الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية/كتاب الطهارة
► الفهرس | كتاب الطهارة | كتاب الصلاة ◄ |
باب المياه الطهارة
تارة تكون من الأعيان النجسة، وتارة من الأعمال الخبيثة، وتارة من الأحداث المانعة، فمن الأول: قوله تعالى: { وثيابك فطهر } على أحد الأقوال. من الثاني: قوله تعالى: { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } الآية. ومن الثالث: قوله تعالى: { وإن كنتم جنبا فاطهروا }. وقد اختلف في الطهور هل هو بمعنى الطاهر أم لا ؟ وهذا النزاع معروف بين المتأخرين من أتباع الأئمة الأربعة. قال كثير من أصحاب مالك، وأحمد، والشافعي: الطهور متعد، والطاهر لازم. وقال كثير من أصحاب أبي حنيفة: الطاهر هو الطهور، وهو قول الخرقي. وفصل الخطاب: أن صيغة اللزوم والتعدي لفظ مجمل يراد به اللزوم، الطاهر يتناول الماء وغيره، وكذلك الطهور، فإن النبي ﷺ جعل التراب طهورا، ولكن لفظ الطاهر يقع على جامدات كثيرة: كالثياب، والأطعمة، وعلى مائعات كثيرة: كالأدهان، والألبان، وتلك لا يجوز أن يطهر بها فهي طاهرة ليست بطهور. قلت: وذكر ابن دقيق العيد في شرح الإلمام " عن بعض المالكية المتأخرين معنى ما أشار إليه أبو العباس، قال بعض الناس: لا فائدة في النزاع في المسألة، قال القاضي أبو يعلى: فائدته أنه عندنا لا تجوز إزالة النجاسة بغير الماء لا لاختصاصه بالتطهير عندنا وعندهم تجوز لمشاركته غير الماء في الطهارة. قال أبو العباس: له فائدة أخرى، الماء يدفع النجاسة عن نفسه بكونه مطهرا كما دل عليه قوله: { الماء طهور لا ينجس بشيء } وغيره ليس بطهور، فلا يدفع وعندهم الجميع سواء. وتجوز طهارة الحدث بكل ما يسمى ماء وبمعتصر الشجر، قاله ابن أبي ليلى، والأوزاعي، والأصم، وابن شعبان. وبمتغير بطاهر، وهو رواية عن أحمد رحمه الله وهو مذهب أبي حنيفة، وبماء حلت به امرأة لطهارة، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، وبمستعمل في رفع حدث، وهو رواية اختارها ابن عقيل، وأبو البقاء، وطوائف من العلماء، وذهبت طائفة إلى نجاسته وهو رواية عن أحمد رحمه الله، وحمل كلامه على الغدير يغتسل فيه أقل من قلتين من نجاسة الحدث، وليست من موارد الظنون، بل هي قطيعة بلا ريب. ولا يستحب غسل الثوب والبدن منه، وهو أصح الروايتين عنه، وأول القاضي القول بنجاسة الماء بجعله في صفة النجس في معنى الوضوء، لا أنه جعله نجسا حقيقة، وكلامه في التعليق لا يرتفع عن الأعضاء إلا بعد الانفصال، كما لا يصير مستعملا إلا بذلك هذا إذا نوى وهو في الماء وإذا نوى قبل الانغماس، ففيه الوجهان. وأما إذا صب على العضو فهنا ينبغي أن يرتفع الحدث. ويكره الغسل لا الوضوء بماء زمزم. قاله طائفة من العلماء. ولا ينجس الماء إلا بالتغيير، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن عقيل، وابن المنى، وأبو المظفر بن الجوزي، وأبو نصر، وغيرهم من أصحابنا، وهو مذهب مالك. ولو كان تغييره في محل التطهير، وقاله بعض أصحابنا وفرقت طائفة من محققي أصحاب الإمام أحمد رحمه الله بين الجاري، والواقف، وهو نص الروايتين، فلا ينجس الجاري إلا بالتغير، سواء كان قليلا أو كثيرا. وحوض الحمام إذا كان فائضا يجري إليه الماء فإنه جار في أصح قولي العلماء، نص عليه، وإذا وقعت نجاسة في ماء كثير هل يقتضي القياس فيه أن النجاسة كاختلاط الحلال بالحرام إلى حين يقوم الدليل على تطهيره، أو مقتضى القياس طهارته إلى أن تظهر النجاسة فيه قولان. والثاني الصواب. والمائعات كلها حكمها حكم الماء قلت أو كثرت. وهو رواية عن أحمد، ومذهب الزهري، والبخاري، وحكي رواية عن مالك، وذكر في " شرح العمدة " أن نجاسة الماء ليست عينية، لأنه يطهر غيره، فنفسه أولى. وفي الثياب المشتبهة بنجس أنه يتحرى ويصلي في واحد، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي سواء قلت الطاهرة أو كثرت. ذكره ابن عقيل في فنونه ومناظراته ". قلت: ورجحه ابن القيم، قال: وهو الرواية الأخرى عن مالك كما يتحرى في القبلة، وقال ابن عقيل: إن كثر عدد الثياب تحرى دفعا للمشقة، وإن قل عمل باليقين. ونص الإمام أحمد رحمه الله: إذا سقط عليه ماء من ميزاب ونحوه، ولا أمارة على النجاسة لم يلزم السؤال عنه، بل يكره، وإن سئل فهل يلزمه رد الجواب ؟ فيه وجهان، واستحب بعض الأصحاب وغيرهم السؤال، وهو ضعيف وأضعف منه من أوجبهما. قال الأزجي: إن علم المسئول نجاسته وجب الجواب. وإلا فلا، وإذا شك في النجاسة هل أصابت الثوب أو البدن فمن العلماء من يأمر بنضحه، ويجعل حكم المشكوك فيه النضح، كما يقوله مالك، ومنهم من لا يوجبه، فإذا احتاط ونضح كان حسنا، كما روي في نضح أنس للحصير الذي قد اسود، ونضح عمر ثوبه، ونحو ذلك.
باب الآنية
يحرم استعمال آنية الذهب، والفضة، واتخاذها. ذكره القاضي في " الخلاف ". ويحرم استعمال إناء مفضض إذا كان كثيرا، ولا يكره يسير لحاجة، ويكره لغيرها، ونص على التفضيل في رواية الجماعة، وفي رواية أبي الحارث، رأس المكحلة والميل، وحلقة المرأة إذا كانت من فضة فهي من الآنية. قال في رواية أحمد بن نصر، وجعفر بن محمد: لا بأس بما يضببه وأكره الحلقة. وقال في رواية مهنا وأبي منصور: لا بأس في إناء مفضض إذا لم يقع فمه على الفضة. وقال القاضي: قد فرق بين الضبة، والحلقة، ورأس الحلقة. قال أبو العباس: وكلام أحمد رحمه الله لمن تدبره لم يتعرض للحاجة. وعدمها، وإنما فرق بين ما يستعمل وبين ما لا يستعمل. فأما يسير الذهب فلا يباح بحال، نص عليه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث في النص: إذا خاف عليه أن يسقط هل يجعل له مسمار من ذهب، فقال: إنما رخص في الأسنان على الضرورة، فأما المسمار فلا، فإذا كان هذا في اللباس ففي الآنية أولى. وقد غلطت طائفة من أصحاب أحمد حيث حكت قولا بيسير الذهب تبعا في الآنية عن أبي بكر عبد العزيز، وأبو بكر، إنما قال ذلك في باب اللباس، والتحلي، وباب اللباس أوسع. ولا يجوز تمويه السقوف بالذهب والفضة، ولا يجوز لطخ اللجام والسرج بالفضة، نص عليه، وعنه ما يدل على إباحته، وهو مذهب أبي حنيفة، وحيث أبيحت الضبة يراد من إباحتها أن تحتاج إلى تلك الصورة لا إلى كونها من ذهب أو فضة، فإن هذه ضرورة، وهي تبيح المتعذر. ويباح الاكتحال بميل الذهب والفضة، لأنها حاجة، ويباحان لها. قاله أبو المعالي.
باب آداب التخلي
يحرم استقبال القبلة واستدبارها عند التخلي مطلقا سواء الفضاء والبنيان. وهو رواية اختارها أبو بكر عبد العزيز، ولا يكفي انحرافه عن الجهة. قلت: وهو ظاهر كلام جده. ويحمد الله في نفسه إذا عطس بخلاء، وكذلك في صلاته، قال أبو داود للإمام أحمد: أيحرك بها لسانه ؟ قال: نعم. قال القاضي: ونقل بكر بن محمد يحرك به شفتيه في الخلاء ؟ قال القاضي: بحيث لا يسمعه، وقال: ما لا يسمعه لا يكون كلاما فيجري مجرى الذكر في نفسه، ولا تبطل الصلاة في الرواية عنه وفاقا القاضي، وجعلها أولى الروايتين. قال أبو العباس: أما مسألة الصلاة فتقارب مسألة الخلاء، فإن الحمد لله ذكر لله، ونص أحمد أنه يقوله في الصلاة بمنزلة أذكار المخافتة لكن لا يجهر به كما يجهر خارج الصلاة، ليس أنه لا يسمع نفسه. وأما مسألة الخلاء: فيحتمل أن يكون ما قال القاضي، ويحتمل أن يكون في المسألة روايتان: إحداهما في نفسه بلا لفظ، والثانية باللفظ. ويكره السلت، والنثر، ولم يصح الحديث في الأمر والمشي، والتنحنح عقيب البول بدعة، ويجزي الاستجمار ولو بواحدة في والصفحتين والحشفة وغير ذلك ؛ لعموم الأدلة بجواز الاستجمار. ولم ينقل عنه ﷺ في ذلك تقدير، ويجزي بعظم وروث. قلت: وما نهى عنه في ظاهر كلامه لحصول المقصود ؛ ولأنه لم ينه عنه لأنه لا ينفي، بل لإفساده، فإذا قيل: يزول بطعامنا مع التحريم، فهذا أولى، والأفضل الجمع بينهما. ولا يكره الاقتصار على الحجر على الصحيح، وليس له البول في المسجد ولو في وعاء. وقال في موضع آخر في البول حول البركة في المسجد: هذا يشبه البول في قارورة في المسجد، ومنهم من نهى عنه، ومنهم من يرخص فيه للحاجة، فأما اتخاذه مبالا فلا. ولا يجوز أن يذبح في المسجد ضحايا ولا غيرها، وليس للمسلم أن يتخذ. المسجد طريقا. فكيف إذا اتخذه الكافر طريقا، ويحرم منع المحتاج إلى الطهارة ولو وقفت على طائفة معينة في رباط ولو في ملكه ؛ لأنها بموجب الشرع والعرف مبذولة للمحتاج، ولو قدرت أن الواقف صرح بالمنع، فإنما يسوغ مع الاستغناء، وإلا فيجب بذل المنافع المحصنة للمحتاج كسكنى داره، والانتفاع بما حوته، ولا أجرة لذلك، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، ويمنع أهل الذمة من دخول بيت الخلاء إن حصل منهم تضييق، أو فساد ماء، أو تنجيس وإن لم يكن بهم ضرر، ولهم ما يستغنون به فليس لهم مزاحمتهم.
باب السواك وغيره
يطلق على الفعل وعلى ما يتسوك به وهو مذكر، قال الليث: وتؤنثه العرب أيضا، وغلطه الأزهري في ذلك، وتبعه ابن سيده في المحكم ". وهو في جميع الأوقات مستحب، والأصح ولو للصائم بعد الزوال، وهو رواية، وقاله مالك وغيره، والأفضل بيده اليسرى. وقال أبو العباس: ما علمت إماما خالف فيه، والسواك ما علمت أحدا كرهه في المسجد، والآثار تدل عليه، ويكره ترك شعره في المسجد، وإن لم يكن نجسا، ويفعل الأصلح كل بلد بما يناسبه في العمل، والأفضل قميص من سراويل لا رداء، وإزار ولو مع القميص، وهو أحد قولي العلماء. ويحرم حلق اللحية، ويجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة، وينبغي إذا راهق البلوغ أن يختتن كما كانت العرب تفعل لئلا يبلغ إلا وهو مختون.
باب صفة الوضوء
لم يرد الوضوء بمعنى غسل اليد إلا في لغة اليهود، فإنه روي أن سليمان الفارسي قال: إنا نجده في التوراة، وقال ﷺ: { إن من بركة الطعام الوضوء قبله وبعده } وهو من خصائص هذه الأمة كما جاءت الأحاديث الصحيحة أنهم يبعثون يوم القيامة. وحديث ابن ماجه: { وضوء الأنبياء قبلي } ضعيف عند أهل العلم بالحديث لا يجوز الاحتجاج بمثله، وليس له عند أهل الكتاب خبر عن أحد من الأنبياء أنه كان يتوضأ وضوء المسلمين بخلاف الاغتسال من الجنابة، فإنه كان مشروعا، ولم يكن لهم تيمم إذا عدموا الماء. ويجب الوضوء بالحدث، ذكره ابن عقيل وغيره، وفي الانتصار بإرادة الصلاة نزاع لفظي، والراجح أنه لا يكره الوضوء في المسجد وهو قول الجمهور، إلا أن يحصل معه بصاق أو مخاط. والأفضل بثلاث غرفات، المضمضة والاستنشاق يجمعها بغرفة واحدة. وتجب النية لطهارة الحدث لا الخبث، وهو مذهب جمهور العلماء، ولا يجب نطقه بها سرا باتفاق الأئمة الأربعة، وشذ بعض المتأخرين فأوجب النطق بها وهو خطأ مخالف للإجماع، وقولين في مذهب أحمد وغيره في استحباب النطق بها، والأقوى عدمه، واتفق الأئمة على أنه لا يشرع الجهر بها ولا تكرارها، وينبغي تأديب من اعتاده، وكذا بقية العبادات لا يستحب النطق بها لإحرام وغيره. قال أبو داود لأحمد: يقول قبل الإحرام شيئا. والجهر بلفظها منهي عنه عند الشافعي وسائر أئمة المسلمين، وفاعله مسيء، وإن اعتقده دينا خرج عن إجماع المسلمين ويجب نهيه، ويعزل عن الإمامة إن لم يتب، ويجوز مسح بعض الرأس للعذر. قاله القاضي في التعليق " ويمسح معه العمامة، ويكون كالجبيرة فلا توقيت، وإن لم يكن عذر وجب مسح جميعه. وهو مذهب أحمد الصحيح عنه، وما يفعله بعض الناس من مسح شعره أو بعض رأسه، بل شعره ثلاث مرات خطأ مخالف للسنة المجمع عليها، ولا يسن تكرار مسح جميعه، وهو ظاهر مذهب أحمد، ومالك، وأبي حنيفة، ولا يمسح العنق وهو قول جمهور العلماء، ولا أخذه ماء جديدا للأذنين، وهو أصح الروايتين عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة، وغيره، وإن منع يسير وسخ ظفر ونحوه وصول الماء صحت الطهارة، وهو وجه لأصحابنا، ومثله كل يسير منع وصول الماء حيث كان: كدم، وعجين، ولا يستحب إطالة الغرة وهو مذهب مالك، ورواية عن أحمد، والوضوء إن كان مستحبا له أن يقتصر على البعض لوضوء ابن عمر لنومه جنبا.
باب المسح على الخفين
قال أبو العباس: وخفي أصله على كثير من السلف والخلف حتى أنكره بعض الصحابة، وطائفة من أهل المدينة، وأهل البيت، وصنف الإمام أحمد كتابا كبيرا في " الأشربة " في تحريم المسكر، ولم يذكر فيه خلافا عن الصحابة، فقيل له في ذلك، فقال: هذا صح فيه الخلاف عن الصحابة، بخلاف المسكر، ومالك مع سعة علمه وعلو قدره أنكره في رواية وأصحابه خالفوه في ذلك. قلت: وحكى ابن أبي شيبة إنكاره عن عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس، وضعف الرواية عن الصحابة بإنكاره غير واحد، والله أعلم. والذين خفي عليهم ظنوا معارضة آية المائدة للمسح، لأنه أمر بغسل الرجلين فيها، واختلف في الآية مع المسح على الخفين، فقالت طائفة: المسح على الخفين ناسخ للآية، قاله الخطابي، قال: وفيه دلالة على أنهم كانوا يرون نسخ القرآن بالسنة، قال الطبري مخصص وهو قول طائفة: هو أمر زائد على ما في الكتاب، وطائفة: بيان لما في الكتاب. ومال إليه أبو العباس، وجميع ما يدعى من السنة أنه ناسخ للقرآن غلط، أما أحاديث المسح فهي تبين المراد بالقرآن، إذ ليس فيه أن لابس الخف يجب عليه غسل الرجلين، وإنما فيه أن من قام إلى الصلاة يغسل، وهذا عام لكل قائم إلى الصلاة، لكن ليس عاما لأحواله، بل هو مطلق في ذلك مسكوت عنه. قال أبو عمر بن عبد البر: معاذ الله أن يخالف رسول الله ﷺ كتاب الله، بل يبين مراده به وطائفة قالت: كالشافعي، وابن القصار، ومال إليه أبو العباس أيضا أن الآية قرئت بالخفض، والنصب، فيحمل النصب على غسل الرجلين والخفض على مسح الخفين، فيكون القرآن كآيتين. وهل المسح أفضل أم غسل الرجلين، أم هما سواء ثلاث روايات عن أحمد، والأفضل في حق كل أحد بحسب قدمه، فللابس الخف أن يمسح عليه، ولا ينزع خفيه اقتداء به ﷺ وأصحابه، ولمن قدماه مكشوفتان الغسل، ولا يتحرى لبسه ليمسح عليه، وكان ﷺ يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين، ويمسح إذا كان لابس الخفين. ويجوز المسح على اللفائف في أحد الوجهين، حكاه ابن تميم وغيره، وعلى الخف المخرق ما دام اسمه باقيا، والمشي فيه ممكن، وهو قديم الشافعي، واختيار أبي البركات وغيره من العلماء، وعلى القدم ونعلها التي يشق نزعها إلا بيد أو رجل، كما جاءت به الآثار، والاكتفاء بأكثر القدم هنا، والظاهر منها غسلا ومسحا أولى من مسح بعض الخف، ولهذا لا يتوقت. وذكر في موضع آخر أن الرجل لها ثلاث أحوال الكشف له الغسل، وهو أعلى المراتب، والستر المسح، وحالة متوسطة وهي في النعل، فلا هي بارزة فيجب الغسل، فأعطيت حالة متوسطة وهو الرش، وحيث أطلق عليها لفظ المسح في هذا الحال فالمراد به الرش. وقد ورد الرش على النعلين والمسح عليها في المسند " من حديث أوس، ورواه ابن أوس، ورواه ابن حبان، والبيهقي من حديث ابن عباس، ومنصوص أحمد { المسح على الجوربين ما لم يخلع النعلين }، فإذا أجاز عليهما فالزربول الذي لا يثبت إلا بسير يشده به متصلا ومنفصلا عنه أولى بالمسح عليه من الجوربين، وما لبسه من فروة أو قطن وغيرهما. وثبت بشده بخيط متصل أو منفصل مسح عليه، وأما اشتراط الثبات بنفسه فلا أصل له في كلام أحمد، وإنما المنصوص عنه ما ذكرناه. وعلى القول باعتبار ذلك فالمراد به ما ثبت في الساق ولم يسترسل عند المشي، ولا يعتبر موالاة المشي فيه، كما ذكره أبو عبد الله بن تيمية، ويجوز على العمامة الصماء، وهي كالقلانس، والمحكي عن أحمد الكراهة، والأقرب أنها كراهة السلف لغير المحنكة على الحاجة إلى ذلك لجهاد أو غيره، والعمائم المكلبة بالكلاب تشبه المحنكة من بعض الوجوه، فإنه يمسكها كما تمسك الحنك العمامة. ومن غسل إحدى رجليه ثم أدخلها الخف قبل غسل الأخرى فإنه يجوز المسح عليها من غير اشتراط خلع، ولبسه قبل إكمال الطهارة، كلبسه بعدها، وكذا لبسها قبل كمالها. وهو إحدى الروايتين، وهو مذهب أبي حنيفة، ولو غسل الرجلين في الخفين بعد أن لبسها محدثا جاز المسح، وهو مذهب أبي حنيفة، وقول مخرج في مذهب أحمد. قلت: وهو رواية في المنهج
ولا تتوقت مدة المسح في حق المسافر، الذي يشق اشتغاله بالخلع، واللبس، كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين، وعليه يحمل قصة عقبة بن عامر، وهو نص مذهب مالك، وغيره ممن لا يرى التوقيت، ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما، ولا يجب عليه مسح رأسه ولا غسل قدميه، وهو مذهب الحسن البصري، كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد، وقول الجمهور. وإذا حل الجبيرة فهل تنتقض طهارته كالخف ؟ على قول من يقول بالنقض، أو لا تنتقض كحلق الرأس الذي ينبغي أن لا تنتقض الطهارة بناء على أنها طهارة أصل لوجوبها في الطهارتين، وعدم توقيتها، وأن الجبيرة بمنزلة باقي البشرة، إلا أن الفرض استتر بما يمنع وصول الماء إليه، فانتقل الفرض إلى الحائل في الطهارتين، كما ينتقل الوضوء إلى منبت الشعر في الوجه، والرأس للمشقة لا للشعر، وهذا قوي على قول من لا يشترط الطهارة لشدها. فأما من اشترط الطهارة لشدها فألحقها الحوائل البنيلية فتنتقض الطهارة بزوالها كالعمامة والخف، ويتوجه أن تنبني هذه على الروايتين في اشتراط الطهارة. قلت: البدل عندنا في حل الجبيرة إن كان بعد البرء، وإلا فكالخف إذا خلعه، وإن كان قبله فوجهان أصحهما كذلك والله سبحانه، وتعالى أعلم.
باب ما ظن ناقضا وليس بناقض
والأحداث اللازمة: كدم الاستحاضة، وسلس البول لا تنقض الوضوء ما لم يوجد المعتاد، وهو مذهب مالك. والدم، والقيء، وغيرهما من النجاسات الخارجة من غير المخرج المعتاد: لا تنقض الوضوء، ولو كثرت، وهو مذهب مالك، والشافعي. قلت: اختاره الأجرمي في غير القيء. والنوم: لا ينقض مطلقا إن ظن بقاء طهارته، وهو أخص من رواية حكيت عن أحمد أن النوم لا ينقض بحال.
ويستحب الوضوء من أكل لحم الإبل، وأما اللحم الخبيث المباح للضرورة: كلحم السباع فينبني الخلاف فيه على أن النقض بلحم الإبل تعبدي، فلا يتعدى إلى غيره، أو معقول المعنى فيعطى حكمه، بل هو أبلغ منه.
ويستحب الوضوء عقيب الذنب، ومن مس الذكر إذا تحركت الشهوة بمسه، وتردد فيما إذا لم تتحرك، ومال أبو العباس أخيرا إلى استحباب الوضوء دون الوجوب من مس النساء، والأمرد إذا كان لشهوة. قال: إذا مس المرأة لغير شهوة فهذا مما علم بالضرورة أن الشارع لم يوجب منه وضوء ولا يستحب الوضوء منه. قال أبو العباس في قديم خطه: خطر لي أن الردة تنقض الوضوء ؛ لأن العبادة من شرط صحتها دوام شرطها استصحابا في سائر الأوقات، وإذا كان كذلك فالنية من شرائط الطهارة على أصلنا، والكافر ليس من أهلها، وهو مذهب أحمد.
ولا يفتح المصحف للفأل، قاله طائفة من العلماء خلافا لأبي عبد الله بن بطة، ويجب احترام القرآن حيث كتب، وتحرم كتابته حيث يهان ببول حيوان أو جلوس عليه إجماعا، والناس إذا اعتادوا القيام وإن لم يقم لأحدهم أفضى إلى مفسدة فالقيام دفعا لها خير من تركه.
وينبغي للإنسان أن يسعى في سنة رسول الله ﷺ وأصحابه، وعادتهم، واتباع هديهم، والقيام بكتاب الله أولى. والدراهم المكتوب عليها ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) يجوز للمحدث لمسها، وإذا كانت معه في منديل، أو خريطة، وشق إمساكها جاز أن يدخل بها الخلاء.
باب الغسل
وإذا وجب الغسل بخروج المني فقياسه وجوبه بخروج الحيض، ويجب غسل الجمعة على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره، وهو بعض من بعض مطلقا بطريق الأولى. ولو اغتسل الكافر بسبب يوجبه، ثم أسلم، لا يلزمه إعادته إن اعتقد وجوبه بناء على أنه يثاب على طاعته في الكفر إذا أسلم، ويكره، الذكر للجنب لا للحائض. ولا يستحب الغسل لدخول مكة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، ولا لطواف الوداع، ولو قلنا باستحبابه لدخول مكة كان نوع عبث للطواف لا معنى له. وفي كلام أحمد ما ظاهره وجوب الوضوء على الجنب إذا أراد النوم، وظاهر كلام أبي العباس: إذا أحدث أعاده لمبيته على الطهارة، وظاهر كلام أصحابنا: لا يعيده. لتعليلهم بخفة الحدث أو بالنشاط. ويحرم على الجنب اللبث في المسجد إلا إذا توضأ، ولا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب إلا إذا توضأ. وإذا نوى الجنب الحدثين الأصغر والأكبر ارتفعا، قاله الأزجي. ولا يستحب تكرار الغسل على بدنه، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، ويكره الاغتسال في مستحم، أو ماء: عريانا، وعليه أكثر النصوص، ونهيه عليه السلام عن الاغتسال في الماء بعد البول فهذا إن صح فهو كنهيه عن البول في المستحم.
ويجوز التطهير في الحياض التي في الحمامات، سواء كانت فائضة، أو لم تكن، وسواء كان الأنبوب يصب فيها، أو لم يكن، وسواء كان ناتئا، أو لم يكن، ومن اعتقد غسله من الحوض الفائض مسطرا أو دينا فهو مبتدع، مخالف للشريعة، مستحق التعزير الذي يردعه وأمثاله أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله.
ولا يجب غسل باطن الفرج من حيض، أو جنابة، وهو أصح القولين في مذهب أحمد.
قال أبو العباس في تقسيمه للحمام بعد ذكر من ذمه ومن مدحه من السلف فصلا للنزاع: الأقسام أربعة: يحتاج، إليها، ولا محظور فلا ريب في جوازه، ولا محظور، ولا حاجة فلا ريب في جواز بنائها، فقد بنيت الحمامات في الحجاز والعراق على عهد علي رضي الله عنه، وأقروها وأحمد لم يقل ذلك حرام، ولكن كره ذلك لاشتماله غالبا على مباح ومحظور، وفي زمن الصحابة كان الناس أتقى لله، وأرعى لحدوده من أن يكثر فيها المحظور، فلم يكن مكروها إذ ذاك للحاجة، ولا محظورا غالبا فالحاجات: منها ما هو واجب: كغسل الجنابة، والحيض، والنفاس، ومنها ما هو مؤكد قد نوزع في وجوبه: كغسل الجمعة، والغسل في البلاد الباردة، ولا يمكن إلا في حمام، وإن اغتسل من غيره خيف عليه التلف، ولا يجوز الانتقال إلى التيمم مع القدرة عليه بالماء في الحمام، وهل يبقى مكروها عند الحاجة إلى استعماله في طهارة مستحبة، هذا محل تردد، فإذا تبين ذلك فقد يقال بناء الحمام واجب حيث يحتاج إليه لأداء الواجب العام. وأما إذا اشتمل على محظور مع إمكان الاستغناء كما في حمامات الحجاز في الأزمان المتأخرة فهذا محل نص أحمد وبحث ابن عمر وقد يقال عنه إنما يكره بناؤها ابتداء، فأما إذا بناها غيرنا فلا نأمر بهدمها لما في ذلك من الفساد، وكلام أحمد إنما هو في البناء لا في الإبقاء والاستدامة أقوى من الابتداء وإذا انتفت الإباحة: كحرارة البلد، وكذا إذا كان في البلد حمامات تكفيهم كره الإحداث.
ويتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، والأظهر أن الصاع خمسة أرطال وثلث عراقية، سواء صاع الطعام والماء، وهو قول جمهور العلماء خلافا لأبي حنيفة وذهبت طائفة من العلماء كابن قتيبة، والقاضي أبي يعلى في تعليقه، وأبي البركات: أن صاع الطعام خمسة أرطال وثلث، وصاع الماء ثمانية أرطال عراقية، والوضوء ربع ذلك.
باب التيمم
ويجوز التيمم بغير التراب من أجزاء الأرض إذا لم يجد ترابا، وهو رواية، ويلزمه قبول الماء فرضا، وكذا ثمنه إذا كان له ماء يوفيه ولا يكره لعادمه وطء زوجته، ومن أبيح له التيمم، فله أن يصلي به أول الوقت، ولو علم وجوده آخر الوقت، وفيه أفضلية، وقال غير واحد من العلماء: ومسح الجرح بالماء أولى من مسح الجبيرة، وهو خير من التيمم، ونقله الميموني عن أحمد ويجوز التيمم لمن يصلي التطوع بالليل وإن كان في البلد، ولا يؤخر ورده إلى النهار، ويجوز لخوف فوات صلاة الجنازة وهو رواية عن أحمد، وإسحاق. وألحق به من خاف فوات العيد. وقال أبو بكر عبد العزيز، والأوزاعي: بل لمن خاف فوات الجمعة ممن انتقض وضوءه، وهو في المسجد، ولا يتيمم للنجاسة على بدنه، وهو قول الثلاثة خلافا لأشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى، ويجب بذل الماء للمضطر المعصوم ويعدل إلى التيمم كما قاله جمهور العلماء.
ومن استيقظ آخر وقت صلاة وهو جنب وخاف إن اغتسل خرج الوقت اغتسل وصلى، ولو خرج الوقت، وكذا من نسيها، بخلاف من استيقظ أول الوقت فليس له أن يفوت الصلاة بل يتيمم ويصلي. ومن أمكنه الذهاب إلى الحمام، لكن لا يمكنه الخروج منه، إلا بعد خروج الوقت: كالغلام والمرأة التي معها أولادها، ولا يمكنها الخروج حتى تغسلهم، ونحو ذلك، فالأظهر يتيمم ويصلي خارج الحمام ؛ لأن الصلاة في الحمام وبعد الوقت منهي عنها.
وتصلي المرأة بالتيمم عن الجنابة إذا كان يشق عليها تكرار النزول إلى الحمام، ولا تقدر على الاغتسال في البيت، وكل من صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان، فلا إعادة عليه، وسواء كان العذر نادرا أو معتادا ( قاله أكثر العلماء ).
وصفة التيمم أن يضرب بيديه الأرض يمسح بهما وجهه وكفيه لحديث عمار بن ياسر الذي في الصحيح. والجريح إذا كان محدثا حدثا أصغر: فلا يلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره فيصح أن يتيمم بعد كمال الوضوء بل هذا هو السنة.
والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة، ولا يستحب حمل التراب معه للتيمم، قاله طائفة من العلماء خلافا لما نقل عن أحمد. ومن عدم الماء والتراب يتوجه أن يفعل ما يشاء من صلاة فرض، أو نفل، وزيادة قراءة على ما يجزئ. وفي " الفتاوى المصرية " على أصح القولين وهو قول الجمهور. وإذا صلى قرأ القراءة الواجبة. قلت: والذي ذكره جده وغيره: أن من عدم الماء والتراب لا يتنفل، ولا يزيد في القراءة على ما يجزئ والله أعلم.
والتيمم يرفع الحدث، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية أحمد واختارها أبو بكر محمد الجوزي، وفي " الفتاوى المصرية " التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى: كمذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه، وهو أعدل الأقوال. ولو بذل ماء للأولى من حي وميت، فالميت أولى ولو كان الحي عليه نجاسة وهو مذهب الشافعي، واختيار أبي البركات. قال أبو العباس: وهذه المسألة في الماء المشترك أيضا، وهو ظاهر ما نقل عن أحمد ؛ لأنه أولى من التشقيص. وإذا كان على وضوء وهو حاقن يحدث ثم يتيمم، إذ الصلاة بالتيمم وهو غير حاقن أفضل من صلاته بالوضوء وهو حاقن.
باب إزالة النجاسة
واختلف كلام أبي العباس في نجاسة الكلب، ولكن الذي نقل عنه أخيرا أن مذهبه نجاسة غير شعره وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، واختاره أبو بكر عبد العزيز، والمسك وجلدته طاهران عند جماهير العلماء، كما دلت عليه السنة الصحيحة وعمل المسلمين. وليس ذلك مما يبان من البهيمة وهي حية، بل إذا كان ينفصل عن الغزال في حياته فهو بمنزلة الولد، والبيض، واللبن، والصوف، وغير ذلك مما ينفصل عن الحيوان.
ولا ينجس الآدمي بالموت وهو ظاهر مذهب أحمد، والشافعي، وأصح القولين في مذهب مالك، وخصه في شرح العمدة " بالمسلم، وقاله جده في شرح الهداية ".
وتطهر النجاسة بكل مائع طاهر يزيل: كالخل، ونحوه، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن عقيل ومذهب الحنفية. وإذا تنجس ما يضره الغسل: كثياب الحرير، والورق، وغير ذلك أجزأ مسحه في أظهر قولي العلماء وأصله الخلاف في إزالة النجاسة: كإفساد الماء المحتاج إليه، كما ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرس، ونحو ذلك، لما في ذلك من الحاجة إليها وتطهر الأجسام الصقيلة: كالسيف، والمرآة، ونحوهما إذا تنجست بالمسح وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، ونقل عن أحمد مثله في السكين من دم الذبيحة، فمن أصحابه من خصصه بها لمشقة الغسل مع التكرار، ومنهم من عداه كقولهما.
ويطهر النعل بالدلك بالأرض إذا أصابه نجاسة، وهو رواية عن أحمد، وذيل المرأة يطهر بمروره على طاهر يزيل النجاسة ونقله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن أحمد، وتطهر النجاسة بالاستحالة ( أطلقه أبو العباس في موضع ) وهو مذهب أهل الظاهر وغيرهم. وقال في موضع آخر: ولا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة، فإن نفس النجس لم يطهر، بل استحال وصحح في موضع آخر أن الخمرة إذا خللت لا تطهر، وهو مذهب أحمد وغيره ؛ لأنه منهي عن اقتنائها، مأمور بإراقتها، فإذا أمسكها فهل الموجب لتنجسها، عدم حلها وسواء في ذلك خمر الحلال وغيره. ولو ألقى أحد فيها شيئا يريد به إفسادها على صاحبها لا تخليلها، أو قصد صاحبها ذلك بأن يكون عاجزا عن إراقتها لكونها في خب فيريد إفسادها لا تخليلها، فعموم كلام الأصحاب يقتضي أنها لا تحل سدا للذريعة، ويحتمل أن تحل وإذا انقلبت بفعل الله تعالى فالقياس فيها مثل أن يكون هناك ملح فيقع فيها من غير فعل أحد، فينبغي على الطريقة المشهورة أن تحل، وعلى طريقة من علل النجاسة بإلقاء شيء لا تحل، فإن القاضي ذكر في خمر النبيذ أنها على الطريقة لا تحل لما فيها من الماء، وأن كلام الإمام أحمد يقتضي حلها.
أما تخليل الذمي الخمر بمجرد إمساكها فينبغي جوازها على معنى كلام أحمد، فإنه علل المنع بأنه لا ينبغي لمسلم أن يكون في بيته الخمر، وهذا ليس بمسلم، ولأن الذمي لا يمنع من إمساكها. وعلل القول بأن النجاسة لا تطهر بالاستحالة فيعفى من ذلك عما يشق الاحتراز عنه كالدخان، والغبار المستحيل من النجاسة، كما يعفى عما يشق الاحتراز عنه من طين الشوارع وغبارها، وإن قيل إنه نجس فإنه يعفى عنه على أصح القولين، ومن قال إنه نجس ولم يعف عما يشق الاحتراز عنه فقوله أضعف الأقوال، ولو كان المائع غير الماء كثيرا فزال تغيره بنفسه توقف أبو العباس في طهارته.
وتطهر الأرض النجسة بالشمس والريح إذا لم يبق أثر النجاسة، وهو مذهب أبي حنيفة، لكن لا يجوز التيمم عليها بل تجوز الصلاة عليها بعد ذلك ولو لم تغسل، ويطهر غيرها بالشمس والريح أيضا وهو قول في مذهب أحمد، ونص عليه أحمد في حبل الغسال، وتكفي غلبة الظن بإزالة نجاسة المذي أو غيره، وهو قول في مذهب أحمد ورواية عنه في المذي. ونقل عن أحمد في جوارح الطير إذا أكلت الجيف، فلا يعجبني عرقها فدل على أنه كرهه لأكلها فقط وهو أولى ولا فرق في الكراهة بين جوارح الطير وغيرها، وسواء كان يأكل الجيف أم لا.
وإذا شك في الروثة هل هي من روث ما يؤكل لحمه أو لا، فيه وجهان في مذهب أحمد، مبنيان على أن الأصل في الأرواث الطهارة إلا ما استثني، وهو الصواب أو النجاسة إلا ما استثني. قلت: والوجهان يمكن أن يكون أصلهما روايتين: إحداهما: قال عبد الله إن الأبوال كلها نجسة إلا ما أكل لحمه. والثانية: قال أحمد في رواية محمد بن أبي الحارث في رجل وطئ على روث لا يدري هل هو روث جمال أو برذون، فرخص فيه إذ لم يعرفه، وبول ما أكل لحمه وروثه طاهر، لم يذهب أحد من الصحابة إلى تنجسه بل القول بنجاسته قول محدث لا سلف له من الصحابة، وروث دود القز طاهر عند أكثر العلماء، ودود الجروح. ومني الآدمي طاهر، وهو ظاهر مذهب أحمد، والشافعي. وبول الهرة وما دونها في الخلقة طاهر ؛ يعني أن جنسه طاهر، وقد يعرض له ما يكون نجس العين: كالدود المتولد من العذرة فإنه نجس، ذكره القاضي، وتتخرج طهارته بناء على أن الاستحالة إذا كانت بفعل الله تعالى طهرت، ولا بد أن يلحظ طهارة ظاهرة من العذرة بأن يغمس في ماء ونحوه إلى أن لا يكون على بدنه شيء منها، ويطهر جلد الميتة الطاهرة حال الحياة بالدباغ وهو رواية عن أحمد أيضا.
ولا يجب غسل الثوب والبدن من المذي، والقيح، والصديد، ولم يقم دليل على نجاسته، وحكى أبو البركات عن بعض أهل العلم طهارته، والأقوى في المذي: أنه يجزئ فيه النضح، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويد الصبي إذا أدخلها في الإناء فإنه يكره استعمال الماء الذي فيه، وكذلك تكره الصلاة في ثوبه وقد سئل أحمد رحمه الله تعالى في رواية الأثرم عن الصلاة في ثوب الصبي فكرهه.
وقرن الميتة، وعظمها، وظهرها، وما هو من جنسه: كالحافر ونحوه طاهر، وقاله غير واحد من العلماء، ويجوز الانتفاع بالنجاسات وسواء في ذلك شحم الميتة وغيره، وهو قول الشافعي، وأومأ إليه، وأحمد في رواية ابن منصور. ويعفى عن يسير النجاسة حتى بعر فأرة، ونحوها في الأطعمة، وغيرها، وهو قول في مذهب أحمد، ولو تحققت نجاسة طين الشارع عفي عن يسيره لمشقة التحرز عنه، ذكره أصحابنا، وما تطاير من غبار السرجين ونحوه، ولم يمكن التحرز عنه، عفي عنه، وإذا قلنا يعفى عن يسير النبيذ المختلف فيه لأجل الخلاف فيه، فالخلاف في الكلب أظهر وأقوى، فعلى إحدى الروايتين يعفى عن يسير نجاسته وإذا أكلت الهرة فأرة ونحوها فإذا طال الفصل طهر فمها بريقها لأجل الحاجة، وهذا أقوى الأقوال، واختاره طائفة من أصحاب أحمد، وأبي حنيفة، وكذلك أفواه الأطفال، والبهائم، والله أعلم.
باب الحيض
ويحرم وطء الحائض، فإن وطئ في الفرج فعليه دينار كفارة، ويعتبر أن يكون مضروبا، وإذا تكرر من الزوج الوطء في الفرج ولم ينزجر فرق بينهما كما قلنا فيما إذا وطئها في الدبر ولم ينزجر.
ويجوز للحائض الطواف عند الضرورة، ولا فدية عليها، وهو خلاف ما يقوله أبو حنيفة من أنه يصح منها مع لزوم الفدية، ولا يأمرها بالإقدام عليه، وأحمد رحمه الله تعالى يقول ذلك في رواية إلا أنهما لا يقيدانه بحال الضرورة، وإن طافت مع عدم الضرورة فمقتضى توجيه هذا القول يجب الدم عليها.
ويجوز للحائض قراءة القرآن بخلاف الجنب، وهو مذهب مالك، وحكي رواية عن أحمد، وإن ظنت نسيانه وجب، وإذا انقطع دمها فلا يطؤها زوجها حتى تغتسل إن كانت قادرة على الاغتسال، وإلا تيممت، وهو مذهب أحمد والشافعي.
ولا يتقدر أقل الحيض ولا أكثره، بل كل ما استقر عادة للمرأة فهو حيض، وإن نقص عن يوم أو زاد على الخمسة أو السبعة عشر، ولا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين. والمبتدأة تحسب ما تراه من الدم ما لم تصر مستحاضة، وكذلك المنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص، أو انتقال، فذلك حيض حتى تعلم أنها استحاضة باستمرار الدم.
والمستحاضة ترد إلى عادتها، ثم إلى تمييزها، ثم إلى غالب عادات النساء كما جاءت في كل واحدة من هؤلاء سنة عن النبي ﷺ. وقد أخذ الإمام أحمد بالسنن الثلاث فقال: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث: حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وحديث أم حبيبة، وحديث حمنة، واختلفت الرواية عنه في تصحيح حديث حمنة، وفي رواية عنه: وحديث أم سلمة، فكان في حديث أم حبيبة. والصفرة والكدرة بعد الطهر لا يلتفت إليها. قال أحمد وغيره: لقول أم عطية: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا.
ولا حد لأقل النفاس ولا لأكثره ولو زاد على الأربعين أو الستين، أو السبعين، وانقطع فهو نفاس ولكن إن اتصل فهو دم فساد، وحينئذ فالأربعون منتهى الغالب، والحامل قد تحيض وهو مذهب الشافعي، وحكاه البيهقي رواية عن أحمد بل حكى أنه رجع إليه.
ويجوز التداوي لحصول الحيض إلا في رمضان لئلا تفطر، وقاله أبو يعلى الصغير، والأحوط أن المرأة لا تستعمل دواء يمنع تفوق المني في مجاري الحبل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية | |
---|---|
الطهارة | الصلاة | الجنائز | الزكاة | الصوم | الحج | البيع | السبق | الغصب | الوقف | الوصية | الفرائض | العتق | النكاح | الخلع | الطلاق | الرجعة | الظهار | اللعان | العدد | الرضاع | النفقات | الجنايات | الديات | الحدود | الجهاد | الأطعمة | الذكاة | الأيمان | القضاء | القاضي إلى القاضي | الشهادات | الإقرار |