مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع
لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع
ولفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع:
الدور الكوني: الذي يذكر في الأدلة العقلية أنه لا يكون هذا حتى يكون هذا، ولا يكون هذا حتى يكون هذا. وطائفة من النظار كانوا يقولون: هو ممتنع. والصواب أنه نوعان - كما يقوله الآمدي وغيره: دور قبلي ودور معي، فالقبلي ممتنع وهو الذي يذكر في العلل وفي الفاعل والمؤثر ونحو ذلك، مثل أن يقال: لا يجوز أن يكون كل من الشيئين فاعلًا للآخر؛ لأنه يفضي إلى الدور، وهو أنه يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا. والمعي ممكن وهو دور الشرط مع المشروط، وأحد المتضايفين مع الآخر مثل: ألا تكون الأبوة إلا مع البنوة، ولا تكون البنوة إلا مع الأبوة.
النوع الثاني: الدور الحكمي الفقهي المذكور في المسألة السريجية وغيرها. وقد أفردنا فيه مؤلفًا، وبينا أنه باطل عقلا وشرعًا، وبينا هل في الشريعة شيء من هذا الدور أم لا؟
الثالث: الدور الحسابي: وهو أن يقال: لا يعلم هذا حتى يعلم هذا، فهذا هو الذي يطلب حله بالحساب والجبر والمقابلة. وقد بينا أنه يمكن الجواب عن كل مسألة شرعية جاء بها الرسول ﷺ بدون حساب الجبر والمقابلة. وإن كان حساب الجبر والمقابلة صحيحًا، فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلا، وإن كان طريقًا صحيحًا، بل طرق الجبر والمقابلة فيها تطويل، يغني الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق.
وهكذا كل ما بعث به النبي ﷺ، مثل العلم بجهة القبلة، والعلم بمواقيت الصلاة، والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال، فكل هذا يمكن العلم به بالطرق التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها ولا يحتاجون معها إلى شيء آخر. وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقًا أخر. وكثير منهم يظن أنه لا يمكن معرفة الشريعة إلا بها. وهذا من جهلهم، كما يظن طائفة من الناس أن العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها، وهو وإن كان علما صحيحًا حسابيًا يعرف بالعقل، لكن معرفة المسلمين بقبلتهم ليست موقوفة على هذا، بل قد ثبت عن صاحب الشرع ﷺ أنه قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ولهذا كان عند جماهير العلماء أن المصلي ليس عليه أن يستدل بالقطب ولا بالجدي ولا غير ذلك، بل إذا جعل من في الشام ونحوها المغرب عن يمينه والمشرق عن شماله صحت صلاته. وكذلك لا يمكن ضبط وقت طلوع الهلال بالحساب، فإنهم وإن عرفوا أن نور القمر مستفاد من الشمس، وأنه إذا اجتمع القرصان عند الاستسرار لا يرى له ضوء، فإذا فارق الشمس صار فيه النور، فهم أكثر ما يمكنهم أن يضبطوا بالحساب كم بعده عند غروب الشمس عن الشمس. هذا إذا قدر صحة تقويم الحساب وتعديله، فإنهم يسمونه علم التقويم والتعديل؛ لأنهم يأخذون أعلى مسير الكواكب وأدناه فيأخذون معدله، فيحسبونه فإذا قدر أنهم حزروا ارتفاعه عند مغيب الشمس، لم يكن في هذا ما يدل على ثبوت الرؤية ولا انتفائها؛ لأن الرؤية أمر حسي لها أسباب متعددة من صفاء الهواء وكدره، وارتفاع النظر وانخفاضه، وحدة البصر وكلاله، فمن الناس من لا يراه، ويراه من هو أحد بصرًا منه ونحو ذلك.
فلهذا كان قدماء علماء "الهيئة" كبطليموس صاحب المجسطي وغيره، لم يتكلموا في ذلك بحرف، وإنما تكلم فيه بعض المتأخرين مثل كوشيار الديلمي ونحوه، لما رأوا الشريعة جاءت باعتبار الرؤية، فأحبوا أن يعرفوا ذلك، بالحساب فضلوا وأضلوا. ومن قال: إنه لا يري على اثنتى عشرة درجة أو عشر ونحو ذلك، فقد أخطأ؛ فإن من الناس من يراه على أقل من ذلك، ومنهم من لا يراه على ذلك، فلا العقل اعتبروا ولا الشرع عرفوا؛ ولهذا أنكر ذلك عليهم حذاق صناعتهم.
ثم قال: فصورة القياس لا تدفع صحتها، لكن نبين أنه لا يستفاد به علم بالموجودات. كما أن اشتراطهم للمقدمتين دون الزيادة والنقص شرط باطل، فهو وإن حصل به يقين فلا يستفاد بخصوصه يقين مطلوب بشيء من الموجودات. فنقول: إن صورة القياس إذا كانت مواده معلومة لا ريب أنه يفيد اليقين، فإذا قيل: كل أ: ب، وكل ب: ج، وكانت المقدمتان معلومتين، فلا ريب أن هذا التأليف يفيد العلم بأن كل أ: ج، لكن يقال: ما ذكروه من كثرة الأشكال وشرط نتاجها تطويل قليل الفائدة كثير التعب.
فإنه متى كانت المادة صحيحة، أمكن تصويرها بالشكل الأول الفطري، فبقية الأشكال لا يحتاج إليها، وهي إنما تفيد بالرد إلى الشكل الأول، إما بإبطال النقيض الذي يتضمنه قياس الخلف، وإما بالعكس المستوى، أو عكس النقيض، فإن ثبوت أحد المتناقضين يستلزم نفي الآخر، إذا رد على التناقض من كل وجه. فهم يستدلون بصحة القضية على بطلان نقيضها، وعلى ثبوت عكسها المستوى وعكس نقيضها، بل تصور الذهن لصورة الدليل يشبه حساب الإنسان لما معه من الرقيق والعقار، والفطرة تتصور القياس الصحيح من غير تعليم، والناس بفطرهم يتكلمون بالأنواع الثلاثة التداخل والتلازم والتقسيم، كما يتكلمون بالحساب ونحوه، والمنطقيون قد يسلمون ذلك.
والحاصل أنا لا ننكر أن القياس يحصل به علم إذا كانت مواده يقينية، لكن نقول: إن العلم الحاصل به لا يحتاج فيه إلى القياس المنطقي، بل يحصل بدون ذلك، فلا يكون شيء من العلم متوقفًا على هذا القياس.
ثم المواد اليقينية التي ذكروها لا يحصل بها علم بالأمور الموجودة، فلا يحصل بها مقصود تزكو به النفوس، بل ولا علم بالحقائق الموجودة في الخارج على ما هي عليه إلا من جنس ما يحصل بقياس التمثيل، فلا يمكن قط أن يتحصل بالقياس الشمولي المنطقي الذي يسمونه البرهاني علم إلا وذلك يحصل بقياس التمثيل الذي يستضعفونه؛ فإن ذلك القياس لابد فيه من قضية كلية. والعلم بكون الكلية كلية لا يمكن الجزم به إلا مع الجزم بتماثل أفراده في القدر المشترك، وهذا يحصل بقياس التمثيل، ونحن نبين ذلك بوجوه:
الأول: أن المواد اليقينية قد حصروها في الأصناف المعروفة عندهم.
أحدها: الحسيات، ومعلوم أن الحس لا يدرك أمرًا كليًا عامًا، أصلا فليس في الحسيات المجردة قضية كلية عامة تصلح أن تكون مقدمة في البرهان اليقيني، وإذا مثلوا ذلك بأن النار تحرق ونحو ذلك، لم يكن لهم علم بعموم هذه القضية، وإنما معهم التجربة والعادة التي هي من جنس قياس التمثيل. وإن علم ذلك بواسطة اشتمال النار على قوة محرقة، فالعلم بأن كل نار لابد فيها من هذه القوة، هو أيضا حكم كلي، وإن قيل: إن الصورة النارية لابد أن تشتمل على هذه القوة. وأن ما لا قوة فيه ليس بنار، فهذا الكلام إن صح لا يفيد الجزم بأن كل ما فيه هذه القوة يحرق ما لاقاه، وإن كان هذا هو الغالب، فهذا يشترك فيه قياس التمثيل والشمول والعادة والاستقراء الناقص إذا سلم لهم ذلك كيف وقد علم أنها لا تحرق السمندل والياقوت والأجسام المطلية بأمور مصنوعة؟ ولا أعلم في القضايا الحسية كلية لا يمكن نقضها، مع أن القضية الكلية ليست حسية، وإنما القضية الحسية: أن هذه النار تحرق، فإن الحس لا يدرك إلا شيئًا خاصًا.
وأما الحكم العقلي، فيقولون: إن النفس عند رؤيتها هذه المعينات مستعدة لأن تفيض عليها قضية كليه بالعموم، ومعلوم أن هذا من جنس قياس التمثيل، ولا يوثق بعمومه إن لم يعلم أن الحكم العام لازم للقدر المشترك. وهذا إذا علم، علم في جميع المعينات، فلم يكن العلم بالمعينات موقوفًا على هذا، مع أنه ليس من القضايا العاديات قضية كلية لا يمكن نقضها باتفاق العقلاء.
الثاني: الوجدانيات الباطنية، كإدراك كل أحد جوعه وألمه ولذته، وهذه كلها جزئيات، بل هذه لا يشترك الناس في إدراك كل جزئي منها، كما قد يشتركون في إدراك بعض الحسيات المنفصلة كالشمس والقمر، ففيها من الخصوص في المدرك، والمدرك ما ليس في الحسيات المنفصلة، وإن اشتركوا في نوعها فهي تشبه العاديات، ولم يقيموا حجة على وجوب تساوي النفوس في هذه الأحوال، بل ولا على النفس الناطقة، أنها مستوية الأفراد.
الثالث: المجربات: وهي كلها جزئية، فإن التجربة إنما تقع على أمور معينة. وكذلك المتواترات، فإن المتواتر إنما هو ما علم بالحس من مسموع أو مرئي. فالمسموع قول معين، والمرئي جسم معين أو لون معين أو عمل معين أو أمر معين. وأما الحدسيات إن جعلت يقينية، فهي نظير المجربات؛ إذ الفرق بينهما لا يعود إلى العموم والخصوص، وإنما يعود إلى أن المجربات تتعلق بما هو من أفعال المجربين، والحدسيات تكون عن أفعالهم، وبعض الناس يسمى الكل تجريبيات فلم يبق معهم إلا الأوليات التي هي البديهيات العقلية، والأوليات الكلية إنما هي قضايا مطلقة في الأعداد والمقادير ونحوها مثل قولهم: الواحد نصف الاثنين، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك، وهذه مقدرات في الذهن ليست في الخارج كلية.
فقد تبين أن القضايا الكلية البرهانية، التي يجب القطع بكليتها التي يستعملونها في قياسيهم لا تستعمل في شيء من الأمور الموجودة، وإنما تستعمل في مقدرات ذهنية، فإذن لايمكنهم معرفة الأمور الموجودة بالقياس البرهاني، وهذا هو المطلوب؛ ولهذا لم يكن لهم علم بحصر أقسام الموجود، بل أرسطو لما حصر أجناس الموجودات في المقولات العشر: الجوهر، والكم، والكيف، والآين، ومتى، والوضع، وأن يفعل، وأن ينفعل، والملك، والإضافة، اتفقوا على أنه لا سبيل إلى معرفة صحة هذا الحصر.
الوجه الثاني: أن يقال: إذا كان لابد في كل قياس من قضية كلية، فتلك القضية الكلية لابد أن تنتهي إلى أن تعلم بغير قياس، وإلا لزم الدور والتسلسل، فإذا كان لابد أن تكون لهم قضايا كلية معلومة بغير قياس، فنقول: ليس في الموجودات ما تعلم له الفطرة قضية كلية بغير قياس، إلا وعلمها بالمفردات المعينة من تلك القضية الكلية أقوى من علمها بتلك القضية الكلية، مثل قولنا: الواحد نصف الاثنين، والجسم لا يكون في مكانين، والضدان لا يجتمعان، فإن العلم بأن هذا الواحد نصف الاثنين في الفطرة أقوى من العلم بأن كل واحد نصف كل اثنين، وهكذا كل ما يفرض من الآحاد.
فيقال: المقصود بهذه القضايا الكلية إما أن يكون العلم بالموجود الخارجي، أو العلم بالمقدرات الذاهنية، أما الثاني ففائدته قليلة، وأما الأول فما من موجود معين إلا وحكمه بعلم تعينه أظهر وأقوى من العلم به عن قياس كلي يتناوله، فلا يتحصل بالقياس كثير فائدة، بل يكون ذلك تطويلا، وإنما استعمل القياس في مثل ذلك لأجل الغالط والمعاند، فيضرب له المثل وتذكر الكلية ردًا لغلطه وعناده بخلاف من كان سليم الفطرة.
وكذلك قولهم: الضدان لا يجتمعان، فأي شيئين علم تضادهما، فإنه يعلم أنهما لا يجتمعان قبل استحضار قضية كلية بأن كل ضدين لا يجتمعان، وما من جسم معين إلا يعلم أنه لا يكون في مكانين قبل العلم بأن كل جسم لا يكون في مكانين، وأمثال ذلك كثير.
فما من معين مطلوب علمه بهذه القضايا الكلية إلا وهو يعلم قبل أن تعلم هذه القضية، ولا يحتاج في العلم به إليها، وإنما يعلم بها ما يقدر في الذهن من أمثال ذلك مما لم يوجد في الخارج.
وأما الموجودات الخارجية فتعلم بدون هذا القياس. وإذا قيل: أن من الناس من يعلم بعض الأعيان الخارجية بهذا القياس، فيكون مبناه على قياس التمثيل الذي ينكرون أنه يقيني. فهم بين أمرين: إن اعترفوا بأن قياس التمثيل من جنس قياس الشمول ينقسم إلى يقيني وظني، بطل تفريقهم، وإن ادعوا الفرق بينهما وأن قياس الشمول يكون يقينيا دون التمثيل منعوا ذلك، وبين لهم أن اليقين لا يحصل في هذه الأمور إلا أن يحصل بالتمثيل، فيكون العلم بما لم يعلم من المفردات الموجودة في الخارج قياسًا على ما علم منها، وهذا حق لا ينازع فيه عاقل، بل هذا من أخص صفات العقل التي فارق بها الحس؛ إذ الحس لا يعلم إلا معينًا، والعقل يدركه كليًا مطلقًا، لكن بواسطة التمثيل، ثم العقل يدركها كلها مع عزوب الأمثلة المعينة عنه، لكن هي في الأصل إنما صارت في ذهنه كلية عامة بعد تصوره لأمثال معينة من أفرادها، وإذا بعد عهد الذهن بالمفردات المعينة، فقد يغلط كثيرًا بأن يجعل الحكم إما أعم وإما أخص، وهذا يعرض للناس كثيرًا؛ حيث يظن أن ما عنده من القضايا الكلية صحيح، ويكون عند التحقيق ليس كذلك، وهم يتصورون الشيء بعقولهم، ويكون ما تصوروه معقولا بالعقل، فيتكلمون عليه، ويظنون أنهم تكلموا في ماهية مجردة بنفسها من حيث هي هي، من غير أن تكون ثابتة في الخارج ولا في الذهن، فيقولون: الإنسان من حيث هو هو، والوجود من حيث هو هو، والسواد من حيث هو هو، ونحو ذلك.
ويظنون أن هذه الماهية التي جردوها عن جميع القيود السلبية والثبوتية محققة في الخارج على هذا التجريد، وذلك غلط، كغلط أوليهم فيما جردوه من العدد والمثل الأفلاطونية وغيرها، بل هذه المجردات لا تكون إلا مقدرة في الذهن، وليس كل ما فرضه الذهن أمكن وجوده في الخارج، وهذا الذي يسمى الإمكان الذهني، فإن الإمكان على وجهين:
ذهني: وهو أن يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه، بل يقول يمكن هذا، لا لعلمه بإمكانه، بل لعدم علمه بامتناعه مع أن ذلك الشيء قد يكون ممتنعًا في الخارج.
وخارجي: وهو أن يعلم إمكان الشيء في الخارج، وهذا يكون بأن يعلم وجوده في الخارج أو وجود نظيره، أو وجود ما هو أبعد عن الوجود منه. فإذا كان الأبعد عن قبول الوجود موجودًا ممكن الوجود، فالأقرب إلى الوجود منه أولى.
وهذه طريقة القرآن في بيان إمكان المعاد ؛ فقد بين ذلك بهذه الطريقة، فتارة يخبر عمن أماتهم ثم أحياهم، كما أخبر عن قوم موسى الذين قالوا: { أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً }، قال: { فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } 1، وعن { الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } 2، وعن الذي مر على قرية فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وعن إبراهيم إذ قال: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى } 3، القصة. وكما أخبر عن المسيح أنه كان يحيى الموتى بإذن الله وعن أصحاب الكهف أنهم بعثوا بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين.
وتارة يستدل على ذلك بالنشأة الأولى؛ فإن الإعادة أهون من الابتداء، كما في قوله: { إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ }الآية 4، وقوله: { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } 5، { قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } 6، { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } 7.
وتارة يستدل على ذلك بخلق السموات والأرض، فإن خلقهما أعظم من إعادة الإنسان كما في قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } 8.
وتارة يستدل على إمكانه بخلق النبات، كما في قوله: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا } إلى قوله: { كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى } 9.
فقد تبين أن ما عند أئمة النظار أهل الكلام والفلسفة من الدلائل العقلية على المطالب الإلهية، فقد جاء القرآن الكريم بما فيها من الحق، وما هو أبلغ وأكمل منها على أحسن وجه، مع تنزهه عن الأغاليط الكثيرة الموجودة عند هؤلاء، فإن خطأهم فيها كثير جدًا، ولعل ضلالهم أكثر من هداهم، وجهلهم أكثر من علمهم؛ ولهذا قال أبو عبد الله الرازي في آخر عمره في كتابه: أقسام الذات لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } 10، { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } 11 واقرأ في النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } 12، { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } 13، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
والمقصود أن الإمكان الخارجي يعرف بالوجود لا بمجرد عدم العلم بالامتناع، كما يقوله طائفة منهم الآمدي وأبعد من إثباته الإمكان الخارجي بالإمكان الذهني، ما يسلكه المتفلسفة كابن سينا في إثبات الإمكان الخارجي بمجرد إمكان تصوره في الذهن، كما أنهم لما أرادوا إثبات موجود في الخارج معقول لا يكون محسوسًا بحال. استدلوا على ذلك بتصور الإنسان الكلي المطلق المتناول للأفراد الموجودة في الخارج، وهذا إنما يفيد إمكان وجود هذه المعقولات في الذهن، فإن الكلي لا يوجد كليًا إلا في الذهن، فأين طرق هؤلاء في إثبات الإمكان الخارجي من طريقة القرآن؟
ثم إنهم يمثلون بهذه الطرق الفاسدة، يريدون خروج الناس عما فطروا عليه من المعارف اليقينية والبراهين العقلية، وما جاءت به الرسل من الأخبار الإلهية عن الله واليوم الآخر، ويريدون أن يجعلوا مثل هذه القضايا الكاذبة، والخيالات الفاسدة أصولا عقلية يعارض بها ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه من الآيات، وما فطر الله عليه عباده، وما تقوم عليه الأدلة العقلية التي لا شبهة فيها، وأفسدوا بأصولهم العلوم العقلية والسمعية، فإن مبنى العقل على صحة الفطرة وسلامتها، ومبنى السمع على تصديق الأنبياء- صلوات الله عليهم- ثم الأنبياء - صلوات الله عليهم - كملوا للناس الأمرين، فدلوهم على الأدلة العقلية التي بها تعلم المطالب التي يمكنهم علمهم بها بالنظر والاستدلال، وأخبروهم مع ذلك من تفاصيل الغيب بما يعجزون عن معرفته بمجرد نظرهم واستدلالهم.
هامش
- ↑ [البقرة: 55، 56]
- ↑ [البقرة: 243]
- ↑ [البقرة: 260]
- ↑ [الحج: 5]
- ↑ [يس: 79]
- ↑ [الإسراء: 51]
- ↑ [الروم: 27]
- ↑ [الأحقاف: 33]
- ↑ [الأعراف: 57]
- ↑ [طه: 5]
- ↑ [فاطر: 10]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [طه: 110]