مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول
أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول
ثم من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما حتى أن الشافعي لما ناظر محمد بن الحسن حين رجح محمد لصاحبه على صاحب الشافعي فقال له الشافعي: بالإنصاف أو بالمكابرة؟ قال له: بالإنصاف فقال: ناشدتك الله صاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ فقال: بل صاحبكم فقال صاحبنا أعلم بسنة رسول الله ﷺ أم صاحبكم؟ فقال: بل صاحبكم فقال: صاحبنا أعلم بأقوال أصحاب رسول الله ﷺ أم صاحبكم؟ فقال: بل صاحبكم فقال: ما بقي بيننا وبينكم إلا القياس، ونحن نقول بالقياس ولكن من كان بالأصول أعلم كان قياسه أصح. وقالوا للإمام أحمد: من أعلم بسنة رسول الله ﷺ: مالك أم سفيان؟ فقال: بل مالك. فقيل له: أيما أعلم بآثار أصحاب رسول الله ﷺ مالك أم سفيان؟ فقال: بل مالك. فقيل له: أيما أزهد مالك أم سفيان؟ فقال: هذه لكم.
ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم أهل العراق ذلك الوقت بالفقه والحديث، فإن أبا حنيفة، والثوري، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن بن صالح بن جني، وشريك بن عبد الله النخعي القاضي: كانوا متقاربين في العصر وهم أئمة فقهاء الكوفة في ذلك العصر وكان أبو يوسف يتفقه أولا على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي ثم إنه اجتمع بأبي حنيفة فرأى أنه أفقه منه فلزمه وصنف كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى.
وأخذه عنه محمد بن الحسن ونقله الشافعي عن محمد بن الحسن وذكر فيه اختياره وهو المسمى بكتاب اختلاف العراقيين.
ومعلوم أن سفيان الثوري أعلم هذه الطبقة في الحديث مع تقدمه في الفقه والزهد والذين أنكروا من أهل العراق وغيرهم ما أنكروا من الرأي المحدث بالكوفة لم ينكروا ذلك على سفيان الثوري بل سفيان عندهم أمام العراق فتفضيل أحمد لمذهب مالك على مذهب سفيان تفضيل له على مذهب أهل العراق.
وقد قال الإمام أحمد في علمه وعلم مالك بالكتاب والسنة والآثار ما تقدم مع أن أحمد يقدم سفيان الثوري على هذه الطبقة كلها وهو يعظم سفيان غاية التعظيم ولكنه كان يعلم أن مذهب أهل المدينة وعلمائها أقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب أهل الكوفة وعلمائها.
وأحمد كان معتدلا عالمًا بالأمور يعطي كل ذي حق حقه، ولهذا كان يحب الشافعي ويثني عليه، ويدعو له، ويذب عنه عند من يطعن في الشافعي، أو من ينسبه إلى بدعة ويذكر تعظيمه للسنة واتباعه لها ومعرفته بأصول الفقه كالناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفسر ويثبت خبر الواحد ومناظرته عن مذهب أهل الحديث من خالفه بالرأي وغيره.
وكان الشافعي يقول: سموني ببغداد ناصر الحديث. ومناقب الشافعي واجتهاده في اتباع الكتاب والسنة، واجتهاده في الرد على من يخالف ذلك كثير جدا وهو كان على مذهب أهل الحجاز وكان قد تفقه على طريقة المكيين أصحاب ابن جريج كمسلم بن خالد الزنجي، وسعيد بن سالم القداح ثم رحل إلى مالك وأخذ عنه الموطأ وكمل أصول أهل المدينة وهم أجل علما وفقها وقدرا من أهل مكة من عهد النبي ﷺ إلى عهد مالك ثم اتفقت له محنة ذهب فيها إلى العراق فاجتمع بمحمد بن الحسن وكتب كتبه وناظره وعرف أصول أبي حنيفة وأصحابه وأخذ من الحديث ما أخذه على أهل العراق ثم ذهب إلى الحجاز. ثم قدم إلى العراق مرة ثانية وفيها صنف كتابه القديم المعروف ب الحجة.
واجتمع به أحمد بن حنبل في هذه القدمة بالعراق واجتمع به بمكة وجمع بينه وبين إسحاق بن راهويه وتناظرا بحضور أحمد رضي الله عنهم أجمعين.
ولم يجتمع بأبي يوسف ولا بالأوزاعي وغيرهما فمن ذكر ذلك في الرحلة المضافة إليه فهو كاذب، فإن تلك الرحلة فيها من الأكاذيب عليه وعلى مالك وأبي يوسف ومحمد وغيرهم من أهل العلم ما لا يخفى على عالم وهي من جنس كذب القصاص ولم يكن أبو يوسف ومحمد سعيًا في أذى الشافعي قط ولا كان حال مالك معه ما ذكر في تلك الرحلة الكاذبة.
ثم رجع الشافعي إلى مصر وصنف كتابه الجديد وهو في خطابه وكتابه ينسب إلى مذهب أهل الحجاز فيقول: قال: بعض أصحابنا وهو يعني: أهل المدينة، أو بعض علماء أهل المدينة كمالك ويقول في أثناء كلامه: وخالفنا بعض المشرقيين وكان الشافعي عند أصحاب مالك واحدًا منهم ينسب إلى أصحابهم واختار سكنى مصر إذ ذاك لأنهم كانوا على مذهب أهل المدينة ومن يشبههم من أهل مصر كالليث بن سعد وأمثاله وكان أهل الغرب بعضهم على مذهب هؤلاء وبعضهم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام ومذهب أهل الشام ومصر والمدينة متقارب لكن أهل المدينة أجل عند الجميع.
ثم إن الشافعي - رضي الله عنه - لما كان مجتهدًا في العلم ورأى من الأحاديث الصحيحة وغيرها من الأدلة ما يجب عليه اتباعه وإن خالف قول أصحاب المدنيين، قام بما رآه واجبًا عليه وصنف الإملاء على مسائل ابن القاسم وأظهر خلاف مالك فيما خالفه فيه وقد أحسن الشافعي فيما فعل وقام بما يجب عليه وإن كان قد كره ذلك من كرهه وآذوه وجرت محنة مصرية معروفة والله يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
وأبو يوسف ومحمد هما صاحبا أبي حنيفة وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك وكل ذلك اتباعا للدليل وقياما بالواجب.
والشافعي - رضي الله عنه - قرر أصول أصحابه والكتاب والسنة وكان كثير الاتباع لما صح عنده من الحديث ولهذا كان عبد الله بن الحكم يقول لابنه محمد: يا بني الزم هذا الرجل فإنه صاحب حجج فما بينك وبين أن تقول: قال ابن القاسم فيضحك منك إلا أن تخرج من مصر.
قال محمد: فلما صرت إلى العراق جلست إلى حلقة فيها ابن أبي داود فقلت: قال ابن القاسم فقال: ومن ابن القاسم؟ فقلت: رجل مفت يقول من مصر إلى أقصى الغرب وأظنه قال: قلت: رحم الله أبي.
وكان مقصود أبيه: اطلب الحجة لقول أصحابك ولا تتبع فالتقليد إنما يقبل حيث يعظم المقلد بخلاف الحجة فإنها تقبل في كل مكان، فإن الله أوجب على كل مجتهد أن يقول بموجب ما عنده من العلم والله يخص هذا من العلم والفهم ما لا يخص به هذا وقد يكون هذا هو المخصوص بمزيد العلم والفهم في نوع من العلم أو باب منه أو مسألة وهذا هو مخصوص بذلك في نوع آخر.
هامش