مجموع الفتاوى/المجلد الثالث/سبب تأليفه العقيدة الواسطية
سبب تأليفه العقيدة الواسطية
نقل الشيخ علم الدين :
أن الشيخ قدس الله روحه قال:
في مجلس نائب السلطنة الأفرم لما سأله عن اعتقاده، وكان الشيخ أحضر عقيدته الواسطية قال هذه كتبتها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتار إلى الشام فقرئت في المجلس.
ثم نقل علم الدين عن الشيخ أنه قال: كان سبب كتابتها أن بعض قضاة واسط من أهل الخير والدين شكى ما الناس فيه ببلادهم في دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة، فقلت له: قد كتب الناس عقائد أئمة السنة، فألح في السؤال وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت.
فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر، فأشار الأمير لكاتبه فقرأها على الحاضرين حرفًا حرفًا، فاعترض بعضهم على قولي فيها: ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. ومقصوده أن هذا ينفي التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إما وجوبًا وإما جوازًا.
فقلت: إني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف، لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة فنفيت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ التأويل لأنه لفظ له عدة معان كما بينته في موضعه من القواعد.
فإن معنى لفظ التأويل في كتاب الله غير لفظ التأويل في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه وغير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف.
وقلت لهم ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1.
وأخذوا يذكرون نفي التشبيه والتجسيم ويطنبون في هذا، ويعرضون بما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك.
فقلت: قولي من غير تكييف ولا تمثيل ينفي كل باطل، وإنما اخترت هذين الاسمين لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف، كما قال ربيعة ومالك وابن عيينة وغيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة» فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا، فنفيت ذلك اتباعا لسلف الأمة.
وهو أيضا منفي بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف، وحقيقة صفاته غير معلومة، وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله كما قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في التأويل والمعنى والفرق بين علمنا بمعنى الكلام وبين علمنا بتأويله.
وكذلك التمثيل منفي بالنص والإجماع القديم مع دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف إذ كنه الباري غير معلوم للبشر.
وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف وهو: إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها إذ الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا اثبات تكييف.
فقال أحد كبراء المخالفين فحينئذ يجوز أن يقال هو جسم لا كالأجسام، فقلت له: أنا وبعض الفضلاء إنما قيل: أنه يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا. وأول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم الرافضي.
وأما قولنا: فهم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم. فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، فقيل لي: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد وأرادوا قطع النزاع لكونه مذهبًا متبوعًا.
فقلت: ما خرجت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، وقلت: قد أمهلت من خالفني في شيء منها ثلاث سنين فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك، وعلي أن آتى بنقول جميع الطوائف عن القرون الثلاثة يوافق ما ذكرته من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والأشعرية وأهل الحديث وغيرهم.
ثم طلب المنازع الكلام في مسألة الحرف والصوت فقلت: هذا الذي يُحكى عن أحمد وأصحابه أن صوت القارئين ومداد المصاحف قديم أزلى كذب مفترى، لم يقل ذلك أحمد، ولا أحد من علماء المسلمين.
وأخرجت كراسًا وفيه ما ذكره أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الإمام أحمد وما جمعه صاحبه أبو بكر المروذي من كلام أحمد وكلام أئمة زمانه في أن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع، قلت: فكيف بمن يقول لفظي أزلي؟ فكيف بمن يقول صوتي قديم؟
فقال المنازع: أنه انتسب إلى أحمد أناس من الحشوية والمشبهة ونحو هذا الكلام، فقلت: المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، فهؤلاء أصناف الأكراد كلهم شافعية وفيهم من التشبيه والتجسيم مالا يوجد في صنف آخر، وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية، وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم والكرامية المجسمة كلهم حنفية.
وقلت له: من في أصحابنا حشوي بالمعنى الذي تريده؟ الأثرم؛ أبو داود؛ المروزي؛ الخلال؛ أبو بكر عبد العزيز، أبو الحسن التميمي؛ ابن حامد؛ القاضي أبو يعلى؛ أبو الخطاب؛ ابن عقيل؛ ورفعت صوتي وقلت: سمهم، قل لي من منهم؟ أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة، وتندرس معالم الدين، كما نقل هو وغيره عنهم أنهم يقولون: القرآن القديم هو أصوات القارئين ومداد الكاتبين، وأن الصوت والمداد قديم أزلي، من قال هذا؟ وفي أي كتاب وجد عنهم هذا؟ قل لي. وكما نقل عنهم أن الله لا يرى في الآخرة باللزوم الذي ادعاه والمقدمة التي نقلها عنهم.
ولما جاءت مسألة القرآن وأنه كلام الله غير مخلوق، منه بدء وإليه يعود، نازع بعضهم في كونه منه بدا وإليه يعود، وطلبوا تفسير ذلك، فقلت: أما هذا القول فهو المأثور والثابت عن السلف مثل ما نقله عمرو بن دينار قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون الله الخالق وما سواه مخلوق إلا القرآن فإنه كلام الله غير مخلوق منه بدا وإليه يعود.
ومعنى منه بدا أي هو المتكلم به وهو الذي أنزله من لدنه ليس هو كما تقوله الجهمية انه خلق في الهواء أو غيره وبدأ من غيره، وأما إليه يعود فإنه يسري به في آخر فلا يبقى في الصدور منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف.
ووافق على ذلك غالب الحاضرين فقلت: هكذا قال النبي ﷺ ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه يعني القرآن، وقال خباب بن الأرت: يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت فلن يتقرب إلى الله بشيء أحب إليه مما خرج منه.
وقلت: وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد ﷺ هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة؛ بل إذا قرأ الناس القرآن أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا، فامتعض بعضهم من إثبات كونه كلام الله حقيقة بعد تسليمه أن الله تكلم به حقيقة، ثم أنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه وهذا لا يصح نفيه، وأن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم وشعر الشعراء المضاف إليهم هو كلامهم حقيقة.
ولما ذكرت فيها أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغا استحسنوا هذا الكلام وعظموه، وذكرت ما أجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، وليس معنى قوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} 2. أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة؛ وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق؛ بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر أينما كان.
ولما ذكرت أن جميع أسماء الله التي يسمى بها المخلوق كلفظ الوجود الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب والممكن تنازع كبيران، هل هو مقول بالاشتراك؟ أو بالتواطئ؟ فقال أحدهما: هو متواطئ وقال آخر: هو مشترك لئلا يلزم التركيب وقال هذا قد ذكر فخر الدين أن هذا النزاع مبني على أن وجوده هل هو عين ماهيته أم لا؟ فمن قال إن وجود كل شيء عين ماهيته قال أنه مقول بالاشتراك؛ ومن قال إن وجوده قدر زائد على ماهيته قال أنه مقول بالتواطئ، فأخذ الأول يرجح قول من يقول أن الوجود زائد على الماهية لينصر أنه مقول بالتواطئ، فقال الثاني مذهب الأشعري وأهل السنة أن وجوده عين ماهيته، فأنكر الاول ذلك فقلت أما متكلموا أهل السنة فعندهم أن وجود كل شيء عين ماهيته وأما القول الآخر فهو قول المعتزلة أن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته وكل منهما أصاب من وجه فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطئ كما قد قررته في غير هذا الموضع.
وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عين وجود ماهيته فهو من الغلط المضاف إلى ابن الخطيب، فإنا وإن قلنا إن وجود الشيء عين ماهيته لا يجب أن يكون الاسم مقولا عليه وعلى غيره بالاشتراك اللفظي فقط كما في جميع أسماء الأجناس، فإن اسم السواد مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطئ وليس عين هذا السواد هو عين هذا السواد اذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما وهو المطلق الكلي لكنه لا يوجد مطلقا بشرط الإطلاق إلا في الذهن ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في الخارج فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة وهي جمهور الاسماء الموجودة في اللغات وهي أسماء الاجناس اللغوية وهو الاسم المعلق على الشيء وما أشبهه سواء كان اسم عين أو اسم صفة جامدا أو مشتقًا، وسواء كان جنسًا منطقيًا أو فقهيًا أو لم يكن، بل اسم الجنس في اللغة تدخل فيه الأجناس والأصناف والأنواع ونحو ذلك وكلها أسماء متواطئة وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة، قال الذهبى: ثم وقع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد.
هامش