محلى ابن حزم - المجلد الثاني/الصفحة الحادية والثلاثون
كتاب الزكاة
704 - مسألة : زكاة الفطر من رمضان فرض واجب على كل مسلم ، كبير أو صغير ، ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، وإن كان من ذكرنا جنينا في بطن أمه عن كل واحد صاع من تمر أو صاع من شعير ، وقد قدمنا أن الصاع أربعة أمداد بمد النبي ﷺ وقد فسرناه قبل ، ولا يجزئ شيء غير ما ذكرنا ، لا قمح ، ولا دقيق قمح أو شعير ، ولا خبز ولا قيمة ؛ ولا شيء غير ما ذكرنا ، حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رافع ثنا ابن أبي فديك أنا الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر قال : { فرض رسول الله ﷺ على كل نفس من المسلمين - حر أو عبد ، رجل أو امرأة ، صغير أو كبير - : صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير . } حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أحمد بن يونس ثنا الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر قال { أمر رسول الله ﷺ بزكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير . } وقال مالك : ليست فرضا ، واحتج له من قلده بأن قال : معنى " فرض رسول الله ﷺ " أي قدر مقدارها . قال أبو محمد : وهذا خطأ ، لأنه دعوى بلا برهان وإحالة اللفظ عن موضوعه بلا دليل . وقد أوردنا أن رسول الله ﷺ أمر بها وأمره فرض ، قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وذكروا خبرا رويناه من طريق قيس بن سعد { أمرنا رسول الله ﷺ بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ، ونحن نفعله } وعنه أيضا { كنا نصوم عاشوراء ونعطي الفطر ما لم ينزل علينا صوم رمضان والزكاة ، فلما نزلا لم نؤمر ولم ننه عنه ، ونحن نفعله } وقال أبو محمد وهذا الخبر حجة لنا عليهم لأن فيه أمر رسول الله ﷺ بزكاة الفطر ، فصار أمرا مفترضا ثم لم ينه عنه فبقي فرضا كما كان ، وأما يوم عاشوراء فلولا أنه عليه السلام صح أنه قال بعد ذلك : { من شاء صامه ومن شاء تركه } لكان فرضه باقيا ، ولم يأت مثل هذا القول في زكاة الفطر ؛ فبطل تعلقهم بهذا الخبر ، وقد قال تعالى : { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقد سمى رسول الله ﷺ زكاة الفطر : زكاة ، فهي داخلة في أمر الله تعالى بها ، والدلائل على هذا تكثر جدا ؟ وروينا عن وكيع عن سفيان الثوري عن عاصم بن سليمان الأحول عن محمد بن محمد بن سيرين ، وأبي قلابة قالا جميعا : زكاة الفطر فريضة ، وهو قول الشافعي ، وأبي سليمان ، وغيرهما . وأجاز قوم أشياء غير ما أمر به رسول الله ﷺ فقال قوم : يجزئ فيها القمح وقال آخرون : والزبيب ، والأقط . واحتجوا بأشياء منها - : أنهم قالوا : إنما يخرج كل أحد مما يأكل ومن قوت أهل بلده ، فقلنا : هذه دعوى باطل بلا برهان ، ثم قد نقضتموها لأنه إنما يأكل الخبز لا الحب : فأوجبوا أن يعطي خبزا لأنه هو أكله ، وهو قوت أهل بلده ، فإن قالوا : هو غير ما جاء به الخبر . قلنا : صدقتم ، وكذلك ما عدا التمر ، والشعير ، وقالوا : إنما خص عليه السلام - بالذكر - التمر ، والشعير ؛ لأنهما كانا قوت أهل المدينة . قال أبو محمد : وهذا قول فاحش جدا ؛ أول ذلك أنه كذب على رسول الله ﷺ مكشوف ، لأن هذا القائل قوله عليه السلام ما لم يقل ؛ وهذا عظيم جدا ، ويقال له : من أين لك أن رسول الله ﷺ أراد أن يذكر القمح ، والزبيب ؛ فسكت عنهما وقصد إلى التمر ، والشعير ؛ أنهما قوت أهل المدينة ، وهذا لا يعلمنه إلا من أخبره عليه السلام بذلك عن نفسه ، أو من نزل عليه وحي بذلك ، وأيضا : فلو صح لهم ذلك لكان الفرض في ذلك لا يلزم إلا أهل المدينة فقط ، وأيضا : فإن الله تعالى قد علم وأنذر بذلك رسوله ﷺ أن الله تعالى سيفتح لهم الشام ، والعراق ، ومصر ، وما وراء البحار ، فكيف يجوز أن يلبس على أهل هذه البلاد دينهم ؟ فيريد منهم أمرا ولا يذكره لهم ويلزمهم بكلامه ما لا يلزمهم من التمر ، والشعير ؟ ونعوذ بالله من مثل هذا الظن الفاسد المختلط ، واحتجوا بأخبار فاسدة لا تصح - : منها خبر رويناه من طريق إسماعيل بن أمية عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري : { فرض رسول الله ﷺ صدقة الفطر : صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من أقط } والحارث ضعيف ، ثم لو صح لما كان فيه إلا الأقط لا سائر ما يجيزون ؟ ومن طريق ابن وهب كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن ربيح بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ فذكر { صاعا من تمر ، أو صاعا من زبيب ، أو صاعا من أقط ، أو صاعا من شعير . } وكثير بن عبد الله ساقط ، لا تجوز الرواية عنه ، ثم لو صح لم يكن فيه إلا الأقط ، والزبيب . ومن طريق نصر بن حماد عن أبي معشر المدني عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ فذكر { صاعا من تمر ، أو من شعير ، أو من قمح ، ويقول أغنوهم عن تطواف هذا اليوم } . وأبو معشر المدني هذا نجيح مطرح يحدث بالموضوعات عن نافع وغيره . ومن طريق يعلى عن حماد بن زيد عن النعمان بن رشاد عن الزهري عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه عن النبي ﷺ { صاعا من بر عن كل ذكر أو أنثى ، صغير أو كبير ، غني أو فقير ، حر أو مملوك } والنعمان بن راشد ضعيف كثير الغلط ؛ ثم لو صح لكان أبو حنيفة قد خالفه ؛ لأنه لا يوجب إلا نصف صاع من بر . ومن طريق همام بن يحيى : ثنا بكر بن وائل بن داود ثنا الزهري عن عبد الله بن ثعلبة ، أو ثعلبة بن عبد الله { عن النبي ﷺ أنه أمر في صدقة الفطر : صاع تمر ، أو صاع شعير على كل واحد ، أو صاع قمح بين اثنين . } وعن ابن جريج عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة عن النبي ﷺ وهذان مرسلان : ومن طريق مسدد عن حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن الزهري عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه { عن النبي ﷺ في صدقة الفطر : صاع من قمح على كل اثنين . } ومن طريق سليمان بن داود العتكي عن حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة ، أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه { عن النبي ﷺ في صدقة الفطر : صاع من بر على كل اثنين } . فحصل هذا الحديث راجعا إلى رجل مجهول الحال ، مضطرب عنه ، مختلف في اسمه ، مرة : عبد الله بن ثعلبة ، ومرة : ثعلبة بن عبد الله ولا خلاف في أن الزهري لم يلق ثعلبة بن أبي صعير ، وليس لعبد الله بن ثعلبة صحبة . وأحسن حديث في هذا الباب ما حدثناه همام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن زهير بن حرب ثنا موسى بن إسماعيل ثنا همام بن يحيى عن بكر بن وائل ، أن الزهري حدثه عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه : { أن النبي ﷺ قام خطيبا فأمر بصدقة الفطر ، صاع تمر ، أو صاع شعير عن كل واحد } ولم يذكر : " البر " ولا شيئا غير التمر والشعير : ولكنا لا نحتج به ؛ لأن عبد الله بن ثعلبة مجهول - ثم هذا كله مخالف لقول مالك ، والشافعي ، ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي يزيد المدني { أعطى رسول الله ﷺ لمظاهر شعيرا وقال : أطعم هذا ، فإن مدين من شعير يقضيان مدا من قمح } وهذا مرسل . ومن طريق ابن جرير عن عمرو بن شعيب { أن رسول الله ﷺ لما حج بعث صارخا في بطن مكة : ألا إن زكاة الفطر حق واجب على كل مسلم مدان من حنطة ، أو صاع مما سوى ذلك من الطعام } وهذا مرسل . وعن جابر الجعفي عن الشعبي { كانوا يخرجون على عهد رسول الله ﷺ زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير أو نصف صاع من بر . } وهذا مرسل . ومن طريق الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، وعقيل بن خالد ، وعمرو بن الحارث قال عبد الرحمن ، وعقيل : عن الزهري ، وقال عمرو : عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ثم اتفق يزيد ، والزهري عن سعيد بن المسيب { فرض رسول الله ﷺ صدقة الفطر : مدين حنطة } وهذا مرسل .
ومثله أيضا - عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وسالم بن عبد الله بن عمر ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، كلهم عن رسول الله ﷺ وهي مراسيل . ومن طريق حميد عن الحسن عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ فرضها - يعني زكاة الفطر - صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، أو نصف صاع من بر } ولا يصح للحسن سماع من ابن عباس . وروي أيضا - من طريق أبي هريرة ، وأوس بن الحارث وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . وكل ذلك لا يصح ، ولا يشتغل به ، ولا يعمل به إلا جاهل . قال أبو محمد : وهذا مما نقضت كل طائفة منهم فيه أصلها - : فأما الشافعيون فإنهم يقولون عن الشافعي : بأن مرسل سعيد بن المسيب حجة ، وقد تركوا هاهنا مرسل سعيد بن المسيب : وقال الشافعي : في أشهر قوليه لا تجزئ زكاة الفطر إلا من حب تخرج منه الزكاة ، وتوقف في الأقط ، وأجازه مرة أخرى - : وأما المالكيون ، فأجازوا المرسل وجعلوه كالمسند ، وخالفوا هاهنا من المراسيل ما لو جاز قبول شيء منها لجاز هاهنا ، لكثرتها وشهرتها ومجيئها من طريق فقهاء المدينة . وأما الحنفيون فإنهم - في أشهر رواياتهم عنه - جعل الزبيب كالبر في أنه يجزئ منه نصف صاع ، ولم يجز الأقط إلا بالقيمة ، ولا أجاز غير البر ، والشعير ودقيقهما وسويقهما ، والتمر ، والزبيب فقط إلا بالقيمة ، وهذا خلاف لبعض هذه الآثار وخلاف لجميعها في إجازة القيمة ، والعجب كله من إطباقهم على أن راوي الخبر إذا تركه كان ذلك دليلا على سقوط الخبر ، كما فعلوا في خبر { غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا } . وقد حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا علي بن ميمون الرقي عن مخلد هو ابن الحسين - عن هشام هو ابن حسان - عن ابن سيرين عن ابن عباس قال : ذكر في صدقة الفطر فقال " صاع من بر ، أو صاع من تمر ، أو صاع من شعير ، أو صاع من سلت " . فهذا ابن عباس قد خالف ما روي بأصح إسناد يكون عنه فواجب عليهم رد تلك الرواية ، وإلا فقد نقضوا أصلهم . وذكروا في ذلك حديثا صحيحا رويناه من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : " كنا نخرج زكاة الفطر ، صاعا من طعام ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من أقط ؛ أو صاعا من زبيب " قال أبو محمد : وهذا غير مسند ، وهو أيضا مضطرب فيه على أبي سعيد . فرويناه من طريق البخاري : ثنا معاذ بن فضالة [ حدثنا أبو عمر ] عن زيد هو ابن أسلم - عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال { كنا نخرج على عهد رسول الله ﷺ يوم الفطر صاعا من طعام ، وكان طعامنا : الشعير ، والزبيب ، والأقط والتمر . } ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية أخبرني عياض بن عبد الله أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : { كنا نخرج زكاة الفطر - ورسول الله ﷺ فينا عن كل صغير وكبير ، حر ومملوك - : من ثلاثة أصناف : صاعا من تمر ، صاعا من أقط ، صاعا من شعير . } قال أبو سعيد : فأما أنا فلا أزال أخرجه كذلك . ومن طريق سفيان بن عيينة : ثنا ابن عجلان سمعت عياض بن عبد الله يخبر عن أبي سعيد الخدري قال : { لم نخرج على عهد رسول الله ﷺ إلا صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من زبيب ، أو صاعا من أقط ، أو صاعا من دقيق ، أو صاعا من سلت ثم شك سفيان فقال : دقيق أو سلت } . ومن طريق الليث عن يزيد هو ابن أبي حبيب - عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان أن عياض بن عياض بن عبد الله حدثه أن أبا سعيد الخدري قال { كنا نخرج في عهد رسول الله ﷺ صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من أقط ، لا نخرج غيره } يعني في زكاة الفطر ، قال أبو محمد : ففي بعض هذه الأخبار إبطال إخراج " البر " جملة ، وفي بعضها إثبات الزبيب ، وفي بعضها نفيه ، وإثبات الأقط جملة ، وليس فيها شيء غير ذلك ، وهم يعيبون الأخبار المسندة - التي لا مغمز فيها - بأقل من هذا الاضطراب ، كحديث إبطال تحريم الرضعة والرضعتين وغير ذلك . ثم إنه ليس من هذا كله خبر مسند ؛ لأنه ليس في شيء منه أن رسول الله ﷺ علم بذلك فأقره ، ولا عجب أكثر ممن يقول في خبر جابر الثابت : { كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله ﷺ } وحديث أسماء بنت أبي بكر الثابت { ذبحنا على عهد رسول الله ﷺ فرسا فأكلناه } أن هذان ليسا مسندين " لأنه ليس فيهما أن رسول الله ﷺ علم بذلك فأقره ، ثم يجعل حديث أبي سعيد هذا مسندا على اضطرابه وتعارض رواته فيه فليقل كل ذي عقل : أيما أولى أن يكون لا يخفى على رسول الله ﷺ بيع رجل من أصحابه أم ولده ، أو ذبح فرس في بيت أبي بكر الصديق أو بيت الزبير ، وبيتاهما مطنبان ببيت رسول الله ﷺ وابنته عنده ، على عزة الخيل عندهم وقلتها وحاجتهم إليها ، أم صدقة رجل من المسلمين في بني خدرة في عوالي المدينة بصاع أقط ، أو صاع زبيب ، ولو ذبح فرس للأكل في جانب من جوانب بغداد ما كان يمكن أن يخفى في الجانب الآخر ، ولو تصدقت امرأة أحدنا أو جاره الملاصق بصاع أقط ؛ أو صاع زبيب وصاع قمح ، ما كاد هو يعلمه في الأغلب ؛ فاعجبوا لعكس هؤلاء القوم الحقائق ، ثم إن هذه الطوائف الثلاثة مخالفة لما في هذا الخبر . أما أبو حنيفة فأشهر أقواله أن نصف صاع زبيب يجزئ وأن الأقط لا يجزئ إلا بالقيمة . وأما الشافعي فأشهر أقواله أن الأقط لا يجزئ ، وأجاز إخراج ما منعت هذه الأخبار من إخراجه ، مما لم يذكر فيها من الذرة وغير ذلك . وأما المالكيون ، والشافعيون فخالفوها جملة ؛ لأنهم لا يجيزون إخراج شيء من هذه المذكورات في هذا الخبر إلا لمن كانت قوته ، وخبر أبي سعيد لا يختلف فيه أنه على التخيير ، وكلهم يجيز إخراج ما منعت هذه الأخبار من إخراجه ، فمن أضل ممن يحتج بما هو أول مخالف له ما هذا من التقوى ، ولا من البر ، ولا من النصح لمن أغتر بهم من المسلمين . وأما نحن فوالله لو انسند صحيحا شيء من كل ما ذكرنا من الأخبار لبادرنا إلى الأخذ به ، وما توقفنا عند ذلك ، لكنه ليس منها مسند صحيح ولا واحد ، فلا يحل الأخذ بها في دين الله تعالى ، وقال بعضهم : إنما قلنا بجواز القمح لكثرة القائلين به ، وجمح فرس بعضهم فادعى الإجماع في ذلك جرأة وجهلا ، فذكروا ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر { فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر على الذكر ، والأنثى ، والحر ، والعبد : صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير . قال ابن عمر : فعدله الناس بعد : مدين من قمح } . ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر { فعدل الناس بعد نصف صاع من بر } وكان ابن عمر يعطي التمر ، فأعوز أهل المدينة التمر عاما فأعطى الشعير " . قال أبو محمد : لو كان فعل الناس حجة عند ابن عمر ما استجاز خلافه ، وقد قال الله تعالى : { إن الناس قد جمعوا لكم } . ولا حجة على رسول الله ﷺ بالناس ، لكنه حجة على الناس وعلى الجن معهم ، ونحن نتقرب إلى الله تعالى بخلاف الناس الذين تقرب ابن عمر إليه بخلافهم ، وذكروا ما رويناه من طريق حسين عن زائدة ثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر { كان الناس يخرجون صدقة الفطر في عهد رسول الله ﷺ صاعا من شعير ، أو تمر ، أو زبيب ، أو سلت } قال أبو محمد : هذا لا ينسند ، لأنه ليس فيه أن رسول الله ﷺ علم ذلك وأقره ، ثم خلافهم له - لو أسند وصح - كخلافهم لسعيد الذي ذكرنا ، وإبطال تهويلهم بما فيه من " كان الناس يخرجون " بخلاف ابن عمر المخبر عنهم كما في خبر أبي سعيد سواء سواء ، وأيضا - فإن راوي هذا الخبر عبد العزيز بن أبي رواد ، وهو ضعيف منكر الحديث . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن عمران بن حدير عن أبي مجلز قال قلت لابن عمر : إن الله قد أوسع ، والبر أفضل من التمر - يعني في صدقة الفطر - فقال ابن عمر : إن أصحابي سلكوا طريقا فأنا أحب أن أسلكه . قال أبو محمد : فهذا ابن عمر قد ذكرنا أنه كان لا يخرج إلا التمر ، أو الشعير ، ولا يخرج البر ، وقيل له في ذلك ، فأخبر أنه في عمله ذلك على طريق أصحابه ؛ فهؤلاء هم الناس الذين يستوحش من خلافهم وهم الصحابة رضي الله عنهم ، بأصح طريق ، وإنهم ليدعون الإجماع بأقل من هذا إذا وجدوه . وعن أفلح بن حميد : كان القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق يخرج زكاة الفطر صاعا من تمر . ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه : أنه كان إذا كان يوم الفطر أرسل صدقة كل إنسان من أهله صاعا من تمر ، ومن طريق ابن أبي شيبة : ثنا حماد بن مسعدة عن خالد بن أبي بكر قال : كان سالم بن عبد الله لا يخرج إلا تمرا " يعني في صدقة الفطر . فهؤلاء : ابن عمر ، والقاسم ، وسالم ، وعروة : لا يخرجون في صدقة الفطر إلا التمر ، وهم يقتاتون البر بلا خلاف ، وإن أموالهم لتسع إلى إخراج صاع دراهم عن أنفسهم ، ولا يؤثر ذلك في أموالهم . رضي الله عنهم فإن قيل : هم من أهل المدينة ؟ قلنا : ما خص رسول الله ﷺ بحكم صدقة الفطر أهل المدينة من أهل الصين ، ولا بعث إلى أهل المدينة دون غيرهم . والعجب كل العجب من إجازة مالك إخراج الذرة ، والدخن ، والأرز لمن كان ذلك قوته ، وليس شيء من ذلك مذكورا في شيء من الأخبار أصلا ، ومنع من إخراج الدقيق لأنه لم يذكر في الأخبار ؛ ومنع من إخراج القطاني وإن كانت قوت المخرج ، ومنع من التين ، والزيتون ، وإن كانا قوت المخرج ، وهذا تناقض ، وخلاف للأخبار ، وتخاذل في القياس ، وإبطالهم لتعليلهم بأن البر أفضل من الشعير ، ولا شك في أن الدقيق والخبز من البر والسكر أفضل من البر وأقل مؤنة وأعجل نفعا ، فمرة يجيزون ما ليس في الخبر ، ومرة يمنعون مما ليس في الخبر ؛ وبالله تعالى التوفيق . وهكذا القول في الشافعيين ولا فرق . قال أبو محمد : وشغب الحنفيون بأخبار نذكر منها طرفا إن شاء الله تعالى - : منها خبر - رويناه من طريق سفيان ، وشعبة ، كلاهما عن عاصم بن سليمان الأحول سمع أبا قلابة قال : حدثني من أدى إلى أبي بكر الصديق نصف صاع بر في صدقة الفطر . ومن طريق الحسين بن علي الجعفي عن زائدة عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال : { كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله ﷺ صاعا من شعير ، أو تمر ، أو سلت ، أو زبيب . قال ابن عمر : فلما كان عمر وكثرت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء } . ومن طريق حماد بن زيد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث أنه سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو يخطب ، فقال : في صدقة الفطر : صاع من تمر ، أو صاع من شعير ، أو نصف صاع من بر . ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قال : صاع من تمر ، أو صاع من شعير ، أو نصف صاع من بر . ومن طريق جرير عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أم المؤمنين قالت " كان الناس يعطون زكاة رمضان نصف صاع ، فأما إذ أوسع الله تعالى على الناس فإني أرى أن يتصدق بصاع " . ومن طريق وكيع عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر : كانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تعطي زكاة الفطر - عمن تمون - صاعا من تمر ، صاعا من شعير ، أو نصف صاع من بر ، ومن طريق ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : صدقة الفطر على كل مسلم مدان من قمح ، أو صاع من تمر أو شعير . ومن طريق معمر عن الزهري عن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : زكاة الفطر على كل فقير وغني صاع من تمر ، أو نصف صاع من قمح . وعن ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع ابن الزبير يقول على المنبر : زكاة الفطر مدان من قمح ، أو صاع من شعير ، أو تمر . قال عمرو بن دينار : وبلغني هذا أيضا عن ابن عباس . ومن طريق عبد الكريم أبي أمية عن إبراهيم النخعي عن علقمة . والأسود عن عبد الله بن مسعود قال : مدان من قمح ، أو صاع من تمر ، أو شعير - يعني في صدقة الفطر . ومن طريق مسلم بن الحجاج : ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ثنا داود يعني ابن قيس - عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال { كنا نخرج - إذ كان فينا رسول الله ﷺ - زكاة الفطر صاعا من أقط ، أو صاعا من طعام ، أو صاعا من زبيب ، فلم نزل نخرج ذلك حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا ؛ فكلم الناس على المنبر فقال : إني أرى أن مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر ، فأخذ الناس بذلك . قال أبو سعيد : فأما أنا فلا أخرجه أبدا ما عشت كما كنت أخرجه } . ومن طريق حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن : أن مروان بعث إلى أبي سعيد : أن ابعث إلي بزكاة رقيقك ، فقال أبو سعيد : إن مروان لا يعلم ، إنما علينا أن نطعم عن كل رأس عند كل فطر صاع تمر ، أو نصف صاع بر . وروينا من طريق محمد بن إسحاق ثنا عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام عن عياض بن سعد قال : " ذكرت لأبي سعيد الخدري صدقة الفطر ؟ فقال لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله ﷺ صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، أو صاع زبيب أو صاع أقط ، فقيل له : أو مدين من قمح ؟ فقال : لا ، تلك قيمة معاوية ، لا أقبلها ، ولا أعمل بها " . فهذا أبو سعيد يمنع من " البر " جملة ؛ ومما عدا ما ذكر ، وصح عن عمر بن عبد العزيز إيجاب نصف صاع من بر على الإنسان في صدقة الفطر ، أو قيمته على أهل الديوان نصف درهم . من طريق وكيع عن قرة بن خالد قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلينا بذلك ، وصح أيضا عن طاوس ، ومجاهد ، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن جبير . وهو قول الأوزاعي ، والليث ، وسفيان الثوري قال أبو محمد : تناقض هاهنا المالكيون المهولون بعمل أهل المدينة فخالفوا أبا بكر ، وعمر ، ( وعثمان ) وعلي بن أبي طالب ، وعائشة ، وأسماء بنت أبي بكر ، وأبا هريرة ، وجابر بن عبد الله وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وأبا سعيد الخدري ، وهو عنهم كلهم صحيح إلا عن أبي بكر ، وابن مسعود ، إلا أن المالكيين يحتجون بأضعف من هذه الطرق إذا وافقتهم . ثم فقهاء المدينة : ابن المسيب ، وعروة ، وأبا سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم أفلا يتقي الله من يزيد في الشرائع ما لم يصح قط ، من جلد الشارب للخمر ثمانين ، برواية لم تصح قط عن عمر ، ثم قد صح خلافها عنه ، وعن أبي بكر قبله ، وعن عثمان ، وعلي بعده ، والحسن ، وعبد الله بن جعفر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم لا يخالفهم منهم أحد ، ومعهم السنة الثابتة - : ثم لا يلتفت هاهنا إلى هؤلاء كلهم . وأما الحنفيون - المتزينون في هذا المكان باتباعهم - فقد خالفوا أبا بكر ، وعمر ، وعلي بن أبي طالب ؛ وابن مسعود ، وابن عباس ، والمغيرة بن شعبة ، وأنس بن مالك ، وأم سلمة أم المؤمنين في المسح على العمامة ، وخالفوا علي بن أبي طالب ، وأبا مسعود ، وعمار بن ياسر والبراء بن عازب ، وبلالا وأبا أمامة الباهلي وأنس بن مالك وابن عمر ، وسهل بن سعد في جواز المسح على الجوربين ، ولا يعرف لهم في ذلك مخالف من الصحابة من كل من يجيز المسح على الخفين ، ومثل هذا لهم كثير جدا وبالله تعالى نتأيد ، ولا حجة إلا فيما صح عن النبي ﷺ وقد ذكرناه . قال أبو محمد : وروينا عن عطاء ليس على الأعراب ، أهل البادية زكاة الفطر - وعن الحسن : أنها عليهم ، وأنهم يخرجون في ذلك اللبن . قال أبو محمد : لم يخص رسول الله ﷺ أعرابيا ولا بدويا من غيرهم ، فلم يجز تخصيص أحد من المسلمين ، ولا يجزئ لبن ولا غيره ، إلا الشعير ، أو التمر فقط . وأما الحمل فإن رسول الله ﷺ أوجبها على كل صغير أو كبير ، والجنين يقع عليه اسم : صغير ، فإذا أكمل مائة وعشرين يوما في بطن أمه قبل انصداع الفجر من ليلة الفطر وجب أن تؤدى عنه صدقة الفطر . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا حفص بن عمر النمري ، ومحمد بن كثير ، قال حفص : ثنا شعبة ، وقال ابن كثير : ثنا سفيان الثوري ، ثم اتفق سفيان ، وشعبة كلاهما عن الأعمش : ثنا زيد بن وهب ثنا عبد الله بن مسعود ثنا رسول الله ﷺ { إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات ، رزقه ، وعمله ، وأجله ، ثم يكتب : شقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح } قال أبو محمد : هو قبل ما ذكرنا موات ، فلا حكم على ميت ، فأما إذا كان حيا كما أخبر رسول الله ﷺ فكل حكم وجب على الصغير فهو واجب عليه . روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل : ثنا أبي ثنا المعتمر بن سليمان التيمي عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني وقتادة : أن عثمان بن عفان كان يعطي صدقة الفطر عن الصغير ، والكبير ، والحمل . وعن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال : كان يعجبهم أن يعطوا زكاة الفطر عن الصغير ، والكبير ، حتى عن الحمل في بطن أمه ، وأبو قلابة أدرك الصحابة وصحبهم وروى عنهم ، ومن طريق عبد الرزاق عن مالك عن رجل عن سليمان بن يسار : أنه سئل عن الحمل أيزكى عنه ؟ قال : نعم . ولا يعرف لعثمان في هذا مخالف من الصحابة وهم يعظمون بمثل هذا إذا وافقهم .