المزهر/النوع الرابع والأربعون
►معرفة التصحيف والتحريف | معرفة الطبقات والحفاظ والثقات والضعفاء | معرفة الأسماء والكنى والألقاب ◄ |
قد ألّف في ذلك الكثير. فمن ذلك: طبقات النحاة لأبي بكر الزبيدي وطبقات النحاة البصريين لأبي سعيد السِّيرافي ومراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي.
قال أبو الطيب اللغوي في كتاب مراتب النحويين: قد غلب الجهل وفَشَا حتى لا يدري المتصدر للعلم من رَوَى ولا من رُوِي عنه ولا مِن أين أخذ علمه، وحتى إن كثيرا من أهل دهرنا لا يفرقون بين أبي عُبيدة وأبي عُبيد وبين الشيء المنسوب إلى أبي سعيد الأصمعي أو أبي سعيد السكَّري أو أبي سعيد الضرير، ويحكون المسألة عن الأحمر فلا يدرون: أهو الأحمر البصري أو الأحمر الكُوفِي ولا يصلون إلى العلم بمزية ما بين أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني ولا يفصلون بين أبي عمر عيسى بن عمر الثقفي وبين أبي عمر صالح بن إسحاق الجَرمي، ويقولون: قال الأخفش فلا يفرقون بين أبي الخطاب الأخفش وأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش البَصريَّيْن وبين أبي الحسن علي بن المبارك الأخفش الكوفي وأبي الحسن علي بن سليمان الأخفش صاحب محمد بن يزيد وأحمد بن يحيى، وحتى يظن قوم أن القاسم بن سلّام البغدادي ومحمد بن سلّام الجُمَحي صاحب الطبقات أخوَان. ولقد رأيت نسخةً من كتاب الغريب المصنف وعلى ترجمته تأليف أبي عبيد القاسم بن سلّام الجمحي وليس أبو عبيد بجُمحي ولا عربي وإنما الجمحي محمد مؤلف كتاب طبقات الشعراء وأبو عبيد في طبقة من أخذ عنه إلى غير هذا.
إلى أن قال: واعلم أن أكثر آفات الناس الرؤساء الجهال والصدور الضلال، وهذه فتنةُ الناس على قديم الأيام وغابر الأزمان فكيف بعَصْرِنا هذا وقد وصلنا إلى كدر الكدر وانتهينا إلى عكر العكر وأُخِذ هذا العلم عَمّن لا يعلم ولا يحسّ ولا يفقه، ولا يحسن يفهم الناس ما لا يفهم ويعلمهم عن نفسه وهو لا يعلم يتقلَّد كل علم ويدعيه ويركب كل إفك ويحكيه ويجهل ويَرَى نفسه عالمًا ويعيب مَنْ كان من العيب سالمًا ثم لا يرضى بهذا حتى يعتقد أنه أعلم الناس ولا يُقْنِعه ذلك حتى يظنّ أن كل من أخذ عنه هذا العلم لو حشروا لاحتاجوا إلى التعليم منه فهو بلاء على المتعلمين وَوَبالٌ على المتأدبين ولقد بلغني عن بعض من يختصّ بهذا العلم ويرويه ويزعم أنه يُتقنه ويَدْرِيه أنه أسند شيئا فقال عن الفراء عن المازني فظن أن الفراء الذي هو بإزاء الأخفش كان يروي عن المازني، وحدث عن آخر أنه روى مناظرة جرت بين ابن الأعرابي والأصمعي وهما ما اجتمعا قط، وابن الأعرابي بإزاء غلمان الأصمعي وإنما كان يردّ عليه بعد؛ وحريّ بمن عَمِي عن معرفة قوم أن يكونَ عن علومهم أعمى وأضلّ سبيلًا.
قال: فَرَسمتُ في هذا الكتاب ما يفتح القفلة ولا يسع العقلاء الجهل به.
ثم قال: واعلم أنَّ أول ما اختل من كلام العرب وأحوج إلى التعلم الإعراب لأن اللَّحْنَ ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبي $ فقد روينا أن رجلًا لحن بحضرته فقال: أرْشِدُوا أخاكم فقد ضلّ.
وقال أبو بكر: لأن أقرأ فأُسْقِط أحبُّ إليَّ من أن أقرأ فألحن.
وقد كان اللَّحنُ معروفًا بل قد روينا من لفظ النبي ﷺ أنه قال: أنا مِنْ قريش ونشأت في بني سعد فأنى لي اللحن! وكتب كاتب لأبي موسى الأشعري إلى عمر فلحن فكتب إليه عمر: أن اضرِبْ كاتبك سوطًا واحدًا. وكان علي بن المديني لا يغيِّر الحديثَ وإن كان لحنًا إلا أن يكون من لفظ النبي ﷺ، فكأنه يُجَوِّز اللحن على مَنْ سواه.
ثم كان أول من رسم للناس النحو أبو الأسود الدؤلي وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان أعلم الناس بكلام العرب وزعموا أنه كان يجيب في كل اللغة.
قال أبو الطيب: ومما يدل على صحة هذا ما حدثنا به محمد بن عبد الواحد الزاهد: أخبرنا أبو عمرو بن الطُّوسي عن أبيه عن اللَّحيانيِّ في كتاب النوادر قال: حدثنا الأصمعي قال: كان غلام يطيف بأبي الأسود الدؤلي يتعلَّم منه النحو فقال له يومًا: ما فعل أبوك قال: أخذته حمى فضخته فضخًا وطبخته طبخًا وفنخته فنخًا فتركته فرخًا قال: فما فعلت امرأةُ أبيك التي كانت تشارُّه وتجارُّه وتضارّه وتزارّه وتهارّه وتمارّه قال: طلقها وتزوج غيرها فحظيت عنده ورضيت وبظيت قال: وما بظيت يا بنَ أخي قال: حرف من العربية لم يبلغْك قال: لا خيرَ لك فيما لم يبلغني منها.
وأبو الأسود أولُ من نقط المصحف واختلف الناس إلى أبي الأسود يتعلمون منه العربية وفرَّع لهم ما كان أصله فأخذ ذلك عنه جماعة.
قال أبو حاتم: تعلَّم منه ابنه عطاء بن أبي الأسود ثم يحيى بن يَعْمَرَ العدواني كان حليف بني ليث وكان فصيحًا عالمًا بالغريب ثم ميمون الأقرن ثم عَنْبسة بن معدان المهري وهو الذي يقال له عَنْبسة الفيل. قال: وأما فيما روينا عن الخليل فإنه ذكر أن أبرعَ أصحابِ أبي الأسود عَنْبَسَة الفيل وأن ميمونًا الأقرن أخذ عنه بعد أبي الأسود فَرَأَس الناس بعد عنْبَسَة وزاد في الشرح. ثم توفي وليس في أصحابه أحدٌ مثل عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وكان يقال: عبد الله أعلم أهل البصرة وأنقلهم ففرَّع النحو وقاسه وتكلم في الهمز حتى عمل فيه كتاب مما أملاه وكان رئيسَ الناس وواحدهم.
وقال أبو حاتم: قال داود بن الزبرقان عن قتادة قال: أول من وضع النحو بعد أبي الأسود يحيى ابن يعمَر وقد أخذ عنه عبد الله بن أبي إسحاق.
وكان في عصر عبد الله بن أبي إسحاق أبو عمرو بن العلاء المازني وله أخ يقال له أبو سفيان وكان أخذ عمن أخذ عنه عبد الله قال: قال الخليل: فكان عبد الله يُقَدَّم على أبي عمرو في النحو وأبو عمرو يُقَدَّم عليه في اللغة وكان أبو عمرو سيّدَ الناس وأعلمَهم بالعربية والشعر ومذاهب العرب وأخبرونا عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: قال أبو عمرو: كنت رأسًا والحسن حيّ.
قال أبو الطيب: ولم يؤخذ على أبي عمرو خطأ في شيء من اللغة إلا في حرف قصر عن معرفته عِلم من خَطّأه فيه وروايته:
أخبرنا جعفر بن محمد أخبرنا عليّ بن حاتم وغيره عن الأصمعي عن يونس قال: قيل لأبي عمرو بن العلاء ما الثفر قال: الاست فقيل له: إنه القُبُل فقال: ما أقرب ما بينهما فذهب قوم من أهل اللغة إلى أن هذا غلط من أبي عمرو وليس كما ظنوا فقد نص أبو عمرو الشيباني وغيره على أن الثُّفر: الدبر والثفر من الأنثى: القبل.
قال الخليل: وأخذ العلم عن أبي عمرو جماعة منهم: عيسى بن عمر الثقفي وكان أفْصحَ الناس وكان صاحب تَقْعِير واستعمال للغريب في كلامه.
ويونس بن حبيب الضبي وكان متقدَّمًا وكان النحوُ أغلب عليه. قال أبو عبيدة: اختلفتُ إلى يونس أربعين سنة أملأ كل يوم ألواحي من حفظه.
وأبو الخطاب الأخفش؛
فكان هؤلاء الثلاثة أعلم الناس وأفصحهم.
وألَّف عيسى بن عمر كتابين في النحو أحدهما مبسوط سمَّاه الجامع والآخر مختصر سماه المكمل قال محمد بن يزيد: قرأت أوراقًا من أحد كتابي عيسى بن عمر وكان كالإشارة إلى الأصول وفيهما يقول الخليل بن أحمد:
بطل النحو الذي ألفتمو ** غير ما ألف عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ** فهما للناس شَمْسٌ وقمر
وأبو الخطاب المذكور أول من فَسَّر الشعر تحت كل بيت وما كان الناس يعرفون ذلك قبله وإنما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسَّروها.
قال أبو الطيب: وكان في هذا العصر عمر الراوية أبو حفص إلا أنه لم يؤلف شيئا ولم يأخذ عنه من شُهِر ذكره فبلغنا أن سوار بن عبد الله لما ولي القضاء دخل عليه عمر الراوية يهنِّئُه فقال له سوار: يا أبا حفص إن خصمين ارتفعا إليَّ اليوم في جارية فلم أدْرِ مَا قَالا قال فما قالا قال: إن الخصم ذكر أنها ضَحْيَاء قال: بلى أيها القاضي إنها التي لا ينبت الشعر على عانتها.
وممن أخذ عن أبي عمرو أبو جعفر الرؤاسي عالم أهل الكوفة ولم يناظر هؤلاء الذين ذكرنا ولا قريبًا منهم قال أبو حاتم: كان بالكوفة نَحْويٌّ يقال له أبو جعفر الرؤاسي وهو مطروح العلم ليس بشيء وأهل الكوفة يعظمون من شأنه ويزعمون أن كثيرا من علومهم وقراءتهم مأخوذ عنه.
قلت: الأمرُ كذلك وأبو جعفر هذا هو أستاذ الكسائي وهو أول من وضع من الكوفيين كتابًا في النحو وكان رجلًا صالحًا وقيل: إنّ كل ما في كتاب سيبويه وقال الكوفيّ كذا إنما عَني به الرؤاسي هذا وكتابه يقال له الفَيْصل وكان له عم يقال له مُعاذ بن مسلم الهرّاء وهو نحوي مشهور وهو أول من وضع التصريف.
ثم قال أبو الطيب: ولا يذكر أهل البصرة يحيى بن يَعمر في النحويين وكان أعلم الناس وأفصحهم لأنه استبد بالنحو غيرُه ممن ذكرنا وكانوا هم الذين أخذ الناس عنهم وانفرد يحيى بن يَعمَر بالقراءة والذين ذكرنا من الكوفيين فهم أئمتهم في وقتهم وقد بينا منزلتهم عند أهل البصرة فأما الذين ذكرنا من علماء البصرة فرُؤَساء علماء معظمون غير مدافَعين في المِصْرَيْن جميعًا ولم يكن بالكوفة ولا في مصر من الأمصار مثل أصغرهم في العلم بالعربية.
ثم أخذ النحو عن عيسى بن عمر الخليل بن أحمد الفُرْهودي فلم يكن قبلَه ولا بعده مثله وكان أعلمَ الناس وأذكاهم وأفضل الناس وأتقاهم. قال محمد بن سلّام: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع ولا كان في العَجَم أَذْكَى من ابن القفع ولا أجمع، وقال أبو محمد التوّجي: اجتمعنا بمكة أدباء كل أُفق فتذاكرنا أمر العلماء حتى جرى ذكرُ الخليل فلم يبق أحد إلا قال: الخليلُ أذكى العرب وهو مِفْتَاحُ العلوم ومصرفها.
قال أبو الطيب: وأبدع الخليل بدائع لم يُسبق إليها فمن ذلك تأليفه كلام العرب على الحروف في الكتاب المسمى كتاب العين، واختراعه العروض وأحدث أنواعًا من الشعر ليست من أوزان العرب.
وكان في العصر ثلاثة هم أئمة الناس في اللغة والشعر وعلوم العرب لم يُر قبلهم ولا بعدهم مثلهم عنهم أُخِذ جلّ ما في أيدي الناس من هذا العلم بل كلّه وهم: أبو زيد وأبو عبيدة والأصمعي، وكلهم أخذوا عن أبي عمرو اللغة والنحو والشعر ورووا عنه القراءة ثم أخذوا بعد أبي عمرو عن عيسى بن عمر وأبي الخطاب الأخفش ويونس بن حبيب وعن جماعة من ثقات الأعراب وعلمائهم مثل أبي مهدية وأبي طفيلة وأبي البيداء وأبي خيرة بن لقيط وأبي مالك عمرو بن كَرْكَرَة صاحب النوادر من بني نمير وأبي الدقيش الأعرابي وكان أفصحَ الناس وليس الذين ذكرنا دونه، وقد أخذ الخليل أيضا من هؤلاء واختلف إليهم.
وكان أبو زيد أحفظَ الناسِ للغة بعد أبي مالك وأوسَعهم رواية وأكثرَهم أخذًا عن البادية. وقال ابن مناذر: كان الأصمعي يُجِيب في ثلث اللغة وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها وكان أبو زيد يجيب في ثلثيها وكان أبو مالك يجيب فيها كلها. وإنما عنى ابن مناذر توسعهم في الرواية والفُتْيا لأن الأصمعي كان يضيق ولا يجوّز إلا أصح اللغات ويلج في ذلك ويمحك وكان مع ذلك لا يجيب في القرآن ولا في الحديث فعلى هذا يزيد بعضهم على بعض.
وأبو زيد من الأنصار وهو من رواة الحديث ثقة عندهم مأمون وكذلك حاله في اللغة وقد أخذ عنه اللغة أكابرُ الناس منهم سيبويه وحَسْبُك قال أبو حاتم عن أبي زيد: كان سيبويه يأتي مجلسي وله ذُؤابتان قال: فإذا سمعتُه يقول: وحدثني من أثق بعربيته فإنما يريدني وكبر سن أبي زيد حتى اختلّ حفظُه ولم يختلّ عقله ومن جلالة أبي زيد في اللغة ما حدثنا به جعفر بن محمد: حدثنا محمد بن الحسن الأزْدِي عن أبي حاتم عن أبي زيد قال: كتب رجل من أهل رَامَهُرْمُز إلى الخليل يسأله كيف يقال: ما أوقفك هاهنا ومن وأقفك فكتب إليه: هما واحد قال أبو زيد: ثم لقيني الخليل فقال لي في ذلك فقلت له: إنما يقال مَن وقفك وما أوقفك قال: فرجع إلى قولي.
وأما أبو عبيدة فإنه كان أعلم الثلاثة بأيام العرب وأخبارهم وأجمَعهم لعلومهم وكان أَكملَ القوم قال عمر بن شبّة: كان أبو عبيدة يقول: ما التقى فَرسان في جاهلية ولا إسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسيهما وهو أول من ألف غريب الحديث حدثنا علي بن إبراهيم البغدادي سمعت عبد الله بن سليمان يقول: سمعت أبا حاتم السِّجِسْتَانِي يقول: جاء رجل إلى أبي عبيدة يسأله كتابًا وسيلة إلى بعض الملوك فقال لي: يا أبا حاتم اكتب عني والحن في الكتاب فإن النحو محدود أي محروم صاحبه.
وأما الأصمعي فكان أتقنَ القوم باللغة وأعلمَهم بالشعر وأحضرهم حفظًا وكان قد تعلم نَقْدَ الشعر من خلف الأحمر.
وهو خَلَف بن حَيَّان ويكنى أبا محمد وأبا محرز.
قال أبو حاتم عن الأصمعي: كان خَلَف مولى أبي بردة بن أبي موسى الأشعري أعتقه وأعتق أبَوَيْهِ وكان أعلم الناس بالشِّعر وكان شاعرًا ووضع على شعراء عبد القيس شعرًا كثيرا موضوعًا وعلى غيرهم وأخذ ذلك عنه أهلُ البصرة وأهلُ الكوفة أخبرنا محمد بن يحيى: أخبرنا محمد بن يزيد قال: كان خلف أخذ النحو عن عيسى بن عمر وأخذ اللغة عن أبي عمرو ولم يُرَ أحد قط أعلم بالشعر والشعراء منه وكان يُضرب به المثل في عمل الشعر وكان يعمل على ألسنة الناس فيُشَبّه كلَّ شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه ثم نَسَك فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة وبذل له بعض الملوك مالًا عظيمًا خطيرًا على أن يتكلم في بيت شعر شكرًا فيه فأبى ذلك وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارَهم وكانوا يقصدونه لما مات حَمَّاد الراوية لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه وبلغ مبلغًا لم يقاربه حماد فلما تَنَسَّك خرج إلى أهل الكوفة فعرّفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثقَ منك الساعة فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم.
أخبرنا جعفر بن محمد أخبرنا علي بن سهيل أخبر أبو عثمان الأشْنانْدَاني أخبرنا التوّزيّ قال خرجتُ إلى بغداد فحضرت حَلْقة الفراء فلما أنس بي قال ما فعل أبو زيد قلت: مُلازِمٌ لبيته ومسجده وقد أسنّ فقال: ذاك أعلم الناس باللغة وأحفظُهم لها ما فعل أبو عبيدة قلت: ملازم لبيته ومسجده على سُوء خلُقه فقال: أما إنه أكملُ القوم وأعلمهُم بالشعر وأتقنهم للغة وأحضرهم حفظًا ما فعل الأخفش يعني سَعيد بن مَسعدة قلت: مُعافى تركته عازمًا على الخروج إلى الرَّي قال: أما إنه إن كان خرج فقد خرج معه النحو كله والعلمُ بأصوله وفروعه.
قال أبو الطيب: ولم يَرَ الناس أحضرَ جوابًا وأتقن لما يحفَظ من الأصمعي ولا أصدقَ لهجة، وكان شديد التألُّه فكان لا يفسر شيئا من القرآن ولا شيئا من اللغة له نظير واشتقاق في القرآن وكذلك الحديث تحرُّجًا وكان لا يفسر شعرًا فيه هجاء ولم يرفع من الأحاديث إلا الأحاديث اليسيرة وكان صدوقًا في كل شيء من أهل السُّنة فأما ما يحكي العوام وسُقَّاط الناس من نوادر الأعراب ويقولون: هذا مما اختلقه الأصمعي ويحكون أن رجلًا رأى عبد الرحمن ابن أخيه فقال: ما فعل عمك فقال: قاعد في الشمس يكذب على الأعراب فهذا باطل وكيف يقول ذلك عبد الرحمن ولولا عمُّه لم يكن شيئا مذكورًا وكيف يكذب عمه وهو لا يَرْوِي إلا عنه وأنّى يكون الأصمعي كذلك وهو لا يفتي إلا فيما أجمع عليه العلماء ويقف عما ينفردون عنه ولا يجيز إلا أفصحَ اللغات ويلحّ في دفع ما سواه!
وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفانه ويناوئانه كما يناوئهما فكلهم كان يطعن على صاحبه بأنه قليل الرواية ولا يذكره بالتزوير ولا يتهم أحدُهم صاحبَه بالكذب لأنهم يبعدون عن ذلك وكتب إليّ أبو روق الهمذاني قال سمعت الرِّياشي يقول: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ اثني عشر ألف أرجوزة فقال له رجل: منها البيت والبيتان فقال: ومنها المائة والمائتان وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: عجائب الدنيا معروفة معدودة منها الأصمعي.
قال أبو الطيب: ولم يحك الأصمعي ولا صاحباه عن الخليل شيئا من اللغة لأنه لم يكن فيها مثلهم، ولكن الأصمعي قد حكى عنه حكايات وكان الخليل أسَنَّ منه.
وأخَذَ النحو عن الخليل جماعةٌ لم يكن فيهم ولا في غيرهم من الناس مثلُ سيبويه وهو أعلمُ الناس بالنحو بعد الخليل وألّف كتابه الذي سماه قران النحو وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل.
وأخذ أيضا عن الخليل حمادُ بن سلمة وكان أخذ عن عيسى بن عمر قبله.
وأخذ عن الخليل أيضا اللغة والنحو النَّضر بن شُمَيل المازني وهو ثقةٌ ثَبت صاحب غريب وشعر ونحو وحديث وفقه ومعرفة بأيام الناس.
وأبو محمد اليزيدي وقد أخذ قبله عن أبي عمرو العربية والقراءة وهو ثقة.
وممن أخذ عن الخليل المؤرّج بن عمرو السَّدوسي وعلي بن نصر الجهْضَمِيّ؛ إلا أن النحو انتهى إلى سيبويه.
وأخذ عن يونس بن حبيب ممن اختصّ به دون غيره قُطْرُب واسمه محمد بن المستنير وكان حافظًا للغة كثيرَ النوادر والغرائب.
وأخذ عنه أيضا وعن خلف الأحمر أبو عبد الله محمد بن سلّام الجُمَحي صاحب كتاب طبقات الشعراء وهو ثقة جليل روى عنه أبو حاتم والرياشي والمازني والزيادي وأكابر الناس.
وأخذ النحو عن سيبويه جماعة برع منهم أبو الحسن سعيد بن مَسعدة الأخفش المجاشعي من أهل بلْخ وكان غلام أبي شَمِر وعلى مذهبه في الاعتزال وكان أسنَّ من سيبويه ولكن لم يأخذ عن الخليل ولم يكن ناقصًا في اللغة أيضا وله فيها كتب مستحسنة وكان أخذ عن أبي مالك النميري.
وكان للكوفيين بإزاء من ذكرنا من علماء البصرة المفضَّل بن محمد الضبي وكان عالمًا بالشعر وكان أوثق من روى الشعر من الكوفيين ولم يكن أعلمهم باللغة والنحو إنما كان يختص بالشعر وقد روى عنه أبو زيد شعرًا كثيرا.
قال أبو حاتم: كان أوثق مَنْ بالكوفة من الشعراء المُفضل الضبي وكان يقول: إني لا أحسن شيئا من الغريب ولا من المعاني ولا تفسير الشعر وإنما كان يروي شعرًا مجردًا.
ثم كان خالد بن كُلثوم صاحب العلم بالشعر وكان أوسع في العربية من المفضَّل.
وكان من أوسعهم رواية حماد الراوية: وقد أخذ عنه أهل المِصْرَيْن وخلف الأحمر وروى عنه الأصمعي شيئا من شعره.
أخبرنا جعفر بن محمد أخبرنا محمد بن الحسن الأَزْدِي أخبرنا أبو حاتم قال: قال الأصمعي: كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حَمَّاد الراوية إلا شيئًا سمعناه من أبي عمرو بن العلاء.
قال أبو الطيب: وحماد مع ذلك عند البصريين غيرُ ثِقَة ولا مأمون أخبرنا جعفر بن محمد حدثنا إبراهيم بن حميد قال أبو حاتم: كان بالكوفة جماعة من رُوَاة الشعر مثل حمّاد الراوية وغيره وكانوا يصنعون الشعر ويقتنون المصنوع منه وينسُبونه إلى غير أهله وقد حدثني سعيد بن هريم البرجمي قال: حدثني من أثق به أنه كان عند حماد حتى جاء أعرابي فأنشده قصيدة لم تعرف ولم يدر لمن هي فقال حماد: اكتبوها فلما كتبوها وقام الأعرابي قال: لمن ترون أن نجعلها فقالوا أقوالًا فقال حماد: اجعلوها لطَرَفَة.
وقال الجاحظ: ذكر الأصمعي وأبو عبيدة وأبو زيد عن يونس أنه قال: إني لأعجب كيف أخذ الناس عن حماد وهو يلحن ويكسر الشعر ويصحّف ويكذب، وهو حماد بن هرمز الديلمي.
قال أبو حاتم: قال الأصمعي: جالستُ حمادًا فلم أجد عنده ثلثمائة حرف ولم أرضَ راويته، وكان قديمًا.
وفي طبقته من الكوفيين أبو البلاد وهو مِنْ أرواهم وأعلمهم وكان أعمى جيِّد اللسان وهو مولى لعبد الله بن غطَفان، وكان في زمن جرير والفرزدق.
قال أبو حاتم: فأما مثل ابن كناسة ومحمد بن سهل فإنهما كانا يعرفان شعر الكُمَيْتِ والطرِمّاح وكانا مولّدين لا يحتج الأصمعي بشعرهما وكان ابن كناسة يكنى أبا يحيى وهو محمد بن عبد الأعلى بن كناسة توفي بالكوفة سنة سبع ومائتين.
قال أبو الطيب: والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة ولكنَّ أكثره مصنوع ومنسوب إلى مَنْ لم يَقُلْهُ وذلك بَيِّن في دواوينهم.
وكان عالمَ أهل الكوفة وإمامَهم غير مدافَع أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي.
أخبرنا محمد بن عبد الواحد أخبرنا ثعلب قال: أَجْمَعُوا على أن أكثر الناس كلِّهم رواية وأوسعَهم علمًا الكسائي وكان يقول: قلما سمعت في شيء فعلت إلا وقد سمعت فيه أفعلت. قال أبو الطيب: وهذا الإجماع الذي ذكره ثعلب لا يدخل فيه أهلُ البصرة.
وأخذ الناس علم العربية عن هؤلاء الذين ذكرنا من علماء المِصْريَنْ. وكان ممن برع منهم محمد أبو عبد الله بن محمد التوّجي ويقال التوّزي. وأبو علي الجِرْمازي. وأبو عمر صالح بن إسحاق الجَرْمي.
وكانوا يأخذون عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي والأخفش، وهؤلاء الثلاثة أكثر أصحابهم.
وكان دون هؤلاء في السن أبو إسحاق إبراهيم الزيادي وأبو عثمان بكر بن محمد المازني وأبو الفضل العباس بن الفرج الرِّياشي وأبو حاتم سهل بن محمد السِّجِسْتاني وكان التوّجيُّ أطلعَ القوم في اللغة وأعلمهم بالنحو بعد الجَرمي والمازني.
قال المبرد: كان أبو زيد أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو وكانا بعد متقاربين قال: وكان المازني أخذ من الجَرْمي وكان الجرمي أعوصهما.
قال أبو الطيب: وكان المازني من فضلاء الناس وعظمائهم ورُوَاتهم وثِقَاتهم وكان أبو حاتم في نهاية الثقة والإتقان والعلم الواسع بالإعراب وكُتُبُه في نهاية الاستقصاء والحسن والبيان؛ وزعموا أنه كان يُظْهِر السُّنة ويضمر الاعتزال.
ودون هذه الطبقة جماعة منهم أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن قُرَيْب ابن أخي الأصمعي وقد روي عن عمه علمًا كثيرا وكان ربما حكى عنه ما يجد في كتبه من غير أن يكون سمعه من لفظه.
وأبو نصر أحمد بن حاتم الباهلي وزعموا أنه كان ابن أخت الأصمعي وليس هذا بثبت ورأيت جعفر بن محمد ينكره وكان أَثبتَ من عبد الرحمن وأسنّ وقد أخذ عن الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد وأقام ببغداد فربما حكى الشيء بعد الشيء عن أبي عمرو الشيباني. وأخذ الناس العلم عن هؤلاء.
وأخذ النحو عن المازني والجَرمي جماعة برع منهم أبو العباس المبرد فلم يكن في وقته ولا بعده مثلُه وعنه أخذ أبو إسحاق الزجاج وأبو بكر بن السَّراج ومَبْرَمان وأكابر من لَقِينا من الشيوخ.
وأخذ اللغة عنهما - أعني المازني والجَرْمي - وعن نُظَرائهما جماعةٌ فاختَصَّ بالتّوجي أبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني صاحب المعاني.
وبرع من أصحاب أبي حاتم أبو بكر بن دريد الأزدي فهو الذي انتهى إليه عِلْمُ لغة البَصْريين وكان أحفظ الناس وأوسعهم علمًا وأقدرهم على شعر وما ازدحم العلمُ والشعرُ في صدر أحد ازدحامَهما في صدر خلف الأحمر وابن دريد وتصدَّر ابن دريد في العلم ستين سنة.
وفي طبقته في السن والرواية أبو علي عيسى بن ذكْوان.
وكان أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينَوَرِي أخذ عن أبي حاتم والرِّياشي وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي وقد أخذ ابن دريد عن هؤلاء كلهم وعن الأشنانداني إلا أن ابن قتَيْبَة خلط علمه بحكايات عن الكوفيين لم يكن أخذها عن ثقات.
فهذا جمهور ما مضى عليه علماءُ البصرة وفي خلال هؤلاء قومٌ علماء لم نذكرهم لأنهم لم يشتهروا ولم يُؤْخذ عنهم وإنما شهرة العالم بمصنَّفاته والرواية عنه.
وكان ممن أخذ عن سيبويه والأخفش رجل كان يعرف بالناشئ ووضع كتبًا في النحو مات قبل أن يُتمها وتؤخذ عنه قال المبرد: لو خرج علم الناشئ إلى الناس لما تقدمه أحد.
وكان ممن أخذ عن الخليل وأبي عبيدة كيسان وكان مُغَفَّلًا وقال الأصمعي: كيسان ثقة ليس بمتزيد.
وأما علماءُ الكوفيين بعد الكسائي فأعلمهم بالنحو الفراء وقد أخذ علمه عن الكسائي وهو عُمْدَتُه ثم أخذ عن أعراب وثق بهم مثل أبي الجراح وأبي مرْوان وغيرهما وأخذ نبذًا عن يونس وعن أبي زياد الكلابي وكان الفراء وَرِعًا متدينًا وكان يخالف الكِسائي في كثير من مذاهبه.
ومِمَّن أخذ عن الكسائي أبو عليّ الأحمر.
وأبو الحسن عليّ بن حازم اللِّحياني صاحب النوادر وقد أخذ اللِّحياني أيضا عن أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي إلا أن عمدته الكسائي.
وكذلك أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البَصْرِيين وأهل البصرة يمتنعون من الأخذ عنهم لأنهم لا يرون الأَعْرَاب الذين يَحْكُونَ عنهم حجة ويذكرون أن في الشعر الذي يرونه ما قد شرحناه فيما مضى ويحملون عليه غيره.
أخبرنا جعفر بن محمد أخبرنا إبراهيم بن حميد قال: قال أبو حاتم: إذا فسَّرْتُ حروف القرآن المختلف فيها وحكَيْتُ عن العرب شيئا فإنما أحكيه عن الثقات منهم مثل أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة ويونس وثِقاتٍ من فصحاء الأعراب وحَمَلَةِ العلم ولا ألتفت إلى رواية الكِسائي والأحمر والأموي والفراء ونحوهم.
قال أبو الطيب: فلم يزل أهل المِصْرَيْن على هذا حتى انتقل العلم إلى بغداد قريبًا وغلب أهلُ الكوفة في بغداد وخدموا الملوك فقدَّموهم فَأُرْغِب الناس في الروايات الشاذة وتفاخروا بالنوادر وتباهَوْا بالترخيصات وتركوا الأصول واعتمدوا في الفروع فاختلط العلم.
وكان من علمائهم في هذا العصر - أعني عصر الفراء - أبو محمد عبد الله بن سعيد الأموي أخذ عن الأعراب وعن أبي زياد الكلابي وأبو جعفر الرؤاسي ونبذ عن الكسائي وله كتاب نوادر وليس عِلْمُه بالواسع.
وفي طبقته أبو الحسن علي بن المبارك الأخفش الكوفي وأبو عِكْرمة الضبي صاحب كتاب الخيل وأبو عدنان الراوية صاحب كتاب القِسِيّ ونِعْمَ الكتاب في معناه بعد كتاب أبي حاتم وقد روى أبو عدنان عن أبي زيد كتبَه كلها.
ومن أعلمهم باللغة وأحفظهم وأكثرهم أخذًا عن ثقات الأعراب أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني صاحب كتاب الجيم وكتاب النوادر وهما كتابان جليلان فأما النوادر فقد قرئ عليه وأخذناه روايةً عنه أخبرنا به أبو عمر محمد بن عبد الواحد أخبرنا ثعلب عن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه وأمّا كتاب الجيم فلا رواية له لأن أبا عمرو بَخِل به على الناس فلم يقرأه عليه أحد.
وقد روى عنه أبو الحسن الطوسي وأبو سعيد الضرير وأبو سعيد الحسن بن الحسين السكري وأجلُّ من روى عنه أبو نصر الباهلي وأبو الحسن عليّ اللِّحياني ثم يعقوب بن السِّكِّيت فأما الطوسي والسكري فإنهما راويتان وليسا إمامين.
وأما أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي فإنه أخذ العلم عن المُفَضَّل الضبي وهو أحفظُ الكوفيين للغة وقد أخذ علَم البصريين وعلَم أبي زيد خاصة من غير أن يسمعَه منه وأخذ عن أبي زياد وجماعة من الأعراب مثل الفضيل وعجرمة وأبي المكارم وقوم لا يَثِقُ بأكثرهم البصريون وكان ينحرف عن الأصمعي ولا يقول في أبي زيد إلا خيرًا وكان أبو نصر الباهلي يتعنت ابن الأعرابي ويكذّبه ويدعي عليه التزيُّدَ ويزيّفه وابن الأعرابي أكثر حفظًا للنوادر منه وأبو نصر أشد تثبتًا وأمانة وأوثق.
وأما أبو عبيد القاسم بن سلّام فإنه مصنِّف حسن التأليف إلا أنه قليل الرواية يقتطعه عن اللغة علوم افتنَّ فيها فأما كتاب الغريب المصنف فإنه اعتمد فيه على كتاب عمله رجل من بني هاشم جمعه لنفسه وأخذ كتبَ الأصمعي فبوّب ما فيها وأضاف إليها شيئا من علم أبي زيد وروايات عن الكوفيين وأما كتابه في غريب الحديث فإنه اعتمد فيه على كتاب أبي عبيدة مَعْمَر بن المُثَنّى في غريب الحديث وكذلك كتابه في غريب القرآن منتزع من كتاب أبي عبيدة وكان مع هذا ثقة وَرِعًا لا بأس به وقد روي عن الأصمعي وأبي عبيدة ولا نعلمه سمع من أبي زيد شيئا.
قلت: قد صرح في عدة مواضع من الغريب المصنف بسماعه منه قال: وسمع من الفراء والأموي والأحمر وأبي عمرو وذكر أهلُ البصرة أن أكثر ما يَحْكِيه عن علمائهم من غير سماع إنما هو من الكتب وقد أخذت عليه مواضع من كتابه الغريب المصنف وكان ناقصَ العلم بالإعراب.
وكان في هذا العصر من الرواة ابن بجدة وأبو الحسن الأَثْرم فكان ابن بجدة يختص بعلم أبي زيد وروايته وكان الأثرم يختص بعلم أبي عبيدة وروايته وكان أبو محمد سلمة بن عاصم راوية الفراء وفيه وَرَعٌ شديد.
وانتهى علم الكوفيين إلى أبي يوسف يعقوب بن إسحاق السِّكِّيت وأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب وكانا ثقتين أمينين ويعقوب أسن وأقدم وأحسن الرجلين تأليفًا وثعلب أعلمهما بالنحو.
وكان يعقوب أخذ عن أبي عمرو والفراء وكان يحكى عن الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد من غير سماع إلا ممن سمع منهم وقد أخذ عن ابن الأعرابي شيئا يسيرًا.
وكان ثَعْلَب يعتمد على ابن الأعرابي في اللغة وعلى سلمة في النحو وكان يروى عن ابن بجدة كتب أبي زيد وعن الأثرم كتب أبي عبيدة وعن أبي نصر كتب الأصمعي وعن عمرو بن أبي عمرو كتب أبيه وكان ثقة متقنًا يستغني بشهرته عن نعته.
وأما أبو جعفر محمد بن حبيب فإنه صاحبُ أخبار وليس في اللغة هناك وقد أخذ عن سلمة ابنه أبو طالب المفضّل وقد أخذ أيضا عن يعقوب وثعلب وقد نظرتُ في كتبه فوجدته مُخَلِّطًا متعصِّبًا وردّ أشياء من كتاب العين أكثرُها غير مردود واختار اختيارات في اللغة والنحو ومعاني القرآن غيرُها المختار.
وأما القاسم بن محمد بن بشار الأنباري ومن روي عنه مثل أحمد بن عبيد الملقب أبا عصيدة فإن هؤلاء رواةٌ أصحابُ أسفار لا يُذكرون مع من ذكرنا.
وجملة الأمر أن العلم انتهى إلى من ذكرنا من أهل المِصْريْن على الترتيب الذي رتبناه وهؤلاء أصحابُ الكتب والمرجوعُ إليهم في علم العرب وما أخللنا بذكر أحد إلا لسبب: إما لأنه ليس بإمامٍ ولا معوَّل عليه وإما لأنه لم يخرج من تلامذته أحد يُحيِي ذِكْرَه ولا من تأليفه شيء يلزم الناس نشره كإمساكنا عن ذكر اليزيديين وهم بيتُ علم وكلُّهم يرجعون إلى جدهم أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي وهو في طبقة أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة والكسائي وعلمُه عن أبي عمرو وعيسى بن عمر ويونس وأبي الخطاب الأكبر وقد روي عن أبي عمرو القراءة المشهورة في أيدي الناس إلا أن علمه قليل في أيدي الرواة إلا في أهل بيته وذريته وهو ثقة أمين مقدَّم مكين ولا علم للعرب إلا في هاتين المدينتين.
فأما مدينةُ الرسول $ فلا نعلم بها إمامًا في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة.
وكان بها ابن دَأْب يَضَعُ الشعر وأحاديثَ السَّمر وكلامًا ينسُبه إلى العرب فسقط وذهب علمه وخَفِيت روايته وهو عيسى بن يزيد بن بكر بن دَأْب يكنى أبا الوليد وكان شاعرًا وعِلْمُه بالأخبار أكثر.
وممن كان يجري مجرى ابن دَأْب الشَّرْقِيّ بن القطَامِي وكان كذابًا. قال أبو حاتم: حدثنا الأصمعي قال: حدثنا بعض الرواة قال: قلت للشرقي: ما كانت العرب تقول في صلاتها على موتاها قال: لا أدري قلت: فاكْذِب له قال: كانوا يقولون: رُوَيْدَك حتى تبعثَ الخلقَ بَاعِثة فإذا أنا به يوم الجمعة يحدث به في المقصورة.
وممن كان بالمدينة أيضا عليّ الملقب بالجمل وَضَع كتابًا في النحو لم يكن شيئا.
وأما مكة فكان بها رجل من الموالي يقال له ابن قسطنطين شَدَا شيئا من النحو ووضع كتابًا لا يُسَاوِي شيئا.
وأما بغداد فمدينة مُلْك وليست بمدينة عِلْم وما فيها من العلم فمنقول إليها ومجلوب للخُلَفَاءِ وأتباعهم قال أبو حاتم: أهل بغداد حشو عسكر الخليفة لم يكن بها مَنْ يُوثق به في كلام العرب ولا من تُرْتضى روايته فإن ادَّعى أحد منهم شيئا رأيته مخلِّطًا صاحبَ تطويل وكثرة كلام ومكابرة.
قال أبو الطيب: والأمرُ في زماننا على هذا أضعاف ما عَرَفَ أبو حاتم.
قال: فهذه جملة تعرف بها مراتب علمائنا وتقدمهم في الأزمان والأسنان ومنازلهم من العلم والرواية.
انتهى كلام أبي الطيب في كتاب مراتب النحويين ملخصًا.
وقال ابن جني في كتاب الخصائص: باب في صدق النَّقَلة وثقة الرُّوَاة والحمَلة:
هذا موضع من هذا الأمر لا يعرف صحته إلا من تصوَّرَ أحوال السلف وعرف مقامهم من التوقير والجلالة واعتقد في هذا العلم الكريم ما يجب اعتقادُه له وعلم أنه لم يوفَّق لاختراعه وابتداء قوانينه وأوضاعه إلا البَرّ عند الله سبحانه الْحَظِيظ بما نوَّه به وأعلى شأنه أو لا يعلم أن أمير المؤمنين هو البادئ به المُنَبِّه عليه، والمُنشِئه والمُشِير إليه، ثم تحقق ابن عباس به واقتفاء علي رضي الله عنه أبا الأسود إياه هذا بعد تنبيه رسول الله ﷺ وحضه على الأخذ بالحظِّ منه ثم تتالي السلف عليه. واقتفاؤهم آخرًا على أول طريقة ويكفي من بعد ما يعرف من حاله ويشاهد به من عفة أبي عمرو بن العلاء ومن كان معه ومجاور أزمانه.
حدثنا بعضُ أصحابنا حديثًا يرفعه قال: قال أبو عمرو بن العلاء: ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا يعني ما يروى للأعشى من قوله:
وأنكرتْني وما كان الذي نكِرت ** من الحوادث إلا الشيبَ والصَّلَعَا
أفلا ترى إلى هذا البدر الباهر والبحر الزاخر الذي هو أبو العلماء وكهفهم ويَدُ الرواة وسيفهم كيف تخلُّصه من تبعات هذا العلم وتحرجه وتراجعه فيه إلى الله تعالى وتحوّبه حتى إنه لما زاد فيه - على سعته وانبثاثه وتراميه وانتشاره - بيتًا واحدًا وفقه الله تعالى للاعتراف به عنوانًا على توفيق ذَوِيه وأهله.
وهذا الأصمعي وهو صَنَّاجة الرواة والنقلة وإليه محط الأعباء والثقلة ومنه تجبى الفِقَر والمُلَح وهو ريحانة كل مُغتَبِق ومُصْطَبح كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره وهو حَدَث لأخذ قراءة نافع عنه ومعلوم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته لأنه لم يقو عنده إذ لم يسمعه فأما إسفاف من لا عِلْم له وقول من لا مُسكة به: إن الأصمعي كان يزيد في كلام العرب ويفعل كذا ويقول كذا فكلام معفو عليه غير معبوء به ولا منقوم من مثله حتى كأنه لم يتأدّ إليه توقفه عن تفسير القرآن وحديث رسول الله ﷺ وتَحَوّبه من الكلام في الأَنْوَاء ويكفيك من ذا خشية أبي زيد وأبي عبيدة وهذا أبو حاتم بالأمس وما كان عليه من الجد والانهماك والعِصْمَةِ والاستمساك.
وقال لنا أبو عليّ: يكاد يُعْرَف صدقُ أبي الحسن ضرورة وذلك أنه كان مع الخليل في بلد واحد ولم يحكِ عنه حرفًا واحدًا هذا إلى ما يعرف من عقل الكسائي وعِفَّتِهِ وصَلَفِه ونزاهته حتى إن الرشيد كان يُجْلِسه ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته ويأمرهما ألا ينزعجا لنهضته.
وحكى أبو الفضل الرياشي قال: جئتُ أبا زيد لأقرأ عليه كتابه في النبات فقال: لا تقرأه عليّ فإنني قد أُنْسِيته وحَسْبُنا من هذا حديث سيبويه وقد خط بكتابه وهو ألف ورقة عِلْمًا مبتكرًا ووَضْعًا متجاوزًا لما يسمع ويرى قلما تُسْند إليه حكاية أو تُوصَل به رواية إلا الشاذ الفذ الذي لا حفل به ولا قدر فلولا تحفُّظ مَنْ يليه ولزومه طريق ما يعنيه لكثرت المَحْكِيَّات عنه ونِيطتْ أسبابها به لكن أخلد كلُّ إنسان منهم إلى عصمته وادّرع جِلْبَابَ ثقته وحمى جانبه من صدقه وأمانته ما أريد من صون هذا العلم الشريف لذويه.
فإن قلت: فإنا نجدُ علماء هذا الشأن من البلدين والمتحلّين به من المِصْرين كثيرا ما يهجِّن بعضُهم بعضًا فلا يترك له في ذلك سماءً ولا أرضًا قيل: هذا أدلُّ دليلٍ على كرم هذا الأمر ونزاهة هذا العلم ألا ترى أنه إذا سبق إلى أحدهم ظِنَّةٌ أو توجهت نحوه شبهة سُبّ بها وبُرِئ إلى الله منه لمكانها ولعل أكثَر ما يُرمى بسقطة في رواية أو غمزة في حكاية محمي جانب الصدق فيها برئ عند الله من تبعتها لكن أخذت عنه إما لاعْتِنَانِ شبهة عرضت له أو لمن أخذ عنه وإما لأن ثالِبَه ومُتَعَيِّبَه مقصر عن مغزاه مغضوض الطرف دون مداه وقد عرض الشبهة للفريقين ويعترض على كلا الطريقين فلولا أن هذا العلم في نفوس أهله والمتفيئين بظله كريم الطرفين جدد السمتين لما تسابُّوا بالهجنة فيه ولا تنابزوا بالألقاب في تحصين فروجه ونواحيه ليطووا ثوبه على أعدل غُرره ومطاويه نعم وإذا كانت هذه المناقضات والمنافسات موجودة بين السلف القديم وبين باقيه بالمنصب والشرف العميم ممن هم سُرُج الأنام والمؤتم بهديهم في الحلال والحرام ثم لم يكن ذلك قادحًا فيما تنازعوا فيه ولا عائدًا بطرف من أطراف التَّبعَة عليه جاز مثل ذلك أيضا في علم العرب الذي لا يخلص جميعه للدين خلوصَ الكلام والفقه له ولا يكاد يعدم أهلُه الأنس به والارتياح لمحاسنه.
ولله أبو العباس أحمد بن يحيى وتقدمه في نفوس أصحاب الحديث ثقة وأمانة وعصمة وحَصانة وهم عيار هذا الشأن وأساس هذا البنيان وهذا أبو علي كأنه ما بَعُدَ منا أو لم تَبِن به الحال عنا كان من تحرّيه وتأدبه وتحرجه كثير التوقف فيما يحكيه دائم الاستظهار.
والإيراد لما يرويه فكان تارة يقول: أنشدت لجرير فيما أحسِب، وأخرى قال لي أبو بكر فيما أظن وأخرى في غالب ظني كذا وأرى أنني قد سمعت كذا.
هذا جزء من جملة وغصن من دوحة وقطرة من بحر مما يقال في هذا الأمر وإنما أنسنا بذكره ووكلنا الحال فيه إلى تحقيق ما يضاهيه انتهى كلام الخصائص والله أعلم.