مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/فصل في تعليل الحكم الواحد بعلتين
فصل في تعليل الحكم الواحد بعلتين
وقال شيخ الإسلام رحمه الله
فصل في تعليل الحكم الواحد بعلتين: وما يشبه ذلك من وجود مقدر واحد بين قادرين ووجود الفعل الواحد من فاعلين فنقول:
النزاع وإن كان مشهورا في ذلك فأكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يجوز تعليل الحكم بعلتين وكثير من الفقهاء والمتكلمين يمنع ذلك. فالنزاع في ذلك يعود إلى نزاع تنوعي، ونزاع في العبارة، وليس بنزاع تناقض ونظير ذلك النزاع في تخصيص العلة، فإن هذا فيه خلاف مشهور بين الطوائف كلها من أصحابنا وغيرهم حتى يذكر ذلك روايتان عن أحمد. وأصل ذلك أن مسمى العلة قد يعني به العلة الموجبة وهي: التامة التي يمتنع تخلف الحكم عنها فهذه لا يتصور تخصيصها ومتى انتقضت فسدت ويدخل فيها ما يسمى جزء العلة، وشرط الحكم، وعدم المانع فسائر ما يتوقف الحكم عليه يدخل فيها. وقد يعني بالعلة: ما كان مقتضيا للحكم يعني: أن فيه معنى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجبا فيمتنع تخلف الحكم عنه فهذه قد يقف حكمها على ثبوت شروط وانتفاء موانع فإذا تخصصت فكان تخلف الحكم عنها لفقدان شرط أو وجود مانع لم يقدح فيها وعلى هذا فينجبر النقص بالفرق. وإن كان التخلف عنها لا لفوات شرط ولا وجود مانع كان ذلك دليلا على أنها ليست بعلة، إذ هي بهذا التقدير علة تامة إذا قدر أنها جميعها بشروطها وعدم موانعها موجودة حكما والعلة التامة يمتنع تخلف الحكم عنها فتخلفه يدل على أنها ليست علة تامة والمقصود من التنظير: أن سؤال النقض الوارد على العلة مبني على تخصيص العلة وهو ثبوت الوصف بدون الحكم. وسؤال عدم التأثير عكسه وهو ثبوت الحكم بدون الوصف وهو ينافي عكس العلة كما أن الأول ينافي طردها. والعكس مبني على تعليل الحكم بعلتين.
وجمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم وإن كانوا لا يشترطون الانعكاس في العلل الشرعية ويجوزون تعليل الحكم الواحد بعلتين، فهم مع ذلك يقولون: العلة تفسد بعدم التأثير، لأن ثبوت الحكم بدون هذا الوصف يبين أن هذا الوصف ليس علة، إذا لم يخلف هذا الوصف وصفا آخر يكون علة له فهم يوردون هذا السؤال في الموضع الذي ليست العلة فيه إلا علة واحدة إما لقيام الدليل على ذلك، وإما لتسليم المستدل لذلك. والمقصود هنا أن نبين أن النزاع في تعليل الحكم بعلتين يرجع إلى نزاع تنوع ونزاع في العبارة لا إلى نزاع تناقض معنوي، وذلك أن الحكم الواحد بالجنس والنوع لا خلاف في جواز تعليله بعلتين يعني أن بعض أنواعه أو أفراده يثبت بعلة، وبعض أنواعه أو أفراده يثبت بعلة أخرى كالإرث الذي يثبت بالرحم وبالنكاح وبالولاء والملك الذي يثبت بالبيع والهبة والإرث وحل الدم الذي يثبت بالردة والقتل والزنا ونواقض الوضوء وموجبات الغسل وغير ذلك.
وأما التنازع بينهم في الحكم المعين الواحد بالشخص، مثل من لمس النساء ومس ذكره وبال: هل يقال: انتقاض وضوئه ثبت بعلل متعددة؟ فيكون الحكم الواحد معللا بعلتين. ومثل من قتل وارتد وزنى، ومثل الربيبة إذا كانت محرمة بالرضاع كما قال النبي ﷺ في درة بنت أم سلمة لما قالت له أم حبيبة: إنا نتحدث أنك ناكح درة بنت أم سلمة فقال: بنت أبي سلمة؟ فقالت: نعم فقال: «إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي، لأنها بنت أخي من الرضاعة. أرضعتني وأبا سلمة ثويبة مولاة أبي لهب» وكما قال أحمد في بعض ما يذكره: هذا كلحم خنزير ميت حرام من وجهين. وأمثال ذلك.
فنقول: لا نزاع بين الطائفتين في أمثال هذه الأمور أن كل واحدة من العلتين مستقلة بالحكم في حال الانفراد وأنه يجوز أن يقال: إنه اجتمع لهذا الحكم علتان كل واحدة منهما مستقلة به إذا انفردت فهذا أيضا مما لا نزاع فيه وهو معنى قولهم: يجوز تعليله بعلتين على البدل بلا نزاع.
ولا يتنازع العقلاء أن العلتين إذا اجتمعتا لم يجز أن يقال: إن الحكم الواحد ثبت بكل منهما حال الاجتماع على سبيل الاستقلال، فإن استقلال العلة بالحكم هو ثبوته بها دون غيرها. فإذا قيل: ثبت بهذه دون غيرها، وثبت بهذه دون غيرها: كان ذلك جمعا بين النقيضين وكان التقدير: ثبت بهذه ولم يثبت بها، وثبت بهذه ولم يثبت بها فكان ذلك جمعا بين إثبات التعليل بكل منهما وبين نفي التعليل عن كل منهما وهذا معنى ما يقال: إن تعليله بكل منهما على سبيل الاستقلال ينفي ثبوته بواحدة منهما وما أفضى إثباته إلى نفيه كان باطلا.
وهنا يتقابل النفاة والمثبتة، والنزاع لفظي، فتقول النفاة: إثبات الحكم بهذه العلة على سبيل الاستقلال ينافي إثباته بالأخرى على سبيل الاستقلال. وتقول المثبتة: نحن لا نعني بالاستقلال: الاستقلال في حال الاجتماع وإنما نعني: أن الحكم ثبت بكل منهما، وهي مستقلة به إذا انفردت. فهؤلاء لم ينازعوا الأولين في أنهما حال الاجتماع لم تستقل واحدة منهما به وأولئك لم ينازعوا هؤلاء في أن كل واحدة من العلتين مستقلة حال انفرادها.
فهذا هو الكلام في العلتين المجتمعتين.
وأما الحكم الثابت حين اجتماعهما فقد يكون مختلفا كحل القتل الثابت بالردة وبالزنا وبالقصاص، فإن هذه الأحكام مختلفة غير متماثلة لا يسد كل واحد منها مسد الآخر وقد تكون الأحكام متماثلة كانتقاض الوضوء فالذين يمنعون تعليل الحكم بعلتين يقولون: الثابت بالعلل أحكام متعددة لا حكم واحد لا سيما عند من سلم لهم على أحد قولي الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما: أنه إذا نوى التوضؤ أو الاغتسال من حدث بعض الأسباب لم يرتفع الحدث الآخر. والخلاف معروف في اجتماع ذلك في الحدث الأصغر والأكبر وهو ينزع إلى اجتماع الأمثال في المحل الواحد، وأن الأمثال هل هي متضادة أم لا؟ وفيه نزاع معروف. ومن يقول بتعليل الحكم الواحد بعلتين لا ينازع في أنه إذا اجتمع علتان كان الحكم أقوى وأوكد مما إذا انفردت إحداهما، ولهذا إذا جاء تعليل الحكم الواحد بعلتين في كلام الشارع أو الأئمة كان ذلك مذكورا لبيان توكيد ثبوت الحكم وقوته كقول أحمد في بعض ما يغلظ تحريمه: هذا كلحم خنزير ميت فإنه ذكر ذلك لتغليظ التحريم وتقويته وهذا أيضا يرجع إلى أن الإيجاب والتحريم والإباحة هل يتفاوت في نفسه؟ فيكون إيجاب أعظم من إيجاب، وتحريم أعظم من تحريم؟ وهذا فيه أيضا نزاع والمشهور عند أكثر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: تجويز تفاوت ذلك ومنع منه طائفة منهم ابن عقيل وغيرهم.
وكذلك النزاع في أنه هل يكون عقل أكمل من عقل؟ وهو يشبه النزاع في أن التصديق والمعرفة التي في القلب هل تتفاوت؟ وقد ذكر في ذلك روايتان عن أحمد والذي عليه أئمة السنة المخالفون للمرجئة: أن جميع ذلك يتفاوت ويتفاضل وكذلك سائر صفات الحي من الحب والبغض، والإرادة والكراهة، والسمع والبصر، والشم والذوق واللمس والشبع والري والقدرة والعجز وغير ذلك فالنزاع في هذا كالنزاع في جواز اجتماع المثلين مثل سوادين وحلاوتين فإنه لا نزاع أنه قد يكون أحد السوادين أقوى وإحدى الحلاوتين أقوى لكن هل يقال: إنه اجتمع في المحل سوادان وحلاوتان؟ أو هو سواد واحد قوي؟ وهذا أيضا نزاع لفظي. فقول من يقول: إنه اجتمع في المحل حكمان كإيجابين وتحريمين وإباحتين وهو شبيه بقول من يقول: اجتمع سوادان وقول من يقول: هو حكم واحد مؤكد كقول من يقول: سواد واحد قوي وكلا القولين مقصودهما واحد فإن التوكيد لا ينافي تعدد الأمثال إذ التوكيد قد يكون بتكرير الأمثال كقول النبي ﷺ: «والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا» وقول القائل: ثم ثم. وجاء زيد جاء زيد وأمثال ذلك فالقول بثبوت أحكام والقول بثبوت حكم قوي مؤكد هما سواء في المعنى.
ومن المعلوم أنه سواء قال القائل: ثبت أحكام متعددة أو حكم قوي مؤكد فذلك المجموع لم يحصل إلا بمجموع العلتين لم تستقل به إحداهما ولا تستقل به إحداهما لا في حال الاجتماع ولا في حال الانفراد فكل منهما جزء من العلة التي لهذا المجموع لا علة له كما أنه من المعلوم أن كل واحدة من العلتين مستقلة بأصل الحكم الواحد حال انفرادها ولكن لفظ الواحد فيه إجمال كما أن في لفظ الاستقلال إجمالا فكما أن من أثبت استقلال العلة حال الانفراد لا يعارض من نفى استقلالها حال الاجتماع فكذلك من قال: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين إذا أراد به أن كلا منهما تستقل به حال الانفراد فهذا لا نزاع فيه. ومن قال: إن المجموع الواحد الحاصل بمجموعهما لا يحصل بأحدهما فهذا لا نزاع فيه. ومن جعل هذا المجموع أحكاما متعددة لم يعارض قول من جعله واحدا إذا عنى به وحدة النوع في المحل الواحد فيكون المقصود أن الحكم الواحد بالنوع تارة يكون شخصان منه في محلين فهذا ظاهر. وتارة يجتمع منه شخصان في محل واحد فهما نوعان باعتبار أنفسهما وهما شخص واحد باعتبار محلهما. فمن قال: إن الحكم الحاصل بالعلتين حكم واحد فإن أراد به نوعا واحدا في عين واحدة فقد صدق ومن أراد به شخصين من نوع في عين واحدة فقد صدق.
هامش