مجموع الفتاوى/المجلد الأول/اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى
اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى
[عدل]وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى، وهو الحلف بالمخلوقات، فلو حلف بالكعبة، أو بالملائكة، أو بالأنبياء أو بأحد من الشيوخ، أو بالملوك لم تنعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك، بل ينهى عنه، إما نهى تحريم، وإما نهى تنزيه. فإن للعلماء في ذلك قولين. والصحيح أنه نهى تحريم. ففي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت)، وفي الترمذي عنه ﷺ أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين: إنه تنعقد اليمين بأحد من الأنبياء إلا في نبينا ﷺ، فإن عن أحمد روايتين في أنه تنعقد اليمين به، وقد طرد بعض أصحابه كابن عقيل الخلاف في سائر الأنبياء وهذا ضعيف.
وأصل القول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح.
وكذلك الاستعاذة بالمخلوقات، بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته، ولهذا احتج السلف كأحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق فيما احتجوا به بقول النبي ﷺ: (أعوذ بكلمات الله التامات)، قالوا: فقد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق.
وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا)، فنهى عن الرقى التي فيها شرك، كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 1.
ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والأقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره، التي تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه من ذلك؛ خشية أن يكون فيه شرك، بخلاف ما كان من الرقى المشروعة، فإنه جائز. فإذًا لا يجوز أن يقسم لا قسمًا مطلقًا، ولا قسمًا على غيره إلا بالله عز وجل، ولا يستعيذ إلا بالله عز وجل.
والسائل لله بغير الله إما أن يكون مقسمًا عليه، وإما أن يكون طالبًا بذلك السبب، كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم، وكما يتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين.
فإن كان إقسامًا على الله بغيره فهذا لا يجوز.
وإن كان سؤالا بسبب يقتضي المطلوب كالسؤال بالأعمال التي فيها طاعة لله ورسوله، مثل السؤال بالإيمان بالرسول ومحبته، وموالاته ونحو ذلك فهذا جائز.
وإن كان سؤالا بمجرد ذات الأنبياء والصالحين فهذا غير مشروع، وقد نهى عنه غير واحد من العلماء وقالوا: إنه لا يجوز، ورخص فيه بعضهم، والأول أرجح كما تقدم، وهو سؤال بسبب لا يقتضي حصول المطلوب، بخلاف من كان طالبًا بالسبب المقتضى لحصول المطلوب، كالطلب منه سبحانه بدعاء الصالحين، وبالأعمال الصالحة، فهذا جائز؛ لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا، وإذا توسلنا بدعائهم وأعمالنا كنا متوسلين إليه تعالى بوسيلة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} 2 والوسيلة هى الأعمال الصالحة، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 3.
وأما إذا لم نتوسل إليه سبحانه بدعائهم ولا بأعمالنا، ولكن توسلنا بنفس ذواتهم، لم يكن نفس ذواتهم سببًا يقتضي إجابة دعائنا، فكنا متوسلين بغير وسيلة، ولهذا لم يكن هذا منقولا عن النبي ﷺ نقلا صحيحًا، ولا مشهورًا عن السلف.
وقد نقل في منسك المروذي عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبي ﷺ، وهذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز القسم به، وأكثر العلماء على النهي في الأمرين، ولا ريب أن لهم عند الله الجاه العظيم كما قال تعالى في حق موسى وعيسى، عليهما السلام، وقد تقدم ذكر ذلك لكن ما لهم عند الله من المنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا لهم؛ فإذا توسلنا إلى الله تعالى بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته فهذا من أعظم الوسائل. وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلا يجوز أن يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بالإيمان بالمتوسل به ولا بطاعته فبأى شيء يتوسل؟
والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة، فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عنده، وهذا جائز. وإما أن يقسم عليه، كما يقول: بحياة ولدك فلان، وبتربة أبيك فلان، وبحرمة شيخك فلان ونحو ذلك، والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لا يجوز، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق.
وإما أن يسأل بسبب يقتضي المطلوب، كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} 4، وسيأتى بيان ذلك.
وقد تبين أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لا يجوز، ولا يجوز أن يقسم بمخلوق أصلا، وأما التوسل إليه بشفاعة المأذون لهم في الشفاعة فجائز، والأعمى كان قد طلب من النبي ﷺ أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء، وقوله: (أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة) أي بدعائه وشفاعته لي، ولهذا تمام الحديث: (اللهم فشفعه في). فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه، وقد قال تعالى: {وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}.
فعلى قراءة الجمهور بالنصب: إنما يسألون بالله وحده، لا بالرحم، وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله، وتعاهدهم بالله.
وأما على قراءة الخفض، فقد قال طائفة من السلف: هو قولهم: أسألك بالله وبالرحم، وهذا إخبار عن سؤالهم، وقد يقال: إنه ليس بدليل على جوازه، فإن كان دليلا على جوازه، فمعنى قوله: أسألك بالرحم، ليس إقسامًا بالرحم والقسم هنا لا يسوغ لكن بسبب الرحم، أي لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقًا، كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة، وكسؤالنا بدعاء النبي ﷺ وشفاعته.
ومن هذا الباب: ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ أن ابن أخيه عبد الله ابن جعفر كان إذا سأل بحق جعفر أعطاه، وليس هذا من باب الإقسام، فإن الإقسام بغير جعفر أعظم، بل من باب حق الرحم؛ لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر حقه على علىٍّ.
ومن هذا الباب: الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد عن النبي ﷺ في دعاء الخارج إلى الصلاة: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاى هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رِياءً ولا سُمْعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف، فإن كان من كلام النبي ﷺ فهو من هذا الباب لوجهين:
أحدهما: لأن فيه السؤال لله تعالى بحق السائلين، وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أوجبه الله تعالى، وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئا. ومنه قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 5، وقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 6، وقوله تعالى: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} 7.
وفي الصحيح في حديث معاذ: (حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم).
وفي الصحيح عن أبي ذر عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبدي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا).
وإذا كان حق السائلين والعابدين له هو الإجابة والإثابة بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله؛ كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله ﷺ: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، فالاستعاذة بمعافاته التي هى فعله، كالسؤال بإثابته التي هى فعله.
وروى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي ﷺ أن الله يقول: (يا عبدي إنما هى أربع: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي؛ فالتي لي أن تعبدني لا تشرك بي شيئا، والتي هى لك أجزيك بها أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك منك الدعاء ومني الإجابة، والتي بينك وبين خلقي فأت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك).
وتقسيمه في الحديث إلى قوله: واحدة لي، وواحدة لك، هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة، حيث يقول الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل)، والعبد يعود عليه نفع النصفين، والله تعالى يحب النصفين؛ لكن هو سبحانه يحب أن يعبد، وما يعطيه العبد من الإعانة، والهداية هو وسيلة إلى ذلك فإنما يحبه لكونه طريقًا إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولا، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة، والهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يصل إلى العبادة، إلى غير ذلك مما يطول الكلام فيما يتعلق بذلك وليس هذا موضعه، وإن كنا خرجنا عن المراد.
الوجه الثاني: أن الدعاء له سبحانه وتعالى، والعمل له سبب لحصول مقصود العبد، فهو كالتوسل بدعاء النبي ﷺ والصالحين من أمته، وقد تقدم أن الدعاء بالنبي ﷺ والصالح إما أن يكون إقسامًا به، أو سببًا به، فإن كان قوله: (بحق السائلين عليك) إقسامًا فلا يقسم على الله إلا به، وإن كان سببًا فهو سبب بما جعله هو سبحانه سببًا، وهو دعاؤه وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضًا، وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق من غير دعاء منه، ولا عمل صالح منا.
وإذا قال السائل: أسألك بحق الملائكة، أو بحق الأنبياء، وحق الصالحين، ولا يقول لغيره: أقسمت عليك بحق هؤلاء. فإذا لم يجز له أن يحلف به، ولا يقسم على مخلوق به، فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به وإنما يتسبب به، فليس في مجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده، ولكن لا بد من سبب منه، كالإيمان بالملائكة والأنبياء، أو منهم كدعائهم. ولكن كثيرًا من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم، حتى يقول أحدهم: وحقك على الله، وحق هذه الشيبة على الله.
وإذا قال القائل: أسألك بحق فلان، أو بجاهه، أي أسألك بإيماني به، ومحبتى له، وهذا من أعظم الوسائل. قيل: من قصد هذا المعنى، فهو معنى صحيح لكن ليس هذا مقصود عامة هؤلاء، فمن قال: أسألك بإيماني بك وبرسولك ونحو ذلك، أو بإيماني برسولك، ومحبتى له ونحو ذلك، فقد أحسن في ذلك كما قال تعالى في دعاء المؤمنين: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} 8، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 9، وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} 10، وقال تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 11.
وكان ابن مسعود يقول: اللهم أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي. ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر، فآووا إلى الغار، وانطبقت عليهم الصخرة، ثم دعوا الله سبحانه بأعمالهم الصالحة، ففرج عنهم وهو ما ثبت في الصحيحين.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا خالد بن خراش العجلاني وإسماعيل بن إبراهيم، قالا: حدثنا صالح المرى عن ثابت عن أنس قال: دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل، فلم نبرح حتى قبض، فبسطنا عليه ثوبه، وله أم عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا وقال: يا هذه احتسبى مصيبتك عند الله. قالت: وما ذاك، مات ابني؟ قلنا: نعم. قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا: نعم. فمدت يديها إلى الله فقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعقبني عند كل شدة فرجا، فلا تحمل عليّ هذه المصيبة اليوم. قال: فكشفت الثوب عن وجهه، فما برحنا حتى طعمنا معه!
وروى في كتاب الحلية لأبي نعيم أن داود قال: بحق آبائى عليك، إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، وأى حق لآبائك على؟ وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات بعتضد بها، ولا يعتمد عليها.
وقد مضت السنة أن الحى يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه.
وأما المخلوق الغائب والميت، فلا يطلب منه شيء. يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته؛ ودعاؤه وشفاعته ﷺ من أعظم الوسائل عند الله عز وجل.
وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته، والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات، بل لا يقسم بها بحال، فلا يقال: أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ولا بكعبتك، ولا بعبادك الصالحين، كما لا يجوز أن يقسم الرجل بهذه الأشياء، بل إنما يقسم بالله تعالى بأسمائه وصفاته، ولهذا كانت السنة أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته فيقول: (أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حى يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك)، الحديث كما جاءت به السنة.
وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين الإسلام، وكذلك قوله: (اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وبكلماتك التامات).
مع أن هذا الدعاء الثالث في جواز الدعاء به قولان للعلماء، قال الشيخ أبو الحسن القدورى في كتابه المسمى بشرح الكرخى: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: (بمعاقد العز من عرشك) أو (بحق خلقك). وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: معقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا وأكره أن يقول: (بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام)، قال القدورى: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز يعني وفاقًا وهذا من أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما يقتضي المنع أن يسأل الله بغيره.
فإن قيل: الرب سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس لنا أن نقسم عليه إلا به. فهلا قيل: يجوز أن يقسم عليه بمخلوقاته، وألا يقسم على مخلوق إلا بالخالق تعالى؟ قيل: لا؛ لأن إقسامه بمخلوقاته من باب مدحه والثناء عليه وذكر آياته، وإقسامنا نحن بذلك شرك إذا أقسمنا به لحض غيرنا أو لمنعه أو تصديق خبر أو تكذيبه.
ومن قال لغيره: أسألك بكذا. فإما أن يكون مقسمًا فهذا لا يجوز بغير الله تعالى: والكفارة في هذا على المقسم لا على المقسم عليه، كما صرح بذلك أئمة الفقهاء. وإن لم يكن مقسمًا فهو من باب السؤال، فهذا لا كفارة فيه على واحد منهما.
فتبين أن السائل لله بخلقه إما أن يكون حالفًا بمخلوق، وذلك لا يجوز. وإما أن يكون سائلا به، وقد تقدم تفصيل ذلك. وإذا قال: (بالله افعل كذا) فلا كفارة فيه على واحد منهما، وإذا قال: (أقسمت عليك بالله لتفعلن) أو (والله لتفعلن) فلم يبر قسمه لزمت الكفارة الحالف.
والذي يدعو بصيغة السؤال فهو من باب السؤال به، وأما إذا أقسم على الله تعالى مثل أن يقول: أقسمت عليك يارب لتفعلن كذا، كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (رب أشعث أغبر ذى طِمريْن 12، مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره). وفي الصحيح أنه قال لما قال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع فقال النبي ﷺ: (يا أنس، كتاب الله القصاص) فعفا القوم، فقال النبي ﷺ: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، وهذا من باب الحلف بالله لتفعلن هذا الأمر، فهو إقسام عليه تعالى به وليس إقسامًا عليه بمخلوق.
وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وقد تقدم أن ما يذكره بعض العامة من قوله ﷺ: (إذا كانت لكم حاجة فاسألوا الله بجاهى) حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء.
ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الصلاة عليه، لم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من العلماء دعا غير الله والاستعانة المطلقة بغيره في حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق؛ فإن دعاء غير الله كفر؛ ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين لا الأنبياء ولا غيرهم عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين، بخلاف قولهم: أسألك بجاه نبينا أو بحقه، فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله، ولم يكن مشهورًا بينهم، ولا فيه سنة عن النبي ﷺ، بل السنة تدل على النهي كما نقل ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما.
ورأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام قال: لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله ﷺ إن صح حديث الأعمى فلم يعرف صحته، ثم رأيت عن أبي حنيفة، وأبي يوسف وغيرهما من العلماء، أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد الأنبياء، ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي ﷺ، لكن قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به. وقد تقدم أن هذا الحديث لا يدل إلا على التوسل بدعائه، ليس من باب الإقسام بالمخلوق على الله تعالى، ولا من باب السؤال بذات الرسول كما تقدم. والذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء عدلوا عما أمروا به وشرع لهم وهو من أنفع الأمور لهم إلى ما ليس كذلك، فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء وقد أمر الله بها.
والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 13.
وفي الصحيح عنه أنه قال: (من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشرًا)، وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله ﷺ قال: سمع رسول الله ﷺ رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله، ولم يصلى على النبي ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: (عجل هذا!" ثم دعاه فقال له أو لغيره: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه، ثم يصلى على النبي، ثم يدعو بعده بما شاء) رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه والترمذي والنسائي. وقال الترمذي: حديث صحيح.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي ﷺ يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علىَّ؛ فإنه من صلى على صلاة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغى إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة).
وفي سنن أبي داود والنسائي عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله ﷺ: (قل كما يقولون، فإذا انتهيت سل تعطه). وفي المسند عن جابر بن عبد الله قال: (من قال حين ينادى المنادى: اللهم رب هذه الدعوة القائمة، والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه، رضاء لا سخط بعده، استجاب الله له دعوته).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن.
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ: (ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما ترد على داع دعوته: عند حصول النداء، والصف في سبيل الله) رواه أبو داود.
وفي المسند والترمذي وغيرهما عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ إذا ذهب ربع الليل قام فقال: (يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه).
قال أبي: قلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتى؟ قال: (ما شئت) قلت: الربع؟ قال: (ما شئت، وإن زدت فهو خير لك) قلت: النصف؟ قال: (ما شئت، وإن زدت فهو خير لك) قلت: الثلثين؟ قال: (ما شئت، وإن زدت فهو خير لك) قلت: أجعل لك صلاتى كلها؟ قال: (إذًا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك) وفي لفظ: (إذا تكفى همك، ويغفر ذنبك).
وقول السائل: أجعل لك من صلاتى؟ يعني من دعائى؛ فإن الصلاة في اللغة هى الدعاء، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} 14.
وقال النبي ﷺ: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، وقالت امرأة: صل عليّ يا رسول الله وعلى زوجى، فقال: (صلى الله عليك وعلى زوجك).
فيكون مقصود السائل: أي يا رسول الله إن لي دعاء أدعو به أستجلب به الخير وأستدفع به الشر، فكم أجعل لك من الدعاء؟ قال: (ما شئت) فلما انتهى إلى قوله: أجعل لك صلاتى كلها؟ قال: (إذًا تكفى همك ويغفر ذنبك). وفي الرواية الأخرى: (إذًا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك)، وهذا غاية ما يدعو به الإنسان من جلب الخيرات ودفع المضرات؛ فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب، واندفاع المرهوب، كما بسط ذلك في مواضعه.
وقد ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية الشرعية، وأعرضوا عن الأدعية البدعية، فينبغي اتباع ذلك. والمراتب في هذا الباب ثلاث:
إحداها: أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول: يا سيدي فلان، أغثني، أو أنا أستجير بك، أو أستغيث بك، أو انصرني على عدوى، ونحو ذلك فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات قد يقضى الشيطان حاجته أو بعضها، وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، وإنما هو شيطان دخله وأغواه لما أشرك بالله، كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك، ومثل هذا واقع كثيرًا في زماننا وغيره، وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيرى، وذكروا أنه أتى شخص على صورتى أو صورة غيرى وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة الاستغاثة بي أو بغيرى! وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية كما ثبت ذلك، فهذا أشرك بالله نعوذ بالله من ذلك.
وأعظم من ذلك يقول: اغفر لي وتب عليّ، كما يفعله طائفة من الجهال المشركين.
وأعظم من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص والكعبة قبلة العوام.
وأعظم من ذلك أن يرى السفر إليه من جنس الحج، حتى يقول: إن السفر إليه مرات يعدل حجة، وغلاتهم يقولون: الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة. ونحو ذلك، فهذا شرك بهم، وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه.
الثانية: أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا، كما تقول النصارى لمريم وغيرها فهذا أيضا لايستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة؛ وإن كان السلام على أهل القبور جائز ومخاطبتهم جائزة كما كان النبي ﷺ يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يغفر الله لنا ولكم، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم).
وروى أبو عمر بن عبد البر عن النبي ﷺ أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام.
وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه قال: (ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله على روحى حتى أرد علىه السلام)، لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لا دعاء ولا غيره. وفي موطأ مالك أن ابن عمر كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف.
وعن عبد الله بن دينار قال: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي ﷺ، فيصلى على النبي ﷺ، ويدعو لأبي بكر وعمر. وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبي ﷺ، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى، لا يدعون مستقبلى الحجرة، وإن كان قد وقع في بعض ذلك طوائف من الفقهاء والصوفية والعامة من لا اعتبار بهم، فلم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله، ولا من له في الأمة لسان صدق عام.
ومذهب الأئمة الأربعة مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي ﷺ وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة. واختلفوا في وقت السلام عليه، فقال الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه، وقال أبوحنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام، كما لا يستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم.
ثم في مذهبه قولان:
قيل: يستدبر الحجرة، وقيل يجعلها عن يساره. فهذا نزاعهم في وقت السلام، وأما في وقت الدعاء فلم يتنازعوا في أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة.
والحكاية التي تذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة فأمره بذلك وقال: (هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم) كذب على مالك ليس لها إسناد معروف، وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه. كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره، مثل ما ذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلى الحجرة يدعون لأنفسهم، فأنكر مالك ذلك، وذكر أنه من البدع، التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك، فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم، ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعًا لكانوا هم أعلم بذلك، وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم والداعي يدعو الله وحده. وقد نهى عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى، كما نهى عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي مرثد الغنوي أن النبي ﷺ قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها). فلا يجوز أن يصلى إلى شيء من القبور، لا قبور الأنبياء ولا غيرهم، لهذا الحديث الصحيح. ولا خلاف بين المسلمين أنه لا يشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة، وكذلك قصد شيء من القبور، لا سيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء، فإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى، فدعاء الميت نفسه أولى ألا يجوز، كما أنه لا يجوز أن يصلى مستقبله فلأن لا يجوز الصلاة له بطريق الأولى.
فعلم أنه لا يجوز أن يسأل الميت شيئا: لا يطلب منه أن يدعو الله له ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين، ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته، فإن ذلك في حياته لا يفضي إلى الشرك وهذا يفضي إلى الشرك؛ لأنه في حياته مكلف أن يجيب سؤال من سأله لما له في ذلك من الأجر والثواب، وبعد الموت ليس مكلفا، بل ما يفعله من ذكر لله تعالى ودعاء، ونحو ذلك كما أن موسى يصلى في قبره، وكما صلى الأنبياء خلف النبي ﷺ ليلة المعراج ببيت المقدس، وتسبيح أهل الجنة والملائكة فهم يمتعون بذلك، وهم يفعلون ذلك بحسب ما يسّره الله لهم ويقدره لهم، ليس هو من باب التكليف الذي يمتحن به العباد.
وحينئذ، فسؤال السائل للميت لا يؤثر في ذلك شيئا، بل ماجعله الله فاعلا له هو يفعله وإن لم يسأله العبد؛ كما يفعل الملائكة ما يؤمرون به، وهم إنما يطيعون أمر ربهم لا يطيعون أمر مخلوق؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 15، فهم لا يعملون إلا بأمره سبحانه وتعالى. ولا يلزم من جواز الشيء في حياته جوازه بعد موته، فإن بيته كانت الصلاة فيه مشروعة. وكان يجوز أن يجعل مسجدًا. ولما دفن فيه حرم أن يتخذ مسجدًا، كما في الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). يحذر ما فعلوا. ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا.
وفي صحيح مسلم وغيره عنه ﷺ أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وقد كان ﷺ في حياته يصلى خلفه، وذلك من أفضل الأعمال، ولا يجوز بعد موته أن يصلى الرجل خلف قبره، وكذلك في حياته يطلب منه أن يأمر، وأن يفتى وأن يقضى، ولا يجوز أن يطلب ذلك منه بعد موته. وأمثال ذلك كثير.
وقد كره مالك وغيره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله ﷺ؛ لأن هذا اللفظ لم يرد. والأحاديث المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة بل كذب. وهذا اللفظ صار مشتركًا في عرف المتأخرين يراد به الزيارة البدعية: التي في معنى الشرك؛ كالذي يزور القبر ليسأله أو يسأل الله به، أو يسأل الله عنده.
والزيارة الشرعية: هى أن يزوره لله تعالى: للدعاء له، والسلام عليه كما يصلى على جنازته. فهذا الثاني هو المشروع، ولكن كثيرًا من الناس لا يقصد بالزيارة إلا المعنى الأول، فكره مالك أن يقول: زرت قبره، لما فيه من إيهام المعنى الفاسد الذي يقصده أهل البدع والشرك.
الثالثة: أن يقال: أسألك بفلان، أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك، الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهى عنه.
وتقدم أيضا أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة، بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره
وقد تبين ما في لفظ التوسل من الاشتراك بين ما كانت الصحابة تفعله وبين ما لم يكونوا يفعلونه، فإن لفظ التوسل والتوجه في عرف الصحابة ولغتهم هو التوسل والتوجه بدعائه وشفاعته.
ولهذا يجوز أن يتوسل ويتوجه بدعاء كل مؤمن، وإن كان بعض الناس من المشايخ المتبوعين يحتج فيما يرويه عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور) (أو فاستعينوا بأهل القبور). فهذا الحديث كذب مفترى على النبي ﷺ بإجماع العارفين بحديثه، ولم يروه أحد من العلماء بذلك، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة.
وقد قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} 16، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه غير مشروع، وقد نهى النبي ﷺ عما هو أقرب من ذلك عن اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك ولعن أهله تحذيرًا من التشبه بهم، فإن ذلك أصل عبادة الأوثان، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 17.
فإن هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروهم، ثم اتخذوا الأصنام على صورهم، كما تقدم ذكر ذلك عن ابن عباس وغيره من علماء السلف. فمن فهم معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 18 عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده وأنه يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستغاثة لا تكون إلا بالله، والتوكل لا يكون إلا عليه {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} 19، فالنصر المطلق وهو خلق ما يغلب به العدو لا يقدر عليه إلا الله، وفي هذا القدر كفاية لمن هداه الله، والله أعلم.
وهذا الذي نهى عنه النبي ﷺ من هذا الشرك هو كذلك في شرائع غيره من الأنبياء: ففي التوراة أن موسى عليه السلام نهى بني إسرائيل عن دعاء الأموات وغير ذلك من الشرك، وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله؛ وذلك أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وإن تنوعت شرائعهم، كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: (إنا معشر الأنبياء ديننا واحد).
وقد قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} 20، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 21، وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 22 وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره من الأولين والآخرين، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.
هامش
[عدل]- ↑ [الجن: 6]
- ↑ [المائدة: 35]
- ↑ [الإسراء: 57]
- ↑ [النساء: 1]
- ↑ [الأنعام: 54]
- ↑ [الروم: 47]
- ↑ [التوبة: 111]
- ↑ [آل عمران: 193]
- ↑ [آل عمران: 16]
- ↑ [المؤمنون: 109]
- ↑ [آل عمران: 53]
- ↑ [الطِّمْر: الثواب البالى. انظر: النهاية في غريب الحديث 3138]
- ↑ [الأحزاب: 56]
- ↑ [التوبة: 103]
- ↑ [الأنبياء: 26، 27]
- ↑ [الفرقان: 58]
- ↑ [نوح: 23]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [آل عمران: 126، الأنفال: 10]
- ↑ [الشورى: 13]
- ↑ [المؤمنون: 51: 53]
- ↑ [الروم: 30: 32]