محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الثانية والثلاثون
كتاب الزكاة
705 - مسألة : ويؤديها المسلم عن رقيقه ، مؤمنهم وكافرهم ، من كان منهم لتجارة أو لغير تجارة كما ذكرنا . وهو قول أبي حنيفة ، وسفيان الثوري في الكفار ؟ وقال مالك ، والشافعي ، وأبو سليمان : لا تؤدى إلا عن المسلمين منهم وقال أبو حنيفة : لا تؤدى زكاة الفطر عن رقيق التجارة . وقال مالك والشافعي ، وأبو سليمان : تؤدى عنهم زكاة الفطر . وقالوا كلهم - حاشا أبا سليمان - : يخرجها السيد عنهم ، وبه نقول وقال أبو سليمان : يخرجها الرقيق عن أنفسهم . واحتج من لم ير إخراجها عن الرقيق الكفار بما روي عن رسول الله ﷺ { فرض رسول الله ﷺ صدقة الفطر على حر ، أو عبد ذكر أو أنثى ، صغير أو كبير من المسلمين } . قال أبو محمد : وهذا صحيح ، وبه نأخذ ، إلا أنه ليس فيه إسقاطها عن المسلم في الكفار من رقيقه ولا إيجابها ، فلو لم يكن إلا هذا الخبر وحده لما وجبت علينا زكاة الفطر إلا عن المسلمين من رقيقنا فقط . ولكن وجدنا حدثناه يوسف بن عبد الله النمري قال ثنا عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي القاضي ثنا يحيى بن مالك بن عائذ ثنا محمد بن سليمان بن أبي الشريف ثنا محمد بن مكي الخولاني ، وإبراهيم بن إسماعيل الغافقي قالا جميعا : ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثنا سعيد بن أبي مريم أخبرني نافع بن يزيد عن جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { ليس على المسلم في فرسه وعبده صدقة ، إلا صدقة الفطر في الرقيق } وقد رويناه من غير هذه الطريق . قال أبو محمد : فأوجب عليه الصلاة والسلام صدقة الفطر على المسلم في رقيقه عموما ، فكان هذا زائدا على حديث أبي سعيد الخدري ، وكان باقي حديث أبي سعيد بعض ما في هذا الحديث ، لا معارضا له أصلا ، فلم يجز خلاف هذا الخبر . وبهذا الخبر تأدية زكاة الفطر على السيد عن رقيقه ، لا على الرقيق ؟ وبه أيضا يسقط ما ادعوه من زكاة التجارة في الرقيق ، لأنه عليه السلام أبطل كل زكاة في الرقيق إلا زكاة الفطر ؟ والعجب كل العجب من أن أبا حنيفة وأصحابه أتوا إلى زكاتين مفروضتين ، إحداهما في المواشي ، والأخرى زكاة الفطر في الرقيق - : فأسقطوا بإحداهما زكاة التجارة في المواشي المتخذة للتجارة ، وأسقطوا الأخرى بزكاة التجارة في الرقيق وحسبك بهذا تلاعبا ؟ والعجب أنهم غلبوا ما روي في بعض الأخبار { في سائمة الغنم في كل أربعين شاة شاة } ولم يغلبوا ما جاء في بعض الأخبار في أن { صدقة الفطر على كل حر أو عبد صغير أو كبير أو أنثى من المسلمين } على ما جاء في سائر الأخبار { إلا صدقة الفطر في الرقيق } وهذا تحكم فاسد وتناقض ولا بد من تغليب الأعم على الأخص في كل موضع ، إلا أن يأتي بيان نص في الأخص بنفي ذلك الحكم في الأعم - وبالله تعالى التوفيق .
706 - مسألة : فإن كان عبد أو أمة بين اثنين فصاعدا فعلى سيديهما إخراج زكاة الفطر ، يخرج عن كل واحد من مالكيه بقدر حصته ، وكذلك إن كان الرقيق كثيرا بين سيدين فصاعدا ؟ وقال أبو حنيفة ، والحسن بن حي ، وسفيان الثوري : ليس على سيديه ولا عليه أداء زكاة الفطر ، وكذلك لو كثر الرقيق المشترك ؟ وقال مالك ، والشافعي : يخرج عنه سيداه بقدر ما يملك كل واحد منهما ، وكذلك لو كثر الرقيق ؟ قال أبو محمد : ما نعلم لمن أسقط عنه صدقة الفطر وعن سيده حجة أصلا ، إلا أنهم قالوا : ليس أحد من سيديه يملك عبدا ، ولا أمة - وقال بعضهم : من ملك بعض الصاع لم يكن عليه أداؤه ، فكذلك من ملك بعض عبد ، أو بعض كل عبد ، أو أمة من رقيق كثير ؟ قال أبو محمد : أما قولهم : لا يملك عبدا ، ولا أمة فصدقوا ، ولا حجة لهم فيه ، لأن رسول الله ﷺ لم يقل : يخرجها كل أحد عن عبده وأمته ، وإنما قال { ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق } فهؤلاء رقيق ، والعبد المشترك رقيق ، فالصدقة فيه واجبة بنص الخبر المذكور على المسلم ، وهذا اسم يعم النوع كله وبعضه ، ويقع على الواحد والجميع ، وبهذا النص لم يجز في الرقبة الواجبة نصفا رقبتين ، لأنه لا يقع عليهما اسم " رقبة " والنص جاء بعتق رقبة ؟ وقال الحنفيون : من أعطى نصفي شاتين في الزكاة أجزأته ، ولو أعتق نصفي رقبتين في رقبة واحدة لم يجزه ؟ وقال محمد بن الحسن : من كان من مملوك بين اثنين فصاعدا فعلى ساداته فيه زكاة الفطر ؛ فإن كان عبدان فصاعدا عن اثنين فلا صدقة فطر على الرقيق ولا على من يملكهم ؟ وأما قولهم : إنه قياس على من لم يجد إلا بعض الصاع فالقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنه قياس للخطأ على الخطأ ، بل من قدر على بعض صاع لزمه أداؤه ، على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى . وقد روينا من طريق وكيع عن سفيان عن أبي الحويرث عن محمد بن عمار عن أبي هريرة قال : ليس زكاة الفطر إلا عن مملوك تملكه ، قال وكيع : يعني في المملوك بين الرجلين ، وهذا مما خالف فيه المالكيون صاحبا لا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف ، وهذا مما خالف فيه الحنفيون حكم رسول الله ﷺ في إيجابه صدقة الفطر على كل حر ، وعبد ، صغير ، وكبير ذكر أو أنثى ، وخالفوا فيه القياس ؛ لأنهم أوجبوا الزكاة في الغنم المشتركة وأسقطوا زكاة الفطر عن الرقيق المشترك .
707 مسألة : وأما المكاتب الذي لم يؤد شيئا من كتابته فهو عبد ، يؤدي سيده عنه زكاة الفطر . فإن أدى من كتابته ما قل أو كثر ، أو كان عبد بعضه حر وبعضه رقيق ، أو أمة كذلك - : فإن الشافعي قال فيمن بعضه حر وبعضه مملوك : على مالك بعضه إخراج صدقة الفطر عنه بمقدار ما يملك منه ؛ وعليه أن يخرج عن نفسه بمقدار ما فيه من الحرية ، ولم يرد على سيد المكاتب أن يعطي زكاة الفطر عن مكاتبه . وقال مالك : يؤدي السيد زكاة الفطر عن مكاتبه وعن مقدار ما يملك عن الذي بعضه حر وبعضه رقيق وليس على الذي بعضه رقيق وبعضه حر أن يخرج باقي الصاع عن بعضه الحر . وقال أبو حنيفة : لا تجب زكاة الفطر في شيء من ذلك ، لا على المكاتب ولا على سيده . واحتج من لم ير على السيد أداء الزكاة عن مكاتبه برواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أنه كان يؤدي زكاة الفطر عن رقيقه ورقيق امرأته ، وكان له مكاتب فكان لا يؤدي عنه ، وكان لا يرى على المكاتب زكاة . قالوا : وهذا صاحب لا مخالف له يعرف من الصحابة . قال أبو محمد : لا حجة فيمن دون رسول الله ﷺ والعجب كل العجب أن الحنفيين المحتجين بهذا الأثر أول مخالف له فلم يوجبوا على المرء إخراج صدقة الفطر عن رقيق امرأته ومن العجب أن يكون فعل ابن عمر بعضه حجة وبعضه ليس بحجة فإن قالوا : لعله كان يتطوع بإخراجها عن رقيق المرأة ؟ قيل : ولعل ذلك المكاتب كلفه إخراجها من كسبه ، كما للمرء أن يكلف ذلك عبده ، كما يكلفه الضريبة ؛ ولعله كان يرى أن يخرجها المكاتب عن نفسه ؛ ولعله قد رجع عن قوله في ذلك ، فكل هذا يدخل فيه " لعل " . وأما قول مالك فظاهر الخطأ ؛ لأنه جعل زكاة الفطر نصف صاع ؛ أو عشر صاع ، أو تسعة أعشار صاع فقط ، وهذا خلاف ما أوجبه الله تعالى فيها ، وأوجبها على بعض إنسان دون سائره ، وهذا خلاف ما أوجبه الله تعالى فيها ؟ وأما قول الشافعي فخطأ ؛ لأنه أوجب الزكاة في الفطر فيمن لا يقع عليه اسم رقيق ممن بعضه حر وبعضه عبد ، وهذا ما لم يأت به نص ولا إجماع . قال أبو محمد : والحق من هذا أن رسول الله ﷺ أوجبها على الحر ، والعبد ، والذكر ، والأنثى ، والصغير ، والكبير من المسلمين ، فمن بعضه حر وبعضه عبد فليس حرا ، ولا هو أيضا عبد ، ولا هو رقيق ، فسقط بذلك عن أن يجب على مالك بعضه عنه شيء ، ولكنه ذكر ، أو أنثى ، صغير ، أو كبير فوجبت عليه صدقة الفطر عن نفسه ولا بد بهذا النص . وهو قول أبي سليمان - وبالله تعالى التوفيق . وأما قولنا في المكاتب يؤدي بعض كتابته إنه يؤديها عن نفسه - : فهو لأن بعضه حر وبعضه مملوك كما ذكرنا ؛ فإذ هو كذلك كما ذكرنا فعليه إخراجها عن نفسه لما ذكرنا ؟ حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن عيسى الدمشقي ثنا يزيد هو ابن هارون - أنا حماد بن سلمة عن أيوب السختياني ، وقتادة ، قال قتادة : عن خلاس عن علي بن أبي طالب ، وقال أيوب : عن عكرمة عن ابن عباس ، ثم اتفق علي ، وابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال : { المكاتب يعتق منه بمقدار ما أدى ويقام عليه الحد بمقدار ما عتق منه } وهذا إسناد في غاية الصحة ؟ وهو قول علي بن أبي طالب وغيره . وروينا عن الحسن : أن على المكاتب صدقة الفطر . وعن ميمون بن مهران ، وعطاء : يؤديها عنه سيده .
708 - مسألة : ولا يجزئ إخراج بعض الصاع شعيرا وبعضه تمرا ، ولا تجزئ قيمة أصلا ؛ لأن كل ذلك غير ما فرض رسول الله ﷺ والقيمة في حقوق الناس لا تجوز إلا بتراض منهما ، وليس للزكاة مالك بعينه فيجوز رضاه ، أو إبراؤه .
709 - مسألة : وليس على الإنسان أن يخرجها عن أبيه ، ولا عن أمه ، ولا عن زوجته ، ولا عن ولده ، ولا أحد ممن تلزمه نفقته ، ولا تلزمه إلا عن نفسه ، ورقيقه فقط . ويدخل في : الرقيق أمهات الأولاد ، والمدبرون ، غائبهم وحاضرهم . وهو قول أبي حنيفة ، وأبي سليمان ، وسفيان الثوري ، وغيرهم . وقال مالك ، والشافعي : يخرجها عن زوجته ، وعن خادمها التي لا بد لها منها ولا يخرجها عن أجيره . وقال الليث : يخرجها عن زوجته ، وعن أجيره الذي ليست أجرته معلومة ، فإن كانت أجرته معلومة فلا يلزمه إخراجها عنه ، ولا عن رقيق امرأته . قال أبو محمد : ما نعلم لمن أوجبها على الزوج عن زوجته وخادمها إلا خبرا رواه إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه { أن رسول الله ﷺ فرض صدقة الفطر على كل حر ، أو عبد ، ذكر ، أو أنثى ، ممن تمونون } . قال أبو محمد : وفي هذا المكان عجب عجيب وهو أن الشافعي لا يقول بالمرسل ، ثم أخذ هاهنا بأنتن مرسل في العالم ، من رواية ابن أبي يحيى . وحسبنا الله ونعم الوكيل . وأبو حنيفة وأصحابه يقولون : المرسل كالمسند ، ويحتجون برواية كل كذاب ، وساقط ؛ ثم تركوا هذا الخبر وعابوه بالإرسال وبضعف راويه وتناقضوا فقالوا : لا يزكي زكاة الفطر عن زوجته ، وعليه - فرض - أن يضحي عنها فحسبكم بهذا تخليطا . وأما تقسيم الليث فظاهر الخطأ . وأما المالكيون فاحتجوا بهذا الخبر ثم خالفوه ؛ فلم يروا أن يؤدي زكاة الفطر عن الأجير ، وهو ممن يمون ؟ قال أبو محمد : إيجاب رسول الله ﷺ زكاة الفطر على الصغير ، والكبير ، والحر ، والعبد ، والذكر ، والأنثى : هو إيجاب لها عليهم ، فلا تجب على غيرهم فيه إلا من أوجبه النص ، وهو الرقيق فقط ، قال تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } . قال أبو محمد : وواجب على ذات الزوج إخراج زكاة الفطر عن نفسها وعن رقيقها ، بالنص الذي أوردنا - وبالله تعالى التوفيق ؟
710 - مسألة : ومن كان من العبيد له رقيق فعليه إخراجها عنهم لا على سيده ، لما ذكرنا من قول رسول الله ﷺ : { ليس على المسلم في فرسه ، ولا عبده صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق } . فالعبد مسلم وهو رقيق لغيره ، وله رقيق ، فعلى من هو له رقيق أن يخرجها عنه ؛ وعليه أن يخرجها عن رقيقه بالنص المذكور - وبالله تعالى التوفيق . فإن قيل : كيف لا يلزمه عن نفسه وتلزمه عن غيره ؟ قلنا : كما حكم في ذلك رب العالمين على لسان نبيه ﷺ . ثم نقول للمالكيين ، والشافعيين : أنتم تقولون بهذا حيث تخطئون ، فتقولون : إن الزوجة لا تخرجها عن نفسها ، وعليها أن تخرجها عن رقيقها حاشا من لا بد لها منه لخدمتها ؟ ولوددنا أن نعرف ما يقول الحنفيون في نصراني أسلمت أم ولده أو عبده فحبس ليباع فجاء الفطر ، على من صدقة الفطر عنهما ؟ وهاتان المسألتان لا تقعان في قولنا أبدا ؛ لأنه ساعة تسلم أم ولده أو عبده : عتقا في الوقت .
711 - مسألة : ومن له عبدان فأكثر فله أن يخرج عن أحدهما تمرا وعن الآخر شعيرا ، صاعا صاعا . وإن شاء التمر عن الجميع ، وإن شاء الشعير عن الجميع ؛ لأنه نص الخبر المذكور ؟
712 - مسألة : وأما الصغار فعليهم أن يخرجها الأب ، والولي عنهم من مال إن كان لهم ، وإن لم يكن لهم مال فلا زكاة فطر عليهم حينئذ ، ولا بعد ذلك ؟ وقال أبو حنيفة : يؤديها الأب عن ولده الصغار الذين لا مال لهم ؛ فإن كان لهم مال ، فإن أداها من مالهم كرهت له ذلك وأجزأه ؟ قال : ويؤديها عن اليتيم وصيه من مال اليتيم ، وعن رقيق اليتيم أيضا ؟ وقال زفر ، ومحمد بن الحسن : ليس على اليتيم زكاة الفطر ، كان له مال ، أو لم يكن ؛ فإن أداها وصيه ضمنها ؟ وقال مالك : على الأب أن يؤدي زكاة الفطر عن ولده الصغار إن لم يكن لهم مال ، فإن كان لهم مال فهي في أموالهم ؛ وهي على اليتيم في ماله . وهو قول الشافعي . ولم يختلفوا في أن الأب لا يؤديها عن ولده الكبار ، كان لهم مال ، أو لم يكن . قال أبو محمد : ما نعلم لهم حجة أصلا ، إلا الدعوى : في أن القصد بذكر الصغار إنما هو إلى آبائهم لا إليهم ؟ قال أبو محمد : وهذه دعوى في غاية الفساد ، لأنه إذا لم يقصد بالخطاب إليهم في إيجاب زكاة الفطر ، وإنما قصد إلى غيرهم - : فمن جعل الآباء مخصوصين بذلك دون سائر الأولياء ، والأقارب ، والجيران ، والسلطان ؟ فإن قالوا : لأن الأب ينفق عليهم رجع الحنيفيون إلى ما أنكروا من ذلك ؟ ويلزم المالكيين ، والشافعيين في هذا أن يؤديها الأب - أحب أم كره - عنهم ، كان لهم مال ، أو لم يكن ؛ لأنه هو المخاطب بذلك دونهم . فوضح فساد هذا القول بيقين . والحق في هذا أن الله تعالى فرضها على لسان نبيه ﷺ على : الكبير ، والصغير ، فمن فرق بين حكميهما فقد قال الباطل ، وادعى على رسول الله ﷺ ما لم يقله ، ولا دل عليه ؟ ثم وجدنا الله تعالى يقول : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . وقال رسول الله ﷺ : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } . فوجدنا من لا مال له - من كبير أو صغير - ليس في وسعه أداء زكاة الفطر ؛ فقد صح أنه لم يكلفها قط ، ولما كان لا يستطيعها لم يكن مأمورا بها ، بنص كلامه عليه الصلاة والسلام وهي لازمة لليتيم إذا كان له مال ، وإنما قلنا : إنها لا تلزمه بعد ذلك فلأن زكاة الفطر محدودة بوقت محدود الطرفين ، بخلاف سائر الزكوات ، فلما خرج وقتها لم يجز أن تجب بعد خروج وقتها وفي غير وقتها ؛ لأنه لم يأت بإيجابها بعد ذلك نص ولا إجماع - وبالله تعالى التوفيق .
713 - مسألة : والذي لا يجد من أين يؤدي زكاة الفطر فليست عليه ؛ لما ذكرنا في المسألة التي قبل هذه ، ولا تلزمه وإن أيسر بعد ذلك ؛ لما ذكر أيضا ؟ فمن قدر على التمر ولم يقدر على الشعير لغلائه ، أو قدر على الشعير ولم يقدر على التمر لغلائه - : أخرج صاعا ولا بد من الذي يقدر عليه ، لما ذكرنا أيضا . فإن لم يقدر إلا على بعض صاع أداه ولا بد ، لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . ولقول رسول الله ﷺ : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وهو واسع لبعض الصاع ، فهو مكلف إياه ، وليس واسعا لبعضه ، فلم يكلفه . وهذا مثل الصلاة ، يعجز عن بعضها ويقدر على بعضها ، ومثل الدين ، يقدر على بعضه ولا يقدر على سائره ؟ وليس هذا مثل الصوم ، يعجز فيه عن تمام اليوم ، أو تمام الشهرين المتتابعين ؛ ولا مثل الرقبة الواجبة ، والإطعام الواجب في الكفارات ، والهدي الواجب ، يقدر على البعض من كل ذلك ولا يقدر على سائره ؛ فلا يجزئه شيء منه . لأن من افترض عليه صاع في زكاة الفطر فلا خلاف في أنه جائز له أن يخرج بعضه ثم بعضه ثم بعضه . ولا يجوز تفريق اليوم ، ولا يسمى من لم يتم صوم اليوم صائم يوم ، إلا حيث جاء به النص فيجزئه حينئذ ؟ وأما بعض الرقبة فإن الله تعالى نص بتعويض الصيام من الرقبة إذا لم توجد فلم يجز تعدي النص ، وكان معتق بعض رقبة مخالفا لما أمر به وافترض عليه من الرقبة التامة ، أو من الإطعام المعوض منها ، أو الصيام المعوض منها . وأما بعض الشهرين فمن بعضها ، أو فرقهما فلم يأت بما أمر به متتابعا ، فهو عليه أو عوضه حيث جاء النص بالتعويض منه . وأما الهدي فإن بعض الهدي مع بعض هدي آخر لا يسمى هديا ، فلم يأت بما أمر به ؛ فهو دين عليه حتى يقدر عليه ؟ وأما الإطعام فيجزئه ما وجد منه حتى يجد باقيه ؛ لأنه لم يأت مرتبطا بوقت محدود الآخر - وبالله تعالى التوفيق .
714 - مسألة : وتجب زكاة الفطر على السيد عن عبده المرهون ، والآبق ، والغائب ، والمغصوب ، لأنهم رقيقه ، ولم يأت نص بتخصيص هؤلاء . وللسيد إن كان للعبد مال أو كسب أن يكلفه إخراج زكاة الفطر من كسبه أو ماله ، لأن له انتزاع مال متى شاء ، وله أن يكلفه الخراج بالنص والإجماع ، فإذا كان له ذلك فله أن يأمره بأن يصرف ما كلفه من ذلك فيما شاء .
715 - مسألة : والزكاة للفطر واجبة على المجنون إن كان له مال ؛ لأنه ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، صغير أو كبير .
716 - مسألة : ومن كان فقيرا فأخذ من زكاة الفطر أو غيرها مقدار ما يقوم بقوت يومه وفضل له منه ما يعطي في زكاة الفطر - : لزمه أن يعطيه . وهو قول عطاء ، وأبي سليمان ، والشافعي . وقال أبو حنيفة : من له أقل من مائتي درهم فليس عليه زكاة الفطر ، وله أخذها ، ومن كان له مائتا درهم فعليه أن يؤديها . وقال سفيان : من له خمسون درهما فهو غني ، ومن لم يكن له خمسون درهما فهو فقير . وقال غيرهما : من له أربعون درهما فهو غني ، فإن كان له أقل فهو فقير ؟ وقال آخرون : من له قوت يومه فهو غني ؟ قال أبو محمد : سنتكلم بعد هذا - إن شاء تعالى - في هذه الأقوال ، وأما هاهنا فإن تخصيص الفقير بإسقاط صدقة الفطر عنه - إذا كان واجدا لمقدارها أو لبعضه - قول لا يجوز ؛ لأنه لم يأت به نص ، نعني بإسقاطها عن الفقير ، وإنما جاء النص بإسقاط تكليف ما ليس في الوسع فقط ؛ فإذا كانت في وسع الفقير فهو مكلف إياها بعموم قوله عليه السلام : { على كل حر أو عبد ، ذكر أو أنثى ، صغير أو كبير } . وقد روينا عن عطاء في الفقير : أنه يأخذ الزكاة ويعطيها ؟
717 - مسألة : ومن أراد إخراج زكاة الفطر عن ولده الصغار أو الكبار أو عن غيرهم - : لم يجز له ذلك إلا بأن يهبها لهم ، ثم يخرجها عن الصغير ، والمجنون ، ولا يخرجها عمن يعقل من البالغين إلا بتوكيل منهم له على ذلك . برهان ذلك - : ما قدمنا من أن الله تعالى إنما فرضها عليه فيما يجد مما هو قادر على إخراجها منه ، أو يكون وليه قادرا على إخراجها منه ، ولا يكون مال غيره مكانا لأداء الفرض عنه ؛ إذ لم يأت بذلك نص ولا إجماع ؛ فإذا وهبها له فقد صار مالكا لمقدارها ، فعليه إخراجها ، فأما من لم يبلغ ؛ ولا يعقل ؛ فلقول الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } . وأما البالغ فلقول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } وبالله تعالى التوفيق .
718 - مسألة : ووقت زكاة الفطر - الذي لا تجب قبله ، إنما تجب بدخوله ، ثم لا تجب بخروجه - : فهو إثر طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر ، ممتدا إلى أن تبيض الشمس وتحل الصلاة من ذلك اليوم نفسه ؛ فمن مات قبل طلوع الفجر من اليوم المذكور فليس عليه زكاة الفطر ، ومن ولد حين ابيضاض الشمس من يوم الفطر فما بعد ذلك ، أو أسلم كذلك - : فليس عليه زكاة الفطر ، ومن مات بين هذين الوقتين أو ولد أو أسلم أو تمادت حياته وهو مسلم - : فعليه زكاة الفطر ، فإن لم يؤدها وله من ابن يؤديها فهي دين عليه أبدا حتى يؤديها متى أداها . وقال الشافعي : وقتها مغيب الشمس من آخر يوم من رمضان ، فمن ولد ليلة الفطر أو أسلم فلا زكاة فطر عليه ، ومن مات فيها فهي عليه . وقال أبو حنيفة : وقتها انشقاق الفجر من يوم الفطر ، فمن مات قبل ذلك ، أو ولد بعد ذلك ، أو أسلم بعد ذلك فلا زكاة فطر عليه . وقال مالك مرة كقول الشافعي في رواية أشهب عنه ، ومرة قال : إن من ولد يوم الفطر فعليه زكاة الفطر . قال أبو محمد أما من رأى وقتها غروب الشمس من آخر يوم من رمضان فإنه قال : هي زكاة الفطر ، وذلك هو الفطر من صوم رمضان والخروج عنه جملة . وقال الآخرون الذين رأوا وقتها طلوع الفجر من يوم الفطر : إن هذا هو وقت الفطر ، لا ما قبله ؛ لأنه في كل ليلة كان يفطر كذلك ثم يصبح صائما فإنما أفطر من صومه صبيحة يوم الفطر ، لا قبله ، وحينئذ دخل وقتها باتفاق منا ومنكم . قال أبو محمد : قال الله عز وجل : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . فوجدنا ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رافع ثنا ابن أبي فديك أخبرنا الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر قال { أمر رسول الله ﷺ بإخراج زكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى المصلى } . قال أبو محمد : فهذا وقت أدائها بالنص ، وخروجهم إليها إنما هو لإدراكها ، ووقت صلاة الفطر هو جواز الصلاة بابيضاض الشمس يومئذ فإذا تم الخروج إلى صلاة الفطر بدخولهم في الصلاة فقد خرج وقتها ؟ وبقي القول في أول وقتها : فوجدنا الفطر المتيقن إنما هو بطلوع الفجر من يوم الفطر ؛ وبطل قول من جعل وقتها غروب الشمس من أول ليلة الفطر ؛ لأنه خلاف الوقت الذي أمر عليه السلام بأدائها فيه . قال أبو محمد : فمن لم يؤدها حتى خرج وقتها فقد وجبت في ذمته وماله لمن هي له ، فهي دين لهم ، وحق من حقوقهم ، وقد وجب إخراجها من مال وحرم عليه إمساكها في ماله ، فوجب عليه أداؤها أبدا ، وبالله تعالى التوفيق ، ويسقط بذلك حقهم ، ويبقى حق الله تعالى في تضييعه الوقت ، لا يقدر على جبره إلا بالاستغفار والندامة - وبالله تعالى نتأيد . ولا يجوز تقديمها قبل وقتها أصلا . فإن ذكروا خبر { أبي هريرة إذ أمره رسول الله ﷺ بالمبيت على صدقة الفطر فأتاه الشيطان ليلة ، وثانية ، وثالثة } - : فلا حجة لهم فيه ، لأنه لا تخلو تلك الليالي أن تكون من رمضان أو من شوال ، ولا يجوز أن تكون من رمضان ، لأنه ليس ذلك في الخبر ، ولا يظن برسول الله ﷺ أنه حبس صدقة وجب أداؤها عن أهلها ، وإن كانت من شوال فلا يمنع من ذلك ؛ إذ لم يكمل وحبس وجود أهلها ؛ وفي تأخيره عليه الصلاة والسلام إعطاءها برهان على أن وقت إخراجها لم يحن بعد ، فإن كان ذلك في ليالي رمضان فلم يخرجها عليه السلام . فصح أنه لم يجز تقديمها قبل وقتها ولا يجزئ ؛ وإن كانت من ليالي شوال فبلا شك أن أهلها لم يوجدوا ، فتربص عليه الصلاة والسلام وجودهم . فبطل تعلقهم بهذا الخبر ؟