مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل في قولهم إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل في قولهم إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن[عدل]

وقد احتجوا بما ذكروه من أن الاستقراء دون القياس الذي هو قياس الشمول، وأن قياس التمثيل دون الاستقراء، فقالوا: إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن، وأن المحكوم عليه قد يكون جزئيًا، بخلاف الاستقراء، فإنه قد يفيد اليقين والمحكوم عليه لا يكون إلا كليًا، قالوا: وذلك أن الاستقراء هو الحكم على كلي بما تحقق في جزئياته. فإن كان في جميع الجزئيات، كان الاستقراء تاما كالحكم على المتحرك بالجسمية؛ لكونها محكومًا بها على جميع جزئيات المتحرك من الجماد والحيوان والنبات، والناقص كالحكم على الحيوان بأنه إذا أكل تحرك فكه الأسفل عند المضغ لوجود ذلك في أكثر جزئياته، ولعله فيما لم يستقرأ على خلافه كالتمساح، والأول ينتفع به في اليقينيات بخلاف الثاني، وإن كان منتفعًا به في الجدليات.

وأما قياس التمثيل: فهو الحكم على شيء بما حكم به على غيره بناء على جامع مشترك بينهما، كقولهم: العالم موجود، فكان قديما كالباري. أو هو جسم فكان محدثَا كالإنسان، وهو مشتمل على فرع وأصل وعلة وحكم، فالفرع ما هو مثل العالم في هذا المثال، والأصل ما هو مثل الباري أو الإنسان، والعلة الموجودة أو الجسم، والحكم القديم أو المحدث.

قالو: ويفارق الاستقراء من جهة أن المحكوم عليه فيه قد يكون جزئيًا، والمحكوم عليه في الاستقراء لا يكون إلا كليا. قالوا: وهو غير مفيد لليقين؛ فإنه ليس من ضرورة اشتراك أمرين فيما يعمهما اشتراكهما فيما حكم به على أحدهما، إلا أن يبين أن ما به الاشتراك علة لذلك الحكم، وكل ما يدل عليه فظني، فإن المساعد على ذلك في العقليات عند القائلين به لا يخرج عن الطرد والعكس والسبر والتقسيم.

أما الطرد والعكس، فلا معنى له غير تلازم الحكم والعلة وجودا وعدما، ولابد في ذلك من الاستقراء، ولا سبيل إلى دعواه في الفرع؛ إذ هو غير المطلوب، فيكون الاستقراء ناقصا، لا سيما ويجوز أن تكون علة الحكم في الأصل مركبة من أوصاف المشترك ومن غيرها، ويكون وجودها في الأوصاف متحققًا فيها، فإذا وجد المشترك في الأصل ثبت الحكم لكمال علته، وعند انتفائه فينتفي لنقصان العلة، وعند ذلك فلا يلزم من وجود المشترك في الفرع، ثبوت الحكم، لجواز تخلف باقي الأوصاف أو بعضها.

وأما السبر والتقسيم، فحاصله يرجع إلى دعوى حصر أوصاف الأصل في جملة معينة، وإبطال كل ما عدا المستبقى. وهو أيضا غير يقيني لجواز أن يكون الحكم ثابتًا في الأصل لذات الأصل لا لخارج، وإلا لزم التسلسل، وإن ثبت لخارج فمن الجائز أن يكون لغيرها أبدًا، وإن لم يطلع عليه مع البحث عنه، وليس الأمر كذلك في العاديات، فإنا لا نشك مع سلامة البصر وارتفاع الموانع في عدم بحر زئبق وجبل من ذهب بين أيدينا، ونحن لا نشاهده، وإن كان منحصرًا فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع، وثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تخلف غيره من الأوصاف المقارنة له في الأصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل، لجواز أن يكون في تلك معللا بعلة أخرى، ولا امتناع فيه، وإن كان لا علة له سواه، فجائز أن يكون علة لخصوصه لا لعمومه، وإن بين أن ذلك الوصف يلزم لعموم ذاته الحكم، فمع بعده يستغنى عن التمثيل.


هامش



مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد التاسع - المنطق
سئل شيخ الإسلام عن المنطق | فصل في وصف جنس كلام المناطقة | مسألة في القياس | قال شيخ الإسلام واصفا المنطق اليوناني | الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين | المقام الأول | المقام الثاني | فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس | تنازع العلماء في مسمى القياس | العلوم ثلاثة | تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات والنبوات | الفرق بين الآيات وبين القياس | قياس الأولى | فصل في تقسيم جنس الدليل إلى القياس والاستقراء | فصل في قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين | قول المتأخرين إن تعلم المنطق فرض على الكفاية | ظن بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا | التباس المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه | قياس الشبه | الزعم بأن المنطق آلة قانونية | فصل في قولهم إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن | قولهم إن الفراسة البدنية هي عين التمثيل | تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل | قولهم كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم ظني | ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل | فصل في قولهم إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات | علم الفرائض نوعان | لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع | ليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصورا على مجرد الخبر | اعتراض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق | اتفاق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات | من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف | فصل في ضبط كليات المنطق | فصل اختلاف العلماء في مسمى القياس | فصل الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد | فصل ملخص المنطق المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين | سئل عن كتب المنطق | سئل شيخ الإسلام عن العقل | تسمية أرسطو وأتباعه الرب عقلا وجوهرا | فصل اسم العقل صفة | فصل عن الروح المدبرة للبدن | فصل عن معاني الروح والنفس | النفوس ثلاثة أنواع | فصل كيفية تعلم النفس | فصل عن الجوهر | سئل الشيخ أيهما أفضل العلم أو العقل | فصل في حكمة خلق القلب