محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الخامسة عشر
كتاب الزكاة
642 - مسألة : ولا زكاة في تمر ، ولا بر ، ولا شعير : حتى يبلغ ما يصيبه المرء الواحد من الصنف الواحد منها خمسة أوسق ؛ والوسق ستون صاعا ؛ والصاع أربعة أمداد بمد النبي ﷺ . والمد من رطل ونصف إلى رطل وربع على قدر رزانة المد وخفته ، وسواء زرعه في أرض له أو في أرض لغيره بغصب أو بمعاملة جائزة ، أو غير جائزة ، إذا كان النذر غير مغصوب ، سواء أرض خراج كانت أو أرض عشر . وهذا قول جمهور الناس ، وبه يقول : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو سليمان وقال أبو حنيفة : يزكى ما قل من ذلك وما كثر ، فإن كان في أرض خراج فلا زكاة فيما أصيب فيها ، فإن كانت الأرض مستأجرة فالزكاة على رب الأرض لا على الزارع ، فإن كان في أرض مغصوبة ، فإن قضي لصاحب الأرض بما نقصها الزرع فالزكاة على صاحب الأرض ، وإن لم يقض له بشيء فالزكاة على الزارع - قال : والمد رطلان . فهذه خمسة مواضع خالف فيها الحق في هذه المسألة وقد ذكرنا قول رسول الله ﷺ { ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو ثمر صدقة } . وتعلق أبو حنيفة بقول رسول الله ﷺ { فيما سقت السماء العشر } . وأخطأ في هذا ، لأنه استعمل هذا الخبر وعصى الآخر وهذا لا يحل ، ونحن أطعنا ما في الخبرين جميعا ، وهو قد خالف هذا الخبر أيضا ، إذ خص مما سقت السماء كثيرا برأيه ، كالقصب ، والحطب ، والحشيش ، وورق الشجر وما أصيب في أرض الخراج ، ولم ير أن يخصه بكلام رسول الله ﷺ . وأيضا فإنه كلف من ذلك ما لا يطاق كما قدمنا وخص من ذلك برأيه ما أصيب في عرصات الدور ، وهذه تخاليط لا نظير لها . وأما أبو سليمان فقال : ما كان يحتمل التوسيق فلا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق ، وما كان لا يحتمل التوسيق فالزكاة في قليله وكثيره ، وقد ذكرنا فساد هذا القول قبل . والعجب أن أبا حنيفة يزعم أنه صاحب قياس ، وهو لم ير فيما يزكى شيئا قليله وكثيره فهلا قاس الزرع على الماشية والعين . فلا النص اتبع ، ولا القياس طرد . وأما المد فإن أبا حنيفة وأصحابه احتجوا في ذلك بما رويناه من طريق شريك بن عبد الله القاضي عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن جبر عن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ { ويجزئ في الوضوء رطلان } ، مع الأثر الصحيح في { أنه عليه السلام كان يتوضأ بالمد } . وهذا لا حجة فيه ، لأن شريكا مطرح ، مشهور بتدليس المنكرات إلى الثقات ، وقد أسقط حديثه الإمامان : عبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان ؛ وتالله لا أفلح من شهدا عليه بالجرحة . ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة ؛ لأنه لا يدل ذلك على أن المد رطلان ، وقد صح { أن رسول الله ﷺ توضأ بثلثي المد } ، ولا خلاف في أنه عليه السلام لم يكن يعير له الماء للوضوء بكيل ككيل الزيت لا يزيد ولا ينقص . أيضا - فلو صح لما كان في قوله عليه السلام { يجزئ في الوضوء رطلان } مانع من أن يجزئ أقل ، وهم أول موافق لنا في هذا ، فمن توضأ عندهم بنصف رطل أجزأه ، فبطل تعلقهم بهذا الأثر . واحتجوا بخبر رويناه من طريق موسى الجهني : كنت عند مجاهد فأتى بإناء يسع ثمانية أرطال تسعة أرطال ، عشرة أرطال ، فقال : قالت عائشة { كان رسول الله ﷺ يغتسل بمثل هذا } مع الأثر الثابت { أنه عليه السلام كان يغتسل بالصاع . } قال أبو محمد : وهذا لا حجة فيه ، لأن موسى قد شك في ذلك الإناء من ثمانية أرطال إلى عشرة ، وهم لا يقولون : إن الصاع يزيد على ثمانية أرطال ولا فلسا . وأيضا - فقد صح { أنه عليه السلام اغتسل هو وعائشة رضي الله عنها جميعا من إناء يسع ثلاثة أمداد } ؛ وأيضا من إناء هو الفرق ، والفرق : اثنا عشر مدا ، وأيضا - بخمسة أمداد ، وأيضا - بخمسة مكاكي . وكل هذه الآثار في غاية الصحة ، والإسناد الوثيق الثابت المتصل ، والخمسة مكاكي : خمسون مدا . ولا خلاف في أنه عليه السلام لم يعير له الماء للغسل بكيل ككيل الزيت ، ولا توضأ واغتسل بإناءين مخصوصين بل قد توضأ في الحضر والسفر بلا مراعاة لمقدار الماء . هم أول مخالف لهذا التحديد فلا يختلفون في أن امرأ لو اغتسل نصف صاع لأجزأه - فبطل تعلقهم بهذه الآثار الواهية . واحتجوا بروايتين واهيتين - : إحداهما - من طريق أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن رجل عن موسى بن طلحة : أن القفيز الحجاجي قفيز عمر ، أو صاع عمر . والأخرى - من طريق مجالد عن الشعبي قال : القفيز الحجاجي - صاع عمر . وبرواية عن إبراهيم : عيرنا صاع عمر فوجدناه حجاجيا . وبرواية عن الحجاج بن أرطاة عن الحكم عن إبراهيم { كان صاع رسول الله ﷺ ثمانية أرطال ، ومده رطلين } . قال أبو محمد : هذا كله سواء ، وجوده وعدمه . أما حديث موسى بن طلحة فبين أبي إسحاق وبينه من لا يدرى من هو ؛ ومجالد ضعيف ، أول من ضعفه أبو حنيفة ، وإبراهيم لم يدرك عمر . ثم لو صح كل ذلك لما انتفعوا به ؛ لأننا لم ننازعهم في صاع عمر رضي الله عنه ولا في قفيزه ، إنما نازعناهم في صاع النبي ﷺ ولسنا ندفع أن يكون لعمر : صاع ، وقفيز ، ومد . رتبه لأهل العراق لنفقاتهم وأرزاقهم ؛ كما بمصر الويبة والإردب ؛ وبالشام المد وكما كان لمروان بالمدينة مد اخترعه ، ولهشام بن إسماعيل مد اخترعه ، ولا حجة في شيء من ذلك . وأما قول إبراهيم في صاع النبي ﷺ ومده : فقول إبراهيم ، وقول أبي حنيفة سواء في الرغبة عنهما إذا خالفا الصواب . وقد روينا من طريق البخاري : ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا القاسم بن مالك المزني ثنا الجعيد بن عبد الرحمن عن السائب بن يزيد قال { كان الصاع على عهد رسول الله ﷺ مدا وثلثا بمدكم اليوم ، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز } وروينا عن مالك أنه قال في مكيلة زكاة الفطر بالمد الأصغر مد رسول الله ﷺ وعنه أيضا في زكاة الحبوب والزيتون بالصاع الأول صاع رسول الله ﷺ . ومن طريق مالك عن نافع قال : كان ابن عمر يعطي زكاة الفطر من رمضان بمد رسول الله ﷺ المد الأول فصح أن بالمدينة صاعا ، ومدا غير مد النبي ﷺ . ولو كان صاع عمر بن الخطاب هو صاع النبي ﷺ لما نسب إلى عمر أصلا دون أن ينسب إلى أبي بكر ، ولا إلى أبي بكر أيضا دون أن يضاف إلى رسول الله ﷺ فصح بلا شك أن مد هشام إنما رتبه هشام ، وأن صاع عمر إنما رتبه عمر . هذا إن صح أنه كان هنالك صاع يقال له " صاع عمر " فإن صاع رسول الله ﷺ ومده منسوبان إليه لا إلى غيره ، باقيان بحسبهما . وأما حقيقة الصاع الحجاجي الذي عولوا عليه فإننا روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق عن مسدد عن المعتمر بن سليمان عن الحجاج بن أرطاة قال : حدثني من سمع الحجاج بن يوسف يقول : صاعي هذا صاع عمر أعطتنيه عجوز بالمدينة . فإن احتجوا برواية الحجاج بن أرطاة عن إبراهيم فروايته هذه حجة عليهم ، وهذا أصل صاع الحجاج ، فلا كثر ولا طيب ولا بورك في الحجاج ولا في صاعه . وروينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة : ثنا جرير هو ابن عبد الحميد - عن يزيد هو ابن زياد - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : الصاع يزيد على الحجاجي مكيالا . فبطل ما موهوا به من الباطل ووجب الرجوع إلى ما صح عن النبي ﷺ . كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا إسحاق هو ابن راهويه - ومحمد بن إسماعيل بن علية ، قال إسحاق عن الملائي وقال ابن علية : ثنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين - كلاهما عن سفيان الثوري عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن طاوس عن ابن عمر قال : قال رسول الله ﷺ : { المكيال على مكيال أهل المدينة ، والوزن على وزن أهل مكة } . فلم يسع أحدا الخروج عن مكيال أهل المدينة ومقداره عندهم ، ولا عن موازين أهل مكة ، ووجدنا أهل المدينة " لا يختلف منهم اثنان في أن مد رسول الله ﷺ الذي به تؤدى الصدقات ليس أكثر من رطل ونصف ، ولا أقل من رطل وربع " . وقال بعضهم : رطل وثلث ، وليس هذا اختلافا ؛ لكنه على حسب رزانة المكيل من البر ، والتمر ، والشعير - : حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة { أن مد النبي ﷺ الذي كان يأخذ به الصدقات : رطل ونصف } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود عن أحمد بن حنبل قال : صاع ابن أبي ذئب خمسة أرطال وثلث . قال أبو داود : وهو صاع رسول الله ﷺ . حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : ذكر أبي أنه عير مد النبي ﷺ بالحنطة فوجدها رطلا وثلثا في البر ، قال : ولا يبلغ من التمر هذا المقدار - : حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق قال : دفع إلينا إسماعيل بن أبي أويس المد ، وقال هذا مد مالك ، وهو على مثال مد النبي ﷺ فذهبت به إلى السوق ، وخرط لي عليه مد وحملته معي إلى البصرة ، فوجدته نصف كيلجة بكيلجة البصرة ، يزيد على كيلجة البصرة شيئا يسيرا خفيفا ، إنما هو شبيه بالرجحان الذي لا يقع عليه جزء من الأجزاء ، ونصف كيلجة البصرة هو ربع كيلجة بغداد - فالمد : ربع الصاع ، والصاع مقدار كيلجة بغدادية يزيد الصاع عليها شيئا يسيرا . قال أبو محمد : وخرط لي مد على تحقيق المد المتوارث عند آل عبد الله بن علي الباجي ، وهو عند أكبرهم لا يفارق داره ، أخرجه إلى ثقتي الذي كلفته ذلك : علي بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن علي المذكور وذكر أنه مد أبيه وجده وأبي جده أخذه وخرطه على مد أحمد بن خالد ، وأخبره أحمد بن خالد أنه خرطه على مد يحيى بن يحيى ، الذي أعطاه إياه ابنه عبيد الله بن يحيى بن يحيى ، وخرطه يحيى على مد مالك ، ولا أشك أن أحمد بن خالد صححه أيضا على مد محمد بن وضاح الذي صححه ابن وضاح بالمدينة . قال أبو محمد : ثم كلته بالقمح الطيب ، ثم وزنته فوجدته رطلا واحدا ونصف رطل بالفلفلي ، لا يزيد حبة ، وكلته بالشعير ، إلا أنه لم يكن بالطيب ؛ فوجدته رطلا واحدا ونصف أوقية . قال أبو محمد : وهذا أمر مشهور بالمدينة منقول نقل الكافة صغيرهم وكبيرهم ، وصالحهم وطالحهم ، وعالمهم وجاهلهم ، وحرائرهم وإمائهم ، كما نقل أهل مكة موضع الصفا ، والمروة ، والاعتراض على أهل المدينة في صاعهم ومدهم كالمعترض على أهل مكة في موضع الصفا والمروة ولا فرق ، وكمن يعترض على أهل المدينة في القبر والمنبر والبقيع ، وهذا خروج عن الديانة والمعقول . قال أبو محمد : وبحثت أنا غاية البحث عند كل من وثقت بتمييزه ، فكل اتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه : اثنان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة بالحب من الشعير المطلق ، والدرهم سبعة أعشار المثقال ؛ فوزن الدرهم المكي سبع وخمسون حبة وستة أعشار حبة وعشر حبة ، فالرطل مائة درهم واحدة وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور . وقد رجع أبو يوسف إلى الحق في هذه المسألة إذ دخل المدينة ووقف على أمداد أهلها . وقد موه بعضهم بأنه إنما سمي الوسق ؛ لأنه من وسق البعير . قال أبو محمد : وهذا طريف في الهوج جدا وليت شعري من له بذلك وهلا قال : لأنه وسق الحمار ، ثم أيضا - فإن الوسق الذي أشار إليه هو عندهم : ستة عشر ربعا بالقرطبي ، وحمل البعير أكثر من هذا المقدار بنحو نصفه . وأما إسقاطهم الزكاة عما أصيب في أرض الخراج من بر ، وتمر ، وشعير ؛ ففاحش جدا ، وعظيم من القول . وإسقاط للزكاة المفترضة . وموهوا في هذا بطوام ، منها : أن قال قائلهم : - إن عمر لم يأخذ الزكاة من أرض الخراج . قال أبو محمد : وهذا تمويه بارد ؛ لأن عمر رضي الله عنه إنما ضرب الخراج على أهل الكفر ، ولا زكاة تؤخذ منهم . فإن ادعى : أن عمر لم يأخذ الزكاة ممن أسلم من أصحاب أرض الخراج فقد كذب جدا ، ولا يجد هذا أبدا ؛ ومن ادعى أن - عمر أسقط الزكاة عنهم كمن ادعى أنه أسقط الصلاة عنهم ولا فرق . وموه بعضهم بأن ذكر ما قد صح عن رسول الله ﷺ من قوله : { منعت العراق قفيزها ودرهمها ، ومنعت الشام مديها ودينارها ، ومنعت مصر إردبها ودينارها ، وعدتم من حيث بدأتم } شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه ، قالوا : فأخبر عليه السلام بما يجب في هذه الأرضين ، ولم يخبر أن فيها زكاة ؛ ولو كان فيها زكاة لأخبر بها . قال أبو محمد : مثل هذا ليس لإيراده وجه ؛ إلا ليحمد الله تعالى من سمعه على خلاصه من عظيم ما ابتلوا به من المجاهرة بالباطل ، ومعارضة الحق بأغث ما يكون من الكلام . وليت شعري في أي معقول وجدوا أن كل شريعة لم تذكر في هذا الحديث فهي ساقطة . وهل يقول هذا من له نصيب من التمييز . وهل بين من أسقط الزكاة - لأنها لم تذكر في هذا الخبر - فرق ، وبين من أسقط الصلاة والحج لأنهما لم يذكرا في هذا الخبر . وحتى لو صح لهم : أن رسول الله ﷺ قصد بهذا الخبر ذكر ما يجب في هذه الأرضين - ومعاذ الله من أن يصح هذا فهو الكذب البحت على رسول الله ﷺ لما كان في ذلك إسقاط سائر حقوق الله تعالى عن أهلها . وليس في الدنيا حديث انتظم ذكر جميع الشرائع أولها عن آخرها ، نعم ، ولا سورة أيضا . وإنما قصد عليه السلام في هذا الحديث الإنذار بخلاء أيدي المفتتحين لهذه البلاد من أخذ طعامها ودراهمها ودنانيرها فقط ؛ وقد ظهر ما أنذر به عليه السلام . ومن الباطل الممتنع أن يريد رسول الله ﷺ ما زعموا ؛ لأنه لو كان ذلك ، وكان أرباب أراضي الشام ، ومصر ، والعراق مسلمين ؛ فمن هم المخاطبون بأنهم يعودون كما بدءوا ومن المانع ما ذكر منعه . هذا تخصيص منهم بالباطل وبما ليس في الخبر منه نص ولا دليل ، ولو قيل لهم : بل في قوله عليه السلام : { فيما سقت السماء العشر } دليل على سقوط الخراج وبطلانه ، إذ لو كان فيها خراج لذكره عليه السلام . والعجب أيضا إسقاطهم الجزية بهذا الخبر عن أهل الخراج فأسقطوا فرضين من فرائض الإسلام برأي صاحب ، وهذا عجب جدا . وخالفوا ذلك الصاحب في هذه القضية نفسها ؛ لأنه قد صح عنه إيجاب الجزية مع الخراج ؛ فمرة يكون فعله حجة يخالف بها القرآن ، وهم مع ذلك كاذبون عليه ، فما روي عنه قط إسقاط الزكاة عما أصيب في أرض الخراج ؛ ومرة لا يرونه حجة أصلا ومعه الحق . فإن قالوا : إن الصحابة أجمعوا على أخذ الخراج قيل لهم : والصحابة أجمعوا على أخذ الزكاة قبل إجماعهم على الخراج ومعه وبعده بلا شك ؛ ولا عجب أعجب من إيجاب محمد بن الحسن الخراج على المسلم في أرض الخراج إذا ملكها ، وإسقاط الزكاة عنه ، وإيجابه الزكاة على اليهودي والنصراني إذا ملكا أرض العشر ، وإسقاط الخراج عنهما وفاعل هذا متهم على الإسلام وأهله . وقالوا : لا يجتمع حقان في مال واحد . قال أبو محمد : كذبوا وأفكوا بل تجتمع حقوق لله تعالى في مال واحد ؛ ولو أنها ألف حق ، وما ندري من أين وقع لهم أنه لا يجتمع حقان في مال واحد ؛ وهم يوجبون الخمس في معادن الذهب والفضة والزكاة أيضا ؛ إما عند الحول ، وإما في ذلك الوقت إن كان بلغ حول ما عنده من الذهب والفضة ؛ ويوجبون أيضا الخراج في أرض المعدن إن كانت أرض خراج . ومن عجائب الدنيا تغليبهم الخراج على الزكاة فأسقطوها به ، ثم غلبوا زكاة البر والشعير والتمر والماشية على زكاة التجارة ، فأسقطوها بها ؛ ثم غلبوا زكاة التجارة في الرقيق على زكاة الفطر ، فأسقطوها بها ؛ فمرة رأوا زكاة التجارة أوكد من الزكاة المفروضة ، ومرة رأوا الزكاة المفروضة أولى من زكاة التجارة . والحسن بن حي : يرى أن يزكى ما زرع للتجارة زكاة التجارة لا الزكاة المفروضة . وذكرنا هذا لئلا يدعوا في ذلك إجماعا ، فهذا أخف شيء عليهم . وإن تناقض المالكيين والشافعيين لظاهر في إسقاطهم الزكاة عن عروض التجارة للزكاة المفروضة وإبقائهم إياها مع زكاة الفطر في الرقيق . وكذلك أيضا - تناقض الحنيفيون إذ أثبتوا الإجارة والزكاة في أرض واحدة . وممن صح عنه إيجاب الزكاة في الخارج من أرض الخراج : عمر بن عبد العزيز ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وشريك ، والحسن بن حي . وقال سفيان ، وأحمد : إن فضل بعد الخراج خمسة أوسق فصاعدا ففيه الزكاة . ولا يحفظ عن أحد من السلف مثل قول أبي حنيفة في ذلك . والعجب كله من تمويههم بالثابت عن عمر رضي الله عنه من قوله إذ أسلمت دهقانة نهر الملك إن اختارت أرضها أو أدت ما على أرضها فخلوا بينها وبين أرضها ، وإلا فخلوا بين المسلمين وأرضهم - وعن علي نحو هذا . وعن ابن عمر إنكار الدخول في أرض الخراج للمسلم . وليت شعري هل عقل ذو عقل قط أن في شيء من هذا إسقاط الزكاة عما أخرجت الأرض . وهذا مكان لا يقابل إلا بالتعجب ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . ويكفي من هذا قول رسول الله ﷺ : { فيما سقت السماء العشر } فعم ولم يخص . وأيضا فإن من البرهان على أن الزكاة على الرافع لا على الأرض إجماع الأمة على أنه إن أراد أن يعطي العشر من غير الذي أصاب في تلك الأرض لكان ذلك له ؛ ولم يجز إجباره على أن يعطي من عين ما أخرجت الأرض فصح أن الزكاة في ذمة المسلم الرافع ؛ لا في الأرض .