مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/فصل في الأحكام التي يقال عنها أنها خلاف القياس
فصل في الأحكام التي يقال عنها أنها خلاف القياس
والأحكام التي يقال: إنها على خلاف القياس نوعان: نوع مجمع عليه ونوع متنازع فيه. فما لا نزاع في حكمه تبين أنه على وفق القياس الصحيح وينبني على هذا أن مثل هذا هل يقاس عليه أم لا؟.
فذهب طائفة من الفقهاء إلى أن ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه ويحكى هذا عن أصحاب أبي حنيفة.
والجمهور أنه يقاس عليه وهذا هو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما. وقالوا: إنما ينظر إلى شروط القياس فما علمت علته ألحقنا به ما شاركه في العلة سواء قيل: إنه على خلاف القياس أو لم يقل وكذلك ما علم انتفاء الفارق فيه بين الأصل والفرع والجمع بدليل العلة كالجمع بالعلة.
وأما إذا لم يقم دليل على أن الفرع كالأصل فهذا لا يجوز فيه القياس سواء قيل: إنه على وفق القياس أو خلافه؛ ولهذا كان الصحيح أن العرايا يلحق بها ما كان في معناها.
وحقيقة الأمر أنه لم يشرع شيء على خلاف القياس الصحيح بل ما قيل: إنه على خلاف القياس: فلا بد من اتصافه بوصف امتاز به عن الأمور التي خالفها واقتضى مفارقته لها في الحكم وإذا كان كذلك فذلك الوصف إن شاركه غيره فيه فحكمه كحكمه وإلا كان من الأمور المفارقة له.
وأما المتنازع فيه فمثل ما يأتي حديث بخلاف أمر فيقول القائلون: هذا بخلاف القياس أو بخلاف قياس الأصول وهذا له أمثلة من أشهرها المصراة ؛ فإن النبي ﷺ قال: «لا تصروا الإبل ولا الغنم فمن ابتاع مصراة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر». وهو حديث صحيح فقال قائلون: هذا يخالف قياس الأصول من وجوه: منها: أنه رد المبيع بلا عيب ولا خلف في صفة. ومنها: أن الخراج بالضمان فاللبن الذي يحدث عند المشتري غير مضمون عليه وهنا قد ضمنه. ومنها: أن اللبن من ذوات الأمثال فهو مضمون بمثله. ومنها: أن ما لا مثل له يضمن بالقيمة من النقد وهنا ضمنه بالتمر.
ومنها: أن المال المضمون يضمن بقدره لا بقدر بدله بالشرع وهنا قدر بالشرع. فقال المتبعون للحديث: بل ما ذكرتموه خطأ والحديث موافق للأصول ولو خالفها لكان هو أصلا كما أن غيره أصل فلا تضرب الأصول بعضها ببعض بل يجب اتباعها كلها فإنها كلها من عند الله.
أما قولهم: رد بلا عيب ولا فوات صفة فليس في الأصول ما يوجب انحصار الرد في هذين الشيئين بل التدليس نوع ثبت به الرد وهو من جنس الخلف في الصفة فإن البيع تارة تظهر صفاته بالقول وتارة بالفعل فإذا ظهر أنه على صفة وكان على خلافها فهو تدليس وقد «أثبت النبي ﷺ الخيار للركبان إذا تلقوا واشترى منهم قبل أن يهبطوا السوق ويعلموا السعر».
وليس كذلك واحد من الأمرين ولكن فيه نوع تدليس. وأما قوله: «الخراج بالضمان».
فأولًا حديث المصراة أصح منه باتفاق أهل العلم مع أنه لا منافاة بينهما فإن الخراج ما يحدث في ملك المشتري ولفظ الخراج اسم للغلة: مثل كسب العبد وأما اللبن ونحوه فملحق بذلك وهنا كان اللبن موجودًا في الضرع فصار جزءا من المبيع ولم يجعل الصاع عوضًا عما حدث بعد العقد بل عوضًا عن اللبن الموجود في الضرع وقت العقد وأما تضمين اللبن بغيره وتقديره بالشرع فلأن اللبن المضمون اختلط باللبن الحادث بعد العقد فتعذرت معرفة قدره فلهذا قدر الشارع البدل قطعًا للنزاع.
وقدر بغير الجنس لأن التقدير بالجنس قد يكون أكثر من الأول أو أقل فيفضي إلى الربا بخلاف غير الجنس فإنه كأنه ابتاع لذلك اللبن الذي تعذرت معرفة قدره بالصاع من التمر والتمر كان طعام أهل المدينة وهو مكيل مطعوم يقتات به كما أن اللبن مكيل مقتات وهو أيضا يقتات به بلا صنعة بخلاف الحنطة والشعير فإنه لا يقتات به إلا بصنعة فهو أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن.
ولهذا كان من موارد الاجتهاد أن جميع الأمصار يضمنون ذلك بصاع من تمر أو يكون ذلك لمن يقتات التمر فهذا من موارد الاجتهاد كأمره في صدقة الفطر بصاع من شعير أو تمر.
ومن ذلك قول بعضهم إن أمره للمصلي خلف الصف وحده بالإعادة على خلاف القياس، فإن الإمام يقف وحده والمرأة تقف خلف الرجال وحدها كما جاءت به السنة وليس الأمر كذلك فإن الإمام يسن في حقه التقدم بالاتفاق والمؤتمون يسن في حقهم الاصطفاف بالاتفاق فكيف يشبه هذا بهذا وذلك لأن الإمام يؤتم به فإذا كان أمامهم رأوه وكان اقتداؤهم به أكمل.
وأما المرأة فإنها تقف وحدها إذا لم يكن هناك امرأة غيرها فالسنة في حقها الاصطفاف لكن قضية المرأة تدل على شيئين تدل على أنه إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه، وتعذر الدخول في الصف، صلى وحده للحاجة.
وهذا هو القياس فإن الواجبات تسقط للحاجة وأمره بأن يصاف غيره من الواجبات فإذا تعذر ذلك سقط للحاجة، كما سقط غير ذلك من فرائض الصلاة للحاجة، في مثل صلاة الخوف محافظة على الجماعة وطرد ذلك إذا لم يمكنه أن يصلي مع الجماعة، إلا قدام الإمام، فإنه يصلي هنا لأجل الحاجة أمامه.
وهو قول طوائف من أهل العلم وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وإن كانوا لا يجوزون التقدم على الإمام، إذا أمكن ترك التقدم عليه.
وفي الجملة فليست المصافة أوجب من غيرها فإذا سقط غيرها للعذر في الجماعة فهي أولى بالسقوط ومن الأصول الكلية.
إن المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب وإن المضطر إليه بلا معصية غير محظور فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد ولم يحرم ما يضطر إليه العبد.
ومن ذلك قول بعضهم في الحديث الصحيح الذي فيه إن الرهن مركوب ومحلوب وعلى الذي يركب ويحلب النفقة أنه على خلاف القياس وليس كذلك فإن الرهن إذا كان حيوانًا فهو محترم في نفسه ولمالكه فيه حق وللمرتهن فيه حق.
وإذا كان بيد المرتهن فلم يركب ولم يحلب ذهبت منفعته باطلة وقد قدمنا أن اللبن يجري مجرى المنفعة فإذا استوفى المرتهن منفعته وعوض عنها نفقته كان في هذا جمع بين المصلحتين، وبين الحقين فإن نفقته واجبة على صاحبه.
والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبًا وله فيه حق فله أن يرجع ببدله والمنفعة تصلح أن تكون بدلا فأخذها خير من أن تذهب على صاحبها وتذهب باطلًا وقد تنازع الفقهاء فيمن أدى عن غيره واجبًا بغير إذنه كالدين فمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه له أن يرجع به عليه ومذهب أبي حنيفة والشافعي ليس له ذلك وإذا أنفق نفقة تجب عليه مثل: أن ينفق على ولده الصغير، أو عبده فبعض أصحاب أحمد قال لا يرجع وفرقوا بين النفقة والدين.
والمحققون من أصحابه سووا بينهما وقالوا الجميع واجب ولو افتداه من الأسر كان له مطالبته بالفداء وليست دينًا والقرآن يدل على هذا القول فإن الله قال: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } 1.
فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع، ولم يشترط عقدًا ولا إذن الأب.
وكذلك قال: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف } 2.
فأوجب ذلك عليه ولم يشترط عقدًا ولا إذنًا.
ونفقة الحيوان واجبة على ربه والمرتهن والمستأجر له فيه حق فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده فإذا قدر أن الراهن قال: لم آذن لك في النفقة، قال: هي واجبة عليك وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون والمستأجر وإذا كان المنفق قد رضي بأن يعتاض بمنفعة الرهن التي لا يطالبه بنظير النفقة كان قد أحسن إلى صاحبه فهذا خير محض مع الراهن.
وكذلك لو قدر أن المؤتمن على حيوان الغير كالمودع، والشريك، والوكيل، أنفق من مال نفسه واعتاض بمنفعة المال؛ لأن هذا إحسان إلى صاحبه، إذا لم ينفق عليه صاحبه ومما يقال: إنه أبعد الأحاديث عن القياس الحديث الذي في السنن عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق أن رسول الله ﷺ قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها.
وقد روي في لفظ آخر وإن كانت طاوعته فهي ومثلها من ماله لسيدتها وهذا الحديث تكلم بعضهم في إسناده لكنه حديث حسن وهم يحتجون بما هو دونه في القوة ولكن لإشكاله قوي عندهم تضعيفه.
وهذا الحديث يستقيم على القياس مع ثلاثة أصول هي صحيحة كل منها قول طائفة من الفقهاء أحدها أن من غير مال غيره بحيث يفوت مقصودة عليه فله أن يضمنه إياه بمثله وهذا كما إذا تصرف في المغصوب بما أزال اسمه.
ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره أحدها: أنه باق على ملك صالحبه وعلى الغاصب ضمان النقص ولا شيء له في الزيادة كقول الشافعي، والثاني: يملكه الغاصب بذلك ويضمنه لصاحبه، كقول أبي حنيفة والثالث: يخير المالك بين أخذه وتضمين النقص وبين المطالبة بالبدل وهذا أعدل الأقوال وأقواها فإن فوت صفاته المعنوية مثل أن ينسيه صناعته أو يضعف قوته أو يفسد عقله ودينه فهذا أيضا يخير المالك بين تضمين النقص وبين المطالبة بالبدل ولو قطع ذنب بغلة القاضي فعند مالك يضمنها بالبدل ويملكها لتعذر مقصودها على المالك في العادة أو يخير المالك وكذلك السلطان إذا قطع آذان فرسة وذنبها الأصل.
الثاني: أن جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة حتى الحيوان، كما أنه في القرض يجب فيه رد المثل وإذا اقترض حيوانًا رد مثله كما اقترض النبي ﷺ بكرًا ورد خيرًا منه.
وكذلك في المغرور يضمن ولده بمثلهم كما قضت به الصحابة، وكذلك إذا استثنى رأس المبيع ولم يذبحه فإن الصحابة قضوا بشرائه أي برأس مثله في القيمة وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره.
وقصة داود وسليمان عليهما السلام من هذا الباب فإن الماشية كانت قد اتلفت حرث القوم وهو بستانهم قالوا وكان عينًا، والحرث اسم للشجر والزرع فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث كأنه ضمنهم ذلك بالقيمة ولم يكن لهم مال إلا الغنم فأعطاهم الغنم بالقيمة. وأما سليمان فحكم بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث حتى يعود كما كان فضمنهم إياه بالمثل وأعطاهم الماشية يأخذون منفعتها عوضًا عن المنفعة التي فاتت من حين تلف الحرث إلى أن يعود وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز فيمن كان أتلف له شجرًا فقال يغرسه حتى يعود كما كان وقيل ربيعة وأبو الزناد قالا عليه القيمة فغلظ الزهري القول فيهما وهذا موجب الأدلة فإن الواجب ضمان المتلف بالمثل بحسب الإمكان قال تعالى: { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } 3.
وقال: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } 4. وقال: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } 5. وقال: { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } 6.
فإذا أتلف نقدًا أو حبوبًا ونحو ذلك أمكن ضمانها بالمثل وإن كان المتلف ثيابًا أو آنية أو حيوانًا فهنا مثله من كل وجه.
وقد يتعذر فالأمر دائر بين شيئين إما أن يضمنه بالقيمة وهي دراهم مخالفة للمتلف في الجنس والصفة لكنها تساويه في المالية، وإما أن يضمنه بثياب من جنس ثياب المثل أو آنية من جنس آنيته، أو حيوان من جنس حيوانه مع مراعاة القيمة بحسب الإمكان، ومع كون قيمته بقدر قيمته فهنا المالية مساوية كما في النقد وامتاز هذا بالمشاركة في الجنس والصفة فكان ذلك أمثل من هذا وما كان أمثل فهو أعدل، فيجب الحكم به إذا تعذر المثل من كل وجه ونظير هذا ما ثبت بالسنة واتفاق الصحابة من القصاص في اللطمة والضربة وهو قول كثير من السلف وقد نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها الجوزجاني في كتابه المسمى بالمترجم فقال طائفة من الفقهاء: المساواة متعذرة في ذلك فيرجع إلى التعزير فيقال: لهم ما جاءت به الآثار هو موجب القياس فإن التعزير عقاب غير مقدر الجنس ولا الصفة ولا القدر والمرجع فيه إلى اجتهاد الوالي.
ومن المعلوم الأمر بضرب يقارب ضربة وإن لم يعلم أنه مساو له أقرب إلى العدل والمماثلة من عقوبة تخالفه في الجنس والوصف غير مقدرة أصلًا.
واعلم أن المماثل من كل وجه متعذر حتى في المكيلات فضلا عن غيرها فإنه إذا أتلف صاعًا من بر فضمن بصاع من بر لم يعلم أن أحد الصاعين فيه من الحب ما هو مثل الآخر بل قد يزيد أحدهما على الآخر ولهذا قال تعالى: { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } 7
فإن تحديد الكيل والوزن مما قد يعجز عنه البشر ولهذا يقال هذا أمثل من هذا إذا كان أقرب إلى المماثلة منه إذا لم تحصل المماثلة من كل وجه الأصل الثالث من مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما وقد جاءت بذلك آثار مرفوعة عن النبي ﷺ وأصحابه كعمر بن الخطاب كما قد ذكر في غير هذا الموضع فهذا الحديث موافق لهذه الأصول الثلاثة الثابتة بالأدلة الموافقة للقياس العادل.
فإذا طاوعته فقد افسدها على سيدها فإنها مع المطاوعة تبقى زانية وذلك ينقص قيمتها ولا يمكن سيدها من استخدامها كما كانت تمكن قبل ذلك لبغضه لها ولطمع الجارية في السيد ولاستشراف السيد إليها لا سيما ويعسر على سيدها فلا يطيعها كما كانت تطيعه وإذا تصرف بالمال بما ينقص قيمته كان لصاحبه المطالبة بالمثل فقضى لها بالمثل ومعلوم أنها لو رضيت أن تبقى ملكًا لها وتغرمه ما نقص من قيمتها لم يمتنع من ذلك وإنما المقضي به ما أبيح لها ولكن موجب هذا أن الأمة إذا أفسدها رجل على أهلها حتى طاوعت على الزنا، فلأهلها أن يطالبوه ببدلها ووجب مثلها بناء على أن المثل يجب في كل مضمون بحسب الإمكان وأما إذا استكرهها فإن هذا من باب المثلة.
فإن الإكراه على الوطء مثلة فإن الوطء يجري مجرى الإتلاف، ولهذا قيل: إن من استكره عبده على التلوط به عتق عليه؛ ولهذا لا يخلو من عقر أو عقوبة لا تجري مجرى منفعة الخدمة فهي لما صارت له بإفسادها على سيدها، أوجب عليه مثلها كما في المطاوعة وأعتقها عليه لكونه مثل بها وقد يقال: إنه يلزم على هذا إذا استكره عبده على الفاحشة عتق عليه ولو استكره أمة الغير على الفاحشة عتقت وضمنها بمثلها إلا أن يفرق بين أمة امرأته وبين غيرها، فإن كان بينهما فرق شرعي وإلا فموجب القياس التسوية.
وأما قوله عز وجل: { وَلَاتُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 8.
فهذا النهي عن إكراههن على كسب المال بالبغاء كما نقل أن ابن أبي المنافق كان له من الإماء ما يكرههن على البغاء وليس هو استكراهًا للأمة على أن يزني هو بها، فإن هذا بمنزلة التمثيل بها وذاك إلزام لها بأن تذهب فتزني بنفسها مع أنه قد يمكن أن يقال العتق بالمثلة لم يكن مشروعًا عند نزول الآية ثم شرع بعد ذلك.
والكلام على هذا الحديث من أدق الأمور فإن كان ثابتًا فهذا الذي ظهر في توجيهه وتخرجه على الأصول الثابتة وإن لم يكن ثابتًا فلا يحتاج إلى الكلام عليه وبالجملة فما عرفت حديثا صحيحًا إلا ويمكن تخرجه على الأصول الثابتة.
وقد تدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع فما رأيت قياسًا صحيحًا يخالف حديثا صحيحًا كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح بل متى رأيت قياسًا يخالف أثرًا فلا بد من ضعف أحدهما لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفي كثير منه على أفاضل العلماء فضلا عمن هو دونهم فإن إدراك الصفات المؤثرة في الأحكام على وجهها ومعرفة الحكم المعاني التي تضمنتها الشريعة من أشرف المعلوم فمنه الجلي الذي يعرفه كثير من الناس ومنه الدقيق الذي لا يعرفه إلا خواصهم فلهذا صار قياس كثير من العلماء يرد مخالفًا للنصوص لخفاء القياس الصحيح عليهم كما يخفي على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام.
هامش
- ↑ [الطلاق: 6]
- ↑ [البقرة: 233]
- ↑ [الشورى: 40]
- ↑ [البقرة: 194]
- ↑ [النحل: 126]
- ↑ [البقرة: 194]
- ↑ [الأنعام: 152]
- ↑ [النور: 33]