المزهر/النوع الثاني عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
في علوم اللغة وأنواعها



النوع الثاني عشر

معرفة المطرد والشاذ


قال ابن جني في الخصائص: أصل مواضع (ط ر د) في كلامهم التتابع والاستمرار؛ من ذلك طَرَدت الطَّرِيدة إذا اتبعتَها واستمرت بين يديك ومنه مطارَدَة الفُرْسان بعضهم بعضًا، [ ألا ترى أن هناك كرًّا وفرًّا فكلٌّ يطرد صاحبه ]، ومنه المِطْرَد: رمحٌ قصيرٌ يطرد به الوحش. واطَّرد الجدول إذا تتابع ماؤُه بالريح. ومنه بيت الأنصاريّ: * أتعرف رسما كاطِّراد المذاهب * أي كتتابع المذاهب، [ وهي جمع مُذْهَب ].

وأما مواضع (ش ذ ذ) في كلامهم فهو التفرق والتفرد. من ذلك قوله: * يَتركْن شَذَّان الحَصَى جَوافِلا * أي ما تطاير وتهافتَ منه. وشذَّ الشيء يشُذّ ويشِذ شذُوذًَا وشذًّا وأشْذَذْتُهُ وشَذَذْتُهُ أيضا أَشُذّه بالضم لا غير. وأباها الأصمعي وقال: لا أعرف إلا شاذًا أي متفرقًا، وجمع شاذّ شُذَّاذ، قال: * كبعضِ من مَرَّ من الشُّذَّاذ *

هذا أصل هذين الأصلين في اللغة، ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على سَمْته وطريقه في غيرهما فجعل أهلُ عِلم العرب ما استمرّ من الكلام في الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مُطَّردًا وجعلوا ما فارق عليه بِقيّةُ بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذًا حَمْلًا لهذين الموضعين على أحكام غيرهما.

قال: ثم اعلم أن الكلام في الاطّراد والشذوذُ على أربعة أضرب:

مُطَّرِد في القياس والاستعمال جميعًا وهذا هو الغاية المطلوبة وذلك نحو قام زيد وضربتُ عمرًا ومررت بسعيدٍ.

ومُطَّرِد في القياس شاذٌّ في الاستعمال وذلك نحو الماضي من يَذَر ويدَع، وكذلك قولهم: مكان مُبْقِل، هذا هو القياس، والأكثر في السَّماع باقل، والأول مسموع أيضا حكاه أبو زيد في كتاب حِيْلة وَمحَالة وأنشد: * أعَاشَني بَعْدَك وادٍ مُبْقِلُ * ومما يَقْوى في القياس ويضعُف في الاستعمال استعمال مفعول عسى اسمًا صريحًا نحو قولك: عسى زيد قائمًا أو قيامًا هذا هو القياس غير أن السماع ورَد بحَظْرِه والاقتصار على ترك استعمال الاسم هاهنا وذلك قولهم: عسى زيد أن يقوم و { عسى الله أن يأتي بالفتح } وقد جاء عنهم شيء من الأول أنشدنا أبو علي:

أكثرتَ في العذْلِ مُلحًّا دائما * لا تَعْذُلَنْ إني عَسِيتُ صائما

ومنه المثل السائر: عَسَى الغُوَيْرُ أَبْؤُسًا.

والثالث المُطَّرِد في الاستعمال الشَّاذ في القياس، نحو قولهم: أَخْوَصَ الرِّمْث واستصوبت الأمر. أخبرنا أبو بكر [ محمد بن الحسن عن ] أحمد بن يحيى قال: يقال: استصوبت الشيء ولا يقال استصبت. ومنه استَحْوذَ وأغْيلت المرأة واستنوق الجملُ واسْتَتْيَسَت الشاة واسْتَفْيَل الجمل. [ قال أبو النجم: * يدير عَيْنَيْ مُصْعَب مُسْتَفْيل * ]

والرابع - الشاذ في القياس والاستعمال جميعًا وهو كتتميم مفعول مما عينه واو [ أو ياء ] نحو ثوب مَصْوُون ومسك مَدْووف وحكى البغداديّون: فرس مَقْوُود ورجل معْوود من مَرَضه وكلُّ ذلك شاذٌّ في القياس والاستعمال فلا يسوغ القياس عليه ولا ردُّ غيره إليه.

قال: واعلم أن الشيء إذا اطَّرد في الاستعمال وشذّ عن القياس فلا بدَّ من اتِّباع السمع الوارد به فيه نفسه لكنه لا يُتَّخذ أصلًا يقاسُ عليه غيرُه ألا ترَى أنك إذا سمعت استحوذ واستصوب أدَّيتهما بحالهما ولم تتجاوز ما ورد به السمعُ فيهما إلى غيرهما فلا تقول في استقام [ الأمر مثلا ] استقوم [ ولا في استساغ استسوغ ] ولا في استباع استبْيَع ولا في أعاد أعوَد [ لو لم تسمع شيئا من ذلك ] قياسًا على قولهم: أَخْوَصَ الرِّمث؛ فإن كان الشيء شاذًّا في السماع مطردا في القياس تحاميتَ ما تحامت العربُ من ذلك وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله.

من ذلك امتناعك من وذر وودَع لأنهم لم يقولوهما ولا غَرو [ عليك ] أن تستعمل نظيرهما نحو وَزن ووعد لو لم تسمعهما.

ومن ذلك استعمال "أن" بعد كاد نحو قولك: كاد زيد أن يقوم وهو قليلٌ شاذّ في الاستعمال وإن لم يكن قبيحًا ولا مَأْبيًّا في القياس.

ومن ذلك قول العرب: أقائم أخواك أم قاعدان؛ هكذا كلامهم.

قال أبو عثمان: والقياس مُوجب أن تقول أقائم أخوَاك أم قاعدٌ هُما، إلا أن العربَ لا تقولهُ إلا قاعدان فتصل الضمير، والقياس يوجب فصله ليعادل الجملة الأولى.

ذكر نبذ من الأمثلة الشاذة في القياس المطردة في الاستعمال

قال الفارابي في ديوان الأدب: يقال أحْزَنه يَحْزُنُه قال تعالى: { ولا يَحْزُنْك } وهذا شاذٌّ وكان القياس يُحزِنه ولم يُسْمَع. ويقال: أحَمَّه الله من الحمَّى فهو محموم وهو من الشَّواذ والقياسُ مُحَمّ وأجنَّه الله من الجنون فهو مُجَنّ وهو من الشواذّ.

قال: ومن الشواذّ باب فَعِل يفعِل بكسر العين فيهما، كوَرِث وورِع ووبِق ووثِق ووفِق وومِقَ ووِرم وورِي الزَّند وَوَلي وِلاية وَيَبِس يَيَبس لغة في يبس يَيْبِس ويقال: أورس الشجر إذا اصفرَّ ورقه فهو وارس ولا يقال مُورس وهو من الشواذ.

ومن الشواذ أيضا قولهم: القَوْد والعَوَر والخَوَل والخور وقولهم: أحوجني الأمر وأرْوَح اللحم وأسْود الرجل من سواد لونِ الولد وأحوز الإبل أي سار بها. وأعور الفارس إذا بدا فيه موضعُ خَلل للضَّرب. وأَحْوشَ عليه الصيد إذا أنفره ليصيدَه وأخْوَصت النَّخلة من الخَوص. وأعْوص بالخَصْمِ إذا لوى عليه أمره. وأفوق بالسهم لغة في أفاق. وأشْوكت النخلة من الشَّوْك وأنْوكْت الرجل إذا وجدته أنوك. وأحَوْلَ الغلام إذا أتى عليه حَوْل وأطولت في معنى أطلت. وأعْول أي بكى ورفع صوته. وأقْوَلْتَني ما لم أقُل وأعْوَه القوم لغة في أعاه أي أصاب ماشيَتَهم عاهَة وأَخْيَلت السماء وأغْيَمَت لغة في أغامت وأغْيل فلان ولده لغة في أغال.

وفي أمالي ثعلب: قال أبو عثمان المازني قالت العرب: زُهي الرجل وما أزْهاه وشُغِل وما أشْغله وجُنَّ وما أَجَنَّه هذا الضَّرْب شاذ وإنما يُحْفظ حِفْظًا.

وفي الصحاح للجوهري: تقول جئت مجيئًا حسنًا وهو شاذ لأن المصدر من فَعَل بفِعل مَفعَل بفتح العين وقد شذّت منه حرُوفٌ فجاءت على مَفْعِل كالمجِيءِ والمحيض والمَكيل والمَصِير.

وفيه: شَنآن بالتحريك والتسكين وقُرِئ بهما وهما شاذّان فالتحريك شاذّ في المعنى لأن فَعَلان إنما هو من بناء ما كان معناه الحركة والاضطراب كالضرَبان والخَفَقان والتسكين شاذٌّ في اللفظ لأنه لم يجئ شيءٌ من المصادر عليه.

وقال ابن السراج في الأصول: اعلم أنه ربما شذَّ من بابه فينبغي أن تعلم أن القياس إذا اطَّرَد في جميع الباب لم يكن بالحرف الذي يشذّ منه. وهذا مستعمل في جميع العلوم ولو اعتُرض بالشاذّ على القياس المطّرد لبطل أكثرُ الصناعات والعلوم فمتى سمعت حَرْفًا مخالفًا لا شكَّ في خلافه لهذه الأصول فاعلم أنه شذّ فإن كان سُمع ممن تُرْضَى عربيته فلا بدّ من أن يكون قد حاول به مذهبًا أو نحا نحْوًا من الوجوه أو استهواه أمرٌ غلطه.

قال: وليس البيتُ الشاذّ والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجةً على الأصل المُجْمَع عليه في كلامٍ ولا نحو ولا فِقه وإنما يَرْكَن إلى هذا ضَعفة أهل النحو ومَنْ لا حجةَ معه وتأويل هذا وما أشبهه في الإعراب كتأويل ضعفة أصحاب الحديث وأتباع القصاص في الفقه.

وفيه: لا يقال هذا أبيض من هذا. وأجازه أهلُ الكوفة واحتجُّوا بقول الرَّاجز:

جارِية في دِرْعِها الفَضْفَاض ** أبيضُ من أُخت بَنِي أُبَاضِ

قال المبرد: البيتُ الشاذُّ ليس بحجة على الأصل المُجْمَع عليه.

فائدة

قال ابن خالويه في شرح الفصيح: قال أبو حاتم: كان الأصمعي يقولُ أفصحُ اللغات ويُلغي ما سواها وأبو زيد بجعلُ الشاذّ والفصيح واحدًا فيجيز كلَّ شيء قيل.

قال: ومثال ذلك أن الأصمعي يقول: حزَنني الأمر يحزُنني ولا يقول أحزنني.

قال أبو حاتم: وهما جائزان لأن القراء قرؤوا " لا يَحزُنهما الفَزَعُ الأَكْبَرُ "ولا يُحْزِنهم. جميعًا بفتح الياء وضمها.


المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي
مقدمة المصنف | معرفة الصحيح | معرفة ما روي من اللغة ولم يصح ولم يثبت | معرفة المتواتر والآحاد | معرفة المرسل والمنقطع | معرفة الأفراد | معرفة من تقبل روايته ومن ترد | معرفة طرق الأخذ والتحمل | معرفة المصنوع | معرفة الفصيح | معرفة الضعيف والمنكر والمتروك | معرفة الرديء المذموم | معرفة المطرد والشاذ | معرفة الحوشي والغرائب والشوارد والنوادر | معرفة المستعمل والمهمل | معرفة المفاريد | معرفة مختلف اللغة | معرفة تداخل اللغات | معرفة توافق اللغات | معرفة المعرّب | معرفة الألفاظ الإسلامية | معرفة المولّد | معرفة خصائص اللغة | معرفة الاشتقاق | معرفة الحقيقة والمجاز | معرفة المشترك | معرفة الأضداد | معرفة المترادف | معرفة الإتباع | معرفة العام والخاص | معرفة المطلق والمقيد | معرفة المشجر | معرفة الإبدال | معرفة القلب | معرفة النحت | معرفة الأمثال | معرفة الآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأذواء والذوات | معرفة ما ورد بوجهين بحيث يؤمن فيه التصحيف | معرفة ما ورد بوجهين بحيث إذا قرأه الألثغ لا يعاب | معرفة الملاحن والألغاز وفتيا فقيه العرب | معرفة الأشباه والنظائر | معرفة آداب اللغوي | معرفة كتابة اللغة | معرفة التصحيف والتحريف | معرفة الطبقات والحفاظ والثقات والضعفاء | معرفة الأسماء والكنى والألقاب | معرفة المؤتلف والمختلف | معرفة المتفق والمفترق | معرفة المواليد والوفيات | معرفة الشعر والشعراء | معرفة أغلاط العرب | خاتمة الكتاب