كتاب الأم/كتاب الوصايا/ باب الوصية للوارث
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: قال: الله عز وجل: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين} الآية. إلى {المتقين} وقال عز وجل في آي المواريث {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} وذكر من ورث جل ثناؤه في آي من كتابه.
[قال الشافعي]: واحتمل إجماع أمر الله تعالى بالوصية للوالدين والأقربين معنيين: أحدهما: أن يكون للوالدين والأقربين الأمران معا فيكون على الموصي أن يوصي لهم فيأخذون بالوصية ويكون لهم الميراث فيأخذون به واحتمل أن يكون الأمر بالوصية نزل ناسخا لان تكون الوصية لهم ثابتة فوجدنا الدلالة على أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخة بآي المواريث من وجهين: أحدهما: أخبار ليست بمتصلة عن النبي ﷺ من جهة الحجازيين منها أن سفيان بن عيينة أخبرنا عن سليمان الأحول عن مجاهد أن النبي ﷺ قال: (لا وصيه لوارث) وغيره يثبته بهذا الوجه ووجدنا غيره قد يصل فيه حديثا عن النبي ﷺ بمثل هذا المعنى، ثم لم نعلم أهل العلم في البلدان اختلفوا في أن الوصية للوالدين منسوخة بآي المواريث واحتمل إذا كانت منسوخة أن تكون الوصية للوالدين ساقطة حتى لو أوصى لهما لم تجز الوصية وبهذا نقول، وما روي عن النبي ﷺ وما لم نعلم أهل العلم اختلفوا فيه يدل على هذا، وإن كان يحتمل أن يكون وجوبها منسوخا. وإذا أوصى لهم جاز، وإذا أوصى للوالدين فأجاز الورثة فليس بالوصية أخذوا، وإنما أخذوا بإعطاء الورثة لهم ما لهم؛ لأنا قد أبطلنا حكم الوصية لهم فكان نص المنسوخ في وصية الوالدين وسمى معهم الأقربين جملة فلما كان الوالدان وارثين قسنا عليهم كل وارث، وكذلك الخبر عن النبي ﷺ فلما كان الأقربون ورثة وغير ورثة أبطلنا الوصية للورثة من الأقربين بالنص والقياس والخبر (ألا لا وصية لوارث) وأجزنا الوصية للأقربين ولغير الورثة من كان فالأصل في الوصايا لمن أوصى في كتاب الله عز وجل وما روي عن رسول الله ﷺ وما لم أعلم من مضى من أهل العلم اختلفوا فيه في أن ينظر إلى الوصايا، فإذا كانت لمن يرث الميت أبطلتها، وإن كانت لمن لا يرثه أجزتها على الوجه الذي تجوز به وموجود عندي والله تعالى أعلم فيما وصفت من الكتاب وما روي عن النبي ﷺ وحيث إن ما لم نعلم من مضى من أهل العلم اختلفوا فيه أنه إنما يمنع الورثة الوصايا لئلا يأخذوا مال الميت من وجهين، وذلك أن ما ترك المتوفى يؤخذ بميراث، أو وصية فلما كان حكمهما مختلفين لم يجز أن يجمع لواحد الحكمان المختلفان في حكم واحد وحال واحدة كما لا يجوز أن يعطى بالشيء وضد الشيء، ولم يحتمل معنى غيره فإن ذهب ذاهب إلى أن يقول إنما لم تجز الوصية للوارث من قبل تهمة الموصي لان يكون يحابي وارثه ببعض ماله. فلولا أن العناء مستعل على بعض من يتعاطى الفقه ما كان فيمن ذهب إلى هذا المذهب عندي والله أعلم للجواب موضع؛ لأن من خفي عليه هذا حتى لا يتبين له الخطأ فيه كان شبيها أن لا يفرق بين الشيء وضد الشيء فإن قال: قائل فأين هذا؟ قيل له إن شاء الله تعالى أرأيت امرأ من العرب عصبته يلقونه بعد ثلاثين أبا قد قتل آباء عصبته آباءه وقتلهم آباؤه وبلغوا غاية العداوة بينهم بتسافك الدماء وانتهاك المحارم والقطيعة والنفي من الأنساب في الأشعار وغيرها وما كان هو يصطفي ما صنع بآبائه ويعادي عصبته عليه غاية العداوة ويبذل ماله في أن يسفك دماءهم وكان من عصبته الذين يرثونه من قتل أبويه فأوصى من مرضه لهؤلاء القتلة وهم ورثته مع غيرهم من عصبته كان الوارث معهم في حال عداوتهم، أو كان له سلما به برا وله واصلا، وكذلك كان آباؤهما أتجوز الوصية لأعدائه، وهو لا يتهم فيهم؟ فإن قال: لا قيل، وكذلك لو كان من الموالي فكان مواليه قد بلغوا بآبائه ما بلغ بهم وبأبيهم ما وصفت من حال القربى فأوصى لورثته من مواليه ومعهم ابنته أتجوز الوصية لهم، وهو لا يتهم فيهم؟ فإن قال: لا. قيل: وهكذا زوجته لو كانت ناشزة منه عاصية له عظيمة البهتان وترميه بالقذف قد سقته سما لتقتله وضربته بالحديد لتقتله فأفلت من ذلك وبقيت ممتنعة منه وامتنع من فراقها إضرارا لها، ثم مات فأوصى لها لم تجز وصيته؛ لأنها وارث. فإن قال: نعم: قيل. ولو أن أجنبيا مات ليس له وارث أعظم النعمة عليه صغيرا وكبيرا وتتابع إحسانه عليه، وكان معروفا بمودته فأوصى له بثلث ماله أيجوز؟ فإن قال: نعم، قيل: وهكذا تجوز الوصية له. وإن كان ورثته أعداء له. فإن قال: نعم تجوز وصيته في ثلثه كان ورثته أعداء له، أو غير أعداء. قيل له: أرأيت لو لم يكن في أن الوصية تبطل للوارث وأنه إذا خص بإبطال وصيته الوارث لم يكن فيها معنى إلا ما قلنا، ثم كان الأصل الذي وصفت لم يسبقك إليه أحد يعقل من أهل العلم شيئا علمناه أما كنت تركته؟ أو ما كان يلزمك أن تزعم أنك تنظر إلى وصيته أبدا فإن كانت وصيته لرجل عدو له أو بغيض إليه، أو غير صديق أجزتها، وإن كان وارثا، وإن كانت لصديق له، أو لذي يد عنده أو غير عدو فأبطلتها، وإذا فعلت هذا خرجت مما روي عن النبي ﷺ ومما يدخل فيما لم يختلف فيه أهل العلم علمناه، أورأيت لو كان له عبد يعلم أنه أحب الناس إليه وأوثقه في نفسه وأنه يعرف بتوليج ماله إليه في الحياة ولد ولد دون ولده، ثم مات ولده فصار وارثه عدوا له فأعتق عبده في وصيته أليس يلزمك أن لا تجيز العتق لشأن تهمته فيه حيا إذ كان يؤثره بماله على ولد نفسه وميتا إذ كان عنده بتلك الحال وكان الوارث له عدوا؟ أو رأيت لو كان وارثه له عدوا فقال: والله ما يمنعني أن أدع الوصية فيكون الميراث وافرا عليك إلا حب أن يفقرك الله، ولا يغنيك. ولكني أوصي بثلث مالي لغيرك فأوصى لغيره أليس إن أجاز هذا أجاز ما ينبغي أن يرد ورد ما كان ينبغي أن يجوز من الوصية لوارث عدو في أصل قوله؟ أورأيت إذا كانت السنة تدل على أن للميت أن يوصي بثلث ماله، ولا يحظر عليه منه شيء أن يوصي به إلا لوارث إذا دخل عليه أحد أن يحظر عليه الوصية لغير وارث بحال أليس قد خالفنا السنة؟ أو رأيت إذا كان حكم الثلث إليه ينفذه لمن رأى غير وارث لو كان وارثه في العداوة له على ما وصفت من العداوة، وكان بعيد النسب، أو كان مولى له فأقر لرجل آخر بمال قد كان يجحده إياه، أو كان لا يعرف بالإقرار له به، ولا الآخر بدعواه أليس إن أجازه له مما يخرج الوارث من جميع الميراث أجابه له أكثر من الثلث، وهو متهم على أن يكون صار الوارث؟ وإن أبطله أبطل إقرارا بدين أحق من الميراث؛ لأن الميراث لا يكون إلا بعد الدين.
[قال الشافعي]: الأحكام على الظاهر والله ولي المغيب ومن حكم على الناس بالإزكان جعل لنفسه ما حظر الله تعالى عليه ورسوله ﷺ؛ لأن الله عز وجل إنما يولي الثواب والعقاب على المغيب؛ لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه، وكلف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر، ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة كان ذلك لرسول الله ﷺ. وما وصفت من هذا يدخل في جميع العلم، فإن قال: قائل ما دل على ما وصفت من أنه لا يحكم بالباطن؟ قيل: كتاب الله ثم سنة رسول الله ﷺ. ذكر الله تبارك وتعالى المنافقين فقال: لنبيه ﷺ {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} قرأ إلى {فصدوا عن سبيل الله} فأقرهم رسول الله ﷺ يتناكحون ويتوارثون ويسهم لهم إذا حضروا القسمة ويحكم لهم أحكام المسلمين، وقد أخبر الله تعالى ذكره عن كفرهم وأخبر رسول الله ﷺ إنهم اتخذوا أيمانهم جنة من القتل بإظهار الأيمان على الإيمان. وقال رسول الله ﷺ (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه. فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ به فإنما أقطع له بقطعة من النار) فأخبرهم أنه يقضي بالظاهر وأن الحلال والحرام عند الله على الباطن وأن قضاءه لا يحل للمقضي له ما حرم الله تعالى عليه إذا علمه حراما. وقال رسول الله ﷺ (أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن محارم الله تعالى فمن أصاب منكم من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله) فأخبرهم أنه لا يكشفهم عما لا يبدون من أنفسهم وأنهم إذا أبدوا ما فيه الحق عليهم أخذوا بذلك، وبذلك أمر الله تعالى ذكره فقال: {ولا تجسسوا} وبذلك أوصى ﷺ (ولاعن رسول الله ﷺ بين أخوي بني العجلان، ثم قال انظروا فإن جاءت به كذا فهو للذي يتهمه) فجاءت به على النعت الذي قال رسول الله ﷺ فهو للذي يتهمه به، وقال رسول الله ﷺ (إن أمره لبين لولا ما حكم الله)، ولم يستعمل عليهما الدلالة البينة التي لا تكون دلالة أبين منها، وذلك خبره أن يكون الولد، ثم جاء الولد على ما قال مع أشياء لهذا كلها تبطل حكم الإزكان من الذرائع في البيوع وغيرها من حكم الإزكان فأعظم ما فيما وصفت من الحكم بالإزكان خلاف ما أمر الله عز وجل به أن يحكم بين عباده من الظاهر وما حكم به رسول الله ﷺ ثم لم يمتنع من حكم بالإزكان إن اختلفت أقاويله فيه حتى لو لم يكن آثما بخلافه ما وصفت من الكتاب والسنة كان ينبغي أن تكون أكثر أقاويله متروكة عليه لضعف مذهبه فيها، وذلك أنه يزكن في الشيء الحلال فيحرمه ثم يأتي ما هو أولى أن يحرمه منه إن كان له التحريم بالإزكان فلا يحرمه، فإن قال قائل: ومثل ماذا من البيوع؟ قيل: أرأيت رجلا اشترى فرسا على أنها عقوق، فإن قال: لا يجوز البيع؛ لأن ما في بطنها مغيب غير مضمون بصفة عليه، قيل له: وكذلك لو اشتراها وما في بطنها بدينار، فإن قال: نعم قيل: أرأيت إذا كان المتبايعان بصيرين فقالا: هذه الفرس تسوى خمسة دنانير إن كانت غير عقوق عشرة إن كانت عقوقا فأنا آخذها منك بعشرة، ولولا أنها عندي عقوق لم أزدك على خمسة ولكنا لا نشترط معها عقوقا لإفساد البيع فإن قال: هذا البيع يجوز؛ لأن الصفقة وقعت على الفرس دون ما في بطنها ونيتهما معا وإظهارهما الزيادة لما في البطن لا يفسد البيع إذا لم تعقد الصفقة على ما يفسد البيع، ولا أفسد البيع ها هنا بالنية قيل له إن شاء الله تعالى. وكذلك لا يحل نكاح المتعة ويفسخ، فإن قال: نعم، قيل: وإن كان أعزب، أو آهلا؟ فإن قال: نعم، قيل: فإن أراد أن ينكح امرأة ونوى أن لا يحبسها إلا يوما، أو عشرا إنما أراد أن يقضي منها وطرا، وكذلك نوت هي منه غير أنهما عقدا النكاح مطلقا على غير شرط، وإن قال: هذا يحل قيل له: ولم تفسده بالنية إذا كان العقد صحيحا؟ فإن قال: نعم، قيل له: إن شاء الله تعالى فهل تجد في البيوع شيئا من الذرائع، أو في النكاح شيئا من الذرائع تفسد به بيعا، أو نكاحا أولى أن تفسد به البيع من شراء الفرس العقوق على ما وصف وكل ذات حمل سواها والنكاح على ما وصفت، فإذا لم تفسد بيعا، ولا نكاحا بنية يتصادق عليها المتبايعان والمتناكحان أيما كانت نيتهما ظاهرة قبل العقد ومعه وبعده، وقلت لا أفسد واحدا منهما؛ لأن عقد البيع وعقد النكاح وقع على صحة والنية لا تصنع شيئا وليس معها كلام فالنية إذا لم يكن معها كلام أولى أن لا تصنع شيئا يفسد به بيع، ولا نكاح.
[قال الشافعي]: وإذا لم يفسد على المتبايعين نيتهما، أو كلامهما فكيف أفسدت عليهما بأن أزكنت عليهما أنهما نويا، أو أحدهما شيئا والعقد صحيح فأفسدت العقد الصحيح بإزكانك أنه نوى فيه ما لو شرط في البيع، أو النكاح فسد فإن قال ومثل ماذا؟ قال: قيل له: مثل قولك والله تعالى الموفق.