مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس
فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس
[عدل]قولهم: إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس الذي ذكروا صورته ومادته، قضية سلبية، ليست معلومة بالبديهة، ولم يذكروا عليها دليلًا أصلًا. وصاروا مدعين ما لم يثبتوه قائلين بغير علم؛ إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم، فمن أين لهم أنه لا يمكن أحدًا من بني آدم أن يعلم شيئًا من التصديقات التي ليست بديهة عندهم إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته؟
ثم هم معترفون بما لابد منه من أن التصديقات منها بديهي ومنها نظري، وأنه يمتنع أن تكون كلها نظرية لافتقار النظري إلى البديهي، وحينئذ فيأتي ما تقدم في التصورات من أن الفرق بينهما إنما هو بالنسبة والإضافة، فقد يكون النظري عند شخص بديهيا عند غيره. والبديهي من التصديقات، ما يكفي تصور طرفيه موضوعه ومحموله في حصول تصديقه، فلا يتوقف على وسط يكون بينهما، وهو الدليل الذي هو الحد الأوسط سواء كان تصور الطرفين بديهيا أم لا، ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الأذهان أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان.
فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كثيرة، وحينئذ فيتصور الطرفين تصورًا تامًا بحيث يتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لمن لم يتصوره، وكون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون بعض أمر بين، فإن كثيرًا من الناس تكون عنده القضية حسية أو مجربة أو برهانية أو متواترة، وغيره إنما عرفها بالنظر والاستدلال؛ ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول للموضوع إلى دليل لنفسه بل لغيره، ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غني عنها حتى يضرب له أمثالًا.
وقد ذكر المناطقة أن القضايا المعلومة بالتواتر والتجربة والحواس يختص بها من علمها، ولا تكون حجة على غيره، بخلاف غيرها، فإنها مشتركة يحتج بها على المنازع، وهذا تفريق فاسد، وهو أصل من أصول الإلحاد والكفر. فإن المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها. يقول أحد هؤلاء بناء على هذا الفرق: هذا لم يتواتر عندي فلا تقوم به الحجة على، وليس ذلك بشرط، ومن هذا الباب إنكار كثير من أهل البدع والكلام والفلسفة لما يعلمه أهل الحديث من الآثار النبوية؛ فإن هؤلاء يقولون: إنها غير معلومة لنا كما يقول من يقول من الكفار: إن معجزات الأنبياء غير معلومة له؛ وهذا لكونهم لم يعلموا السبب الموجب للعلم بذلك، والحجة قائمة عليهم تواتر عندهم أم لا.
وقد ذهب الفلاسفة أهل المنطق إلى جهالات قولهم: إن الملائكة هي العقول العشرة، وإنها قديمة أزلية، وإن العقل رب ما سواه، وهذا شيء لم يقل مثله أحد من اليهود والنصارى ومشركي العرب، ولم يقل أحد: إن ملكا من الملائكة رب العالم كله، ويقولون: إن العقل الفعال مبدع كل ما تحت فلك القمر، وهذا أيضا كفر لم يصل إليه أحد من كفار أهل الكتاب ومشركي العرب، ويقولون: إن الرب لا يفعل بمشيئته وقدرته، وليس عالمًا بالجزئيات، ولا يقدر أن يغير العالم، بل العالم فيض فاض عنه بغير مشيئته وقدرته وعلمه، وأنه إذا توجه المستشفع إلى من يعظمه من الجواهر العالية؛ كالعقول والنفوس والكواكب والشمس والقمر، فإنه يتصل بذلك المعظم المستشفع به، فإذا فاض على ذلك ما يفيض من جهة الرب فاض على هذا من جهة شفيعه، ويمثلونه بالشمس إذا طلعت على مرآة، فانعكس الشعاع الذي على المرآة على موضع آخر فأشرق بذلك الشعاع، فذلك الشعاع حصل له من مقابلة المرآة وحصل للمرآة بمقابلة الشمس.
ويقولون: إن الملائكة هي العقول العشرة، أو القوى الصالحة في النفس، وإن الشياطين هي القوى الخبيثة، وغير ذلك مما عرف فساده بالدلائل العقلية، بل بالضرورة من دين الرسول. فإذا كان شرك هؤلاء وكفرهم أعظم من شرك مشركي العرب وكفرهم، فأي كمال للنفس في هذه الجهالات؟. وهذا وأمثاله مفتقر إلى بسط كثير. والمقصود ذكر ما ادعوا في البرهان المنطقي.
وأيضا، فإذا قالوا: إن العلوم لا تحصل إلا بالبرهان الذي هو عندهم قياس شمولي، وعندهم لابد فيه من قضية كلية موجبة؛ ولهذا قالوا: إنه لا نتاج عن قضيتين سالبتين ولا جزئيتين في شيء من أنواع القياس، لا بحسب صورته - كالحملى والشرطي المتصل والمنفصل- ولا بحسب مادته لا البرهاني ولا الخطابي ولا الجدلي، بل ولا الشعري.
فيقال: إذا كان لابد في كل ما يسمونه برهانًا من قضية كلية، فلابد من العلم بتلك القضية الكلية: أي من العلم بكونها كلية، وإلا فمتى جوز عليها ألا تكون كلية بل جزئية لم يحصل العلم بموجبها. والمهملة والمطلقة التي يحتمل لفظها أن تكون كلية، وجزئية في قوة الجزئية، وإذا كان لابد في العلم الحاصل بالقياس الذي يخصونه باسم البرهان من العلم بقضية كلية موجبة، فيقال: العلم بتلك القضية إن كان بديهيا، أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيًا بطريق الأولى، وإن كان نظريًا احتاج إلى علم بديهي، فيفضي إلى الدور المعي أو التسلسل في المتواترات وكلاهما باطل.
وهكذا يقال في سائر القضايا الكلية التي يجعلونها مبادئ البرهان، ويسمونها "الواجب قبولها" سواء كانت حسية ظاهرة أو باطنة وهي التي يحسها بنفسه أو كانت من التجريبيات أو المتواترات أو الحدسيات عند من يجعل منها ما هو من النفسيات الواجب قبولها، مثل العلم بكون نور القمر مستفادًا من الشمس إذا رأى اختلاف أشكاله عند اختلاف محاذاته للشمس كما يختلف إذا قاربها بعد الاجتماع كما في ليلة الهلال، وإذا كان ليلة الاستقبال عند الإبدار.
وهم متنازعون: هل الحدس قد يفيد اليقين أم لا؟ ومثل العقليات المحضة، ومثل قولنا: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، والضدان لا يجتمعان، والنقيضان لا يرتفعان ولا يجتمعان، فما من قضية من هذه القضايا الكلية تجعل مقدمة في البرهان إلا والعلم بالنتيجة ممكن بدون توسط ذلك البرهان، بل هو الواقع كثيرًا. فإذا علم أن كل واحد فهو نصف كل اثنين وأن كل اثنين نصفهم واحد، فإنه يعلم أن هذا الواحد نصف هذين الاثنين، وهلم جرا في سائر القضايا الأخر من غير استدلال على ذلك بالقضية الكلية، وكذلك كل جزء يعلم أن هذا الكل أعظم من جزئه بدون توسط القضية الكلية، وكذلك هذان النقيضان من تصورهما نقيضين فإنه يعلم أنهما لا يجتمعان. وكل أحد يعلم أن هذا العين لا يكون موجودا معدومًا كما يعلم المعين الآخر، ولا يحتاج ذلك إلى أن يستدل عليه بأن كل شيء لا يكون موجودًا معدومًا معًا، وكذلك الضدان فإن الإنسان يعلم أن هذا الشيء لا يكون أسود أبيض، ولا يكون متحركًا ساكنًا كما يعلم أن الآخر كذلك، ولا يحتاج في العلم بذلك إلى قضية كلية بأن كل شيء لا يكون أسود أبيض، ولا يكون متحركًا ساكنًا.
وكذلك في سائر ما يعلم تضادهما فإن علم تضاد المعينين علم أنهما لا يجتمعان، فإن العلم بالقضية الكلية يفيد العلم بالمقدمة الكبرى المشتملة على الحد الأكبر، وذلك لا يغني دون العلم بالمقدمة الصغرى المشتملة على الحد الأصغر، والعلم بالنتيجة وهو أن هذين المعنيين ضدان فلا يجتمعان، يمكن بدون العلم بالمقدمة الكبرى، وهو أن كل ضدين لا يجتمعان. فلا يفتقر العلم بذلك إلى القياس الذي خصوه باسم البرهان، وإن كان البرهان في كلام الله ورسوله وكلام سائر أصناف العلماء لا يختص بما سموه هم البرهان، وإنما خصوا هم لفظ البرهان بما اشتمل عليه القياس الذي خصوا صورته ومادته بما ذكروه.
مثال ذلك: أنه إذا أريد إبطال قول من يثبت الأحوال ويقول: إنها لا موجودة ولا معدومة، فقيل: هذان نقيضان، وكل نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن هذا جعل للواحد لا موجودًا ولا معدومًا ولا يمكن جعل الحال للواحد لا موجودة ولا معدومة، كان العلم بأن هذا المعين لا يكون موجودًا معدومًا ممكنا بدون هذه القضية الكلية، فلا يفتقر العلم بالنتيجة إلى البرهان.
وكذلك إذا قيل: إن هذا ممكن وكل ممكن فلابد له من مرجح لوجوده على عدمه على أصح القولين، أو لأحد طرفيه على قول طائفة من الناس.
أو قيل: هذا محدث، وكل محدث فلابد له من محدث، فتلك القضية الكلية، وهي قولنا: كل محدث لابد له من محدث، وكل ممكن لابد له من مرجح، يمكن العلم بأفرادها المطلوبة بالقياس البرهاني عندهم بدون العلم بالقضية الكلية التي لا يتم البرهان عندهم إلا بها، فيعلم أن هذا المحدث لابد له من محدث. وهذا الممكن لابد له من مرجح، فإن شك عقله وجوز أن يحدث هو بلا محدث أحدثه، أو أن يكون وهو ممكن يقبل الوجود والعدم بدون مرجح يرجح وجوده، جوز ذلك في غيره من المحدثات، والممكنات بطريق الأولى؛ وإن جزم بذلك في نفسه لم يحتج علمه بالنتيجة المعينة وهو قولنا: وهذا محدث فله محدث، أو هذا ممكن فله مرجح إلى القياس البرهاني.
ومما يوضح هذا: أنك لا تجد أحدًا من بني آدم يريد أن يعلم مطلوبًا بالنظر ويستدل عليه بقياس برهاني يعلم صحته، إلا ويمكنه العلم به بدون ذلك القياس البرهاني المنطقي، ولهذا لا تجد أحدًا من سائر أصناف العقلاء غير هؤلاء ينظم دليله من المقدمتين كما ينظمه هؤلاء، بل يذكرون الدليل المستلزم للمدلول، ثم الدليل قد يكون مقدمة واحدة، وقد يكون مقدمتين، وقد يكون ثلاث مقدمات بحسب حاجة الناظر المستدل؛ إذ حاجة الناس تختلف. وقد بسطنا ذلك في الكلام على المحصل. وبينا تخطئة جمهور العقلاء لمن قال: إنه لابد في كل علم نظري من مقدمتين لا يستغنى عنهما، ولا يحتاج إلى أكثر منهما، وهذا ينبغي أن تأخذه من المواد العقلية التي لا يستدل عليها بنصوص الأنبياء؛ فإنه يظهر بها فساد منطقهم. وأما إذا أخذته من المواد المعلومة بنصوص الأنبياء فإنه يظهر الاحتياج إلى القضية الكلية، كما إذا أردنا تحريم النبيذ المتنازع فيه فقلنا: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، أو قلنا: هو خمر، وكل خمر حرام. فقولنا: النبيذ المسكر خمر يعلم بالنص، وهو قول النبي ﷺ: «كل مسكر خمر» وقولنا: كل خمر حرام، يعلم بالنص والإجماع، وليس في ذلك نزاع، وإنما النزاع في المقدمة الصغرى. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام». وفي لفظ: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام».
وقد يظن بعض الناس أن النبي ﷺ ذكر هذا على النظم المنطقي لتبيين النتيجة بالمقدمتين كما يفعله المنطقيون، وهذا جهل عظيم ممن يظنه فإنه ﷺ أجل قدرًا من أن يستعمل مثل هذا الطريق في بيان العلم، بل من هو أضعف عقلا وعلما من آحاد علماء أمته لا يرضى لنفسه أن يسلك طريقة هؤلاء المنطقيين، بل يعدونهم من الجهال الذين لا يحسنون إلا الصناعات كالحساب والطب، ونحو ذلك.
وأما العلوم البرهانية الكلية اليقينية والعلوم الإلهية فلم يكونوا من رجالها. وقد بين ذلك نظار المسلمين في كتبهم، وبسطوا الكلام عليهم؛ وذلك أن كون كل خمر حراما هو مما علمه المسلمون، فلا يحتاجون إلى معرفة ذلك بالقياس، وإنما شك بعضهم في أنواع من الأشربة المسكرة كالنبيذ المصنوع من العسل والحبوب وغير ذلك، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنه قال لرسول الله ﷺ: عندنا شراب مصنوع من العسل يقال له: البتع، وشراب يصنع من الذرة يقال له: المزر، قال: وكان أوتي جوامع الكلم فقال: «كل مسكر حرام» فأجابهم ﷺ بقضية كلية بين بها أن كل ما يسكر فهو محرم. وبين أيضا أن كل ما يسكر فهو خمر، وهاتان قضيتان كليتان صادقتان متطابقتان العلم بأيهما كان يوجب العلم بتحريم كل مسكر؛ إذ ليس العلم بتحريم كل مسكر يتوقف على العلم بهما جميعًا، فإن من علم أن النبي ﷺ قال: «كل مسكر حرام» وهو من المؤمنين به علم أن النبيذ المسكر حرام، ولكن قد يحصل الشك: هل أراد القدر المسكر أو أراد جنس المسكر، وهذا شك في مدلول قوله، فإذا علم مراده ﷺ علم المطلوب.
وكذلك إذا علم أن النبيذ خمر. والعلم بهذا أوكد في التحريم؛ فإن من يحلل النبيذ المتنازع فيه لا يسميه خمرًا، فإذا علم بالنص أن «كل مسكر خمر»، كان هذا وحده دليلا على تحريم كل مسكر عند أهل الإيمان الذين يعلمون أن الخمر محرم. وأما من لم يعلم تحريم الخمر لكونه لم يؤمن بالرسول، فهذا لا يستدل بنصه، وإن علم أن محمدا رسول الله، ولكن لم يعلم أنه حرم الخمر فهذا لا ينفعه قوله: «كل مسكر خمر» بل ينفعه قوله: «كل مسكر حرام» وحينئذ يعلم بهذا تحريم الخمر؛ لأن الخمر والمسكر اسمان لمسمى واحد عند الشارع، وهما متلازمان عنده في العموم والخصوص عند جمهور العلماء الذين يحرمون كل مسكر.
وليس المقصود هنا الكلام في تقرير المسألة الشرعية، بل التنبيه على التمثيل؛ فإن هذا المثال كثيرا ما يمثل به من صنف في المنطق من علماء المسلمين، والمنطقيون يمثلون بصورة مجردة عن المواد لا تدل على شيء معين، لئلا يستفاد العلم بالمثال من صورة معينة كما يقولون: كل أ: ب، وكل ب: ج. فكل أ: ج، ولكن المقصود هو العلم المقصود من المواد المعينة، فإذا جردت يظن الظان أن هذا يحتاج إليه في المعينات، وليس الأمر كذلك، بل إذا طولبوا بالعلم بالمقدمتين الكليتين في جميع مطالبهم العقلية التي لم تؤخذ عن المعصومين تجدهم يحتجون بما يمكن معه العلم فيها بالمعينات المطلوبة بدون العلم بالقضية الكلية فلا يكون العلم بها موقوفًا على البرهان.
فالقضايا النبوية لا تحتاج إلى القياس العقلي الذي سموه برهانا، وما يستفاد بالعقل من العلوم أيضا لا يحتاج إلى قياسهم البرهاني، فلا يحتاج إليه لا في السمعيات ولا في العقليات، فامتنع أن يقال: لا يحصل علم إلا بالقياس البرهاني الذي ذكروه.
ومما يوضح ذلك: أن القضايا الحسية لا تكون إلا جزئية، فنحن لم ندرك بالحس إلا إحراق هذه النار وهذه النار، لم ندرك أن كل نار محرقة، فإذا جعلنا هذه قضية كلية، وقلنا: كل نار محرقة، لم يكن لنا طريق نعلم به صدق هذه القضية الكلية علمًا يقينيًا، إلا والعلم بذلك ممكن في الأعيان المعينة بطريق الأولى.
وإن قيل: ليس المراد العلم بالأمور المعينة؛ فإن البرهان لا يفيد إلا العلم بقضية كلية، فالنتائج المعلومة بالبرهان لا تكون إلا كلية كما يقولون هم ذلك. والكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان.
قيل: فعلى هذا التقدير لا يفيد البرهان العلم بشيء موجود، بل بأمور مقدرة في الأذهان لا يعلم تحققها في الأعيان، وإذا لم يكن في البرهان علم بموجود فيكون قليل المنفعة جدًا، بل عديم المنفعة. وهم لا يقولون بذلك بل يستعملونه في العلم بالموجودات الخارجية والإلهية، ولكن حقيقة الأمر كما بيناه في غير هذا الموضع أن المطالب الطبيعية التي ليست من الكليات اللازمة، بل الأكثرية فلا تفيد مقصود البرهان.
وأما الإلهيات، فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعية وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلا عن أن تكون قضايا صادقة يؤلف منها البرهان؛ ولهذا حدثونا بإسناد متصل عن فاضل زمانه في المنطق وهو الخونجي صاحب كشف أسرار المنطق والموجز وغيرهما أنه قال عند الموت: أموت وما عرفت شيئًا إلا علمي بأن الممكن يفتقر إلى المؤثر. ثم قال: الافتقار وصف سلبي فأنا أموت وما عرفت شيئًا. وكذلك حدثونا عن آخر من أفاضلهم. وهذا أمر يعرفه كل من خبرهم، ويعرف أنهم أجهل أهل الأرض بالطرق التي تنال بها العلوم العقلية والسمعية، إلا من علم منهم علمًا من غير الطرق المنطقية، فتكون علومه من تلك الجهة، لا من جهتهم، مع كثرة تعبهم في البرهان الذي يزعمون أنهم يزنون به العلوم، ومن عرف منهم شيئًا من العلوم لم يكن ذلك بواسطة ما حرروه في المنطق.
ومما يبين أن حصول العلوم اليقينية الكلية والجزئية لا يفتقر إلى برهانهم من قضية كلية، أن العلم بتلك القضية الكلية لابد له من سبب، فإن عرفوها باعتبار الغائب بالشاهد، وأن حكم الشيء حكم مثله، كما إذا عرفنا أن هذه النار محرقة، فالنار الغائبة محرقة؛ لأنها مثلها، وحكم الشيء حكم مثله، فيقال: هذا استدلال بالقياس التمثيلي وهم يزعمون أنه لا يفيد اليقين بل الظن، فإذا كانوا إنما علموا القضية الكلية بقياس التمثيل، رجعوا في اليقين إلى ما يقولون: إنه لا يفيد إلا الظن. وإن قالوا: بل عند الإحساس بالجزئيات يحصل في النفس علم كلي من واهب العقل- أو تسعد النفس عند الإحساس بالجزئيات لأن يفيض عليها الكلي من واهب العقل - أو قالوا: من العقل الفعال - عندهم- أو نحو ذلك، قيل لهم: الكلام فيها به يعلم أن الحكم الكلي الذي في النفس علم لا ظن ولا جهل.
فإن قالوا: هذا العلم بالبديهة أو الضرورة، كان هذا قولا بأن هذه القضايا الكلية معلومة بالبديهة والضرورة، وأن النفس مضطرة إلى هذا العلم. وهذا إن كان حقًا، فالعلم بالأعيان المعينة وبأنواع الكليات يحصل أيضا في النفس بالبديهة والضرورة كما هو الواقع، فإن جزم العقلاء بالشخصيات من الحسيات، أعظم من جزمهم بالكليات وجزمهم بكلية الأنواع أعظم من جزمهم بكلية الأجناس، والعلم بالجزئيات أسبق إلى الفطرة، فجزم الفطرة بها أقوى. ثم كلما قوى العقل، اتسعت الكليات وحينئذ فلا يجوز أن يقال: إن العلم بالأشخاص موقوف على العلم بالأنواع والأجناس، ولا أن العلم بالأنواع موقوف على العلم بالأجناس، بل قد يعلم الإنسان أنه حساس متحرك بالإرادة قبل أن يعلم أن كل إنسان كذلك، ويعلم أن الإنسان كذلك قبل أن يعلم أن كل حيوان كذلك، فلم يبق علمه بأن غيره من الحيوان حساس متحرك بالإرادة موقوفًا على البرهان، وإذا علم حكم سائر الناس وسائر الحيوان، فالنفس تحكم بذلك بواسطة علمها أن ذلك الغائب مثل هذا الشاهد، أو أنه يساويه في السبب الموجب لكونه حساسا متحركًا بالإرادة ونحو ذلك من قياس التمثيل والتعليل الذي يحتج به الفقهاء في إثبات الأحكام الشرعية.
وهؤلاء يزعمون أن ذلك القياس إنما يفيد الظن، وقياسهم هو الذي يفيد اليقين، وقد بينا في غير هذا الموضع أن قولهم هذا من أفسد الأقوال، وأن قياس التمثيل وقياس الشمول سواء، وإنما يختلفان بالمادة المعينة فإن كانت يقينية في أحدهما، كانت يقينية في الآخر، وإن كانت ظنية في أحدهما، كانت ظنية في الآخر؛ وذلك أن قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة، الأصغر والأوسط والأكبر، والحد الأوسط فيه هو الذي يسمى في قياس التمثيل علة ومناطًا وجامعًا.
فإذا قال في مسألة النبيذ: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فلابد له من إثبات المقدمة الكبرى، وحينئذ يتم البرهان، وحينئذ فيمكنه أن يقول: النبيذ مسكر فيكون حرامًا قياسًا على خمر العنب بجامع ما يشتركان فيه من الإسكار، فإن الإسكار هو مناط التحريم في الأصل، وهو موجود في الفرع فبما به يقرر أن كل مسكر حرام، به يقرر أن السكر مناط التحريم بطريق الأولى، بل التفريق في قياس التمثيل أسهل عليه لشهادة الأصل له بالتحريم، فيكون الحكم قد علم ثبوته في بعض الجزئيات، ولا يكفي في قياس التمثيل إثباته في أحد الجزأين لثبوته في الجزء الآخر، لاشتراكهما في أمر لم يقم دليل على استلزامه للحكم، كما يظنه بعض الغالطين، بل لابد أن يعلم أن المشترك بينهما مستلزم للحكم، والمشترك بينهما هو الحد الأوسط. وهذا يسميه الفقهاء وأهل أصول الفقه المطالبة بتأثير الوصف في الحكم، وهذا السؤال أعظم سؤال يرد على القياس وجوابه هو الذي يحتاج إليه غالبًا في تقدير صحة القياس، فإن المعترض قد يمنع الوصف في الأصل، وقد يمنع الحكم في الأصل، وقد يمنع الوصف في الفرع، وقد يمنع كون الوصف علة في الحكم، ويقول: لا نسلم أن ما ذكرته في الوصف المشترك هو العلة أو دليل العلة، فلابد من دليل يدل على ذلك: من نص أو إجماع أو سبر وتقسيم أو المناسبة أو الدوران عند من يستدل بذلك، فما دل على أن الوصف المشترك مستلزم للحكم إما علة وإما دليل العلة هو الذي يدل على أن الحد الأوسط مستلزم للأكبر، وهو الدال على صحة المقدمة الكبرى، فإن أثبت العلة كان برهان علة، وإن أثبت دليلها كان برهان دلالة، وإن لم يفد العلم بل أفاد الظن، فكذلك المقدمة الكبرى في ذلك القياس لا تكون إلا ظنية، وهذا أمر بين، ولهذا صار كثير من الفقهاء يستعملون في الفقه القياس الشمولي كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلي وحقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر.
ومن قال من متأخري أهل الكلام والرأى كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وغيرهم: من أن العقليات ليس فيها قياس، وإنما القياس في الشرعيات، ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقًا، فقولهم مخالف لقول نظار المسلمين، بل وسائر العقلاء، فإن القياس يستدل به في العقليات كما يستدل به في الشرعيات، فإنه إذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم للحكم، كان هذا دليلا في جميع العلوم، وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر، كان هذا دليلا في جميع العلوم وحيث لا يستدل بالقياس التمثيلي لا يستدل بالقياس الشمولي.
وأبو المعالي ومن قبله من النظار لا يسلكون طريقة المنطقيين ولا يرضونها، بل يستدلون بالأدلة المستلزمة عندهم لمدلولاتها، غير أن المنطقيين وجمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزمًا للحكم، كما يمثلون به من الجمع بالحد والعلة والشرط والدليل. ومنازعهم يقول: لم يثبت الحكم في الغائب لأجل ثبوته في الشاهد، بل نفس القضية الكلية كافية في المقصود من غير احتياج إلى التمثيل، فيقال لهم: وهكذا في الشرعيات، فإنه متى قام الدليل على أن الحكم معلق بالوصف الجامع لم يحتج إلى الأصل، بل نفس الدليل الدال على أن الحكم يتعلق بالوصف كاف، لكن لما كان هذا كليًا، والكلى لا يوجد إلا معينًا، كان تعيين الأصل مما يعلم به تحقق هذا الكلي، وهذا أمر نافع في الشرعيات والعقليات، فعلمت أن القياس حيث قام الدليل على أن الجامع مناط الحكم أو على إلغاء الفارق بين الأصل والفرع فهو قياس صحيح، ودليل صحيح، في أي شيء كان.
هامش