محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة السادسة عشر
كتاب الزكاة
643 - مسألة : وكذلك ما أصيب في الأرض المغصوبة إذا كان البذر للغاصب ؛ لأن غصبه الأرض لا يبطل ملكه عن بذره ؛ فالبذر إذا كان له فما تولد عنه فله ؛ وإنما عليه حق الأرض فقط ؛ ففي حصته منه الزكاة ، وهي له حلال وملك صحيح . وكذلك الأرض المستأجرة بعقد فاسد ، أو المأخوذة ببعض ما يخرج منها ، أو الممنوحة لعموم قوله عليه السلام : { فيما سقت السماء العشر } . وأما إن كان البذر مغصوبا فلا حق له ؛ ولا حكم في شيء مما أنبت الله تعالى منه ؛ سواء كان في أرضه نفسه أم في غيرها ، وهو كله لصاحب البذر ؛ لقول الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ولا يختلف اثنان في أن غاصب البذر إنما أخذه بالباطل ، وكذلك كل بذر أخذ بغير حق فمحرم عليه بنص القرآن أكله ، وكل ما تولد من شيء فهو لصاحب ما تولد منه بلا خلاف ، وليس وجوب الضمان بمبيح له ما حرم الله تعالى عليه ، فإن موهوا بما روي من أن { الخراج بالضمان } . فلا حجة لهم فيه لوجوه - : أولها : أنه خبر لا يصح ، لأن راويه مخلد بن خفاف وهو مجهول . والثاني : أنه لو صح لكان ورد في عبد بيع بيعا صحيحا ثم وجد فيه عيب ؛ ومن الباطل أن يقاس الحرام على الحلال ، لو كان القياس حقا ؛ فكيف والقياس كله باطل . والثالث : أنهم يلزمهم أن يجعلوا أولاد المغصوبة من الإماء والحيوان للغاصب بهذا الخبر ؛ وهم لا يقولون بذلك .
644 - مسألة : فإذا بلغ الصنف الواحد - من البر ، أو التمر ، أو الشعير - خمسة أوسق كما ذكرنا فصاعدا ، فإن كان مما يسقى بساقية من نهر ، أو عين ، أو كان بعلا ففيه العشر . وإن كان يسقى بساقية ، أو ناعورة ، أو دلو ففيه نصف العشر ، فإن نقص عن الخمسة الأوسق - ما قل أو كثر - فلا زكاة فيه . وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأصحابنا وقال أبو حنيفة : في قليله وكثيره العشر ، أو نصف العشر : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا سعيد بن أبي مريم ثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي ﷺ قال : { فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر ، وما سقي بالنضح نصف العشر } . وقد ذكرنا قبل قوله عليه السلام : { وليس فيما دون خمسة أوسق ، من حب ولا تمر صدقة } . فصح أن ما نقص عن الخمسة الأوسق نقصانا - قل أو كثر - فلا زكاة فيه . والعجب من تغليب أبي حنيفة الخبر { فيما سقت السماء العشر } على حديث الأوسق الخمسة ، وغلب قوله عليه السلام : { ليس فيما دون خمس أواقي من الورق صدقة ، ولا فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة } على قوله عليه السلام : { في الرقة ربع العشر } وعلى قوله عليه السلام : { ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها } وهذا تناقض ظاهر - وبالله تعالى التوفيق .
645 - مسألة : لا يضم قمح إلى شعير ، ولا تمر إليهما . وهو قول سفيان الثوري ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، وأبي سليمان ، وأصحابنا . وقال الليث بن سعد ، وأبو يوسف : يضم كل ما أخرجت الأرض : من القمح ، والشعير والأرز ، والذرة ، والدخن ، وجميع القطاني ، بعض ذلك إلى بعض ، فإذا اجتمع من كل ذلك خمسة أوسق ففيه الزكاة كما ذكرنا ، وإلا فلا ؟ وقال مالك : القمح ، والشعير ، والسلت : صنف واحد ، يضم بعضها إلى بعض في الزكاة ، فإذا اجتمع من جميعها خمسة أوسق ففيها الزكاة ، وإلا فلا ؛ ويجمع الحمص ، والفول ، واللوبيا ، والعدس ، والجلبان والبسيلة ، بعضها إلى بعض . ولا يضم إلى القمح ، ولا إلى الشعير ولا إلى السلت . قال : وأما الأرز ، والذرة ، والسمسم ، فهي أصناف مختلفة ، لا يضم كل واحد منها إلي شيء أصلا ؟ واختلف قوله في العلس ، فمرة قال : يضم إلى القمح ، والشعير ؛ ومرة قال : لا يضم إلى شيء أصلا ورأى القطاني في البيوع أصنافا مختلفة ، حاشا اللوبيا ، والحمص ؛ فإنه رآهما في البيوع صنفا واحدا قال أبو محمد : أما قول مالك ؛ فظاهر الخطأ جملة ، لا يحتاج من إبطاله إلى أكثر من إيراده وما نعلم أحدا على ظهر الأرض قسم هذا التقسيم ، ولا جمع هذا الجمع ، ولا فرق هذا التفريق قبله ولا معه ولا بعده ، إلا من قلده ، وما له متعلق ، لا من قرآن ، ولا من سنة صحيحة ، ولا من رواية فاسدة ، ولا من قول صاحب ولا تابع ، ولا من قياس ولا من رأي يعرف له وجه ، ولا من احتياط أصلا وأما من رأى جمع البر وغيره في الزكاة فيمكن أن يتعلقوا بعموم قوله عليه السلام : { ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة } . قال أبو محمد : ولو لم يأت إلا هذا الخبر لكان هذا هو القول الذي لا يجوز غيره . لكن قد خصه ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا إسماعيل بن مسعود هو الجحدري - ثنا يزيد بن زريع ثنا روح بن القاسم حدثني عمرو بن يحيى بن عمارة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ قال : { لا يحل في البر والتمر زكاة حتى يبلغ خمسة أوسق ، ولا يحل في الورق زكاة حتى يبلغ خمس أواقي ولا يحل في الإبل زكاة حتى تبلغ خمس ذود } . فنفى رسول الله ﷺ الزكاة عما لم يبلغ خمسة أوسق من البر ، فبطل بهذا إيجاب الزكاة فيه على كل حال ؛ مجموعا إلى شعير أو غير مجموع . قال أبو محمد : وكلهم متفق على أن لا يجمع التمر إلى الزبيب ، وما نسبة أحدهما من الآخر إلا كنسبة البر من الشعير ؛ فلا النص اتبعوا ، ولا القياس طردوا ، ولا خلاف بين كل من يرى الزكاة في الخمسة الأوسق فصاعدا - لا في أقل - في أنه لا يجمع التمر إلى البر ، ولا إلى الشعير ؟ .
646 - مسألة : وأما أصناف القمح فيضم بعضها إلى بعض ؛ وكذلك تضم أصناف الشعير بعضها إلى بعض ؛ وكذلك أصناف التمر بعضها إلى بعض العجوة ، والبرني ، والصيحاني وسائر أصنافه . وهذا لا خلاف فيه من أحد ؛ لأن اسم بر يجمع أصناف البر ؛ واسم تمر يجمع أصناف التمر ؛ واسم شعير يجمع أصناف الشعير - وبالله تعالى التوفيق .
647 - مسألة : ومن كانت له أرضون شتى في قرية واحدة ؛ أو في قرى شتى في عمل مدينة واحدة أو في أعمال شتى - ولو أن إحدى أرضيه في أقصى الصين ، والأخرى إلى أقصى الأندلس - : فإنه يضم كل قمح أصاب في جميعها بعضها إلى بعض ؛ وكل شعير أصابه في جميعها بعضه إلى بعض ، فيزكيه ؛ لأنه مخاطب بالزكاة في ذاته ، مرتبة بنص القرآن والسنن في ذمته وماله ، دون أن يخص الله تعالى ؛ أو رسوله ﷺ بذلك ما كان في طسوج واحدا ، أو رستاق واحد - : مما في طسوجين ، أو رستاقين ؛ وتخصيص القرآن والسنة بالآراء الفاسدة : باطل مقطوع به - وبالله تعالى التوفيق .
648 - مسألة : ومن لقط السنبل فاجتمع له من البر خمسة أوسق فصاعدا ، ومن الشعير كذلك - : فعليه الزكاة فيها ، العشر فيما سقي بالسماء ، أو بالنهر أو بالعين ، أو بالساقية ، ونصف العشر فيما سقي بالنضح ؛ ولا زكاة على من التقط من التمر خمسة أوسق - وبإيجاب الزكاة في ذلك يقول أبو حنيفة ؟ برهان ذلك - : أن رسول الله ﷺ أوجبها على مالكها الذي يخرج في ملكه الحب من سنبله إلى إمكان كيله ؛ ولم يخص عليه السلام من أصابه من حرثه أو من غير حرثه ؛ ولا شيء في ذلك على صاحب الزرع الذي التقط هذا منه ؛ لأنه خرج من ملكه قبل إمكان الكيل فيه الذي به تجب الزكاة ، وليس كذلك ما التقط من التمر ؛ لأن الزكاة فيه واجبة على من أزهى التمر في ملكه ؛ بخلاف البر والشعير - وبالله تعالى نتأيد .
649 - مسألة : والزكاة واجبة على من أزهى التمر في ملكه - والإزهاء : هو احمراره في ثماره - وعلى من ملك البر ، والشعير قبل دراسهما ، وإمكان تصفيتهما من التبن وكيلهما بأي وجه ملك ذلك ، من ميراث ، أو هبة ، أو ابتياع ، أو صدقة ، أو إصداق ، أو غير ذلك ؟ ولا زكاة على من انتقل ملكه عن التمر قبل الإزهاء ، ولا على من ملكها بعد الإزهاء ، ولا على من انتقل ملكه عن البر ، والشعير ، قبل دراسهما وإمكان تصفيتهما وكيلهما ؛ ولا على من ملكهما بعد إمكان تصفيتهما وكيلهما ؟ برهان ذلك - : قول رسول الله ﷺ : { ليس فيما دون خمسة أوسق من حب ولا تمر صدقة } فلم يوجب النبي ﷺ في الحب صدقة إلا بعد إمكان توسيقه ؛ فإن صاحبه حينئذ مأمور بكيله وإخراج صدقته ؛ فليس تأخيره الكيل - وهو له ممكن - بمسقط حق الله تعالى فيه ؛ ولا سبيل إلى التوسيق الذي به تجب الزكاة قبل الدراس أصلا ؛ فلا زكاة فيه قبل الدراس ؛ لأن الله تعالى لم يوجبها ولا رسوله ﷺ . فمن سقط ملكه عنه قبل الدراس - ببيع أو هبة ، أو إصداق : أو موت ، أو جائحة ، أو نار ، أو غرق ، أو غصب - فلم يمكنه إخراج زكاته في وقت وجوبها ، ولا وجبت الزكاة عليه وهو في ملكه . ومن أمكنه الكيل وهو في ملكه فهو الذي خوطب بزكاته ؛ فمن ملكه بعد ذلك فإنما ملكه بعد وجوب الزكاة على غيره ؟ وليس التمر كذلك ؛ لأن النص جاء بإيجاب الزكاة فيه إذا بدا طيبه ، كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ؟ ومن خالفنا في هذا ورأى الزكاة في البر ، والشعير إذا يبسا واستغنيا عن الماء . سألناه عن الدليل على دعواه هذه ؟ ولا سبيل له إلى ذلك وعارضناه بقول أبي حنيفة الذي يرى على من باع زرعا أخضر قصيلا ففصله المشتري وأطعمه دابته قبل أن يظهر فيه شيء من الحب - : أن الزكاة على البائع ، عشر الثمن أو نصف عشره ، ولا سبيل لأحدهما إلى ترجيح قول على الآخر ؟ ولو صح قول من رأى الزكاة واجبة فيه قبل دراسه - : لكان واجبا إذا أدى العشر منه كما هو في سنبله أن يجزئه ؛ وهذا ما لا يقولونه
650 - مسألة : وأما النخل فإنه إذا أزهى خرص وألزم الزكاة كما ذكرنا ، وأطلقت يده عليه يفعل به ما شاء ؛ والزكاة في ذمته حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان - ومحمد بن جعفر غندر ثنا شعبة قال : سمعت خبيب بن عبد الرحمن يحدث عن عبد الرحمن بن مسعود بن نيار قال : أتانا سهل بن أبي حثمة فقال : قال رسول الله ﷺ : { إذا خرصتم فخذوا أو دعوا الثلث ؛ فإن لم تأخذوا فدعوا الربع } شك شعبة في لفظة تأخذوا و " تدعوا " ؟ حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة . وهي تذكر شأن خيبر قالت { كان رسول الله ﷺ يبعث عبد الله بن رواحة إلى اليهود فيخرص النخل حين يطيب أول الثمر قبل أن يؤكل ، ثم يخيرون اليهود بين أن يأخذوها بذلك الخرص أو يدفعوها إليهم بذلك } وإنما كان أمر رسول الله ﷺ بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفترق .
651 - مسألة : فإذا خرص كما ذكرنا فسواء باع الثمرة صاحبها أو وهبها أو تصدق بها أو أطعمها أو أجيح فيها - : كل ذلك لا يسقط الزكاة عنه ؛ لأنها قد وجبت ، وأطلق على الثمرة وأمكنه التصرف فيها بالبيع وغيره ، كما لو وجدها ، ولا فرق ؟
652 - مسألة : فإذا غلط الخارص أو ظلم - فزاد أو نقص - : رد الواجب إلى الحق ، فأعطي ما زيد عليه وأخذ منه ما نقص ؟ لقول الله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط } والزيادة من الخارص ظلم لصاحب الثمرة بلا شك ، وقد قال تعالى : { ولا تعتدوا } فلم يوجب الله تعالى على صاحب الثمرة إلا العشر ، لا أقل ولا أكثر ، أو نصف العشر ، لا أقل ولا أكثر ، ونقصان الخارص ظلم لأهل الصدقات وإسقاط لحقهم ، وكل ذلك إثم وعدوان .
653 - مسألة : فإن ادعى أن الخارص ظلمه أو أخطأ ؟ لم يصدق إلا ببينة إن كان الخارص عدلا عالما ، فإن كان جاهلا أو جائرا فحكمه مردود ؟ لأنه إن كان جائرا فهو فاسق فخبره مردود . لقول الله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } . وإن كان جاهلا فتعرض الجاهل للحكم في أموال الناس بما لا يدري جرحة ؛ وأقل ذلك أنه لا يحل توليته ؛ فإذ هو كذلك فتوليته باطل مردود لقول رسول الله ﷺ : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } .
654 - مسألة : ولا يجوز خرص الزرع أصلا ؛ لكن إذا حصد ، ودرس ، فإن جاء الذي يقبض الزكاة حينئذ فقعد على الدروس والتصفية والكيل فله ذلك ، ولا نفقة له على صاحب الزرع ؟ لأنه لم يأت عن رسول الله ﷺ أنه خرص الزرع ، فلا يجوز خرصه ؛ لأنه إحداث حكم لم يأت به نص - وبالله تعالى التوفيق . وأما النفقة فإن الله تعالى يقول : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .
655 - مسألة : وفرض على كل من له زرع عند حصاده أن يعطي منه من حضر من المساكين ما طابت به نفسه ؛ وقد ذكرنا ذلك قبل في باب ما تجب فيه الزكاة عند ذكرنا قول الله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } وبالله تعالى التوفيق .