مجموع الفتاوى/المجلد الأول/حكايات غريبة في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم
حكايات غريبة في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم
[عدل]فهذا كله نقله القاضي عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة، ثم ذكر حكاية بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فِهْر، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن إبى إسرائيل، حدثنا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله ﷺ فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوما فقال: { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } الآية 1، ومدح قوما فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله } الآية 2، وذم قوما فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ } الآية 3، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا. فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقْبِلُ القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله ﷺ؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ الله تَوَّابًا رَّحِيمًا } 4. قلت وهذه الحكاية منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يَدرك مالكا، لاسيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين، ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذبه أبو زُرْعَة، وابن وارة، وقال صالح بن محمد الأسدى: ما رأيت أحدا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه. وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات. وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمى توفي سنة تسع وخمسين ومائتين. وفي الإسناد أيضا من لا تعرف حاله.
وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته؟ هذا إذا ثبت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم، ومروان بن محمد الطاطرى ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث؟
مع أن قوله: (وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة" إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، وهذا حق، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة حين تأتى الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد ﷺ، فإنه كما قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائى يوم القيامة ولا فخر) ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه:
أحدها: قوله: (أستقبلُ القبلة وأدعُو، أم أستقبلُ رسول الله وأدعُو؟) فقال: "ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم). فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين، أن الداعي إذا سلم على النبي ﷺ ثم أراد أن يدعوا لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي ﷺ والدعاء له. هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم.
وعند أصحاب أبي حنيفة لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضا.
ثم منهم من قال: يجعل الحجرة على يساره وقد رواه ابن وهب عن مالك ويسلم عليه.
ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه، وهذا هو المشهور عندهم، ومع هذا فَكَرِهَ مالك أن يطيل القيام عند القبر لذلك. قال القاضي عياض في المبسوط عن مالك قال: (لا أرى أن يقف عند قبر النبي ﷺ يدعو، ولكن يسلم ويمضي) قال: وقال نافع: كان ابن عمر يسلم على القبر، رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول: السلام على النبي ﷺ، السلام على أبي بكر، السلام على أبي. ثم ينصرف. ورؤى واضعا يده على مقعد النبي ﷺ من المنبر ثم وضعها على وجهه. قال: وعن ابن أبي قُسَيْط والَقَعْنبي كان أصحاب النبي ﷺ إذا خلا المسجد جسوا برمانة المنبر التي تلقاء القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون. قال: وفي الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثى أنه كان يعني ابن عمر يقف على قبر النبي ﷺ فيصلي على النبي ﷺ وعلى أبي بكر وعمر، وعند ابن القاسم والقعنبي: ويدعو لأبي بكر وعمر. قال مالك في رواية ابن وهب: يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وقال في المبسوط: ويسلم على أبي بكر وعمر.
قال أبو الوليد الباجي: وعندي أن يدعو للنبي ﷺ بلفظ الصلاة ولأبي بكر وعمر بلفظ السلام لما في حديث ابن عمر من الخلاف. وهذا الدعاء يفسر الدعاء المذكور في رواية ابن وهب، قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي ﷺ ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ولا يمس القبر. فهذا هو السلام عليه والدعاء له بالصلاة عليه كما تقدم تفسيره.
وكذلك كل دعاء ذكره أصحابه كما ذكر ابن حبيب في الواضحة وغيره قال: وقال مالك في المبسوطة: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء. وقال فيه أيضا: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر، أن يقف على قبر النبي ﷺ فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر. قيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة. فقال مالك: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها، أو دخلوا أتو القبر فسلموا، قال: ولذلك رأى...
قال أبو الوليد الباجي: ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم.
قال: وقال رسول الله ﷺ: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قال: وقال النبي ﷺ (لا تجعلوا قبري عيدًا). قال: ومن كتاب أحمد بن شعبة فيمن وقف بالقبر لا يلتصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا، وفي العتبية يعني عن مالك: يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي ﷺ، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبي ﷺ حيث العمود المخلق، وأما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف. قال: والتنفل فيه للغرباء أحب إلى من التنفل في البيوت.
فهذا قول مالك وأصحابه وما نقلوه عن الصحابة يبين أنهم لم يقصدوا القبر إلا للسلام على النبي ﷺ والدعاء له. وقد كره مالك إطالة القيام لذلك، وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له، فإنه تحية للنبي ﷺ.
فأما إذا قصد الرجل الدعاء لنفسه فإنما يدعو في مسجده مستقبل القبلة، كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبي ﷺ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبي ﷺ، فكيف بدعائه لنفسه.
وأما دعاء الرسول وطلب الحوائج منه وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته، فهذا لم يفعله أحد من السلف، ومعلوم أنه لوكان قصد الدعاء عند القبر مشروعا لفعله الصحابة والتابعون، وكذلك السؤال به، فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته؟
فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة من قوله: استقبله واستشفع به كذب على مالك، مخالف لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي يفعلها مالك وأصحابه ونقلها سائر العلماء؛ إذ كان أحد منهم لم يستقبل القبر للدعاء لنفسه، فضلا عن أن يستقبله ويستشفع به يقول له: يا رسول الله، اشفع لي أو ادع لي، أو يشتكى إليه مصائب الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكى إليهم المصائب، فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأمة، ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين، وإن كانوا يسلمون عليه، إذ كان يسمع السلام عليه من القريب ويُبَلَّغُ سلام البعيد.
وقد احتج أحمد وغيره بالحديث الذي رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد من حديث حَيْوَة بن شُرَيْح المصري: حدثنا أبو صخر، عن يزيد بن قُسَيط، عن أبي هريرة رضى الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحى حتى أرد عليه السلام). وعلى هذا الحديث اعتمد الأئمة في السلام عليه عند قبره صلوات الله وسلامه عليه، فإن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة لا يعتمد على شيء منها في الدين. ولهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئا منها، وإنما يرويها من يروى الضعاف كالدارقطني والبزار وغيرهما.
وأجود حديث فيها ما رواه عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف والكذب ظاهر عليه مثل قوله: (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي)، فإن هذا كذبه ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته وكان مؤمنا به كان من أصحابه، لا سيما إن كان من المهاجرين إليه المجاهدين معه، وقد ثبت عنه ﷺ أنه قال: (لاتسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه) أخرجاه في الصحيحين.
والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين؟ بل ولا شرع السفر إليه، بل هو منهي عنه.
هامش
[عدل]