محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثلاثون
كتاب الزكاة
696 - مسألة : ومن كان له على غيره دين فسواء كان حالا أو مؤجلا عند مليء مقر يمكنه قبضه أو منكر ، أو عند عديم مقر أو منكر كل ذلك سواء ، ولا زكاة فيه على صاحبه ، ولو أقام عنه سنين حتى يقبضه فإذا قبضه استأنف حولا كسائر الفوائد ولا فرق . فإن قبض منه ما لا تجب فيه الزكاة فلا زكاة فيه ، لا حينئذ ولا بعد ذلك - الماشية ، والذهب ، والفضة في ذلك سواء - وأما النخل ، والزرع فلا زكاة فيه أصلا ؛ لأنه لم يخرج من زرعه ولا من ثماره . وقالت طائفة : يزكيه - : كما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن جرير عن الحكم بن عتيبة قال : سئل علي عن الرجل يكون له الدين على آخر ؟ فقال : يزكيه صاحب المال ، فإن خشي أن لا يقضيه فإنه يمهل ، فإذا خرج الدين زكاه لما مضى ، ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا يزيد بن هارون أنا هشام - هو ابن حسان - عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني : سئل علي عن الدين الظنون : أيزكيه ؟ قال : إن كان صادقا فليزكه لما مضى وهذا في غاية الصحة ، والظنون : هو الذي لا يرجى . ومن طريق طاوس : إذا كانت لك دين فزكه . ومن طريق أشعث عن الزبير عن جابر قال : يزكيه - يعني : ماله من الدين على غيره ، ومن طريق عمر بن الخطاب كما ذكرنا قبل - احسب دينك وما عليك وزك ذلك أجمع ومن طريق ابن جريج قال : كان سعيد بن المسيب يقول : إذا كان الدين على مليء فعلى صاحبه أداء زكاته ، فإن كان على معدم فلا زكاة فيه حتى يخرج ؛ فيكون عليه زكاة السنين التي مضت ، ومن طريق معمر عن الزهري مثل قول سعيد بن المسيب سواء سواء . وعن مجاهد : إذا كان لك الدين فعليك زكاته ؛ وإذا كان عليك فلا زكاة عليك فيه ؟ وهو قول سفيان الثوري ، والحسن بن حي وقالت طائفة : لا زكاة فيه حتى يقبضه ، فإذا قبضه أو قبض منه مقدار ما فيه الزكاة زكاه لسنة واحدة ، وإن بقي سنين - وهو قول مالك . وقالت طائفة : إن كان على ثقة زكاه ؛ وإن كان على غير ثقة فلا زكاة عليه فيه حتى يقبضه - وهو قول الشافعي ، وروينا من طريق عبد الله بن عمر أنه قال : زكوا أموالكم من حول إلى حول ، فما كان في دين في ثقة فاجعلوه بمنزلة ما كان في أيديكم ، وما كان من دين ظنون فلا زكاة فيه حتى يقبضه صاحبه . وعن طاوس من طريق ثابتة : إذا كان لك دين تعلم أنه يخرج فزكه ، وعن إبراهيم من طريق صحيحة : زك ما في يديك ومالك على المليء ، ولا تزك ما للناس عليك . ثم رجع عن هذا . وعن ميمون بن مهران : ما كان من دين في مليء ترجوه فاحسبه ، ثم أخرج ما عليك وزك ما بقي ؟ وعن مجاهد : إن كنت تعلم أنه خارج فزكه . وعن محمد بن علي بن الحسن ليس في الدين زكاة حتى يقبضه ، وأما قولنا فقد روينا قبل عن عائشة أم المؤمنين مثله ، وعن عطاء ، وروينا أيضا عن ابن عمر : ليس في الدين زكاة . قال أبو محمد : أما قول الحسن بن حي فظاهر الخطأ ؛ لأنه جعل زكاة الدين على الذي هو له ، وعلى الذي هو عليه . فأوجب زكاتين في مال واحد في عام واحد ، فحصل في العين نصف العشر ، وفي خمس من الإبل شاتان ، وكذلك ما زاد . وأما تقسيم مالك فما نعلمه عن أحد إلا عن عمر بن عبد العزيز ، وقد صح عنه خلاف ذلك ومثل قولنا . وأما أبو حنيفة فإنه قسم ذلك تقاسيم في غاية الفساد ، وهي : أنه جعل كل دين ليس عن بدل ، أو كان عن بدل ما لا يملك ، كالميراث ، والمهر ، والجعل ، ودية الخطأ ، والعمد إذا صالح عليها ، والخلع : أنه لا زكاة على مالكه أصلا حتى يقبضه ، فإذا قبضه استأنف به حولا ، وجعل كل دين يكون عن بدل لو بقي في ملكه لوجبت فيه الزكاة كقرض الدراهم وفيما وجب في ذمة الغاصب والمتعدي ، وثمن عبد التجارة - : فإنه لا زكاة فيه - كان على ثقة أو غير ثقة - حتى يقبض أربعين درهما فإذا قبضها زكاها لعام خال ، ثم يزكي كل أربعين يقبض ، وجعل كل دين يكون عن بدل لو بقي في يده لم تجب فيه الزكاة كالعروض لغير التجارة يبيعها - : قسما آخر ، فاضطرب فيه قوله ، فمرة جعل ذلك بمنزلة قوله في الميراث ، والمهر ، ومرة قال : لا زكاة عليه حتى يقبض مائتي درهم ، فإذا قبضها زكاها لعام خال ، وسواء عنده ما كان عند عديم أو مليء إذا كانا مقرين . وأما قول أبي حنيفة فتخليط لا خفاء به . قال أبو محمد : إنما لصاحب الدين عند غريمه عدد في الذمة وصفة فقط ، وليس له عنده عين مال أصلا ، ولعل الفضة أو الذهب اللذين له عنده في المعدن بعد ، والفضة تراب بعد ، ولعل المواشي التي له عليه لم تخلق بعد ، فكيف تلزمه زكاة ما هذه صفته ؟ فصح أنه لا زكاة عليه في ذلك - وبالله تعالى التوفيق . واعلم أن تقسيم أبي حنيفة ، ومالك : لا يعرف عن أحد قبلهما ، لأن الرواية عن عمر بن عبد العزيز إنما هي في الغصب لا في الدين وبالله تعالى التوفيق .
697 - مسألة : وأما المهور والخلع ، والديات ، فبمنزلة ما قلنا ؛ ما لم يتعين المهر ؛ لأن كل ذلك دين ، فإن كان المهر فضة معينة - دراهم أو غير ذلك - أو ذهبا بعينه - دنانير أو غير ذلك - أو ماشية بعينها ، أو نخلا بعينها ، أو كان كل ذلك ميراثا - : فالزكاة واجبة على من كل ذلك له ؛ لأنها أموال صحيحة ظاهرة موجودة ، فالزكاة فيها ، ولا معنى للقبض في ذلك ما لم يمنع صاحبه شيء من ذلك ، فإن منع صار مغصوبا وسقطت الزكاة كما قدمنا - وبالله تعالى التوفيق .
698 - مسألة : ومن كان له دين على بعض أهل الصدقات - وكان ذلك الدين برا ، أو شعيرا ، أو ذهبا ، أو فضة ، أو ماشية - فتصدق عليه بدينه قبله ، ونوى بذلك أنه من زكاته أجزأه ذلك ، وكذلك لو تصدق بذلك الدين على من يستحقه وأحاله به على من هو له عنده ونوى بذلك الزكاة فإنه يجزئه ؟ برهان ذلك - : أنه مأمور بالصدقة الواجبة ، وبأن يتصدق على أهل الصدقات من زكاته الواجبة بما عليه منها ، فإذا كان إبراؤه من الدين يسمى صدقة فقد أجزأه . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا قتيبة بن سعيد ثنا الليث - هو ابن سعد - عن بكير - هو ابن الأشج - عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال : { أصيب رجل على عهد رسول الله ﷺ في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال رسول الله ﷺ تصدقوا عليه } وذكر الحديث . وهو قول عطاء بن أبي رباح وغيره .
699 - مسألة : ومن أعطى زكاة ماله من وجبت له من أهلها ، أو دفعها إلى المصدق المأمور بقبضها فباعها من قبض حقه فيها أو من له قبضها نظرا لأنها لأهلها - : فجائز للذي أعطاها أن يشتريها ، وكذلك لو رجعت إليه بهبة ، أو هدية ، أو ميراث ، أو صداق أو إجارة أو سائر الوجوه المباحة ، ولا يجوز له شيء من ذلك ألبتة قبل أن يدفعها ؛ لأنه ابتاع شيئا غير معين ؛ وهذا لا يجوز ؛ لأنه لا يدري ما الذي ابتاع ، ولم يعط الزكاة التي افترض الله تعالى عليه أن يؤديها إلى أهلها ، وبهذا نفسه يحرم عليه أن يعطي غير ما لزمه القيمة ، وأما بعد أن يؤديها إلى أهلها فإن الله تعالى قال : { وأحل الله البيع } فهو قد أدى صدقة ماله كما أمر ، وباعها الآخذ كما أبيح له ، ولم يجز ذلك أبو حنيفة ؛ وكرهه مالك ؛ وأجازه الليث بن سعد ، واحتج من منع من ذلك بالحديث الذي رويناه من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : سمعت { عمر يقول : حملت على فرس في سبيل الله ، فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه ، وظننت أنه بائعه برخص فقال له رسول الله ﷺ لا تشتره ، ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه } . ومن طريق حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي " أن الزبير حمل على فرس في سبيل الله تعالى ، فوجد فرسا من ضئضئها يعني من نسلها - فأراد أن يشتريه ، فنهي " ونحو هذا أيضا عن أسامة بن زيد ، ولا يصح ، قال أبو محمد وكل هذا لا حجة لهم فيه ؛ لأن فرس عمر - كان بنص الحديث - حمل عليه في سبيل الله ، فصار حبسا في هذا الوجه ، فبيعه إخراج له عما سبل فيه ، ولا يحل هذا أصلا ؛ فابتياعه حرام على كل أحد ، وكذلك القول في الخبرين الآخرين ، لو صحا ، لا سيما ، وفي حديث أبي عثمان النهدي أنه نهى نتاجها ، وهذه صفة الحبس . وأما ما لم يحرم بيعه وكان صدقة مطلقة يملكها المتصدق بها عليه ويبيعها إن شاء - فليس ابتياع المتصدق بها عودا في صدقته ، لا في اللغة ، ولا في الديانة ؛ لأن العود في الصدقة هو انتزاعها وردها إلى نفسه بغير حق ، وإبطال صدقته بها فقط ، والحاضرون من المخالفين يجيزون أن يملكها المتصدق بها بالميراث ، وقد عادت إلى ملكه كما عادت بالشراء ولا فرق ؛ فصح أن العود هو ما ذكرنا فقط . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا آدم ثنا الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي عن الأسود { عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : أتي رسول الله ﷺ بلحم ، فقلت : هذا مما تصدق به على بريرة . فقال : هو لها صدقة ولنا هدية } حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا الزهري أنه سمع عبيد الله السباق أنه سمع { جويرية أم المؤمنين تقول : دخل علي رسول الله ﷺ فقال : هل من طعام ؟ فقلت : لا ، إلا عظما أعطيته مولاة لنا من الصدقة فقال : قربيه فقد بلغت محلها } . ولا خلاف في أن الصدقة حرام عليه ﷺ فقد استباحها بعد بلوغها محلها ، إذ رجعت إليه بالهدية . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا أبو داود ثنا الحسن بن علي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ : { لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل كان له جار مسكين ، فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني . } فهذا نص من النبي ﷺ بجواز ابتياع الصدقة ، ولم يخص المتصدق بها من غيره . وروينا عن أبي هريرة قال : لا تشتر الصدقة حتى تعقل - : يعني حتى تؤديها - : وهذا نص قولنا ، وعن ابن عباس في الصدقة قال : إن اشتريتها أو ردت عليك ، أو ورثتها حلت لك ، وعن عمر بن الخطاب قال : من تصدق بصدقة فلا يبتاعها حتى تصير إلى غير الذي تصدق بها عليه قال أبو محمد : فهذا عمر يجيز للمتصدق بالصدقة ابتياعها إذا انتقلت عن الذي تصدق بها عليه إلى غيره ؛ ولا فرق عندنا بين الأمرين ، وقولنا هذا هو قول عكرمة ، ومكحول وبه يقول أبو حنيفة ، والأوزاعي ، وأجازه الشافعي ولم يستحبه ، ومنع منه مالك ، وأجاز رجوعها إليه بالميراث . وروينا عن ابن عمر : أنه كان إذا تصدق بشيء فرجع إليه بالميراث تصدق به ، ويفتي بذلك ، فخرج قول مالك عن أن يكون له من الصحابة رضي الله تعالى عنهم موافق .
700 - مسألة : قال أبو محمد : ولا شيء في المعادن ، وهي فائدة ، لا خمس فيها ولا زكاة معجلة ، فإن بقي الذهب ، والفضة عند مستخرجها حولا قمريا ، وكان ذلك مقدار ما تجب فيه الزكاة - : زكاه ، وإلا فلا . وقال أبو حنيفة : عليه في معادن الذهب ، والفضة ، والنحاس ، والرصاص ، والقزدير ، والحديد - : الخمس ، سواء كان في أرض عشر أو في أرض خراج ، سواء أصابه مسلم ، أو كافر ، عبد ، أو حر . قال : فإن كان في داره فلا خمس فيه ، ولا زكاة ، ولا شيء فيما عدا ذلك من المعادن - واختلف قوله في الزئبق ، فمرة رأى فيه الخمس ، ومرة لم ير فيه شيئا ، وقال مالك : في معادن الذهب ، والفضة : الزكاة معجلة في الوقت إن كان مقدار ما فيه الزكاة ولا شيء في غيرها ، ولا يسقط الزكاة في ذلك دين يكون عليه ؛ فإن كان الذي أصاب في معدن الذهب ، أو الفضة ندرة بغير كبير عمل ففي ذلك الخمس . قال أبو محمد : احتج من رأى فيه الخمس بالحديث الثابت : { وفي الركاز الخمس } وذكروا حديثا من طريق عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن جده عن أبي هريرة : { أن رسول الله ﷺ سئل عن الركاز . فقال : هو الذهب الذي خلقه الله في الأرض يوم خلق السماوات والأرض } . قال أبو محمد : هذا حديث ساقط ؛ لأن عبد الله بن سعيد متفق على إطراح روايته ثم لو صح لكان في الذهب خاصة . فإن قالوا : قسنا سائر المعادن المذكورة على الذهب . قلنا لهم : فقيسوا عليه أيضا معادن الكبريت ، والكحل ، والزرنيخ ، وغير ذلك ؟ فإن قالوا : هذه حجارة . قلنا : فكان ماذا ؟ ومعدن الفضة ، والنحاس أيضا حجارة ولا فرق وأما الركاز فهو دفن الجاهلية فقط ؛ لا المعادن ، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك . والعجب كله احتجاج بعضهم في هذا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده { عن النبي ﷺ في اللقطة ما كان منها في الخراب والأرض الميتاء ففيه وفي الركاز الخمس } وهم لا يقولون بهذا ، وهذا كما ترى ، ولو كان المعدن ركازا لكان الخمس في كل شيء من المعادن ، كما أن الخمس في كل دفن للجاهلية ، أي شيء كان ؛ فظهر فساد قولهم وتناقضهم ؟ لا سيما في إسقاطهم الزكاة المفروضة بالخراج ، ولم يسقطوا الخمس في المعادن بالخراج وأوجبوا فيها خمسا في أرض العشر ، وعلى الكافر ، والعبد وفرقوا بين المعدن في الدار وبينه خارج الدار ، ولا يعرف كل هذا عن أحد قبلهم وهم يقولون : برد الأخبار الصحاح إذا خالفت الأصول وحكمهم هاهنا مخالف للأصول . فإن قالوا : قد روي عن علي : أن فيه الخمس . قلنا : أنتم أول مخالف لهذا الحكم إن كان حجة ؛ لأن الخبر إنما هو في رجل استخرج معدنا فباعه بمائة شاة ، وأخرج المشتري منه ثمن ألف شاة فرأى علي الخمس على المشتري ؛ لا على المستخرج له . وأما من رأى فيه الزكاة فاحتجوا - بحديث مالك عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطع لبلال بن الحارث معادن القبلية - وهي في ناحية الفرع } . قال : فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم . قال أبو محمد : وليس هذا بشيء لأنه مرسل ، وليس فيه مع إرساله إلا إقطاعه عليه السلام تلك المعادن فقط ، وليس فيه أنه عليه السلام أخذ منها الزكاة ، ثم لو صح لكان المالكيون أول مخالف له ؛ لأنهم رأوا في الندرة تصاب فيه بغير كبير عمل : الخمس ؛ وهذا خلاف ما في هذا الخبر . ويسألون أيضا عن مقدار ذلك العمل الكبير وحد الندرة ؟ ولا سبيل إليه إلا بدعوى لا يجوز الاشتغال بها - فظهر أيضا فساد هذا القول وتناقضه . وقالوا أيضا : المعدن كالزرع يخرج شيء بعد شيء . قال علي : قياس المعدن على الزرع كقياسه على الزكاة ، وكل ذلك باطل ولو كان القياس حقا لتعارض هذان القياسان ؛ وكلاهما فاسد ، أما قياسه على الركاز فيلزمهم ذلك في كل معدن ؛ وإلا فقد تناقضوا ، وأما قياسه على الزرع فيلزمهم أن يراعوا فيه خمسة أوسق وإلا فقد تناقضوا ، ويلزمهم أيضا أن يقيسوا كل معدن - من حديد أو نحاس - على الزرع ، واحتج كلتا الطائفتين بالخبر الثابت من طريق مسلم عن قتيبة ؛ ثنا عبد الواحد عن عمارة بن القعقاع ثنا عبد الرحمن بن أبي نعم قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : { بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله ﷺ بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها ، فقسمها بين أربعة نفر : عيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وزيد الخير ، وذكر رابعا ، وهو علقمة بن علاثة } . فقال من رأى في المعدن الزكاة : هؤلاء من المؤلفة قلوبهم ، وحقهم في الزكاة لا في الخمس ؛ وقال الآخرون : علي من بني هاشم ، ولا يحل له النظر في الصدقة ، وإنما النظر في الأخماس . قال علي : كلا القولين دعوى فاسدة ، ولو كانت تلك الذهب من خمس واجب ، أو من زكاة لما جاز ألبتة أخذها إلا بوزن وتحقيق ، لا يظلم معه المعطي ولا أهل الأربعة الأخماس ؛ فلما كانت لم تحصل من ترابها صح يقينا أنها ليست من شيء من ذلك ، وإنما كانت هدية من الذي أصابها ، أو من وجه غير هذين الوجهين ، فأعطاها عليه السلام من شاء ، وقد قدمنا أنه لا زكاة في مال غير الزرع إلا بعد الحول ، والمعدن من جملة الذهب والفضة ؛ فلا شيء فيها إلا بعد الحول ، وهذا قول الليث بن سعد ، وأحد أقوال الشافعي ، وقول أبي سليمان ، ورأى مالك أن من ظهر في أرضه معدن فإنه يسقط ملكه عنه ، ويصير للسلطان ، وهذا قول في غاية الفساد ؛ بلا برهان من قرآن ، ولا سنة صحيحة ، ولا رواية سقيمة ، ولا إجماع ؛ ولا قول صاحب ، ولا رأي له وجه ، وعلى هذا إن ظهر في مسجد أن يصير ملكه للسلطان ويبطل حكمه ولو أنه الكعبة وهذا في غاية الفساد . وقال رسول الله ﷺ { : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام . } ، فصح أن من ظهر في أرضه معدن فهو له ، يورث عنه ويعمل فيه ما شاء .
701 - مسألة : ولا تؤخذ زكاة من كافر لا مضاعفة ولا غير مضاعفة ، لا من بني تغلب ولا من غيرهم - وهو قول مالك ؟ وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، كذلك إلا في بني تغلب خاصة ؛ فإنهم قالوا : تؤخذ منهم الزكاة مضاعفة ، واحتجوا بخبر واه مضطرب في غاية الاضطراب ، رويناه من طريق أبي إسحاق الشيباني عن السفاح بن مطر عن داود بن كردوس التغلبي قال : صالحت عمر بن الخطاب عن بني تغلب - بعد أن قطعوا الفرات وأرادوا اللحوق بالروم - على أن لا يصبغوا صبيا ولا يكرهوا على غير دينهم على أن عليهم العشر مضاعفا في كل عشرين درهما درهم قال داود بن كردوس : ليس لبني تغلب ذمة ، قد صبغوا في دينهم ؟ ومن طريق هشيم عن المغيرة بن مقسم عن السفاح بن المثنى عن زرعة بن النعمان أو النعمان بن زرعة : أنه كلم عمر في بني تغلب وقال له : إنهم عرب يأنفون من الجزية ، فلا تعن عدوك بهم ؛ فصالحهم عمر على أن أضعف عليهم الصدقة ، فاشترط عليهم : أن لا ينصروا أولادهم . قال مغيرة فحدثت أن علي بن أبي طالب قال : لئن تفرغت لبني تغلب لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذراريهم ؛ فقد نقضوا ، وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم . وروي أيضا من طريق عبد السلام بن حرب فقال : فيه عن داود بن كردوس عن عمارة بن النعمان ، وذكر مثله سواء سواء ، وذكر أنهم لا ذمة لهم اليوم . وروينا أيضا من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث عن يونس بن يزيد عن الزهري : لا نعلم في مواشي أهل الكتاب صدقة إلا الجزية غير أن نصارى بني تغلب - الذين جل أموالهم المواشي - تضعف عليهم حتى تكون مثلي الصدقة . هذا كل ما موهوا به ، ولو كان هذا الخبر عن رسول الله ﷺ لما حل الأخذ به لانقطاعه وضعف رواته ، فكيف وليس هو عن رسول الله ﷺ . فكيف وقد خالفوا هذا الخبر نفسه وهدموا به أكثر أصولهم لأنهم يقولون : لا يقبل خبر الآحاد الثقات التي لم يجمع عليها فيما إذا كثرت به البلوى ، وهذا أمر تكثر به البلوى ، ولا يعرفه أهل المدينة وغيرهم ، فقبلوا فيه خبرا لا خير فيه ، وهم قد ردوا بأقل من هذا خبر الوضوء من مس الذكر ، ويقولون : لا يقبل خبر الآحاد الثقات إذا كان زائدا على ما في القرآن أو مخالفا له ، وردوا بهذا حديث اليمين مع الشاهد ، وكذبوا ما هو مخالف لما في القرآن ، ولا خلاف للقرآن أكثر من قول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } فقالوا هم : إلا بني تغلب فلا يؤدون الجزية ( ولا صغار عليهم ؛ بل يؤدون الصدقة مضاعفة ؛ فخالفوا القرآن ، والسنن المنقولة نقل الكافة ) بخبر لا خير فيه ، وقالوا : لا يقبل خبر الآحاد الثقات إذا خالف الأصول ، وردوا بذلك خبر القرعة في الأعبد الستة ، وخبر المصراة ، وكذبوا ما هما مخالفين للأصول بل هما أصلان من كبار الأصول ، وخالفوا هاهنا جميع الأصول في الصدقات ، وفي الجزية بخبر لا يساوي بعرة ، وتعللوا بالاضطراب في أخبار الثقات ، وردوا خبر { لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان } وخبر { لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا } وأخذوا هاهنا بأسقط خبر وأشده اضطرابا ، لأنه يقول رواية مرة : عن السفاح بن مطر ، ومرة : عن السفاح بن المثنى ، ومرة عن داود بن كردوس أنه صالح عمر عن بني تغلب ومرة : عن داود بن كردوس عن عبادة بن النعمان ، أو زرعة بن النعمان ، أو النعمان بن زرعة أنه صالح عمر ؟ ومع شدة هذا الاضطراب المفرط فإن جميع هؤلاء لا يدري أحد من هم من خلق الله تعالى ؟ وكم من قضية خالفوا فيها عمر ، ككلامه مع عثمان في الخطبة ، ونفيه في الزنى وإغرامه في السرقة قبل القطع ، وغير ذلك ، وقد صح عن عمر - بأصح طريق - من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي عن زياد بن حدير قال : أمرني عمر بن الخطاب أن آخذ من نصارى بني تغلب العشر ، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر . قال أبو محمد : فكما لم يسقط أخذ نصف العشر من أهل الكتاب الجزية عنهم فكذلك لا يسقط أخذ العشر من بني تغلب أيضا الجزية عنهم ، وهذا أصح قياس ، لو كان شيء من القياس صحيحا ، فقد خالفوا القياس أيضا ، ثم لو صح وثبت لكانوا قد خالفوه ؛ لأن جميع من رووه عنه - أولهم عن آخرهم - يقولون كلهم : إن بني تغلب قد نقضوا تلك الذمة ؛ فبطل ذلك الحكم ، ورووا ذلك أيضا - عن علي ، فخالفوا : عمر وعليا ، والخبر الذي به احتجوا والقرآن والسنن - في أخذ الجزية من كل كتابي في أرض العرب وغيرها ، كهجر ، واليمن ، وغيرهما - وفعل الصحابة رضي الله عنهم ، والقياس ، ونعوذ بالله من الخذلان .
702 - مسألة : ولا يجوز أخذ زكاة ولا تعشير مما يتجر به تجار المسلمين ، ولا من كافر أصلا - تجر في بلاده أو في غير بلاده - إلا أن يكونوا صولحوا على ذلك مع الجزية في أصل عقدهم ، فتؤخذ حينئذ منهم وإلا فلا ، أما المسلمون فقد ذكرنا قبل أنه لا زكاة عليهم في العروض - لتجارة كانت أو لغير تجارة - وأما الكفار فإنما أوجب الله تعالى عليهم الجزية فقط ؛ فإن كان ذلك صلحا مع الجزية فهو حق وعهد صحيح ، وإلا فلا يحل أخذ شيء من أموالهم بعد صحة عقد الذمة بالجزية والصغار ، ما لم ينقضوا العهد - وبالله تعالى التوفيق ، وقال أبو حنيفة : يؤخذ من أهل الذمة إذا سافروا نصف العشر في الحول مرة فقط ولا يؤخذ منهم من أقل من مائتي درهم شيء ، وكذلك يؤخذ من الحربي العشر إذا بلغ مائتي درهم ، وإلا فلا ؛ إلا إن كانوا لا يأخذون من تجارنا شيئا فلا نأخذ من تجارهم شيئا ؟ قال مالك : يؤخذ من أهل الذمة العشر إذا تجروا إلى غير بلادهم - مما قل أو كثر - إذا باعوا ، ويؤخذ منهم في كل سفرة كذلك ، ولو مررا في السنة ، فإن تجروا في بلادهم لم يؤخذ منهم شيء ، ويؤخذ من الحربيين كذلك إلا فيما حملوا إلى المدينة خاصة من الحنطة ، والزبيب خاصة ، فإنه لا يؤخذ منهم إلا نصف العشر فقط . قال أبو محمد : احتجوا في ذلك بما روي من طريق معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد : كنت أعشر مع عبد الله بن عتبة زمن عمر بن الخطاب ، فكان يأخذ من أهل الذمة أنصاف عشر أموالهم فيما تجروا به ؟ وبحديث أنس بن سيرين عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب : خذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما ، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما ، وممن لا ذمة له من كل عشرة دراهم درهما . ومن طريق زياد بن حدير : أمرني عمر بأن آخذ من بني تغلب العشر ، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر . ومن طريق مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد قال : كنت غلاما مع عبد الله بن عتبة على سوق المدينة زمان عمر بن الخطاب ، فكان يأخذ من النبط العشر ؟ قال أبو محمد : هذا كله لا حجة فيه ، لأنه ليس عن رسول الله ﷺ . وأيضا - فرب قضية خالفوا فيها عمر قد ذكرناها آنفا ، وليس يجوز أن يكون بعض حكم عمر حجة وبعضه ليس بحجة ، وأيضا - فإن هذه الآثار مختلفة عن عمر ، في بعضها العشر من أهل الكتاب ، وفي بعضها نصف العشر ، فما الذي جعل بعضها أولى من بعض ، وقد خالف المالكيون هذه الآثار في تفريقهم بين تجارتهم في أقطار بلادهم أو غيرها ، وخالفها الحنفيون في وضعهم ذلك مرة في العام فقط ، وذلك في هذه الآثار ، وذكروا في ذلك خبرا فاسدا من طريق ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران : أن عمر كتب إلى أيوب بن شرحبيل : خذ من المسلمين من كل أربعين دينارا دينارا ، ومن أهل الكتاب من كل عشرين دينارا دينارا ، إذا كانوا يديرونها ، ثم لا تأخذ منهم شيئا حتى رأس الحول ، فإني سمعت ذلك ممن سمعه ممن سمع النبي ﷺ ( قال أبو محمد : وهذا عن مجهولين ، وليس أيضا فيه بيان أنه سمع من النبي ﷺ ) قال أبو محمد : فكيف وقد روينا عن عمر رضي الله عنه بيان هذا كله ، كما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد ثنا الأنصاري هو القاضي محمد بن عبد الله بن المثنى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي مجلز قال : بعث عمر : عمارا ، وابن مسعود ، وعثمان بن حنيف إلى الكوفة - فذكر الحديث وفيه - : أن عثمان بن حنيف مسح الأرض فوضع عليها كذا وكذا ، وجعل في أموال أهل الذمة الذين يختلفون بها من كل عشرين درهما درهما وجعل على رءوسهم - وعطل من ذلك النساء والصبيان - : أربعة وعشرين ثم كتب بذلك إلى عمر فأجازه . فصح أن هذا كان في أصل العهد والعقد وذمتهم ، وبه إلى أبي عبيد : ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري عن عبد الله بن خالد العبسي قال : سألت زياد بن حدير : من كنتم تعشرون ؟ قال ما كنا نعشر مسلما ولا معاهدا ، كنا نعشر تجار أهل الحرب كما يعشروننا إذا أتيناهم . فصح أنه لم يكن يؤخذ ذلك ممن لم يعاقد على ذلك . وبه إلى أبي عبيد : ثنا معاوية عن الأعمش عن شقيق بن سلمة عن مسروق قال : والله ما عملت عملا أخوف عندي أن يدخلني النار من عملكم هذا ، وما بي أن أكون ظلمت فيه مسلما أو معاهدا دينارا ولا درهما ، ولكن لا أدري ما هذا الحبل الذي لم يسنه رسول الله ﷺ ولا أبو بكر ، ولا عمر ؟ قالوا : فما حملك على أن دخلت فيه ؟ قال : لم يدعني زياد ، ولا شريح ، ولا الشيطان ، حتى دخلت فيه . قال أبو محمد : فصح أنه عمل محدث ولا يجوز أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه تعدى ما كان في عقدهم ؛ كما لا يظن به في أمره أن يؤخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهم أنه فيما هو أقل من مائتي درهم - وبالله تعالى التوفيق .
703 - مسألة : وليس في شيء مما أصيب من العنبر والجواهر والياقوت والزمرد - بحريه وبريه - : شيء أصلا ، وهو كله لمن وجده . وقد روي من طريق الحسن بن عمارة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب : أن في العنبر ، وفي كل ما استخرج من حلية البحر : الخمس وبه يقول أبو يوسف . قال أبو محمد : الحسن بن عمارة مطرح . وقد صح عن ابن عباس أنه قال في العنبر : إن كان فيه شيء ففيه الخمس ، من طريق سفيان بن عيينة عن طاوس عن أبيه عن ابن عباس لا شيء فيه . قال أبو محمد : قال رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . فصح أنه لا يحل إغرام مسلم شيئا بغير نص صحيح ، وكان - بلا خلاف - كل ما لا رب له فهو لمن وجده - وبالله تعالى التوفيق .