مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الكلام على حديث أول ما خلق الله العقل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الكلام على حديث أول ما خلق الله العقل[عدل]

ويعلم أن الحديث الذي يروى (أول ما خلق الله العقل) حديث باطل عن النبي مع أنه لو كان حقا لكان حجة عليهم، فإن لفظه (أول ما خلق الله العقل) بنصب الأول على الظرفية (فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. فقال: وعزتى ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منك، فبك آخذ، وبك أعطى، وبك الثواب وبك العقاب) وروى (لما خلق الله العقل) فالحديث لو كان ثابتًا كان معناه أنه خاطب العقل في أول أوقات خلقه، وأنه خلق قبل غيره، وأنه تحصل به هذه الأمور الأربعة لا كل المصنوعات.

والعقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا، يراد به القوة التي بها يعقل، وعلوم وأعمال تحصل بذلك، لا يراد بها قط في لغة: جوهر قائم بنفسه، فلا يمكن أن يراد هذا المعنى بلفظ العقل. مع أنا قد بينا في مواضع أخر فساد ما ذكروه من جهة العقل الصريح، وأن ما ذكروه من المجردات والمفارقات ينتهى أمرهم فيه إلى إثبات النفس التي تفارق البدن بالموت، وإلى إثبات ما تجرده النفس من المعقولات القائمة بها؛ فهذا منتهى ما يثبتونه من الحق في هذا الباب.

والمقصود هنا: أن كثيرا من كلام الله ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم، ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله، كما يوجد في كلام صاحب الكتب المضنون بها وغيره، مثل ما ذكره في اللوح المحفوظ حيث جعله النفس الفلكية، ولفظ القلم حيث جعله العقل الأول، ولفظ الملكوت والجبروت والملك حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل، ولفظ الشفاعة حيث جعل ذلك فيضا يفيض من الشفيع على المستشفع وإن كان الشفيع قد لا يدرى، وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا، كما قد بسط في موضع آخر.

والمقصود هنا ذكر من يقع ذلك منه من غير تدبر منه للغة الرسول كلفظ القديم، فإنه في لغة الرسول التي جاء بها القرآن خلاف الحديث وإن كان مسبوقا بغيره، كقوله تعالى: { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } 1، وقال تعالى عن إخوة يوسف: { تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } 2، وقوله تعالى: { قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } 3 وهو عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقا بعدم نفسه، ويجعلونه إذا أريد به هذا من باب المجاز، ولفظ المحدث في لغة القرآن يقابل للفظ القديم في القرآن.

وكذلك لفظ الكلمة في القرآن والحديث وسائر لغة العرب، إنما يراد به الجملة التامة، كقوله : (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، وقوله: (إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، ومنه قوله تعالى: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } 4، وقوله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } الآية 5، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا} 6، وأمثال ذلك، ولا يوجد لفظ الكلام في لغة العرب إلا بهذا المعنى.

والنحاة اصطلحوا على أن يسموا الاسم وحده، والفعل والحرف كلمة، ثم يقول بعضهم: وقد يراد بالكلمة الكلام، فيظن من اعتاد هذا أن هذا هو لغة العرب، وكذلك لفظ ذوى الأرحام في الكتاب والسنة يراد به الأقارب من جهة الأبوين فيدخل فيهم العصبة وذوو الفروض، وإن شمل ذلك من لا يرث بفرض ولا تعصيب، ثم صار ذلك في اصطلاح الفقهاء اسما لهؤلاء دون غيرهم، فيظن من لا يعرف إلا ذلك أن هذا هو المراد بهذا اللفظ في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة، ونظائر هذا كثيرة.


هامش[عدل]

  1. [يس: 39]
  2. [يوسف: 95]
  3. [الشعراء: 75، 76]
  4. [الكهف: 5]
  5. [آل عمران: 64]
  6. [التوبة: 40]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الأول
مقدمة الكتاب | توحيد الألوهية | قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته | فصل: في حديث ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم | قاعدة جليلة في توحيد الله | فصل: في افتقار الإنسان إلى اختيار الله وتقديره | فصل: يتضمن مقدمة لتفسير إياك نعبد وإياك نستعين | فصل: في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة | فصل: العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه كان أقرب إليه وأعز عليه | فصل: السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله | فصل: في قوله اهدنا الصراط المستقيم | فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله | فصل: العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع | فصل: جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم | الشرك بالله أعظم الذنوب | فصل: قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل | فصل: ذكر مناظرة إبراهيم للمشركين | سئل الشيخ عمن قال يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم | سئل الشيخ عمن يقول لا يستغاث برسول الله | فصل: سمى الله آلهة المشركين شفعاء | فصل: في الشفاعة المنفية في القرآن | سئل عن رجل قال: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله | وسئل عمن يقول إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم | وسئل هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا | رسالة في التوسل والوسيلة | فصل: لفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور | الزيارة الشرعية والزيارة البدعية للقبور | تبيين للأوهام التي تحصل للعامة عند القبور | وأهل الجاهلية في هذه الأوهام نوعان | من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان | وصية النبي لابن عباس إذا سألت فاسأل الله | ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به والمسؤول مأمور بإجابة السائل | دين الإسلام مبني على أصلين | فصل: لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه | الحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور | قول القائل أسألك بكذا | جواز التوسل بالأعمال الصالحة | السؤال بحق فلان مبني على أصلين | سؤال الله بأسمائه وصفاته أعظم ما يسأل الله تعالى به | حكايات غريبة في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم | قصد السفر لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم | السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين | الكلام على حديث أول ما خلق الله العقل | لفظ التوسل والاستشفاع ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه | أحاديث موضوعة في التوسل | آثار عن السلف أكثرها ضعيفة | سؤال الأمة له الوسيلة | من قال من العلماء إن قول الصحابي حجة | فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق | ثبت بالنصوص الصحيحة أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات | نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجدا | التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته على وجهين | سؤال عما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين | الرد على من قال أن النبي لا يشفع لأهل الكبائر من أمته | النهي عن اتخاذ القبور مساجد | الكلام على حديث اللهم إنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد | كلام السلف على قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه | الشفاعة نوعان | اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى | فصل: لا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين | في قول القائل أسألك بحق السائلين عليك وما في معناه | سئل رحمه الله عمن يبوس الأرض دائما هل يأثم | وسئل عن النهوض والقيام عند قدوم شخص معين معتبر أحرام هو | فصل: الانحناء عند التحية | فصل: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله