مجموع الفتاوى/المجلد الأول/التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته على وجهين
التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته على وجهين
[عدل]وكذلك التوسل بدعاء النبي ﷺ وشفاعته، فإنه يكون على وجهين:
أحدهما: أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيدعو ويشفع، كما كان يطلب منه في حياته، وكما يطلب منه يوم القيامة، حين يأتون آدم ونوحا، ثم الخليل، ثم موسى الكليم، ثم عيسى، ثم يأتون محمدا صلوات الله وسلامه عليه وعليهم فيطلبون منه الشفاعة.
والوجه الثاني: أن يكون التوسل مع ذلك بأن يسأل الله تعالى بشفاعته ودعائه، كما في حديث الأعمى المتقدم بيانه وذكره، فإنه طلب منه الدعاء والشفاعة فدعا له الرسول وشفع فيه، وأمره أن يدعو الله فيقول: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك به، اللهم فشفعه في) فأمره أن يسأل الله تعالى قبول شفاعته، بخلاف من يتوسل بدعاء الرسول وشفاعة الرسول والرسول لم يدع له ولم يشفع فيه فهذا توسل بما لم يوجد، وإنما يتوسل بدعائه وشفاعته من دعا له وشفع فيه.
ومن هذا الباب قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقت الاستسقاء، كما تقدم، فإن عمر والمسلمين توسلوا بدعاء العباس وسألوا الله تعالى مع دعاء العباس، فإنهم استشفعوا جميعًا، ولم يكن العباس وحده هو الذي دعا لهم، فصار التوسل بطاعته، والتوسل بشفاعته كل منهما يكون مع دعاء المتوسل وسؤاله، ولا يكون بدون ذلك.
فهذه أربعة أنواع كلها مشروعة، لا ينازع في واحد منها أحد من أهل العلم والإيمان.
ودين الإسلام مبني على أصلين، وهما: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلها آخر، فلا تحب مخلوقًا كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى الله، ومن سَوَّى بين المخلوق والخالق في شيء من ذلك فقد عدل بالله، وهو من الذين بربهم يعدلون، وقد جعل مع الله إلها آخر، وإن كان مع ذلك يعتقد أن الله وحده خلق السموات والأرض.
فإن مشركى العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض، كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله} 1، وكانوا مع ذلك مشركين يجعلون مع الله آلهة أخرى، قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ} 2، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله} 3. فصاروا مشركين لأنهم أحبوهم كحبه، لا أنهم قالوا: إن آلهتهم خلقوا كخلقه، كما قال تعالى: {أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} 4.
وهذا استفهام إنكار بمعنى النفي، أي ما جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فإنهم مقرون أن آلهتهم لم يخلقوا كخلقه، وإنما كانوا يجعلونهم شفعاء، ووسائط. قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 5، وقال صاحب يس: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شيئا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} 6.
الأصل الثاني: أن نعبده بما شرع على ألسن رسله، لا نعبده إلا بواجب أو مستحب، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك.
والدعاء من جملة العبادات، فمن دعا المخلوقين من الموتى والغائبين واستغاث بهم مع أن هذا أمر لم يأمر به الله ولا رسوله أمر إيجاب ولا استحباب كان مبتدعًا في الدين، مشركا برب العالمين، متبعًا غير سبيل المؤمنين. ومن سأل الله تعالى بالمخلوقين، أو أقسم عليه بالمخلوقين كان مبتدعًا بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فإن ذم من خالفه وسعى في عقوبته كان ظالمًا جاهلا معتديًا.
وإن حكم بذلك فقد حكم بغير ما أنزل الله، وكان حكمه منقوضا بإجماع المسلمين، وكان إلى أن يستتاب من هذا الحكم ويعاقب عليه أحوج منه إلى أن ينفذ له هذا الحكم ويعان عليه، وهذا كله مجمع عليه بين المسلمين، ليس فيه خلاف لا بين الأئمة الأربعة ولا غيرهم.
وقد بسط الكلام على هذه الأمور في مجلدات، من جملتها مصنف ذكرنا فيه قواعد تتعلق بحكم الحكام، وما يجوز لهم الحكم فيه وما لا يجوز. وهو مؤلف مفرد يتعلق بأحكام هذا الباب لا يحسن إيراد شيء من فصوله هاهنا؛ لإفراد الكلام في هذا الموضع على قواعد التوحيد ومتعلقاته، وسيأتى إيراد ما اختصر منه، وحررت فصوله في ضمن أوراق مفردة يقف عليها المتأمل لمزيد الفائدة ومسيس الحاجة إلى معرفة هذا الأمر المهم، وبالله التوفيق.
هامش
[عدل]