مجموع الفتاوى/المجلد الثالث/فصل في عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ فيه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل في عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ فيه[عدل]

ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 1. وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.

والخوارج المارقون الذين أمر النبي بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين. فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار ولهذا لم يسب حريمهم؛ ولم يغنم أموالهم.

وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها وإن كانت فيها بدعة محققة فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.

والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله قال النبي لما خطبهم في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا» وقال : «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» وقال : «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله» وقال: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار» قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه» وقال: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وقال: «إذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما». وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.

وإذا كان المسلم متأولا في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي : «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدل فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وهذا في الصحيحين. وفيها أيضا من حديث الإفك أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: أنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان، فأصلح النبي بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم إنك منافق، ولم يكفر النبي لا هذا ولا هذا بل شهد للجميع بالجنة.

وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال لا إله إلا الله، وعظم النبي ذلك لما أخبروه وقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله» وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. ومع هذا لم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذًا.

فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2. ، فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل.

ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا مولاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض؛ ويأخذ بعضهم العلم عن بعض؛ ويتوارثون؛ ويتناكحون؛ ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.

وقد ثبت في الصحيح أن النبي سأل ربه: «أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك» وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضًا.

وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} 3. قال: «أعوذ بوجهك» {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: «أعوذ بوجهك» {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} قال: «هاتان أهون».

هذا مع أن الله أمر بالجماعة الائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 4. وقال النبي : «عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة» وقال: «الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد» وقال: «الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم».

فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالًا أو غاويًا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإذا كان قادرًا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي في الحديث الصحيح: «يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا».

وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره كما هجر النبي الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا ولى غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلا وضلالا وكان قد رد بدعة ببدعة. حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى قط أحدا إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. ولهذا كان أصح قولي العلماء: أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد حتى المتيمم لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس وذووا الأعذار النادرة والمعتادة والمتصلة والمنقطة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.

وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة عقدها ولم يأمرهم النبي بالإعادة، بل أبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلا بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمرو وعمار لما أجنبا وعمرو لم يصل وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، وأبو ذر لما كان يجنب ولا يصلي لم يأمره بالقضاء والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء.

والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء وكانوا قد غلطوا في معنى الآية فظنوا أن قوله تعالى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 5. هو الحبل فقال النبي «إنما هو سواد الليل وبياض النهار» ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، والذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهما بعد أن نسخت بالأمر بالصلاة إلى الكعبة وصاروا يصلون إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ.

وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل يثبت؛ وقيل لا يثبت؛ وقيل يثبت المبتدأ دون الناسخ. والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} 6. وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 7. وفي الصحيحين عن النبي : «ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين».

فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند والفاجر بل قد جعل الله لكل شيء قدرًا.



هامش

  1. [البقرة: 285]
  2. [الحجرات: 9]
  3. [الأنعام: 65]
  4. [الأنعام: 159]
  5. [البقرة: 187]
  6. [الإسراء: 15]
  7. [النساء: 165]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثالث
مجمل اعتقاد السلف | ما قاله الشيخ الإمام في التوحيد والصفات والشرع والقدر | فصل فيمن قال القول في بعض الصفات كالقول في بعض | فصل في إخبار الله لنا بما في الجنة من المخلوقات | فصل في وصف الله بالإثبات والنفي | فصل في وجوب الإيمان بما أخبر به الرسول عن ربه | فصل في ظواهر النصوص ومراداتها | فصل في توهم كثير من الناس أن صفات الله تماثل صفات المخلوقين | فصل في قصور العلم البشري | فصل في معرفة ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات | فصل فيما يسلكه نفاة الصفات | فصل في أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه | فصل في التوحيد في العبادات | فصل في وجوب الإيمان بخلق الله وأمره وبقضائه وشرعه | العقيدة الواسطية | سئل شيخ الإسلام رحمه الله أن يكتب عقيدة تكون عمدة | فصل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه | فصل من الإيمان بالله الإيمان بأنه قريب من خلقه | فصل من الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق | فصل من الإيمان بالله أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة عيانا بأبصارهم | فصل ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم | فصل من أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قول وعمل | فصل من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم | فصل في استكمال أصول أهل السنة والجماعة | ما قاله رحمه الله تعالى في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان | فصل فيما أمرنا الله تعالى به من الجماعة والائتلاف وما نهانا عنه من الفرقة والاختلاف | سبب تأليفه العقيدة الواسطية | كتاب عبد الله بن تيمية لأخيه زين الدين | سئل الشيخ رحمه الله عن مسألة القرآن والصوت | ما قاله الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان | باب ذكر الاستواء | فصل في لين الكلام والمخاطبة بالتي هي أحسن | فصل في ذكرهم أن الشيخ طلب تفويض الحكم إلى شخص معين | فصل فيما ينبغي علمه من أن القوم مستضعفون عند المحاقة | ما قاله الشيخ عند وصول الورقة التي ذكر فيها إخبار الشيخ باجتماع الرسول به | فصل معترض في نفي الشيخ أن يكون قد طلب النظر في المحاضر | ما قاله شيخ الإسلام عن أهل السنة والمبتدعة | فصل من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات | فصل في عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ فيه | فصل في كون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حق يجزم به المسلمون | سئل الشيخ هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل في أصول الدين | فصل في إعراض كثير من أرباب الكلام والحروف عن القرآن | فصل في تعلق العبادة بطاعة الله ورسوله | سئل شيخ الإسلام عن قوله صلى الله عليه وسلم تفترق أمتي ثلاث وسبعين فرقة | فصل في أن الانحراف عن الوسط واقع بين الناس في أكثر الأمور | ما كتبه شيخ الإسلام إلى المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة | فصل في استكمال ما كتبه الشيخ إلى أهل السنة والجماعة | فصل في أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه | فصل في التحذير من الغلو في بعض المشائخ | فصل في الاقتصاد في السنة واتباعها | فصل في وجوب الاقتصاد والاعتدال في أمر الصحابة والقرابة | فصل في أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان