مجموع الفتاوى/المجلد الأول/فصل: لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل: لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه[عدل]

إذا عرف هذا فقد تبين أن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه، ويعطى كل ذى حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه. وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه.

فإن كثيرا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب.

فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} 1، وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 2، فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه، هى ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات. فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا.

فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.

والثاني لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة كقوله : (سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتى يوم القيامة)، وقوله: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد، حلت له الشفاعة).

فهذه الوسيلة للنبي خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله، وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول، وأخبر أن من سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دعوا للنبي استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا.

وأما التوسل بالنبي والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة.

فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء:

فأحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته.

والثاني: دعاؤه وشفاعته كما تقدم.

فهذان جائزان بإجماع المسلمين، ومن هذا قول عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، أي: بدعائه وشفاعته، وقوله تعالى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} 3، أي القربة إليه بطاعته. وطاعة رسوله طاعته، قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} 4. فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر فإنه توسل بدعائه لا بذاته؛ ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له، فإنه مشروع دائما.

فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان:

أحدها: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.

والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.

والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته، والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.

وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدورى، في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخى في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة. قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. وأكره أن يقول: (بمعاقد العز من عرشك) أو (بحق خلقك). وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام.

قال القدورى: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقا.

وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان:

أحدهما: هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى. وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته ك {َاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} 5، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} 6، {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} 7، {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} 8، فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن مَن ذَكَر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه، بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها، كما في السنن عن النبي أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقد صححه الترمذي وغيره، وفي لفظ: (فقد كفر) وقد صححه الحاكم. وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (لا تحلفوا بآبائكم، فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وفي الصحيحين عنه أنه قال: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله). وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة، أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش، والكرسي، والكعبة، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي ، والملائكة، والصالحين، والملوك، وسيوف المجاهدين، وترب الأنبياء والصالحين، وأيمان البندق، وسراويل الفتوة، وغير ذلك لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحلف بذلك.


هامش[عدل]

  1. [المائدة: 35]
  2. [الإسراء: 56، 57]
  3. [المائدة: 35]
  4. [النساء: 80]
  5. [الليل: 1، 2]
  6. [الشمس: 1]
  7. [النازعات: 1]
  8. [الصافات: 1]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الأول
مقدمة الكتاب | توحيد الألوهية | قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته | فصل: في حديث ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم | قاعدة جليلة في توحيد الله | فصل: في افتقار الإنسان إلى اختيار الله وتقديره | فصل: يتضمن مقدمة لتفسير إياك نعبد وإياك نستعين | فصل: في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة | فصل: العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه كان أقرب إليه وأعز عليه | فصل: السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله | فصل: في قوله اهدنا الصراط المستقيم | فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله | فصل: العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع | فصل: جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم | الشرك بالله أعظم الذنوب | فصل: قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل | فصل: ذكر مناظرة إبراهيم للمشركين | سئل الشيخ عمن قال يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم | سئل الشيخ عمن يقول لا يستغاث برسول الله | فصل: سمى الله آلهة المشركين شفعاء | فصل: في الشفاعة المنفية في القرآن | سئل عن رجل قال: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله | وسئل عمن يقول إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم | وسئل هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا | رسالة في التوسل والوسيلة | فصل: لفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور | الزيارة الشرعية والزيارة البدعية للقبور | تبيين للأوهام التي تحصل للعامة عند القبور | وأهل الجاهلية في هذه الأوهام نوعان | من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان | وصية النبي لابن عباس إذا سألت فاسأل الله | ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به والمسؤول مأمور بإجابة السائل | دين الإسلام مبني على أصلين | فصل: لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه | الحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور | قول القائل أسألك بكذا | جواز التوسل بالأعمال الصالحة | السؤال بحق فلان مبني على أصلين | سؤال الله بأسمائه وصفاته أعظم ما يسأل الله تعالى به | حكايات غريبة في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم | قصد السفر لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم | السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين | الكلام على حديث أول ما خلق الله العقل | لفظ التوسل والاستشفاع ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه | أحاديث موضوعة في التوسل | آثار عن السلف أكثرها ضعيفة | سؤال الأمة له الوسيلة | من قال من العلماء إن قول الصحابي حجة | فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق | ثبت بالنصوص الصحيحة أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات | نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجدا | التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته على وجهين | سؤال عما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين | الرد على من قال أن النبي لا يشفع لأهل الكبائر من أمته | النهي عن اتخاذ القبور مساجد | الكلام على حديث اللهم إنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد | كلام السلف على قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه | الشفاعة نوعان | اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى | فصل: لا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين | في قول القائل أسألك بحق السائلين عليك وما في معناه | سئل رحمه الله عمن يبوس الأرض دائما هل يأثم | وسئل عن النهوض والقيام عند قدوم شخص معين معتبر أحرام هو | فصل: الانحناء عند التحية | فصل: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله