إغاثة اللهفان/مقدمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت ←


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله وتعرف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله فعلموا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله بل هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به أحد من خلقه في إكثاره وإقلاله لا يحصي أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه على لسان من أكرمهم بإرساله الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والباطن الذي ليس دونه شيء ولا يحجب المخلوق عنه تستره بسرباله الحي القيوم الواحد الأحد الفرد الصمد المنفرد بالبقاء وكل مخلوق منتهى إلى زواله السميع الذي يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات فلا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين في سؤاله البصير الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء حيث كانت من سهله أو جباله وألطف من ذلك رؤيته لتقلب قلب عبده ومشاهدته لاختلاف أحواله فإن أقبل إليه تلقاه وإنما إقبال العبد عليه من إقباله وإن أعرض عنه لم يكله إلى عدوه ولم يدعه في إهماله بل يكون أرحم به من الوالدة بولدها الرفيقة به في حمله ورضاعه وفصاله فإن تاب فهو أفرح بتوبته من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدوية المهلكة إذا وجدها وقد تهيأ لموته وانقطاع أوصاله وإن أصر على الإعراض ولم يتعرض لأسباب الرحمة بل أصر على العصيان في إدباره وإقباله وصالح عدو الله وقاطع سيده فقد استحق الهلاك ولا يهلك على الله إلا الشقي الهالك لعظيم رحمته وسعة إفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا فردا صمدا جل عن الأشباه والأمثال وتقدس عن الأضداد والأنداد والشركاء والأشكال لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لحكمه ولا معقب لأمره: وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال [ الرعد: ] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائم له بحقه وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه أرسله رحمة للعالمين إماما للمتقين وحسرة على الكافرين وحجة على العباد أجمعين بعثه على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعظيمه وتوقيره والقيام بحقوقه وسد إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فشرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره وجعل الذل والصغار على من خالف أمره وأقسم بحياته في كتابه المبين وقرن اسمه باسمه فلا يذكر إلا ذكر معه كما في التشهد والخطب والتأذين فلم يزل قائما بأمر الله لا يرده عنه راد مشمرا في مرضاة الله لا يصده عن ذلك صاد إلى أن أشرقت الدنيا برسالته ضياء وابتهاجا ودخل الناس في دين الله أفواجا أفواجا وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار ثم استأثر الله به لينجز له ما وعده به في كتابه المبين بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد وأقام الدين وترك أمته على البيضاء الواضحة البينة للسالكين وقال: هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [ يوسف: 108 ]

أما بعد: فإن الله سبحانه لم يخلق خلقه سدى هملا بل جعلهم موردا للتكليف ومحلا للأمر والنهي وألزمهم فهم ما أرشدهم إليه مجملا ومفصلا وقسمهم إلى شقي وسعيد وجعل لكل واحد من الفريقين منزلا وأعطاهم مواد العلم والعمل: من القلب والسمع والبصر والجوارح نعمة منه وتفضيلا فمن استعمل ذلك في طاعته وسلك به طريق معرفته على ما أرشد إليه ولم يبغ عنه عدولا فقد قام بشكر ما أوتيه من ذلك وسلك به إلى مرضاة الله سبيلا ومن استعمله في إرادته وشهواته ولم يرع حق خالقه فيه يخسر إذا سئل عن ذلك ويحزن حزنا طويلا فإنه لابد من الحساب على حق هذه الأعضاء لقوله تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الاسراء: 36 ]

ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود الذي تصدر كلها عن أمره ويستعملها فيما شاء فكلها تحت عبوديته وقهره وتكتسب منه الاستقامة والزيغ وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله قال النبي  : ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله فهو ملكها وهي المنفذة لما يأمرها به القابلة لما يأتيها من هديته ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تصدر عن قصده ونيته وهو المسئول عنها كلها لأن كل راع مسئول عن رعيته: كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به الناسكون ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه أجلب عليه بالوساوس وأقبل بوجوه الشهوات إليه وزين له من الأحوال والأعمال ما يصده به عن الطريق وأمده من أسباب الغى بما يقطعه عن أسباب التوفيق ونصب له من المصايد والحبائل ما إن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق فلا نجاة من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى والتعرض لأسباب مرضاته والتجاء القلب إليه وإقباله عليه في حركاته وسكناته والتحقق بذل العبودية الذي هو أولى ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول ضمان إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [ الحجر: 42 ] فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين وحصولها سبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين وإشعار القلب إخلاص العمل ودوام اليقين فإذا أشرب القلب العبودية والإخلاص صار عند الله من المقربين وشمله استثناء إلا عبادك منهم المخلصين [ الحجر: 40 ]

ولما من الله الكريم بلطفه بالاطلاع على ما اطلع عليه من أمراض القلوب وأدوائها وما يعرض لها من وساوس الشياطين أعدائها وما تثمر تلك الوساوس من الأعمال وما يكتسب القلب بعدها من الأحوال فإن العمل السيىء مصدره عن فساد قصد القلب ثم يعرض للقلب من فساد العمل قسوة فيزداد مرضا على مرضه حتى يموت ويبقى لا حياة فيه ولا نور له وكل ذلك من انفعاله بوسوسة الشيطان وركونه إلى عدوه الذي لا يفلح إلا من جاهره بالعصيان: أردت أن أقيد ذلك في هذا الكتاب لأستذكره معترفا فيه لله بالفضل والإحسان ولينتفع به من نظر فيه داعيا لمؤلفه بالمغفرة والرحمة والرضوان وسميته: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ورتبته على ثلاثة عشر بابا:

الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت

الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب

الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية

الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه

الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره

الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه

الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه

الباب الثامن: في زكاة القلب

الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه

الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته

الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه

الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان

الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم، وهو الباب الذي لأجله وضع الكتاب وفيه فصول جمة الفوائد حسنة المقاصد والله تعالى يجعله خالصا لوجهه مؤمنا من الكرة الخاسرة وينفع به مصنفه وكاتبه والناظر فيه في الدنيا والآخرة إنه سميع عليم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34