مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور
الحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور
[عدل]والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكى إجماع الصحابة على ذلك. وقيل: هى مكروهة كراهة تنزيه، والأول أصح، حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله ابن عمر: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلى من أن أحلف بغير الله صادقا. وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكذب. إنما نعرف النزاع في الحلف بالأنبياء، فعن أحمد في الحلف بالنبي ﷺ روايتان:
إحداهما: لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور: مالك وأبي حنيفة والشافعي.
والثانية: ينعقد اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه، وابن المنذر وافق هؤلاء. وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي ﷺ خاصة، وعَدَّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء. وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق وإن كان نبيا قول ضعيف في الغاية، مخالف للأصول والنصوص، فالإقسام به على الله والسؤال به بمعنى الإقسام هو من هذا الجنس.
وأما السؤال بالمخلوق إذا كانت فيه باء السبب ليست باء القسم وبينهما فرق فإن النبي ﷺ أمر بإبرار القسم، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) قال ذلك لما قال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الرُّبيع؟ قال: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر سنها. فقال: (يا أنس، كتاب الله القصاص)، فرضى القوم وعفوا، فقال ﷺ: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، وقال: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) رواه مسلم وغيره، وقال: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ 1 مستكبر) وهذا في الصحيحين. وكذلك حديث أنس بن النضر والآخر من أفراد مسلم.
وقد روى في قوله: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) أنه قال: (منهم البراء بن مالك) وكان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون: يا براء أقسم على ربك. فيقسم على الله فتنهزم الكفار. فلما كانوا على قنطرة بالسوس قالوا: يا براء، أقسم على ربك. قال: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شهيد. فأبر الله قسمه فانهزم العدو واستشهد البراء بن مالك يومئذ. وهذا هو أخو أنس بن مالك، قتل مائة رجل مبارزة غير من شرك في دمه، وحمل يوم مسيلمة على ترس ورمي به إلى الحديقة حتى فتح الباب.
والإقسام به على الغير أن يحلف المقسم على غيره ليفعلن كذا، فإن حنثه ولم يبر قسمه فالكفارة على الحالف لا على المحلوف عليه عند عامة الفقهاء، كما لو حلف على عبده أو ولده أو صديقه ليفعلن شيئا ولم يفعله، فالكفارة على الحالف الحانث.
وأما قوله: [سألتك بالله أن تفعل كذا] فهذا سؤال وليس بقسم، وفي الحديث: (من سألكم بالله فأعطوه) ولا كفارة على هذا إذا لم يجب سؤاله. والخلق كلهم يسألون الله، مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار، فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفورا، وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون. فالسؤال كقول السائل لله: أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام. وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وأسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك.
فهذا سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته، وليس ذلك إقساما عليه؛ فإن أفعاله هى مقتضى أسمائه وصفاته، فمغفرته ورحمته من مقتضى اسمه الغفور الرحيم، وعفوه من مقتضى اسمه العفو ؛ ولهذا لما قالت عائشة للنبي ﷺ: إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
وهدايته ودلالته من مقتضى اسمه الهادي، وفي الأثر المنقول عن أحمد بن حنبل أنه أمر رجلا أن يقول: يا دليل الحيارى، دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين.
وجميع ما يفعل الله بعبده من الخير من مقتضى اسمه الرب؛ ولهذا يقال في الدعاء: يا رب، يا رب، كما قال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2، وقال نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} 3، وقال إبراهيم: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} 4 وكذلك سائر الأنبياء. وقد كره مالك وابن أبي عمران من أصحاب أبي حنيفة وغيرهما أن يقول الداعي: يا سيدي، يا سيدي. وقالوا: قل كما قالت الأنبياء: ربِّ، رَبِّ. واسمه (الحى القيوم) يجمع أصل معاني الأسماء والصفات، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقوله إذا اجتهد في الدعاء.
فإذ سئل المسؤول بشيء والباء للسبب سئل بسبب يقتضي وجود المسؤول.
فإذا قال: أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان، بديع السموات والأرض، كان كونه محمودا منانا، بديع السموات والأرض يقتضي أن يمن على عبده السائل، وكونه محمودا هو يوجب أن يفعل ما يحمد عليه، وحمد العبد له سبب إجابة دعائه؛ ولهذا أمر المصلى أن يقول: (سمع الله لمن حمده) أي استجاب الله دعاء من حمده، فالسماع هنا بمعنى الإجابة والقبول كقوله ﷺ: (أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع) أي لا يستجاب.
ومنه قول الخليل في آخر دعائه: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} 5 ومنه قوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} 6، وقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } 7 أي: يقبلون الكذب، ويقبلون من قوم آخرين لم يأتوك؛ ولهذا أمر المصلى أن يدعو بعد حمد الله بعد التشهد المتضمن الثناء على الله سبحانه.
وقال النبي ﷺ لمن رآه يصلى ويدعو، ولم يحمد ربه ولم يصل على نبيه فقال: (عَجِل هذا)، ثم دعاه فقال: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه وليصل على النبي ﷺ، وليدع بعد بما شاء)، أخرجه أبو داود والترمذي وصححه.
وقال عبد الله بن مسعود: كنت أصلي والنبي ﷺ وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم بالصلاة على نبيه، ثم دعوت لنفسي فقال النبي ﷺ: (سل تعطه). رواه الترمذي وحسنه.
فلفظ السمع يراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى مع ذلك ويراد به القبول والاستجابة مع الفهم. قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ} ثم قال: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} على هذه الحال التي هم عليها لم يقبلوا الحق ثم {لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} 8، فذمهم بأنهم لا يفهمون القرآن ولو فهموه لم يعملوا به. وإذا قال السائل لغيره: أسأل بالله، فإنما سأله بإيمانه بالله، وذلك سبب لإعطاء من سأله به، فإنه سبحانه يحب الإحسان إلى الخلق، لا سيما إن كان المطلوب كف الظلم، فإنه يأمر بالعدل وينهى عن الظلم، وأمره أعظم الأسباب في حض الفاعل، فلا سبب أولى من أن يكون مقتضيا لمسببه من أمر الله تعالى.
وقد جاء في حديث رواه أحمد في مسنده وابن ماجه، عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ﷺ أنه عَلَّم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه: (وأسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك).
فإن كان هذا صحيحا فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو حق أوجبه على نفسه لهم، كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سببا لإجابة الدعاء كما في قوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} 9.
وكما يسأل بوعده؛ لأن وعده يقتضي إنجاز ما وعده، ومنه قول المؤمنين: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} 10، وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} 11.
ويشبه هذا مناشدة النبي ﷺ يوم بدر حيث يقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني). وكذلك ما في التوراة: أن الله تعالى غضب على بني إسرائيل، فجعل موسى يسأل ربه ويذكر ما وعد به إبراهيم، فإنه سأله بسابق وعده لإبراهيم.
ومن السؤال بالأعمال الصالحة: سؤال الثلاثة الذين أووا إلى غار، فسأل كل واحد منهم بعمل عظيم أخلص فيه لله؛ لأن ذلك العمل مما يحبه الله ويرضاه، محبة تقتضي إجابة صاحبه. هذا سأل ببره لوالديه، وهذا سأل بعفته التامة، وهذا سأل بأمانته وإحسانه.
وكذلك كان ابن مسعود يقول وقت السحر: اللهم أمرتني فأطعتك، ودعوتني فأجبتك، وهذا سحر فاغفر لي، ومنه حديث ابن عمر: أنه كان يقول على الصفا: (اللهم إنك قلت وقولك الحق: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 12، وإنك لا تخلف الميعاد)، ثم ذكر الدعاء المعروف عن ابن عمر أنه كان يقوله على الصفا.
هامش
[عدل]- ↑ [العتل: الشديد الجافي والفظ الغليظ من الناس. والجواظ: الكثير اللحم المختال في مشيته، انظر: النهاية في غريب الحديث 3180، 1316]
- ↑ [الأعراف: 23]
- ↑ [هود: 47]
- ↑ [إبراهيم: 37]
- ↑ [إبراهيم: 39]
- ↑ [التوبة: 47]
- ↑ [المائدة: 41]
- ↑ [الأنفال: 23]
- ↑ [الشورى: 26]
- ↑ [آل عمران: 193]
- ↑ [المؤمنون: 109، 110]
- ↑ [غافر: 60]