مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/ظن بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا
ظن بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا
[عدل]وأما ما ظنه بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا في نفس الأمر بين اللازم القريب واللازم البعيد، فهذا خطأ. ومع هذا يستبين حصول المراد على التقديرين، فنقول: إذا كانت اللوازم منها ما لزومه للملزوم بين بنفسه لا يحتاج إلى دليل يتوسط بينهما، فهذا نفس تصوره وتصور الملزوم يكفي في العلم بثبوته له، وإن كان بينهما وسط، فذلك الوسط إن كان لزومه للملزوم الأول ولزوم الثاني له بينًا، لم يفتقر إلى وسط ثان. وإن كان أحد الملزومين غير بين بنفسه، احتاج إلى وسط، وإن لم يكن واحد منهما بينا، احتاج إلى وسطين، وهذا الوسط هو حد يكفي فيه مقدمة واحدة، فإذا طلب الدليل على تحريم النبيذ المسكر، فقيل له: لأنه قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: «كل مسكر خمر» أو «كل مسكر حرام» فهذا الأوسط وهو قول النبي ﷺ لا يفتقر عند المؤمن لزوم تحريم المسكر له إلى وسط، ولا يفتقر لزوم تحريم النبيذ المتنازع فيه لتحريم المسكر إلى وسط، فإن كل أحد يعلم أنه إذا حرم كل مسكر، حرم النبيذ المسكر المتنازع فيه، وكل مؤمن يعلم أن النبي ﷺ إذا حرم شيئًا حرم. ولو قال: الدليل على تحريمه أنه مسكر، فالمخاطب إن كان يعرف أن ذلك مسكر، والمسكر محرم، سلم له التحريم، ولكنه غافل عن كونه مسكرًا، أو جاهل بكونه مسكرًا، وكذلك إذا قال: لأنه خمر، فإن أقر أنه خمر ثبت التحريم، وإذا أقر بعد إنكاره، فقد يكون جاهلًا فعلم، أو غافلًا فذكر، فليس كل من علم شيئًا كان ذاكرًا له.
ولهذا تنازع هؤلاء المنطقيون في العلم بالمقدمتين، هل هو كاف في العلم بالنتيجة، أم لابد من التفطن لأمر ثالث؟ وهذا الثاني هو قول ابن سينا وغيره. قالوا: لأن الإنسان قد يكون عالما بأن البغلة لا تلد، ثم يغفل عن ذلك، ويرى بغلة منتفخة البطن. فيقول: أهذه حامل أم لا؟ فيقال له: أما تعلم أنها بغلة؟ فيقول: بلى. ويقال له: أما تعلم أن البغلة لا تلد. فيقول: بلى. قال: فحينئذ يتفطن لكونها لا تلد. ونازعه الرازي وغيره وقالوا: هذا ضعيف؛ لأن اندراج إحدى المقدمتين تحت الأخرى إن كان مغايرًا للمقدمتين، كان ذلك مقدمة أخرى لابد فيها من الإنتاج، ويكون الكلام في كيفية التئامها مع الأوليين كالكلام في كيفية التئام الأوليين. ويفضي ذلك إلى اعتبار ما لا نهاية له من المقدمات. وإن لم يكن ذلك معلومًا مغايرًا للمقدمتين، استحال أن يكون شرطًا في الإنتاج؛ لأن الشرط مغاير للمشروط. وهنا لا مغايرة فلا يكون شرطًا. وأما حديث البغلة فذلك إنما يمكن إذا كان الحاضر في الذهن إحدى المقدمتين فقط، إما الصغرى وإما الكبرى، أما عند اجتماعهما في الذهن، فلا نسلم أنه يمكن الشك أصلا في النتيجة.
قلت: وحقيقة الأمر أن هذا النزاع، لزمهم في ظنهم الحاجة إلى مقدمتين، لا في الإنتاج؛ لأن الشرط مغاير للمشروط، وليس الأمر كذلك، بل المحتاج إليه ما به يعلم المطلوب سواء كان مقدمة أو اثنين أو ثلاثًا، والمغفول عنه ليس بمعلوم حال الغفلة؛ فإذا تذكر صار معلومًا بالفعل. وهنا الدليل هو العلم بأن البغلة لا تلد، وهذه المقدمة كان ذاهلا عنها، فلم يكن عالمًا بها العلم الذي تحصل به الدلالة، فإن المغفول عنه لا يدل حينما يكون مغفولًا عنه، بل إنما يدل حال كونه مذكورًا؛ إذ هو بذلك يكون معلومًا علمًا حاضرًا.
والرب - تعالى - منزه عن الغفلة والنسيان؛ لأن ذلك يناقض حقيقة العلم، كما أنه منزه عن السنة والنوم؛ لأن ذلك يناقض كمال الحياة والقيومية، فإن النوم أخو الموت؛ ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون كما لا يموتون، ويلهمون التسبيح كما يلهم أحدنا النفس.
والمقصود هنا أن وجه الدليل العلم بلزوم المدلول له، سواء سمى استحضارًا أو تفطنًا أو غير ذلك، فمتى استحضر في ذهنه لزوم المدلول له، علم أنه دال عليه، وهذا اللزوم إن كان بينًا له، وإلا فقد يحتاج في بيانه إلى مقدمة أو اثنتين أو ثلاث أو أكثر. والأوساط تتنوع بتنوع الناس، فليس ما كان وسطًا مستلزمًا للحكم في حق هذا، هو الذي يجب أن يكون وسطًا في حق الآخر، بل قد يحصل له وسط آخر، فالوسط هو الدليل وهو الواسطة في العلم بين اللازم والملزوم، وهما المحكوم والمحكوم عليه، فإن الحكم لازم للمحكوم عليه ما دام حكمًا له، والأواسط التي هي الأدلة مما يتنوع ويتعدد بحسب ما يفتحه الله للناس من الهداية، كما إذا كان الوسط خبرًا صادقًا، فقد يكون الخبر لهذا غير الخبر لهذا. وإذا رؤى الهلال، وثبت عند دار السلطان وتفرق الناس فأشاعوا ذلك في البلد، فكل قوم يحصل لهم العلم بخبر من غير المخبرين الذين أخبروا غيرهم. والقرآن والسنة الذي بلغه الناس عن الرسول بلغ كل قوم بوسائط غير وسائط غيرهم، لاسيما في القرن الثاني والثالث، فهؤلاء لهم مقرئون ومعلمون، ولهؤلاء مقرئون ومعلمون، وهؤلاء كلهم وسائط، وهم الأوساط بينهم وبين معرفة ما قاله الرسول وفعله، وهم الذين دلوهم على ذلك بأخبارهم وتعليمهم.
وكذلك المعلومات التي تنال بالعقل أو الحس، إذا نبه عليها منبه أو أرشد إليها مرشد، وأما من جعل الوسط في اللوازم هو الوسط في نفس ثبوتها للموصوف، فهذا باطل من وجوه كما قد بسط في موضعه، وبتقدير صحته، فالوسط الذهني أعم من الخارجي، كما أن الدليل أعم من العلة، فكل علة يمكن الاستدلال بها على المعلول، وليس كل دليل يكون علة في نفس الأمر وكذلك ما كان متوسطًا في نفس الأمر، أمكن جعله متوسطًا في الذهن فيكون دليلا ولا ينعكس؛ لأن الدليل هو ما كان مستلزمًا للمدلول، فالعلة المستلزمة للمعلول يمكن الاستدلال بها، والوسط الذي يلزم الملزوم ويلزمه اللازم البعيد، هو مستلزم لذلك اللازم فيمكن الاستدلال به، فتبين أنه على كل تقدير يمكن الاستدلال على المطلوب بمقدمة واحدة إذا لم يحتج إلى غيرها، وقد لا يمكن إلا بمقدمات فيحتاج إلى معرفتهن؛ فإن تخصيص الحاجة بمقدمتين دون ما زاد وما نقص تحكم محض؛ ولهذا لا تجد في سائر طوائف العقلاء ومصنفي العلوم من يلتزم في استدلاله البيان بمقدمتين، لا أكثر ولا أقل، ويجتهد في رد الزيادة إلى اثنتين. وفي تكميل النقص بجعله مقدمتين، إلا أهل منطق اليونان، ومن سلك سبيلهم، دون من كان باقيًا على فطرته السليمة أو سلك مسلك غيرهم كالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين وعلمائهم ونظارهم وسائر طوائف الملل.
وكذلك أهل النحو والطب والهندسة، لا يدخل في هذا الباب إلا من اتبع في ذلك هؤلاء المنطقيين، كما قلدوهم في الحدود المركبة من الجنس والفصل، وما استفادوا بما تلقوه عنهم علمًا إلا عما يستغنى عن باطل كلامهم أو ما يضر ولا ينفع، لما فيه من الجهل أو التطويل الكثير.
ولهذا لما كان الاستدلال تارة يقف على مقدمة وتارة على مقدمتين وتارة على مقدمات، كانت طريقة نظار المسلمين أن يذكروا من الأدلة على المقدمات ما يحتاجون إليه، ولا يلتزمون في كل استدلال أن يذكروا مقدمتين، كما يفعله من يسلك سبيل المنطقيين، بل كتب نظار المسلمين وخطبائهم، وسلوكهم في نظرهم لأنفسهم، ومناظرتهم لغيرهم تعليما وإرشادًا ومجادلة على ما ذكرت، وكذلك سائر أصناف العقلاء من أهل الملل وغيرهم إلا من سلك طريق هؤلاء.
وما زال نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق، ويبينون ما فيها من العِيّ واللُّكنَة وقصور العقل وعجز النطق، ويبينون أنها إلى إفساد المنطق العقلي واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك. ولا يرضون أن يسلوكها في نظرهم ومناظرتهم، لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه.
وإنما كثر استعمالها من زمن أبي حامد. فإنه أدخل مقدمة من المنطق اليوناني في أول كتابه المستصفى وزعم أنه لا يثق بعلمه إلا من عرف هذا المنطق، وصنف فيه معيار العلم ومحك النظر، وصنف كتابًا سماه القسطاس المستقيم ذكر فيه خمس موازين: الثلاث الحمليات، والشرطي المتصل والشرطي المنفصل، وغير عباراتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين وذكر أنه خاطب بذلك بعض أهل التعليم، وصنف كتابا في تهافتهم، وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم، وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار المعاد، وبين في آخر كتبه أن طريقهم فاسدة، لا توصل إلى يقين، وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين. وكان أولا يذكر في كتبه كثيرًا من كلامهم، إما بعبارتهم وإما بعبارة أخرى، ثم في آخر أمره بالغ في ذمهم، وبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها، وفسادها أعظم من طريق المتكلمين، ومات وهو مشتغل بالبخاري ومسلم. والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول، ما حصل له مقصوده، ولا أزال عنه ما كان فيه من الشك والحيرة، ولم يغن عنه المنطق شيئًا.
ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك، صار كثير من النظار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم، حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا، وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو أمر صحيح مسلم عند العقلاء ولا يعلم أنه مازال العقلاء والفضلاء من المسلمين وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه. وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات متعددة، وجمهور المسلمين يعيبونه عيبًا مجملا؛ لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة على مافي أهله مما يناقض العلم والإيمان ويفضي بهم الحال إلى أنواع من الجهل والكفر والضلال.
والمقصود هنا أن ما يدعونه من توقف كل مطلوب على مقدمتين، لا أكثر، ليس كذلك، وهم يسمون القياس الذي حذفت إحدى مقدمتيه قياس الضمير، ويقولون: إنها قد تحذف إما للعلم بها، وإما غلطا أو تغليطًا، فيقال: إذا كانت معلومة، كانت كغيرها من المقدمات المعلومة، وحينئذ فليس إضمار مقدمة بأولى من إضمار ثنتين وثلاث وأربع، فإن جاز أن يدعي في الدليل الذي لا يحتاج إلا إلى مقدمة، أن الأخرى تضمر محذوفة، جاز أن يدعي فيما يحتاج إلى ثنتين أن الثالثة محذوفة، وكذلك فيما يحتاج إلى ثلاث وليس لذلك حد، ومن تدبر هذا وجد الأمر كذلك؛ ولهذا لا يوجد في كلام البلغاء أهل البيان الذين يقيمون البراهين والحجج اليقينية بأبين العبارات من استعمال المقدمتين في كلامهم، ما يوجد في كلام أهل المنطق، بل من سلك طريقهم كان من المضيقين في طريق العلم عقولا وألسنة، ومعانيهم من جنس ألفاظهم، تجد فيها من الرِّكَّة والعِيّ ما لا يرضاه عاقل.
وكان يعقوب بن إسحاق الكندي، فيلسوف الإسلام في وقته أعنى الفيلسوف الذي في الإسلام، وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين، كما قالوا: لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا: ابن سينا من فلاسفة الإسلام؟ فقال: ليس للإسلام فلاسفة- كان يعقوب يقول في أثناء كلامه: العدم فقد وجود كذا، وأنواع هذه الإضافات، ومن وجد في بعض كلامه فصاحة أو بلاغة كما يوجد في بعض كلام ابن سينا وغيره، فلما استفاده من المسلمين من عقولهم وألسنتهم، وإلا فلو مشى على طريقة سلفه وأعرض عما تعلمه من المسلمين، لكان عقله ولسانه يشبه عقولهم وألسنتهم، وهم أكثر ما ينفقون على من لم يفهم ما يقولونه، ويعظمهم بالجهل والوهم، أو يفهم بعض ما يقولونه أو أكثره أو كله مع عدم تصوره في تلك الحال لحقيقة ما جاء به الرسول ﷺ وما يعرف بالعقول السليمة، وما قاله سائر العقلاء مناقضًا لما قالوه. وهو إنما وصل إلى منتهى أمرهم بعد كلفة ومشقة، واقترن بها حسن ظن، فتورط من ضلالهم فيما لا يعلمه إلا الله، ثم إن تداركه الله بعد ذلك كما أصاب كثيرًا من الفضلاء الذين أحسنوا بهم الظن ابتداء، ثم انكشف لهم من ضلالهم ما أوجب رجوعهم عنهم وتبرأهم منهم، بل وردهم عليهم وإلا بقى من الضلال، وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس؛ ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة.
هامش