد كتبت عليها بخطك: أن هذا مذهب الشافعي، وأئمة أصحابه، وأنك تدين الله بها فاعترف بذلك، فأنكر عليه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني ذلك.
فقال ابن الوكيل: هذا نص الشافعي، وراجعه في ذلك مرارا، فلما اجتمعنا في المجلس الثاني، ذكر لابن الوكيل أن ابن درباس 4 نقل في كتاب الانتصار عن الشافعي مثل ما نقلت، فلما كان في المجلس الثالث، أعاد ابن الوكيل الكلام في ذلك.
فقال الشيخ كمال الدين لصدر الدين ابن الوكيل: قد قلت في ذلك المجلس للشيخ تقى الدين: إنه من قال: إن حرفًا من القرآن مخلوق فهو كافر، فأعاده مرارًا، فغضب هنا الشيخ كمال الدين غضبًا شديدًا، ورفع صوته. وقال: هذا يكفر أصحابنا المتكلمين الأشعرية الذين يقولون: إن حروف القرآن مخلوقة مثل إمام الحرمين وغيره، وما نصبر على تكفير أصحابنا.
فأنكر ابن الوكيل أنه قال ذلك، وقال: ما قلت ذلك، وإنما قلت: إن من أنكر حرفًا من القرآن فقد كفر، فرد ذلك عليه الحاضرون وقالوا: ما قلت إلا كذا وكذا، وقالوا: ما ينبغي لك أن تقول قولًا وترجع عنه. وقال بعضهم: ما قال هذا. فلما حرفوا، قال: ما سمعناه قال هذا، حتى قال نائب السلطان: واحد يكذب، وآخر يشهد، والشيخ كمال الدين مغضب. فالتفت إلى قاضى القضاة نجم الدين الشافعي يستصرخه للانتصار على ابن الوكيل، حيث كفر أصحابه. فقال القاضي نجم الدين: ما سمعت هذا، فغضب الشيخ كمال الدين، وقال كلاما لم أضبط لفظه، إلا أن معناه: أن هذا غضاضة على الشافعي، وعار عليهم أن أئمتهم يكفرون، ولا ينتصر لهم.
ولم أسمع من الشيخ كمال الدين ما قال في حق القاضي نجم الدين، واستثبت غيري ممن حضر، هل سمع منه في حقه شيئا؟ فقالوا: لا. لكن القاضي اعتقد أن التعيير لأجله، ولكونه قاضي المذهب، ولم ينتصر لأصحابه، وأن الشيخ كمال الدين قصده بذلك، فغضب قاضي القضاة نجم الدين. وقال: اشهدوا على أني عزلت نفسي، وأخذ يذكر ما يستحق به التقديم، والاستحقاق، وعفته عن التكلم في أعراض الجماعة، ويستشهد بنائب السلطان في ذلك. وقلت له كلامًا مضمونه تعظيمه واستحقاقه لدوام المباشرة في هذه الحال.
ولما جاءت مسألة القرآن ومن الإيمان به الإيمان بأن القرآن كلام الله. غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، نازع بعضهم في كونه منه بدأ وإليه يعود، وطلبوا تفسير ذلك.
فقلت: أما هذا القول، فهو المأثور الثابت عن السلف، مثل ما نقله عمرو بن دينار، قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة، يقولون: الله الخالق، وما سواه مخلوق إلا القرآن، فإنه كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
وقد جمع غير واحد ما في ذلك من الآثار عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والصحابة والتابعين، كالحافظ أبي الفضل ابن ناصر، والحافظ أبي عبد الله المقدسي. وأما معناه: فإن قولهم: منه بدأ، أي: هو المتكلم به، وهو الذي أنزله من لدنه، ليس هو كما تقول الجهمية: إنه خلق في الهوى أو غيره، أو بدأ من عند غيره. وأما إليه يعود: فإنه يسري به في آخر الزمان، من المصاحف والصدور، فلا يبقى في الصدر منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف، ووافق على ذلك غالب الحاضرين، وسكت المنازعون.
وخاطبت بعضهم في غير هذا المجلس، بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادرى، التي فيها أن القرآن كلام الله، خرج منه، فتوقف في هذا اللفظ. فقلت: هكذا قال النبي ﷺ: «ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه» يعني: القرآن، وقال خباب بن الأرت: يا هنتاه، تقرب إلى الله بما استطعت، فلن يتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه.
وقال أبو بكر الصديق لما قرأ قرآن مُسَيْلَمة الكذاب: إن هذا الكلام لم يخرج من إلٍّ يعني رب.
وجاء فيها: ومن الإيمان به: الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد ﷺ هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة، بل إذا قرأه الناس، أو كتبوه في المصاحف، لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله؛ فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا، لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا، فتمعض بعضهم من إثبات كونه كلام الله حقيقة، بعد تسليمه أن الله تعالى تكلم به حقيقة.
ثم إنه سلَّم ذلك لمَّا بين له أن المجاز يصح نفيه، وهذا لا يصح نفيه، ولما بين له أن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم، وشعر الشعراء المضاف إليهم، هو كلامهم حقيقة، فلا يكون نسبة القرآن إلى الله بأقل من ذلك.
فوافق الجماعة كلهم على ما ذكر في مسألة القرآن، وأن الله تكلم حقيقة، وأن القرآن كلام الله حقيقة لا كلام غيره.
ولما ذكر فيها: أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا، لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا، استحسنوا هذا الكلام وعظموه، وأخذ أكبر الخصوم يظهر تعظيم هذا الكلام، كابن الوكيل وغيره، وأظهر الفرح بهذا التلخيص، وقال: إنك قد أزلت عنا هذه الشبهة، وشفيت الصدور ويذكر أشياء من هذا النمط.
ولما جاء ما ذكر من الإيمان باليوم الآخر، وتفصيله ونظمه، استحسنوا ذلك وعظموه.
وكذلك لما جاء ذكر الإيمان بالقدر وأنه على درجتين، إلى غير ذلك مما فيها من القواعد الجليلة.
وكذا لما جاء ذكر الكلام في الفاسق الملِّىّ، وفي الإيمان، لكن اعترضه على ذلك بما سأذكره.
وكان مجموع ما اعترض به المنازعون المعاندون، بعد انقضاء قراءة جميعها، والبحث فيها عن أربعة أسئلة:
الأول: قولنا: ومن أصول الفرقة الناجية: أن الإيمان والدين قول وعمل، يزيد وينقص، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.
قالوا: فإذا قيل: إن هذا من أصول الفرقة الناجية، خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك، مثل أصحابنا المتكلمين، الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، ومن يقول: الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا لم يكونوا من الناجحين، لزم أن يكونوا هالكين.
وأما الأسئلة الثلاثة وهي التي كانت عمدتهم فأوردوها على قولنا، وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله في كتابه، وتواتر عن رسول الله ﷺ، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه سبحانه فوق سمواته على عرشه، عليّ على خلقه، وهو معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 5. وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ}: أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر أينما كان، وغير المسافر، وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وكل هذا الكلام الذي ذكره الله تعالى من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان على الظنون الكاذبة.
السؤال الثاني: قال بعضهم: نقر باللفظ الوارد، مثل حديث العباس، حديث الأوعال، والله فوق العرش، ولا نقول: فوق السموات، ولا نقول: على العرش. وقالوا أيضا: نقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 6 ولا نقول: الله على العرش استوى، ولا نقول: مستو، وأعادوا هذا المعنى مرارا، أي أن اللفظ الذي ورد، يقال اللفظ بعينه، ولا يبدل بلفظ يرادفه، ولا يفهم له معنى أصلا. ولا يقال: إنه يدل على صفة الله أصلا، ونبسط الكلام في هذا في المجلس الثاني، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
السؤال الثالث: قالوا: التشبيه بالقمر فيه تشبيه كون الله في السماء، بكون القمر في السماء.
السؤال الرابع: قالوا: قولك حق على حقيقته، الحقيقة هي المعنى اللغوي، ولا يفهم من الحقيقة اللغوية إلا استواء الأجسام وفوقيتها، ولم تضع العرب ذلك إلا لها، فإثبات الحقيقة هو محض التجسيم، ونفي التجسيم مع هذا تناقض أو مصانعة.
فأجبتهم عن الأسئلة، بأن قولي: اعتقاد الفرقة الناجية: هي الفرقة التي وصفها النبي ﷺ بالنجاة، حيث قال: «تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي».
فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي ﷺ، وأصحابه رضي الله عنهم وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية، فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال: الإيمان يزيد وينقص، وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه، وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك.
ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكًا، فإن المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت، وذو الحسنات الماحية، والمغفور له وغير ذلك، فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيًا، وقد لا يكون ناجيًا، كما يقال: من صمت نجا.
وأما السؤال الثاني: فأجبتهم أولًا بأن كل لفظ قلته فهو مأثور عن النبي ﷺ، مثل لفظ: فوق السموات، ولفظ: على العرش، وفوق العرش، وقلت: اكتبوا الجواب، فأخذ الكاتب في كتابته، ثم قال بعض الجماعة: قد طال المجلس اليوم، فيؤخر هذا إلى مجلس آخر، وتكتبون أنتم الجواب، وتحضرونه في ذلك المجلس.
فأشار بعض الموافقين بأن يتمم الكلام بكتابة الجواب؛ لئلا تنتشر أسئلتهم واعتراضهم وكان الخصوم لهم غرض في تأخير كتابة الجواب، ليستعدوا لأنفسهم، ويطالعوا، ويحضروا من غاب من أصحابهم، ويتأملوا العقيدة فيما بينهم؛ ليتمكنوا من الطعن والاعتراض، فحصل الاتفاق على أن يكون تمام الكلام يوم الجمعة، وقمنا على ذلك.
وقد أظهر الله من قيام الحجة، وبيان المحجة، ما أعز الله به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة، وفي نفوس كثير من الناس أمور لما يحدث في المجلس الثاني، وأخذوا في تلك الأيام يتأملونها، ويتأملون ما أجبت به في مسائل تتعلق بالاعتقاد، مثل: المسألة الحموية في الاستواء، والصفات الخبرية وغيرها.
هامش
- ↑ [النساء: 164]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [مريم: 65]
- ↑ [هو أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس بن عبدوس الكردي، قاضي الديار المصرية، ولد سنة 615 ه تقريبًا، توفي سنة 650 ه]
- ↑ [الحديد: 4]
- ↑ [ طه: 5]