منهاج السنة النبوية/47

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل

قال الرافضي الرابع انه استخلفه على المدينة مع قصر مدة الغيبة فيجب أن يكون خليفة له بعد موته وليس غير علي إجماعا ولأنه لم يعزله عن المدينة فيكون خليفة له بعد موته فيها وإذا كان خليفة فيها كان خليفة في غيرها إجماعا

والجواب أن هذه الحجة وأمثالها من الحجج الداحضة التي هي من جنس بيت العنكبوت والجواب عنها من وجوه

أحدها أن نقول على أحد القولين انه استخلف أبا بكر بعد موته كما تقدم وإذا قالت الرافضة بل استخلف عليا قيل الراوندية من جنسكم قالوا استخلف العباس وكل من كان له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالة على استخلاف أحد بعد موته إنما تدل على استخلاف أبي بكر ليس فيها شيء يدل على استخلاف علي ولا العباس بل كلها تدل على انه لم يستخلف واحدا منهما فيقال حينئذ إن كان النبي استخلف أحدا فلم يستخلف إلا أبا بكر وان لم يستخلف أحدا فلا هذا ولا هذا

فعلى تقدير كون الاستخلاف واجبا على الرسول لم يستخلف إلا أبا بكر فان جميع أهل العلم بالحديث والسيرة متفقون على أن الأحاديث الثابتة لا تدل على استخلاف غير آبي بكر وإنما يدل ما يدل منها على استخلاف آبي بكر وهذا معلوم بالاضطرار عند العالم بالأحاديث الثابتة

الوجه الثاني أن نقول انتم لا تقولون بالقياس وهذا احتجاج بالقياس حيث قستم الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب وأما نحن إذا فرضنا على أحد القولين فنقول الفرق بينهما ما نبهنا عليه في استخلاف عمر في حياته وتوقفه في الاستخلاف بعد موته لان الرسول في حياته شاهد على الأمة مأمور بسياستها بنفسه أو نائبه وبعد موته انقطع عنه التكليف

كما قال المسيح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم الآية لم يقل كان خليفتي الشهيد عليهم وهذا دليل على أن المسيح لم يستخلف فدل على أن الأنبياء لا يجب عليهم الاستخلاف بعد الموت

وكذلك ثبت عن النبي انه قال فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم

وقد قال تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل افإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين

فالرسول بموته انقطع عنه التكليف وهو لو استخلف خليفة في حياته لم يجب إن يكون معصوما بل كان يولي الرجل ولاية ثم يتبين كذبه فيعزله كما ولى الوليد بن عقبة بن آبي معيط وهو لو استخلف رجلا لم يجب إن يكون معصوما وليس هو بعد موته شهيدا عليه ولا مكلفا برده عما يفعله بخلاف الاستخلاف في الحياة

الوجه الثالث أن يقال الاستخلاف في الحياة واجب على كل ولي أمر فإن كل ولي أمر رسولا كان أو إماما عليه إن يستخلف فيما غاب عنه من الأمور فلا بد له من إقامة الأمر إما بنفسه وإما بنائبه فما شهده من الأمر أمكنه إن يقيمه بنفسه وأما ما غاب عنه فلا يمكنه إقامته إلا بخليفة يستخلفه عليه فيولى على من غاب عنه من رعيته من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويأخذ منهم الحقوق ويقيم فيهم الحدود ويعدل بينهم في الأحكام كما كان النبي يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه فيولي الأمراء على السرايا يصلون بهم ويجاهدون بهم ويسوسونهم ويؤمر أمراء على الأمصار كما أمر عتاب بن اسيد على مكة أمر خالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وأبا سفيان بن حرب ومعاذا وأبا موسى على قرى عرينة وعلى نجران وعلى اليمن وكما كان يستعمل عمالا على الصدقة فيقبضونها ممن تجب عليه ويعطونها لمن تحل له كما استعمل غير واحد

وكان يستخلف في إقامة الحدود كما قال لأنيس يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها

وكان يستخلف على الحج كما استخلف أبا بكر على إقامة الحج عام تسع بعد غزوة تبوك وكان علي من جملة رعية أبي بكر يصلي خلفه ويأتمر بأمره وذلك بعد غزوة تبوك

وكما استخلف على المدينة مرات كثيرة فإنه كان كلما خرج في غزاة استخلف ولما حج واعتمر استخلف فاستخلف في غزوة بدر وبنى المصطلق وغزوة خيبر وغزوة الفتح واستخلف في غزوة الحديبية وفي غزوة القضاء وحجة الوداع وغير ذلك

وإذا كان الاستخلاف في الحياة واجبا على متولي الأمر وإن لم يكن نبيا مع انه لا يجب عليه الاستخلاف بعد موته لكون الاستخلاف في الحياة أمرا ضروريا لا يؤدى الواجب إلا به بخلاف الاستخلاف بعد الموت فإنه قد بلغ الأمة وهو الذي يجب عليهم طاعته بعد موته فيمكنهم إن يعينوا من يؤمرونه عليهم كما يمكن ذلك في كل فروض الكفاية التي تحتاج إلى واحد معين علم انه لا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة وجوبه بعد الموت الرابع أن الاستخلاف في الحياة واجب في أصناف الولايات كما كان النبي يستخلف على من غاب عنهم من يقيم فيهم الواجب ويستخلف في الحج وفي قبض الصدقات حفظ مال الفيء وفي إقامة الحدود وفي الغزو وغير ذلك

ومعلوم إن هذا الاستخلاف لا يجب بعد الموت باتفاق العقلاء بل ولا يمكن فإنه لا يمكن إن يعين للأمة بعد موته من يتولى كل أمر جزئي فإنهم يحتاجون إلى واحد بعد واحد وتعيين ذلك متعذر ولأنه لو عين واحدا فقد يختلف حاله ويجب عزله فقد كان يولي في حياته من يشكى إليه فيعزله كما عزل الوليد بن عقبة وعزل سعد بن عبادة عام الفتح وولى ابنه قيسا وعزل إماما كان يصلي بقوم لما بصق في القبلة وولى مرة رجلا فلم يقيم بالواجب فقال أعجزتم إذا وليت من لا يقوم بأمري إن تولوا رجلا يقوم بأمري فقد فوض إليهم عزل من لا يقوم بالواجب من ولاته فكيف لا يفوض إليهم ابتداء تولية من يقوم بالواجب

وإذا كان في حياته من يوليه ولا يقوم بالواجب فيعزله أو يأمر بعزله كان لو ولى واحدا بعد موته يمكن فيه أن لا يقوم بالواجب وحينئذ فيحتاج إلى عزله فإذا ولته الأمة وعزلته كان خيرا لهم من إن يعزلوا من ولاه النبي وهذا مما يتبين به حكمة ترك الاستخلاف وعلى هذا فنقول في


الوجه الخامس إن ترك الاستخلاف بعد مماته كان أولى من الاستخلاف كما اختاره الله لنبيه فإنه لا يختار له إلا افضل الأمور وذلك لأنه إما أن يقال يجب إن لا يستخلف في حياته من ليس بمعصوم وكان يصدر من بعض نوابه أمور منكرة فينكرها عليهم ويعزل من يعزل منهم كما استعمل خالد بن الوليد على قتال بني جذيمة فقتلهم فوداهم النبي بنصف دياتهم وأرسل علي بن آبي طالب فضمن لهم حتى ميلغة الكلب ورفع النبي يديه إلى السماء وقال اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد

واختصم خالد وعبد الرحمن بن عوف حتى قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ولكن مع هذا لم يعزل النبي خالدا

واستعمل الوليد بن عقبة على صدقات قوم فرجع فاخبره إن القوم امتنعوا وحاربوا فأراد غزوهم فأنزل الله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا إن تصيبوا قوما بجهالة

وولى سعد بن عبادة يوم الفتح فلما بلغه إن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة ... اليوم تستباح الحرمة

عزله وولى ابنه قيسا وأرسل بعمامته علامة على عزله ليعلم سعد أن ذلك أمر من النبي .

وكان يشتكى إليه بعض نوابه فيأمره بما أمر الله به كما اشتكى أهل قباء معاذا لتطويله الصلاة بهم لما قرأ البقرة في صلاة العشاء فقال افتان أنت يا معاذ اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى ونحوها

وفي الصحيح إن رجلا قال له إني أتخلف عن صلاة الفجر مما يطول بنا فلان فقال يا أيها الناس إذا أم أحدكم فليخفف فإن من ورائه الضعيف والكبير وذي الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء

ورأى إماما قد بصق في قبلة المسجد فعزله عن الإمامة وقال إنك آذيت الله ورسوله

وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه يسأله عنه

فكان الرسول في حياته يعلم خلفاءه ما جهلوا ويقومهم إذا زاغوا ويعزلهم إذا لم يستقيموا ولم يكونوا مع ذلك معصومين فعلم انه لم يكن يجب عليه إن يولي المعصوم

وأيضا فإن هذا تكليف ما لا يمكن فإن الله لم يخلق أحدا معصوما غير الرسول فلو كلف إن يستخلف معصوما لكلف ما لا يقدر عليه وفات مقصود الولايات وفسدت أحوال الناس في الدين والدنيا

وإذا علم انه كان يجوز بل يجب إن يستخلف في حياته من ليس بمعصوم فلو استخلف بعد موته كما استخلف في حياته لاستخلف أيضا غير معصوم وكان لا يمكن إن يعلمه ويقومه كما كان يفعل في حياته فكان أن لا يستخلف خيرا من ان يستخلف

والأمة قد بلغها أمر الله ونهيه وعلموا ما أمر الله به نهى عنه فهم يستخلفون من يقوم بأمر الله ورسوله ويعاونونه على إتمامهم القيام بذلك إذا كان الواحد لا يمكنه القيام بذلك فما فاته من العلم بينه له من يعلمه وما احتاج إليه من القدرة عاونه عليه من يمكنه الإعانة وما خرج فيه عن الصواب أعادوه إليه بحسب الإمكان بقولهم وعملهم وليس على الرسول ما حملوه كما انهم ليس عليهم ما حمل

فعلم أن ترك الاستخلاف من النبي بعد الموت اكمل في حق الرسول من الاستخلاف وان من قاس وجوب الاستخلاف بعد الممات على وجوبه في الحياة كان من اجهل الناس

وإذا علم الرسول إن الواحد من الأمة هو أحق بالخلافة كما كان يعلم أن أبا بكر هو أحق بالخلافة من غيره كان في دلالته للأمة على انه أحق مع علمه بأنهم يولونه ما يغنيه عن استخلافه لتكون الأمة هي القائمة بالواجب ويكون ثوابها على ذلك أعظم من حصول مقصود الرسول

واما أبو بكر فلما علم انه ليس في الأمة مثل عمر وخاف إن لا يولوه إذا لم يستخلفه لشدته فولاه هو كان ذلك هو المصلحة للأمة

فالنبي علم إن الأمة يولون أبا بكر فاستغنى بذلك عن توليته مع دلالته لهم على أنه أحق الأمة بالتولية وأبو بكر لم يكن يعلم إن الأمة يولون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر فكان ما فعله النبي هو اللائق به لفضل علمه وما فعله صديق الأمة هو اللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي

الوجه السادس أن يقال هب إن الاستخلاف واجب فقد استخلف النبي أبا بكر على قول من يقول انه استخلفه ودل على استخلافه على القول الآخر

وقوله لانه لم يعزله عن المدينة، قلنا هذا باطل فانه لما رجع النبي انعزل علي بنفس رجوعه كما كان غيره ينعزل إذا رجع وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن حتى وافاه بالموسم في حجة الوداع واستخلف على الدينة في حجة الوداع غيره

أفترى النبي فيها مقيما وعلي باليمن وهو خليفة بالمدينة؟

ولا ريب إن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي كأنهم ظنوا إن عليا ما زال خليفة على المدينة حتى مات النبي ولم يعلموا أن عليا بعد ذلك أرسله النبي سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود وأمر عليه أبا بكر ثم بعد رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن كما أرسل معاذا وأبا موسى

ثم لما حج النبي حجة الوداع استخلف على المدينة غير علي ووافاه علي بمكة ونحر النبي مائة بدنة نحر بيده ثلثيها ونحر علي ثلثها وهذا كله معلوم عند أهل العلم متفق عليه بينهم وتواترت به الأخبار كأنك تراه بعينك ومن لم يكن له عناية بأحوال الرسول لم يكن له أن يتكلم في هذه المسائل الأصولية

والخليفة لا يكون خليفة إلا مع مغيب المستخلف أو موته فالنبي إذا كان بالمدينة امتنع أن يكون له خليفة فيها كما أن سائر من استخلفه النبي لما رجع انقضت خلافته وكذلك سائر ولاة الأمور إذا استخلف أحدهم على مصره في مغيبه بطل استخلافه ذلك إذا حضر المستخلف

ولهذا لا يصلح إن يقال إن الله يستخلف أحدا عنه فانه حي قيوم شهيد مدبر لعباده منزه عن الموت والنوم والغيبة

ولهذا لما قالوا لأبى بكر يا خليفة الله قال لست خليفة الله بل خليفة رسول الله وحسبي ذلك

والله تعالى يوصف بأنه يخلف العبد كما قال اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل وقال في حديث الدجال والله خليفتي على كل مسلم. وكل من وصفه الله بالخلافة في القرآن فهو خليفة عن مخلوق كان قبله

كقوله ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم

وكذلك قوله إني جاعل في الأرض خليفة أي عن خلق كان في الأرض قبل ذلك كما ذكر المفسرون وغيرهم

وأما ما يظنه طائفة من الاتحادية وغيرهم أن الإنسان خليفة الله فهذا جهل وضلال

فصل

قال الرافضي الخامس ما رواه الجمهور عن النبي انه قال لأمير المؤمنين أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني وهو نص في الباب

والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة هذا الحديث فان هذا الحديث ليس في شيء من الكتب التي تقوم الحجة بمجرد إسناده إليها ولا صححه إمام من أئمة الحديث

وقوله رواه الجمهور إن أراد بذلك إن علماء الحديث رووه في الكتب التي يحتج بما فيها مثل كتاب البخاري ومسلم ونحوهما وقالوا انه صحيح فهذا كذب عليهم وإن أراد بذلك إن هذا يرويه مثل آبي نعيم في الفضائل والمغازلي وخطيب خوارزم ونحوهم أو يروى في مكتب الفضائل فمجرد هذا ليس بحجة باتفاق أهل العلم في مسألة فروع فكيف في مسألة الإمامة التي قد أقمتم عليها القيامة

الثاني إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث وقد تقدم كلام ابن حزم إن سائر هذه الأحاديث موضوعة يعلم ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها وقد صدق في ذلك فإن من له أدنى معرفة بصحيح الحديث وضعيفة ليعلم إن هذا الحديث ومثله ضعيف بل وكذب موضوع ولهذا لم يخرجه أحد من أهل الحديث في الكتب التي يحتج بما فيها وإنما يرويه من يرويه في الكتب التي يجمع فيها بين الغث والسمين التي يعلم كل عالم إن فيها ما هو كذب مثل كثير من كتب التفسير تفسير الثعلبي والواحدي ونحوهما والكتب التي صنفها في الفضائل من يجمع الغث والسمين لا سيما خطيب خوارزم فإنه من أروى الناس للمكذوبات وليس هو من أهل العلم بالحديث ولا المغازلي

قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات لما روى هذا الحديث من طريق آبي حاتم البستي حدثنا محمد بن سهل بن أيوب حدثنا عمار بن رجاء حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا مطر بن ميمون الإسكاف عن انس أن النبي قال: إن أخي ووزيري وخليفتي من أهلي وخير من اترك بعدي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن آبي طالب

قال هذا حديث موضوع قال ابن حبان مطر بن ميمون يروى الموضوعات عن الأثبات لا تحل الرواية عنه. رواه أيضا من طريق احمد بن عدي بنحو هذا اللفظ ومداره على عبيد الله بن موسى عن مطر بن ميمون وكان عبيد الله بن موسى في نفسه صدوقا روى عنه البخاري لكنه معروف بالتشيع فكان لتشيعه يروي عن غير الثقات ما يوافق هواه كما روى عن مطر بن ميمون هذا وهو كذب وقد يكون علم انه كذب ذلك وقد يكون لهواه لم يبحث عن كذبه ولو بحث عنه لتبين له انه كذب هذا مع انه ليس في اللفظ الذي رواه هؤلاء المحدثون وخليفتي من بعدي وإنما في تلك الطريق وخليفتي في أهلي وهذا استخلاف خاص

وأما اللفظ الآخر الذي رواه ابن عدي فإنه قال حدثنا ابن آبي سفيان حدثنا عدي بن سهل حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا مطر عن انس قال قال رسول الله : علي أخي وصاحبي وابن عمي وخير من اترك من بعدي يقضي ديني وينجز موعدي

ولا ريب أن مطرا هذا كذاب لم يرو عنه أحد من علماء الكوفة مع روايته عن انس فلم يرو عنه يحيى بن سعيد القطان ولا وكيع ولا أبو معاوية ولا أبو نعيم ولا يحيى بن آدم ولا أمثالهم مع كثرة من بالكوفة من الشيعة ومع أن كثيرا من عوامها يفضل عليا على عثمان ويروى حديثه أهل الكتب الستة حتى الترمذي وابن ماجة قد يرويان عن ضعفاء ولم يرووا عنه وإنما روى عنه عبيد الله بن موسى لانه كان صاحب هوى متشيعا فكان لأجل هواه يروي عن هذا ونحوه وإن كانوا كذابين

ولهذا لم يكتب احمد عن عبيد الله بن موسى بخلاف عبد الرزاق وذكر احمد إن عبيد الله كان يظهر ما عنده بخلاف عبد الرزاق

ومما افتراه مطر هذا ما رواه أبو بكر الخطيب في تاريخه من حديث عبيد الله بن موسى عند مطر عن انس قال كنت عند النبي فرأي عليا مقبلا فقال أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة

قال ابن الجوزي هذا حديث موضوع والمتهم بوضعه مطر قال أبو حاتم يروي الموضوعات عن الأثبات لا تحل الرواية عنه

الوجه الثالث أن دين النبي لم يقضه علي، بل في الصحيح إن النبي مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير ابتاعها لأهله فهذا الدين الذي كان عليه يقضى من الرهن الذي رهنه ولم يعرف عن النبي دين آخر

وفي الصحيح عنه انه قال: لا يقتسم ورثتي دينارا ولا درهما ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة

فلو كان عليه دين قضي مما تركه وكان ذلك مقدما على الصدقة كان ثبت ذلك في الحديث الصحيح

فصل

قال الرافصي السادس حديث المؤاخاة روى انس إن النبي لما كان يوم المباهلة وأخي بين المهاجرين والأنصار وعلي واقف يراه ويعرفه ولم يؤاخ بينه وبين أحد فانصرف باكيا فقال النبي ما فعل أبو الحسن قالوا انصرف باكي العين قال يا بلال اذهب فائتني به فمضى إليه ودخل منزله باكي العين فقالت له فاطمة ما يبكيك قال أخي النبي بين المهاجرين والأنصار ولم يؤاخ بيني وبين أحد قالت لا يخزيك الله لعله إنما ادخرك لنفسه فقال بلال يا علي اجب رسول الله فأتى فقال ما يبكيك يا أبا الحسن فأخبره فقال إنما ادخرك لنفسي ألا يسرك أن تكون أخا نبيك قال بلى فأخذ بيده فأتى المنبر فقال اللهم هذا مني وأنا منه إلا انه مني بمنزلة هارون من موسى إلا من كنت مولاه فعلي مولاه فانصرف فاتبعه عمر فقال بخ بخ يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مسلم فالمؤاخاة تدل على الأفضلية فيكون هو الإمام

والجواب أولا المطالبة بتصحيح النقل فإنه لم يعز هذا الحديث إلى كتاب أصلا كما عادته يعزو وإن كان عادته يعزو إلى كتب لا تقوم بها الحجة وهنا أرسله إرسالا على عادة أسلافه شيوخ الرافضة يكذبون ويروون الكذب بلا إسناد وقد قال ابن المبارك الإسناد من الدين لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء فإذا سئل وقف وتحير

الثاني إن هذا الحديث موضوع عند أهل الحديث لا يرتاب أحد من أهل المعرفة بالحديث أنه موضوع وواضعه جاهل كذب كذبا ظاهرا مكشوفا يعرف انه كذب من له أدنى معرفة بالحديث كما سيأتي بيانه

الثالث إن أحاديث المؤاخاة لعلي كلها موضوعة والنبي لم يؤاخ أحدا ولا أخي بين مهاجري ومهاجري ولا بين آبي بكر وعمر ولا بين أنصاري وأنصاري ولكن أخي بين المهاجرين والأنصار في أول قدومه المدينة

وأما المباهلة فكانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر من الهجرة

الرابع إن دلائل الكذب على هذا الحديث بينة منها انه قال لما كان يوم المباهلة وأخي بين المهاجرين والأنصار والمباهلة كانت لما قدم وفد نجران النصارى وأنزل الله سورة آل عمران وكان ذلك في آخر الأمر سنة عشر أو سنة تسع لم يتقدم على ذلك باتفاق الناس والنبي لم يباهل النصارى لكن دعاهم إلى المباهلة فاستنظروه حتى يشتوروا فلما اشتوروا قالوا هو نبي وما باهل قوم نبيا إلا استؤصلوا فأقروا له بالجزية ولم يباهلوا وهم أول من اقر بالجزية من أهل الكتاب وقد اتفق الناس على انه لم يكن في ذلك اليوم مؤاخاة

الخامس إن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كانت في السنة الأولى من الهجرة في دار بني النجار وبين المباهلة وذلك عدة سنين

السادس انه كان قد أخي بين المهاجرين والأنصار والنبي وعلي كلاهما من المهاجرين فلم يكن بينهم مؤاخاة بل أخي بين علي وسهل بن حنيف فعلم انه لم يؤاخ عليا وهذا مما يوافق ما في الصحيحين من أن المؤاخاة إنما كانت بين المهاجرين والأنصار لم تكن بين مهاجري ومهاجري

السابع إن قوله أما ترضى إن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إنما قاله في غزوة تبوك مرة واحدة لم يقل ذلك في غير ذلك المجلس أصلا باتفاق أهل العلم بالحديث

وأما حديث الموالاة فالذين رووه ذكروا انه قاله بغدير خم مرة واحدة لم يتكرر في غير ذلك المجلس أصلا

الثامن انه قد تقدم الكلام على المؤاخاة وإن فيها عموما وإطلاقا لا يقتضي الأفضلية والإمامة وأن ما ثبت للصديق من الفضيلة لا يشركه فيه غيره كقوله: لو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا، وإخباره إن احب الرجال إليه أبو بكر وشهادة الصحابة له انه احبهم إلى رسول الله وغير ذلك مما يبين أن الاستدلال بما روى من المؤاخاة باطل نقلا ودلالة

التاسع أن من الناس من يظن أن المؤاخاة وقعت بين المهاجرين بعضهم مع بعض لأنه روى فيها أحاديث لكن الصواب المقطوع به أن هذا لم يكن وكل ما روي في ذلك فإنه باطل إما إن يكون من رواية من يتعمد الكذب وإما إن يكون اخطأ فيه ولهذا لم يخرج أهل الصحيح شيئا من ذلك

والذي في الصحيح إنما هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ومعلوم انه لو آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض وبين الأنصار بعضهم مع بعض لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ولكان يذكر في أحاديث المؤاخاة ويذكر كثيرا فكيف وليس في هذا حديث صحيح ولا خرج أهل الصحيح من ذلك شيئا

وهذه الأمور يعرفها من كان له خبرة بالأحاديث الصحيحة والسيرة المتواترة وأحوال النبي وسبب المؤاخاة وفائدتها ومقصودها وأنهم كانوا يتوارثون بذلك فآخى النبي بين المهاجرين والأنصار كما آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء ليقعد الصلة بين المهاجرين والأنصار حتى انزل الله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وهي المحالفة التي انزل الله فيها والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم

وقد تنازع الفقهاء هل هي محكمة يورث بها عند عدم النسب أو لا يورث بها على قولين هما روايتان عن احمد الأول مذهب أبي حنيفة والثاني مذهب مالك والشافعي

فصل

قال الرافضي السابع ما رواه الجمهور كافة أن النبي لما حاصر خيبر تسعا وعشرين ليلة وكانت الراية لأمير المؤمنين علي فلحقه رمد أعجزه عن الحرب وخرج مرحب يتعرض للحرب فدعا رسول الله أبا بكر فقال له خذ الراية فأخذها في جمع من المهاجرين فاجتهد ولم يغن شيئا ورجع منهزما فلما كان من الغد تعرض لها عمر فسار غير بعيد ثم رجع يخبر أصحابه فقال النبي جيؤني بعلي فقيل انه أرمد فقال ارونيه اروني رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ليس بفرار فجاءوا بعلي فتفل في يده ومسحها على عينيه ورأسه فبرئ فأعطاه الراية ففتح الله على يديه وقتل مرحبا ووصفه عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره وهو يدل على أفضليته فيكون هو الإمام

والجواب من وجوه أحدها المطالبة بتصحيح النقل وأما قوله رواه الجمهور فان الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا بل الذي في الصحيح إن عليا كان غائبا عن خيبر لم يكن حاضرا فيها تخلف عن الغزاة لأنه كان ارمد ثم انه شق عليه التخلف عن النبي فلحقه فقال النبي قبل قدومه

لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله علي يديه

ولم تكن الراية قبل ذلك لأبى بكر ولا لعمر ولا قربها واحد منهما بل هذا من الأكاذيب ولهذا قال عمر فما أحببت الإمارة إلا يومئذ وبات الناس كلهم يرجون إن يعطاها فلما اصبح دعا عليا فقيل له انه ارمد فجاءه فتفل في عينيه حتى برأ فأعطاه الراية

وكان هذا التخصيص جزاء مجيء علي مع الرمد وكان أخبار النبي بذلك وعلي ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلا

الثاني إن أخباره أن عليا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله حق وفيه رد على النواصب لكن الرافضة الذين يقولون إن الصحابة ارتدوا بعد موته لا يمكنهم الاستدلال بهذا لأن الخوارج تقول لهم هو ممن ارتد أيضا كما قالوا لما حكم الحكمين انك قد ارتددت عن الإسلام فعد إليه

قال الأشعري في كتاب المقالات أجمعت الخوارج على كفر علي. وأما أهل السنة فيمكنهم الاستدلال على بطلان قول الخوارج بأدلة كثيرة لكنها مشتركة تدل على إيمان الثلاثة والرافضة تقدح فيها فلا يمكنهم إقامة دليل على الخوارج على إن عليا مات مؤمنا بل أي دليل ذكروه قدح فيه ما يبطله على أصلهم لان أصلهم فاسد

وليس هذا الوصف من خصائص علي بل غيره يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لكن فيه الشهادة لعينه بذلك كما شهد لاعيان العشرة بالجنة وكما شهد لثابت بن قيس بالجنة وشهد لعبد الله حمار بأنه يحب الله ورسوله وقد كان ضربه في الحد مرات

وقول القائل إن هذا يدل على انتفاء هذا الوصف عن غيره

فيه جوابان أحدهما انه إن سلم ذلك فانه قال لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله علي يديه

فهذا المجموع اختص به وهو أن ذلك الفتح كان على يديه ولا يلزم إذا كان ذلك الفتح المعين على يديه أن يكون افضل من غيره فضلا عن إن يكون مختصا بالإمامة

الثاني إن يقال لا نسلم إن هذا يوجب التخصيص كما لو قيل لأعطين هذا المال رجلا فقيرا أو رجلا صالحا ولأدعون اليوم رجلا مريضا صالحا أو لأعطين هذه الراية رجلا شجاعا ونحو ذلك لم يكن في هذه الألفاظ ما يوجب إن تلك الصفة لا توجد إلا في واحد بل هذا يدل على أن ذلك الواحد موصوف بذلك

ولهذا لو نذر إن يتصدق بألف درهم على رجل صالح أو فقير فأعطى هذا المنذور لواحد لم يلزم إن يكون غيره ليس كذلك ولو قالوا أعطوا هذا المال لرجل قد حج عني فأعطوه رجلا لم يلزم أن غيره لم يحج عنه

الثالث انه لو قدر ثبوت أفضليته في ذلك الوقت فلا يدل ذلك على أن غيره لم يكن افضل منه بعد ذلك

الرابع انه لو قدرنا أفضليته لم يدل ذلك على انه إمام معصوم منصوص عليه بل كثير من الشيعة الزيدية ومتأخري المعتزلة وغيرهم يعتقدون أفضليته وأن الإمام هو أبو بكر وتجوز عندهم ولاية المفضول وهذا مما يجوزه كثير من غيرهم ممن يتوقف في تفضيله بعض الأربعة على بعض أو ممن يرى إن هذه المسألة ظنية لا يقوم فيها دليل قاطع على فضيلة واحد معين فإن من لم يكن له خبره بالسنة الصحيحة قد يشك في ذلك

وأما أئمة المسلمين المشهورون فكلهم متفقون على أن أبا بكر وعمر افضل من عثمان وعلي ونقل هذا الإجماع غير واحد كما روى البيهقي في كتب مناقب الشافعي مسنده عن الشافعي قال ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة

وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال كنا نفاضل على عهد رسول الله فنقول خير الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر

وقد تقدم نقل البخاري عن علي هذا الكلام

والشيعة الذين صحبوا عليا كانوا يقولون ذلك وتواتر ذلك عن علي من نحو ثمانين وجها وهذا مما يقطع به أهل العلم ليس هذا مما يخفى على من كان عارفا بأحوال الرسول والخلفاء

فصل

قال الرافضي الثامن خبر الطائر روى الجمهور كافة أن النبي أتى بطائر فقال اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلي يأكل معي من هذا الطائر فجاء علي فدق الباب فقال انس إن النبي على حاجة فرجع ثم قال النبي كما قال أولا فدق الباب فقال انس ألم اقل لك انه علي حاجة فانصرف فعاد النبي فعاد علي فدق الباب اشد من الأولين فسمعه النبي فأذن له بالدخول وقال ما ابطأك عني قال جئت فردني انس ثم جئت فردني انس ثم جئت فردني الثالثة فقال يا انس ما حملك على هذا فقال رجوت أن يكون الدعاء لرجل من الأنصار فقال يا انس أو في الأنصار خير من علي أو في الأنصار افضل من علي فإذا كان احب الخلق إلى الله وجب أن يكون هو الإمام

والجواب من وجوه أحدها المطالبة بتصحيح النقل وقوله روى الجمهور كافة كذب عليهم فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح ولا صححه أئمة الحديث ولكن هو مما رواه بعض الناس كما رووا أمثاله في فضل غير علي بل قد روي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة وصنف في ذلك مصنفات وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا ولا هذا

الثاني أن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل قال أبو موسى المديني قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة كالحاكم النيسابوري وأبي نعيم وابن مردويه وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال لا يصح

هذا مع إن الحاكم منسوب إلى التشيع وقد طلب منه إن يروي حديثا في فضل معاوية فقال ما يجيء من قلبي ما يجيء من قلبي وقد ضربوه على ذلك فلم يفعل وهو يروي في الأربعين أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أئمة الحديث كقوله بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين لكن تشيعه وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر وعمر فلا يعرف في علماء الحديث من يفضله عليهما بل غاية المتشيع منهم أن يفضله على عثمان أو يحصل منه كلام أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله ونحو ذلك لأن علماء الحديث قد عصمهم وقيدهم ما يعرفون من الأحاديث الصحيحة الدالة على أفضلية الشيخين ومن ترفض ممن له نوع اشتغال بالحديث كابن عقدة وأمثاله فهذا غايته أن يجمع ما يروى في فضائله من المكذوبات والموضوعات لا يقدر أن يدفع ما تواتر من فضائل الشيخين فإنها باتفاق أهل العلم بالحديث أكثر مما صح في فضائل علي واصح وأصرح في الدلالة

وأحمد بن حنبل لم يقل إنه صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره بل أحمد أجل من إن يقول مثل هذا الكذب بل نقل عنه أنه قال روي له ما لم يرو لغيره مع إن في نقل هذا عن احمد كلاما ليس هذا موضعه

الثالث إن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب إن يجيء احب الخلق إلى الله ليأكل منه فان إطعام الطعام مشروع للبر والفاجر وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الآكل ولا معونة على مصلحة دين ولا دينا فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله

الرابع إن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة فانهم يقولون إن النبي كان يعلم إن عليا احب الخلق إلى الله وانه جعله خليفة من بعده وهذا الحديث يدل على انه ما كان يعرف احب الخلق إلى الله

الخامس إن يقال إما أن يكون النبي كان يعرف أن عليا احب الخلق إلى الله أو ما كان يعرف فان كان يعرف ذلك كان يمكنه إن يرسل يطلبه كما كان يطلب الواحد من الصحابة أو يقول اللهم ائتني بعلي فإنه احب الخلق إليك فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك ولو سمى عليا لاستراح انس من الرجاء الباطل ولم يغلق الباب في وجه علي. وإن كان النبي لم يعرف ذلك بطل ما يدعونه من كونه كان يعرف ذلك ثم ان في لفظه احب الخلق إليك وإلي فكيف لا يعرف احب الخلق إليه

السادس إن الأحاديث الثابتة في الصحاح التي اجمع أهل الحديث على صحتها وتلقيها بالقبول تناقض هذا فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه

يبين هذا لكل متأمل ما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من فضائل القوم كما في الصحيحين انه قال: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا

وهذا الحديث مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث فإنه قد اخرج في الصحاح من وجوه متعددة من حديث ابن مسعود وأبي سعيد وابن عباس وابن الزبير وهو صريح في انه لم يكن عنده من أهل الأرض أحد احب إليه من آبي بكر فإنه الخلة هي كمال الحب وهذا لا يصلح إلا لله فإذا كانت ممكنة ولم يصلح لها إلا أبو بكر علم انه احب الناس إليه

وقوله في الحديث الصحيح لما سئل أي الناس احب إليك قال عائشة. قيل من الرجال قال أبوها.

وقول الصحابة أنت خيرنا وسيدنا وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله عمر بين المهاجرين والأنصار ولا ينكر ذلك منكر

وأيضا فالنبي محبته تابعة لمحبة الله وأبو بكر احبهم إلى الله تعالى فهو احبهم إلى رسوله

وإنما كان كذلك لأنه اتقاهم وأكرمهم وأكرم الخلق علي الله تعالى اتقاهم بالكتاب والسنة وإنما كان اتقاهم لأن الله تعالى قال وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى

وأئمة التفسير يقولون إنه أبو بكر

ونحن نبين صحة قولهم بالدليل فنقول الأتقى قد يكون نوعا وقد يكون شخصا وإذا كان نوعا فهو يجمع أشخاصا فإن قيل انهم ليس فيهم شخص هو اتقى كان هذا باطلا لأنه لا شك إن بعض الناس اتقى من بعض مع أن هذا خلاف قول أهل السنة والشيعة فإن هؤلاء يقولون إن اتقى الخلق بعد رسول الله من هذه الأمة هو أبو بكر وهؤلاء يقولون هو علي وقد قال بعض الناس هو عمر ويحكى عن بعض الناس غير ذلك ومن توقف أو شك لم يقل انهم مستوون في التقوى فإذا قال انهم متساوون في الفضل فقد خالف إجماع الطوائف فتعين إن يكون هذا اتقى

وإن كان الأتقى شخصا فإما إن يكون أبا بكر أو عليا فإنه إذا كان اسم جنس يتناول من دخل فيه وهو النوع وهو القسم الأول أو معينا غيرهما وهذا القسيم منتف باتفاق أهل السنة والشيعة وكونه عليا باطل أيضا لأنه قال الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى

وهذا الوصف منتف في علي لوجوه

أحدها إن هذه السورة مكية بالاتفاق وكان علي فقيرا بمكة في عيال النبي ولم يكن له مال ينفق منه بل كان النبي قد ضمه إلى عياله لما أصابت أهل مكة سنة

الثاني انه قال وما لأحد عنده من نعمة تجزى وعلي كان للنبي عنده نعمة تجزى وهو إحسانه إليه لما ضمه إلى عياله بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له عنده نعمة دنيوية لكن كان له عنده نعمة الدين وتلك لا تجزى فإن اجر النبي فيها على الله لا يقدر أحد يجزيه فنعمة النبي عند آبي بكر دينية لا تجزى ونعمته عند علي دنيوية تجزى ودينية

وهذا الأتقى ليس لأحد عنده نعمة تجزى وهذا الوصف لأبى بكر ثابت دون علي

فان قيل المراد به انه انفق ماله لوجه الله لا جزاء لمن انعم عليه وإذا قدر أن شخصا أعطى من احسن إليه أجرا وأعطى شيئا آخر لوجه الله كان هذا مما ليس لأحد عنده من نعمة تجزى

قيل هب إن الأمر كذلك لكن علي لو انفق لم ينفق إلا فيما يأمره به النبي والنبي له عنده نعمة تجزى فلا يخلص إنفاقه عن المجازاة كما يخلص إنفاق أبي بكر

وعلي اتقى من غيره لكن أبا بكر اكمل في وصف التقوى مع إن لفظ الآية انه ليس عنده قط لمخلوق نعمة تجزى وهذا وصف من يجازي الناس على إحسانهم إليه فلا يبقى لمخلوق عليه منة وهذا الوصف منطبق على أبي بكر انطباقا لا يساويه فيه أحد من المهاجرين فإنه لم يكن في المهاجرين عمر وعثمان وعلي وغيرهم رجل اكثر إحسانا إلى الناس قبل الإسلام وبعده بنفسه وماله من أبي بكر كان مؤلفا محببا يعاون الناس على مصالحهم كما قال فيه ابن الدغنة سيد القارة لما أراد إن يخرج من مكة مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج فإنك تحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق

وفي صلح الحديبية لما قال لعروة بن مسعود امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه قال لأبى بكر لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك

وما عرف قط إن أحدا كانت له يد على أبي بكر في الدنيا لا قبل الإسلام ولا بعده فهو أحق الصحابة وما لأحد عنده من نعمة تجزى فكان أحق الناس بالدخول في الآية

وأما علي رضي الله عنه فكان للنبي عليه نعمة دنيوية وفي المسند لأحمد أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه ويقول إن خليلي امرني أن لا أسال الناس شيئا

وفي المسند والترمذي وأبي داود حديث عمر قال عمر امرنا رسول الله إن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم اسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال رسول الله : ما أبقيت لأهلك؟ فقلت مثله قال واتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: ما أبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا.

فأبو بكر رضي الله عنه جاء بماله كله ومع هذا فلم يكن يأكل من أحد لا صدقة ولا صلة ولا نذرا بل كان يتجر ويأكل من كسبه ولما ولي الناس واشتغل عن التجارة بعمل المسلمين أكل من مال الله ورسوله الذي جعله الله له لم يأكل من مال مخلوق

وأبو بكر لم يكن النبي يعطيه شيئا من الدنيا يخصه به بل كان في المغازي كواحد من الناس بل يأخذ من ماله ما ينفقه على المسلمين وقد استعمله النبي وما عرف انه أعطاه عمالة وقد أعطى عمر عمالة وأعطى عليا من الفيء وكان يعطي المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأهل نجد والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا يعطيهم كما فعل في غنائم حنين وغيرها ويقول: إني لأعطي رجالا وادع رجالا والذي ادع احب إلي من الذي أعطي أعطى رجالا لما في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير

ولما بلغه عن الأنصار كلام سألهم عنه فقالوا يا رسول الله أما ذوو الرأي منا فلم يقولوا شيئا وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول الله : فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون إن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. قالوا بلى يا رسول الله قد رضينا قال: فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض. قالوا سنصبر.

وقوله تعالى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى استثناء منقطع والمعنى لا يقتصر في العطاء على من له عنده يد يكافئه بذلك فان هذا من العدل الواجب للناس بعضهم على بعض بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة

وهذا واجب لكل أحد على كل أحد فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعادلة فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج إن يجزيه لها فإنه يحتاج أن يعطيه مجازاة له على ذلك وهذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكى فانه في معاملته للناس يكافئهم دائما ويعاونهم ويجازيهم فحين أعطاه الله ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى

وفيه أيضا ما يبين أن التفضيل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجبات من المعاوضات كما قال تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ومن تكون عليه ديون وفروض وغير ذلك أداها ولا يقدم الصدقة على قضاء هذه الواجبات ولو فعل ذلك فهل ترد صدقته على قولين معروفين للفقهاء

وهذه الآية يحتج بها من ترد صدقته لأن الله إنما أثنى على من اتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه إن يجزيها قبل إن يؤتي ماله يتزكى فإما إذا آتى ماله يتزكى قبل إن يجزيها لم يكن ممدوحا فيكون عمله مردودا لقوله عليه الصلاة والسلام من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد

الثالث انه قد صح عن النبي انه قال: ما نفعني مال كمال أبي بكر

وقال: إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر

بخلاف علي رضي الله عنه فإنه لم يذكر عنه النبي شيئا من إنفاق المال وقد عرف إن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين في الله في أول الإسلام وفعل ذلك ابتغاء لوجه ربه الأعلى لم يفعل ذلك كما فعله أبو طالب الذي أعان النبي لأجل نسبه وقرابته لا لأجل الله تعالى ولا تقربا إليه

وإن كان الأتقى اسم جنس فلا ريب انه يجب أن يدخل فيه اتقى الأمة والصحابة خير القرون فأتقاها اتقى الأمة وأتقى الأمة إما أبو بكر وإما علي وإما غيرهما والثالث منتف بالإجماع وعلي إن قيل انه يدخل في هذا النوع لكونه بعد أن صار له مال اتى ماله يتزكى فيقال أبو بكر فعل ذلك في أول الإسلام وقت الحاجة إليه فيكون اكمل في الوصف الذي يكون صاحبه هو الأتقى

وأيضا فالنبي إنما كان يقدم الصديق في المواضع التي لا تحتمل المشاركة كاستخلافه في الصلاة والحج ومصاحبته وحده في سفر الهجرة ومخاطبته وتمكينه من الخطاب والحكم والإفتاء بحضرته ورضاه بذلك إلى غير ذلك من الخصائص التي يطول وصفها ومن كان اكمل في هذا الوصف كان اكرم عند الله فيكون احب إليه فقد ثبت بالدلائل الكثيرة إن أبا بكر هو اكرم الصحابة في الصديقية وافضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون ومن كان اكمل في ذلك كان افضل

وأيضا فقد ثبت في النقل الصحيح عن علي انه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر واستفاض ذلك وتواتر عنه وتوعد بجلد المفتري من يفضله عليه وروي عنه انه سمع ذلك من النبي ولا ريب أن عليا لا يقطع بذلك إلا عن علم

وأيضا فإن الصحابة اجمعوا على تقديم عثمان الذي عمر افضل منه وأبو بكر افضل منهما وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع وتقدم بعض ذلك ولكن ذكر هذا لنبين إن حديث الطير من الموضوعات

فصل

قال الرافضي التاسع ما رواه الجمهور انه أمر الصحابة بان يسلموا على علي بإمرة المؤمنين وقال انه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وقال هذا ولي كل مؤمن بعدي وقال في حقه إن عليا مني وأنا منه أولى بكل مؤمن ومؤمنة فيكون علي وحده هو الإمام لذلك وهذه نصوص في الباب

والجواب من وجوه

أحدها المطالبة بإسناده وبيان صحته وهو لم يعزه إلى كتاب على عادته فإما قوله رواه الجمهور فكذب فليس هذا في كتب الأحاديث المعروفة لا الصحاح ولا المساند ولا السنن وغير ذلك فإن كان رواه بعض حاطبي الليل كما يروي أمثاله فعلم مثل هذا ليس بحجة يجب اتباعها باتفاق المسلمين

والله تعالى قد حرم علينا الكذب وأن نقول عليه ما لا نعلم وقد تواتر عن النبي انه قال: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار

الوجه الثاني أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتاب يعتمد عليه لا الصحاح ولا السنن ولا المساند المقبولة

الثالث أن هذا مما لا يجوز نسبته إلى النبي فإن قائل هذا كاذب والنبي منزه عن الكذب وذلك إن سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين هو رسول الله باتفاق المسلمين

فان قيل علي هو سيدهم بعده، قيل ليس في لفظ الحديث ما يدل على هذا التأويل بل هو مناقض لهذا لأن افضل المسلمين المتقين المحجلين هم القرن الأول ولم يكن لهم على عهد النبي سيد ولا إمام ولا قائد غيره فكيف يخبر عن شيء بعد إن لم يحضر ويترك الخبر عما هو أحوج إليه وهو حكمهم في الحال

ثم القائد يوم القيامة هو رسول الله  فمن يقود علي؟

وأيضا فعند الشيعة جمهور المسلمين المحجلين كفار أو فساق فلمن يقود

وفي الصحيح عن النبي انه قال: وددت إني قد رأيت إخواني. قالوا اولسنا إخوانك يا رسول الله قال: انتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. قالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله قال: أرأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم إلا يعرف خيله؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض... الحديث فهذا يبين إن كل من توضأ وغسل وجهه ويديه ورجليه فإنه من الغر المحجلين وهؤلاء جماهيرهم إنما يقدمون أبا بكر وعمر والرافضة لا تغسل بطون أقدامها ولا أعقابها فلا يكونون من المحجلين في الأرجل وحينئذ فلا يبقى أحد من الغر المحجلين يقودهم ولا يقادون مع الغر المحجلين فإن الحجلة لا تكون إلا في ظهر القدم وإنما الحجلة في الرجل كالحجلة في اليد

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي انه قال: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار

ومعلوم إن الفرس لو لم يكن البياض إلا لمعة في يده أو رجله لم يكن محجلا وإنما الحجلة بياض اليد أو الرجل فمن لم يغسل الرجلين إلى الكعبين لم يكن من المحجلين فيكون قائد الغر المحجلين بريئا منه كائنا من كان

ثم كون علي سيدهم وإمامهم وقائدهم بعد رسول الله مما يعلم بالاضطرار انه كذب وأن رسول الله لم يقل شيئا من ذلك بل كان يفضل عليه أبا بكر وعمر تفضيلا بينا ظاهرا عرفه الخاصة والعامة حتى أن المشركين كانوا يعرفون منه ذلك

ولما كان يوم أحد قال أبو سفيان وكان حينئذ أمير المشركين أفي القوم محمد أفي القوم محمد ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه. فقال أفي القوم ابن آبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاثا فقال النبي : لا تجيبوه. فقال أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب ثلاثا فقال النبي : لا تجيبوه فقال أبو سفيان لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه إن قال كذبت يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء وقد بقي لك ما يسوءك وقد ذكر باقي الحديث رواه البخاري وغيره.

فهذا مقدم الكفار إذ ذاك لم يسأل إلا عن النبي وأبي بكر وعمر لعلمه وعلم الخاص والعام إن هؤلاء الثلاثة هم رؤوس هذا الأمر وأن قيامه بهم ودل ذلك على انه كان ظاهرا عند الكفار إن هذين وزيراه وبهما تمام أمره وأنها أخص الناس به وإن لهما من السعي في إظهار الإسلام ما ليس لغيرهما

وهذا أمر كان معلوما للكفار فضلا عن المسلمين والأحاديث الكثيرة متواترة بمثل هذا وكما في الصحيحين عن ابن عباس قال وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون له ويثنون عليه ويصلون عليه قبل إن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلا برجل قد اخذ بمنكبي من ورائي فالتفت فإذا هو علي فترحم على عمر وقال ما خلفت أحدا احب إلي إن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن إن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كثيرا ما كنت اسمع النبي يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجوا إن يجعلك الله معهما.

فلم يكن تفضيلهما عليه وعلى أمثاله مما يخفى على أحد ولهذا كانت الشيعة القدماء الذين أدركوا عليا يقدمون أبا بكر وعمر عليه إلا من الحد منهم وإنما كان نزاع من نازع منهم في عثمان

وكذلك قوله: هو ولي كل مؤمن بعدي كذب على رسول الله بل هو في حياته وبعد مماته ولي كل مؤمن وكل مؤمن وليه في المحيا والممات فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان وأما الولاية التي هي الإمارة فيقال فيها والي كل مؤمن بعدي كما يقال في صلاة الجنازة إذا اجتمع الولي والوالي قدم الوالي في قول الأكثر وقيل يقدم الولي

فقول القائل علي ولي كل مؤمن بعدي كلام يمتنع نسبته إلى النبي فإنه إن أراد الموالاة لم يحتج ان يقول بعدي وإن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقول وال على كل مؤمن

وأما قوله لعلي أنت مني وأنا منك فصحيح في غير هذا الحديث ثبت انه قال له ذلك عام القضية لما تنازع هو وجعفر وزيد ابن حارثة في حضانة بنت حمزة فقضى النبي بها لخالتها وكانت تحت جعفر وقال: الخالة أم

وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي

وقال لعلي: أنت مني وأنا منك

وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا

وفي الصحيحين عنه انه قال: إن الأشعريين إذا أرملوا في السفر أو نقصت نفقة عيالاتهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد فقسموه بينهم بالسوية هم مني وأنا منهم

فقال للاشعريين:هم مني وأنا منهم، كما قال لعلي: أنت مني وأنا منك

وقال لجليبيب: هذا مني وأنا منه

فعلم إن هذه اللفظة لا تدل على الإمامة ولا على أن من قيلت له كان هو افضل الصحابة

فصل

قال الرافضي العاشر ما رواه الجمهور من قول النبي إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض وقال أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته وعلي سيدهم فيكون واجب الطاعة على الكل فيكون هو الإمام

والجواب من وجوه

أحدها أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم: قام فينا رسول الله خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فقال: أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك ان يأتيني رسول ربي فأجيب ربي وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي.

وهذا اللفظ يدل على إن الذي امرنا بالتمسك به وجعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله

وهكذا جاء في غير هذا الحديث كما في صحيح مسلم عن جابر في حجة الوداع لما خطب يوم عرفة وقال قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عنى فما انتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس اللهم اشهد ثلاث مرات

وأما قوله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض فهذا رواه الترمذى وقد سئل عنه احمد بن حنبل فضعفه

وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا لا يصح وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة قالوا ونحن نقول بذلك كما ذكر القاضي أبو يعلي وغيره

ولكن أهل البيت لم يتفقوا ولله الحمد على شيء من خصائص مذهب الرافضة بل هم المبرؤون المنزهون عن التدنس بشيء منه

وأما قوله مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح فهذا لا يعرف له إسناد لا صحيح ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها فإن كان قد رواه مثل من يروي أمثاله من حطاب الليل الذين يروون الموضوعات فهذا ما يزيده وهنا

الوجه الثاني إن النبي قال عن عترته أنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض وهو الصادق المصدوق فيدل على إن اجماع العترة حجة وهذا قول طائفة من أصحابنا وذكره القاضي في المعتمد لكن العترة هم بنو هاشم كلهم ولد العباس وولد علي وولد الحارث بن عبد المطلب وسائر بني أبي طالب وغيرهم وعلي وحده ليس هو العترة وسيد العترة هو رسول الله

يبين ذلك إن علماء العترة كابن عباس وغيره لم يكونوا يوجبون اتباع علي في كل ما يقوله ولا كان علي يوجب على الناس طاعته في كل ما يفتي به ولا عرف أن أحدا من أئمة السلف لا من بنى هاشم ولا غيرهم قال انه يجب اتباع علي في كل ما يقوله

الوجه الثالث أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته بل أئمة العترة كابن عباس وغيره يقدمون أبا بكر وعمر في الإمامة والأفضلية وكذلك سائر بنو هاشم من العباسيين والجعفريين واكثر العلويين وهم مقرون بإمامة أبي بكر وعمر وفيهم من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي واحمد وغيرهم أضعاف من فيهم من الإمامية

والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين وتابعيهم من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما انهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر وكانوا يفضلونهما على علي والنقول عنهم ثابتة متواترة

وقد صنف الحافظ أبو الحسن الدارقطني كتاب ثناء الصحابة على القرابة وثناء القرابة على الصحابة وذكر فيه من ذلك قطعة وكذلك كل من صنف من أهل الحديث في السنة مثل كتاب السنة لعبد الله ابن احمد والسنة للخلال والسنة لابن بطة والسنة للآجري واللالكائي والبيهقي وابن ذر الهروي والطلمنكي وابن حفص بن شاهين وأضعاف هؤلاء الكتب التي يحتج هذا بالعزو إليها مثل كتاب فضائل الصحابة للإمام احمد ولأبي نعيم وتفسير الثعلبي وفيها من ذكر فضائل الثلاثة ما هو من أعظم الحجج عليه فان كان هذا القدر حجة فهو حجة له وعليه والا فلا يحتج به

الوجه الرابع إن هذا معارض بما هو أقوى منه وهو أن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع والعترة بعض الأمة فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة وأفضل الأمة أبو بكر كما تقدم ذكره ويأتي

وإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب اتباع قول أفضلها مطلقا

وان لم يكن هو الإمام ثبت أن أبا بكر هو الإمام وإن لم يجب إن يكون الأمر كذلك بطل ما ذكروه في إمامة علي فنسبة آبي بكر إلى جميع الأمة بعد نبيها كنسبة علي إلى العترة بعد نبيها على قول هذا

فصل

قال الرافضي الحادي عشر ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته روى احمد بن حنبل في مسنده أن رسول الله اخذ بيد حسن وحسين فقال من احبني وأحب هذين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة

وروى ابن خالويه عن حذيفة قال قال رسول الله من احب إن يتمسك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده ثم قال لها كوني فكانت فليتول علي بن أبي طالب من بعدي وعن أبي سعيد قال قال رسول الله لعلي حبك إيمان وبغضك نفاق وأول من يدخل الجنة محبك وأول من يدخل النار مبغضك وقد جعلك الله أهلا لذلك فأنت مني وأنا منك ولا نبي بعدي وعن شقيق بن سلمة عن عبد الله قال رأيت رسول الله وهو اخذ بيد علي وهو يقول هذا وليي وأنا وليه عاديت من عادى وسالمت من سالم وروى اخطب خوارزم عن جابر قال قال رسول الله جاءني جبريل من عند الله بورقة خضراء مكتوب فيها ببياض إني قد افترضت محبة علي على خلقي فبلغهم ذلك عني والأحاديث في ذلك لا تحصى كثرة من طرق المخالفين وهي تدل على أفضليته واستحقاقه للإمامة

والجواب من وجوه أحدها المطالبة بتصحيح النقل وهيهات له بذلك وأما قوله رواه احمد فيقال أولا احمد له المسند المشهور وله كتاب مشهور في فضائل الصحابة روى فيه أحاديث لا يرويها في المسند لما فيها من الضعف لكونها لا تصلح إن تروى في المسند لكونها مراسيل أو ضعافا بغير الإرسال ثم إن هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات ثم إن القطيعى الذي رواه عن ابنه عبد الله زاد عن شيوخه زيادات وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة

وهذا الرافضي وأمثاله من شيوخ الرافضة جهال فهم ينقلون من هذا المصنف فيظنون إن كل ما رواه القطيعي أو عبد الله قد رواه احمد نفسه ولا يميزون بين شيوخ احمد وشيوخ القطيعي ثم يظنون إن احمد إذا رواه فقد رواه في المسند فقد رأيتهم في كتبهم يعزون إلى مسند احمد أحاديث ما سمعها احمد قط كما فعل ابن البطريق وصاحب الطرائف منهم وغيرهما بسبب هذا الجهل منهم وهذا غير ما يفترونه من الكذب فان الكذب كثير منهم

وبتقدير إن يكون احمد روى الحديث فمجرد رواية احمد لا توجب إن يكون صحيحا يجب العمل به بل الإمام احمد روى أحاديث كثيرة ليعرف ويبين للناس ضعفها وهذا في كلامه وأجوبته اظهر وأكبر من أن يحتاج إلى بسط لا سيما في مثل هذا الأصل العظيم

مع إن هذا الحديث الأول من زيادات القطيعي رواه عن نصر بن علي الجهضمي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر والحديث الثاني ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وبين انه موضوع وأما رواية ابن خالويه فلا تدل على إن هذا الحديث صحيح باتفاق أهل العلم وكذلك رواية خطيب خوارزم فان في روايته من الأكاذيب المختلفة ما هو من اقبح الموضوعات باتفاق أهل العلم

الوجه الثاني إن هذه الأحاديث التي رواها ابن خالويه كذب موضوعة عند أهل الحديث وأهل المعرفة يعلمون علما ضروريا يجزمون به إن هذا كذب على رسول الله وهذه ليست في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها علماء الحديث لا الصحاح ولا المساند ولا السنن ولا المعجمات ولا نحو ذلك من الكتب

الثالث إن من تدبر ألفاظها تبين له أنها مفتراة على رسول الله مثل قوله من احب أن يتمسك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده ثم قال لها كوني فكانت فهذه من خرافات الحديث وكأنهم لما سمعوا إن الله خلق آدم بيده من تراب ثم قال له كن فكان قاسوا هذه الياقوتة على خلق آدم وآدم خلق من تراب ثم قال له كن فكان فصار حيا بنفخ الروح فيه فإما هذا القصب فبنفس خلقه كمل ثم لم يكن له بعد هذا حال يقال له فيها كن ولم يقل أحد من أهل العلم إن الله خلق بيده ياقوتة بل قد روي في عدة آثار إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء آدم والقلم وجنة عدن. ثم قال لسائر خلقه كن فكان فلم يذكر فيها هذه الياقوتة. ثم أي عظيم في إمساك هذه الياقوتة حتى يجعل على هذا وعدا عظيما؟

وكذلك قوله أول من يدخل النار مبغضك فهل يقول مسلم إن الخوارج يدخلون النار قبل أبي جهل بن هشام وفرعون وأبي لهب وأمثالهم من المشركين

وكذلك قوله أول من يدخل الجنة محبك فهل يقول عاقل إن الأنبياء والمرسلين سبب دخولهم الجنة أولا هو حب علي دون حب الله ورسوله وسائر الأنبياء ورسله وحب الله ورسله ليس هو السبب في ذلك وهل تعلق السعادة والشقاوة بمجرد حب علي دون حب الله ورسوله إلا كتعلقها بحب أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية رضي الله عنهم فلو قال قائل من احب عثمان ومعاوية دخل الجنة ومن ابغضهما دخل النار كان هذا من جنس قول الشيعة

فصل

قال الرافضي الثاني عشر روى اخطب خوارزم بإسناده عن أبي ذر الغفاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناصب عليا الخلافة فهو في كافر وقد حارب الله ورسوله ومن شك في علي فهو كافر وعن انس قال كنت عند النبي فرأي عليا مقبلا فقال أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة وعن معاوية بن حيدة القشيري قال سمعت النبي يقول لعلي من مات وهو يبغضك مات يهوديا أو نصرانيا

والجواب من وجوه

أحدها المطالبة بتصحيح النقل وهذا على سبيل التنزل فإن مجرد رواية الموفق خطيب خوارزم لا تدل على أن الحديث ثابت قاله رسول الله وهذا لو لم يعلم ما في الذي جمعه من الأحاديث من الكذب والفرية فأما من تأمل ما في جمع هذا الخطيب فإنه يقول سبحانك هذا بهتان عظيم

الثاني إن كل من له معرفة بالحديث يشهد أن هذه الأحاديث كذب مفتراة على رسول الله

الثالث أن هذه الأحاديث إن كانت مما رواها الصحابة والتابعون فأين ذكرها بينهم ومن الذي نقلها عنهم وفي أي كتاب وجد انهم رووها ومن كان خبيرا بما جرى بينهم علم بالاضطرار إن هذه الأحاديث مما ولدها الكذابون بعدهم وأنها مما عملت أيديهم

الوجه الرابع إن يقال علمنا بان المهاجرين والأنصار كانوا مسلمين يحبون الله ورسوله وإن النبي كان يحبهم ويتولاهم أعظم من علمنا بصحة شيء من هذه الأحاديث وإن أبا بكر الإمام بعد رسول الله فكيف يجوز أن يرد ما علمناه بالتواتر المتيقن بأخبار هي اقل وأحقر من إن يقال لها أخبار آحاد لا يعلم لها ناقل صادق بل أهل العلم بالحديث متفقون على أنها من أعظم المكذوبات ولهذا لا يوجد منها شيء في كتب الأحاديث المعتمدة بل أئمة الحديث كلهم يجزمون بكذبها

الوجه الخامس إن القران يشهد في غير موضع برضا الله عنهم وثنائه عليهم كقوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه

وقوله لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى

وقوله محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا

وقوله لقد رضي الله عنها المؤمنين إذ يباعيونك تحت الشجرة

وقوله للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وأمثال ذلك فكيف يجوز إن يرد ما علمنا دلالة القران عليه يقينا بمثل هذه الأخبار المفتراة التي رواها من لا يخاف مقام ربه ولا يرجو لله وقارا

الوجه السادس أن هذه الأحاديث تقدح في علي وتوجب انه كان مكذبا بالله ورسوله فيلزم من صحتها كفر الصحابة كلهم هو وغيره

أما الذين ناصبوه الخلافة فإنهم في هذا الحديث المفترى كفار وأما علي فإنه لم يعمل بموجب هذه النصوص بل كان يجعلهم مؤمنين مسلمين وشر من قاتلهم علي هم الخوارج ومع هذا فلم يحكم فيهم بحكم الكفار بل حرم أموالهم وسبيهم وكان يقول لهم قبل قتالهم إن لكم علينا إن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من فيئنا ولما قتله ابن ملجم قال إن عشت فأنا ولي دمي ولم يجعله مرتدا بقتله

وأما أهل الجمل فقد تواتر عنه انه نهى عن أن يتبع مدبرهم وأن يجهز على جريحهم وأن يقتل أسيرهم وأن تغنم أموالهم وأن تسبى ذراريهم فإن كان هؤلاء كفارا بهذه النصوص فعلي أول من كذب بها فيلزمهم ان يكون علي كافرا

وكذلك أهل صفين كان يصلي على قتلاهم ويقول إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف ولو كانوا عنده كفارا لما صلى عليهم ولا جعلهم إخوانه ولا جعل السيف طهرا لهم

وبالجملة نحن نعلم بالاضطرار من سيرة علي رضي الله عنه انه لم يكن يكفر الذين قاتلوه بل ولا جمهور المسلمين ولا الخلفاء الثلاثة ولا الحسن ولا الحسين كفروا أحدا من هؤلاء ولا علي بن الحسين ولا أبو جعفر فإن كان هؤلاء كفارا فأول من خالف النصوص علي وأهل بيته وكان يمكنهم إن يفعلوا ما فعلت الخوارج فيعتزلوا بدار غير دار الإسلام وإن عجزوا عن القتال ويحكموا على أهل دار الإسلام بالكفر والردة كما يفعل ذلك كثير من شيوخ الرافضة وكان الواجب على علي إذا رأى أن الكفار لا يؤمنون أن يتخذ له ولشيعته دار غير أهل الردة والكفر ويباينهم كما باين المسلمون لمسيلمة الكذاب وأصحابه

وهذا نبي الله كان بمكة هو وأصحابه في غاية الضعف ومع هذا فكانوا يباينون الكفار ويظهرون مباينتهم بحيث يعرف المؤمن من الكافر وكذلك هاجر من هاجر منهم إلى ارض الحبشة مع ضعفهم وكانوا يباينون النصارى ويتكلمون بدينهم قدام النصارى

وهذه بلاد الإسلام مملوءة من اليهود والنصارى وهم مظهرون لدينهم متحيزون عن المسلمين

فان كان كل من يشك في خلافة علي كافرا عنده وعند أهل بيته وليس بمؤمن عندهم إلا من اعتقد انه الإمام المعصوم بعد رسول الله ومن لم يعتقد ذلك فهو مرتد عند علي وأهل بيته فعلي أول من بدل الدين ولم يميز المؤمنين من الكافرين ولا المرتدين من المسلمين

وهب انه كان عاجزا عن قتالهم وإدخالهم في طاعته فلم يكن عاجزا عن مباينتهم ولم يكن اعجز من الخوارج الذين هم شرذمة قليلة من عسكره والخوارج اتخذوا لهم دارا غير دار الجماعة وباينوهم كما كفروهم وجعلوا أصحابهم هم المؤمنين

وكيف كان يحل للحسن أن يسلم أمر المسلمين إلى من هو عنده من المرتدين شر من اليهود والنصارى كما يدعون في معاوية وهل يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر وقد كان الحسن يمكنه إن يقيم بالكوفة ومعاوية لم يكن بدأه بالقتال وكان قد طلب منه ما أراد فلو قام مقام أبيه لم قاتله معاوية وأين قول رسول الله الثابت عنه في فضل الحسن إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فإن كان علي وأهل بيته والحسن منهم يقولون لم يصلح الله به بين المؤمنين والمرتدين فهذا قدح في الحسن وفي جده الذي أثنى على الحسن إن كان الأمر كما يقوله الرافضة

فتبين إن الرافضة من أعظم الناس قدحا وطعنا في أهل البيت وأنهم هم الذين عادوا أهل البيت في نفس الأمر ونسبوهم إلى أعظم المنكرات التي من فعلها كان من الكفار وليس هذا ببدع من جهل الرافضة وحماقاتهم

ثم إن الرافضة تدعي أن الإمام المعصوم لطف من الله بعباده ليكون ذلك ادعى إلى إن يطيعوه فيرحموا وعلى ما قالوه فلم يكن على أهل الأرض نقمة أعظم من علي فإن الذين خالفوه وصاروا مرتدين كفارا والذين وافقوه أذلاء مقهورين تحت النقمة لا يد ولا لسان وهم مع ذلك يقولون إن خلقه مصلحة ولطف وان الله يجب عليه أن يخلقه وإنه لا تتم مصلحة العالم في دينهم ودنياهم إلا به وأي صلاح في ذلك على قول الرافضة

ثم انهم يقولون إن الله يجب عليه ان يفعل اصلح ما يقدر عليه للعباد في دينهم ودنياهم وهو يمكن الخوارج الذين يكفرون به بدار لهم فيها شوكة ومن قتال أعدائهم ويجعلهم هم والأئمة المعصومين في ذل أعظم من ذل اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الذمة فإن أهل الذمة يمكنهم إظهار دينهم وهؤلاء الذين يدعي انهم حجج الله على عباده ولطفه في بلاده وأنه لا هدى إلا بهم ولا نجاة إلا بطاعتهم ولا سعادة إلا بمتابعتهم قد غاب خاتمتهم من اكثر من أربعمائة وخمسين سنة فلم ينتفع به أحد في دينه ولا دنياه وهم لا يمكنهم إظهار دينهم كما تظهر اليهود والنصارى دينهم

ولهذا ما زال أهل العلم يقولون إن الرفض من إحداث الزنادقة الملاحدة الذين قصدوا إفساد الدين دين الإسلام ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون فإن منتهى أمرهم تكفير علي وأهل بيته بعد أن كفروا الصحابة والجمهور

ولهذا كان صاحب دعوى الباطنية الملاحدة رتب دعوته مراتب أول ما يدعو المستجيب إلى التشيع ثم إذا طمع فيه قال له علي مثل الناس ودعاه إلى القدح في علي أيضا ثم إذا طمع فيه دعاه إلى القدح في الرسول ثم إذا طمع فيه دعاه إلى إنكار الصانع هكذا ترتيب كتابهم الذي يسمونه البلاغ الأكبر والناموس الأعظم وواضعه الذي أرسل به إلى القرمطي الخارج بالبحرين لما استولى على مكة وقتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود واستحلوا المحارم وأسقطوا الفرائض وسيرتهم مشهورة عند أهل العلم

وكيف يقول النبي من مات وهو يبغض عليا مات يهوديا أو نصرانيا والخوارج كلهم تكفره وتبغضه وهو نفسه لم يكن يجعلهم مثل اليهود والنصارى بل يجعلهم من المسلمين أهل القبلة ويحكم فيهم بغير ما يحكم به بين اليهود والنصارى

وكذلك من كان يسبه ويبغضه من بني أمية وأتباعهم فكيف يكون من يصلي الصلوات ويصوم شهر رمضان ويحج البيت ويؤدي الزكاة مثل اليهود والنصارى وغايته إن يكون قد خفي عليه كون هذا إماما أو عصاه بعد معرفته

وكل أحد يعلم أن أهل الدين والجمهور ليس لهم غرض مع علي ولا لأحد منهم غرض في تكذيب الرسول وأنهم لو علموا أن الرسول جعله إماما كانوا اسبق الناس إلى التصديق بذلك

وغاية ما يقدر انهم خفي عليهم هذا الحكم فكيف يكون من خفي عليه جزء من الدين مثل اليهود والنصارى

وليس المقصود هنا الكلام في التكفير بل التنبيه على أن هذه الأحاديث مما يعلم بالاضطرار أنها كذب على النبي وأنها مناقضة لدين الإسلام وأنها تستلزم تكفير علي وتكفير من خالفه وأنه لم يقلها من يؤمن بالله واليوم الآخر فضلا عن أن تكون من كلام رسول الله بل إضافتها والعياذ بالله إلى رسول الله من أعظم القدح والطعن فيه ولا شك أن هذا فعل زنديق ملحد لقصد إفساد دين الإسلام فلعن الله من افتراها وحسبه ما وعده به الرسول حيث قال: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار

منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57