الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية/كتاب الصلاة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي الدمشقي الحنبلي
  ► كتاب الطهارة كتاب الصلاة كتاب الجنائز ◄  


كتاب الصلاة


وقد تنازع الناس في اسم الصلاة: هل هو من الأسماء المنقول عن مسماها في اللغة، أو أنها باقية على ما كانت عليه في اللغة، أو أنها تصرف فيها الشارع تصرف أهل العرف، فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز، وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة، على ثلاثة أقوال. والتحقيق: أن الشارع لم يغيرها ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة كما تستعمل نظائرها، كقوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت } فذكر بيتا خاصا، فلم يكن لفظ الحج متناولا لكل قصد، بل لقصد مخصوص دل عليه اللفظ نفسه، ومن كان قبلنا كانت لهم صلاة ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات والهيئات. ولا تلزم الشرائع إلا بعد العلم، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد، فعلى هذا لا تلزم الصلاة حربيا أسلم في دار الحرب ولا يعلم وجوبها، والوجهان في كل من ترك واجبا قبل بلوغ الشرع كمن لم يتيمم لعدم الماء لظنه عدم الصحة، أو لم يزك، أو أكل حتى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود لظنه ذلك، أو لم تصل مستحاضة، والأصح: لا قضاء ولا إثم إذا لم نقصد اتفاقا للعفو عن الخطإ والنسيان ومن عقد عقدا فاسدا مختلفا فيه باجتهاد أو تقليد، واتصل به القبض لم يؤمر برده، وإن كان مخالفا للنص وكذلك النكاح إذا بان له خطأ الاجتهاد أو التقليد، وقد انقضى المفسد لم يفارق وإن كان المفسد قائما فارقها. بقي النظر فيمن ترك الواجب، وفعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه، ولكن جهلا وإعراضا عن طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه، أو من سماع إيجاب هذا، وتحريم هذا، ولم يلتزمه إعراضا لا كفرا بالرسالة، فإن هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعي كما ترك الكافر الإسلام، فهل يكون حال هذا إذا تاب فأقر بالوجوب والتحريم تصديقا والتزاما، بمنزلة الكافر إذا أسلم، لأن التوبة تجب ما قبلها كالإسلام. وأما على القول الذي جزمنا بصحته فهذا فيه نظر، وقد يقال ليس هذا بأسوإ حالا من الكافر المعاند، والتوبة والإسلام يهدمان ما قبلهما، ولا تلزم الصلاة صبيا ولو بلغ عشرا، وقاله جمهور العلماء وثواب عبادة الصبي له. قلت: وذكره الشيخ أبو محمد المقدسي في غير موضع، والله أعلم. ولا يجب قضاء الصلاة على من زال عقله بمحرم، وفي " الفتاوى المصرية ": يلزمه بلا نزاع، ومن كفر بترك الصلاة الأصوب أنه يصير مسلما بفعلها من غير إعادة الشهادتين ؛ لأن كفره بالامتناع كإبليس ؛ وتارك الزكاة كذلك، وفرضها متأخرو الفقهاء.

مسألة يمتنع وقوعها: وهي أن الرجل إذا كان مقرا بوجوب الصلاة فدعي إليها وامتنع ثلاثا مع تهديده بالقتل فلم يصل حتى قتل، هل يموت كافرا أو فاسقا، على قولين، وهذا الفرض باطل إذ يمتنع أن يعتقد أن الله فرضها ولا يفعلها، ويصبر على القتل هذا لا يفعله أحد قط. ومن ترك الصلاة فينبغي الإشاعة عنه بتركها حتى يصلي، ولا ينبغي السلام عليه، ولا إجابة دعوته. والمحافظ على الصلاة أقرب إلى الرحمة ممن لم يصلها ولو فعل ما فعل.

ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لغير الجمع، وأما المسافر العادم للماء إذا علم أنه يجد الماء بعد الوقت: لا يجوز له التأخير إلى ما بعد الوقت، بل يصلي بالتيمم في الوقت بلا نزاع، وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا علم بعد الوقت أنه يمكنه أن يصلي بإتمام الركوع، والسجود، والقراءة: كان الواجب أن يصلي في الوقت بحسب إمكانه. وأما قول بعض أصحابنا: لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لناو جمعهما أو مشتغل بشرطها، فهذا لم يقله أحد قبله من الأصحاب، بل ولا من سائر طوائف المسلمين، إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي. وهذا لا شك ولا ريب أنه ليس على عمومه، وإنما أراد صورا معروفة، كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلا يستقي به ولا يفرغ إلا بعد الوقت، أو أمكن العريان أن يخيط ثوبا ولا يفرغ. إلا بعد الوقت، ونحو هذه الصورة، ومع هذا فالذي قاله في ذلك هو خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه وجماهير العلماء، وما أظنه يوافقه إلا بعض أصحاب الشافعي. ويؤيد ما ذكرناه أيضا أن العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية يشتري منها ثوبا ولا يصلي إلا بعد الوقت لا يجوز له التأخير بلا نزاع، وكذلك العاجز عن تعلم التكبير والتشهد الأخير إذا ضاق الوقت صلى على حسب حاله، وكذلك المستحاضة إذا كان دمها ينقطع بعد الوقت لم يجز لها التأخير، بل تصلي في الوقت بحسب حالها.

باب المواقيت

بدأ جماعة من أصحابنا كالخرقي، والقاضي في بعض كتبه وغيرهما بالظهر، ومنهم من بدأ بالفجر كابن أبي موسى، وأبي الخطاب، والقاضي في موضع، وهذا أجود لأن الصلاة الوسطى هي، العصر، وإنما تكون الوسطى إذا كان الفجر الأول. ومن زعم أن وقت العشاء بقدر حصة الفجر في الشتاء وفي الصيف، فقد غلط غلطا بينا باتفاق الناس، وجمهور العلماء يرون تقدم الصلاة أفضل إلا إذا كان في التأخير مصلحة راجحة مثل المتيمم يؤخر ليصلي آخر الوقت بوضوء، والمنفرد يؤخر حتى يصلي آخر الوقت مع جماعة ونحو ذلك، ويعمل بقول المؤذن في دخول الوقت مع إمكان العلم بالوقت، وهو مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين وكما شهدت له النصوص خلافا لبعض أصحابنا. ومن دخل عليه الوقت ثم طرأ مانع من جنون، أو حيض: لا قضاء إلا أن يتضايق الوقت عن فعلها ثم يوجد المانع. وهو قول مالك، وزفر، رواه زفر عن أبي حنيفة ومتى زال المانع من تكليفه في وقت الصلاة لزمته إن أدرك فيها قدر ركعة وإلا فلا، وهو قول الليث، وقول الشافعي ومقالة في مذهب أحمد. ولا تسقط الصلاة بحج ولا تضعيف في المساجد الثلاثة ولا غير ذلك إجماعا، وتارك الصلاة عمدا لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه، بل يكثر من التطوع، وكذا الصوم وهو قول طائفة من السلف: كأبي عبد الرحمن صاحب الشافعي، وداود وأتباعه، وليس في الأدلة ما يخالف هذا، بل يوافقه، { وأمره عليه السلام المجامع بالقضاء } ضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه.

وقال أبو الخطاب في " الانتصار ": إذا مات في أثناء وقت الصلاة قال بعض الحنفية لا يكون عاصيا بالإجماع. وقال أبو الخطاب: يحتمل عصيانه لأنه إنما يجوز له التأخير بشرط سلامة العاقبة، كما يجوز له التأخير في قضاء رمضان، وقضاء الصلاة، والنذر، والكفارة، وكل ذلك بشرط سلامة العاقبة، وإن قلنا لا يعصي وهو الصحيح فلأن ما وجب وجوبا موسعا لا يعصي من أخره إلى آخر الوقت إذا مات، كالمسائل التي ذكرناها. قال أبو العباس: أما قضاء الصلاة والنذر والكفارة فعندنا على الفور، وقد قيل إنه على التراخي فلا تناظر المسألة، وإنما نظيرها قضاء رمضان، فإنه وقت موسع، والمذاهب هناك أنه إذا مات بعد استطاعة القضاء أطعم عنه، المشهور في الصلاة لا يعصي فيتوجه التخريج فيهما كما اقتضاه كلامه. وقال أبو الخطاب اتفق على الإيجاب الموسع في القضاء، والحج، والكفارة، والزكاة، والدين المؤجل، وهذا غلط فإن فيه ما هو مضيق وما هو على التراخي، ويجب قضاء الفوائت على الفور، وهو مذهب أحمد وغيره.

والنائم ليس عليه أن يفعل الصلاة حال نومه بلا نزاع، لكن تنازع العلماء هل وجبت في ذمته ؟ بمعنى أنه وجب عليه أن يفعلها إذا استيقظ، أو يقال لم تجب في ذمته لكن انعقد سبب وجوبها ؟ على قولين، وجمهور العلماء: على أنها قضاء ؛ ومنهم من يقول: هي أداء والنزاعان لفظيان ويشبه هذا النزاع فيمن غلب على ظنه في الواجب على التراخي أنه يموت في هذا الوقت، فإنه يجب تقديمه فلو لم يمت، ثم فعله فهل يكون أداء كقول الجمهور أو قضاء كقول الباقلاني أو غيره: فيه نزاع، ولا تأثير لهذا النزاع في الأحكام، وإنما هو نزاع لفظي فقط، بل لو اعتقد بقاء الوقت فصلى أداء، ثم تبين خروجه، أو بالعكس: صحت الصلاة من غير نزاع أعلمه. وقال أبو العباس في قديم خطه: قول الباقلاني قياس المذاهب إذ الاعتبار بحالة غلبة الظن لا بما يخالفها، وذلك كما قلنا من غير خلاف أعلمه في المذاهب في المعضوب الذي لا يرجى برؤه إذا حج عن نفسه، ثم برئ أنه لا يلزمه إعادة الحج، فاعتبرنا حالة غلبة الظن ولم نعتبر تبين فساده، ولا أعرف بينهما فرقا.

باب الأذان والإقامة

والصحيح أنهما فرض كفاية، وهو ظاهر مذهب أحمد وغيره، وقد أطلق طوائف من العلماء أن الأذان سنة ثم من هؤلاء من يقول إنه إذا اتفق أهل بلد على تركه قوتلوا، والنزاع مع هؤلاء قريب من النزاع اللفظي، فإن كثيرا من العلماء من يطلق القول بالسنة على ما يذم تاركه ويعاقب تاركه شرعا وأما من زعم أنه سنة لا إثم على تاركه فقد أخطأ. وليس الأذان بواجب للصلاة الفائتة، وإذا صلى وحده أداء أو قضاء وأذن وأقام فقد أحسن، وإن اكتفى بالإقامة أجزأه، وإن كان يقضي صلوات فأذن أول مرة وأقام لبقية الصلوات كان حسنا أيضا، وهو أفضل من الإمامة، وهو أصح الروايتين عن أحمد واختيار أكثر أصحابه. وأما إمامته وإمامة الخلفاء الراشدين فكانت متعينة عنده، فإنها وظيفة الإمام الأعظم، ولم يمكن الجمع بينها وبين الأذان، فصارت الإمامة في حقهم أفضل من الأذان لخصوص أحوالهم، وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل، ويتخرج أن لا يجزئ أذان القاعد لغير عذر، كأحد الوجهين في الخطبة، وأولى إذ لم ينقل عن أحد من السلف الأذان قاعدا لغير عذر، وخطب بعضهم: قاعدا لغير عذر، وأطلق أحمد الكراهة، والكراهة المطلقة هل تنصرف إلى التحريم أو التنزيه، على وجهين. قلت: قال أبو البقاء العكبري في شرح الهداية ": نقل عن أحمد إن أذن القاعد يعيد، قال القاضي: محمول على نفي الاستحباب، وحمله بعضهم على نفي الاعتداد به والله أعلم. وأكثر الروايات عن أحمد المنع من أذان الجنب وتوقف عن الإعادة في بعضها، وصرح بعدم الإعادة في بعضها، وهو اختيار أكثر الأصحاب، وذكر جماعة عنه رواية بالإعادة، واختارها الخرقي وفي إجزاء الأذان من الفاسق روايتان أقواهما عدمه لمخالفة أمر النبي . وأما ترتيب الفاسق مؤذنا فلا ينبغي قولا واحدا، والصبي المميز يستخرج أذانه للبالغ روايتان كشهادته وولايته، وقال في موضع آخر: اختلف الأصحاب في تحقيق موضع الخلاف، منهم من يقول موضع الخلاف سقوط الفرض به، والسنة المؤكدة إذا لم يوجد سواه. وأما صحة أذانه في الجملة، وكونه جائزا إذا أذن غيره، فلا خلاف في جوازه، ومنهم من أطلق الخلاف ؛ لأن أحمد قال: لا بأس أن يؤذن الغلام قبل أن يحتلم إذا كان قد راهق، وقال في رواية علي بن سعيد: وقد سئل عن الغلام يؤذن قبل أن يحتلم فلم يعجبه، والأشبه أن الأذان الذي يسقط الفرض عن أهل القرية، ويعتمد في وقت الصلاة والصيام لا يجوز أن يباشره صبي قولا، ولا يسقط الفرض ولا يعتمد في مواقيت العبادات.

وأما الأذان الذي يكون سنة مؤكدة في مثل المساجد التي في المصر، ونحو ذلك فهذا فيه الروايتان والصحيح جوازه، ويكره أن يوصل الأذان بما قبله، مثل قول بعض المؤذنين قبل الأذان: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } الآية. ويستحب للمؤذن أن يرفع فمه ووجهه إلى السماء إذا أذن أو أقام، ونص عليه أحمد كما يستحب للذي يتشهد عقيب الوضوء أن يرفع رأسه إلى السماء. وكما يستحب للمحرم بالصلاة أن يرفع رأسه قليلا ؛ لأن التهليل والتكبير إعلان بذكر الله لا يصلح إلا له، فاستحب الإشارة له كما تستحب الإشارة بالأصبع الواحدة في التشهد والدعاء، هذا بخلاف الصلاة والدعاء، إذ المستحب فيه خفض الطرف.

وإذا أقيمت الصلاة وهو قائم يستحب له أن يجلس، وإن لم يكن صلى تحية المسجد. قال ابن منصور: رأيت أبا عبد الله أحمد يخرج عند المغرب فحين انتهى إلى موضع الصف أخذ المؤذن في الإقامة فجلس. والخروج من المسجد بعد الأذان منهي عنه، وهل هو حرام أو مكروه في المسألة وجهان، إلا أن يكون التأذين للفجر قبل الوقت، فلا يكره الخروج نص عليه أحمد والإقامة كالنداء بالأذان والسنة أن ينادى للكسوف ب " الصلاة جامعة "، لحديث عائشة: { خسفت الشمس على عهد النبي فبعث مناديا الصلاة جامعة }. ولا ينادى للعيد والاستسقاء، وقاله طائفة من أصحابنا ؛ ولهذا لا يشرع للجنازة ولا للتراويح على نص أحمد، خلافا للقاضي ؛ لأنه لم ينقل عن النبي والقياس على الكسوف فاسد الاعتبار. وقال الآمدي: السنة أن يكون المؤذن من أولاد من جعل رسول الله فيهم الأذان، وإن كان من غيرهم جاز. قال أبو العباس: ولم يذكر هذا أكثر أصحابنا، وظاهر كلام أحمد لا يقدم بذلك، فإنه نص على أن المتنازعين في الأذان لا يقدم أحدهما بكون أبيه هو المؤذن. وأما ما سوى التأذين قبل الفجر من تسبيح، وتشهد، ورفع الصوت بدعاء، ونحو ذلك في المآذن، فهذا ليس بمسنون عند الأئمة. بل قد ذكر طائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد: أن هذا من جملة البدع المكروهة، ولم يقم دليل شرعي على استحبابه، ولا حدث سبب يقتضي إحداثه حتى يقال إنه من البدع اللغوية التي دلت الشريعة على استحبابها، وما كان كذلك لم يكن لأحد أن يأمر به، ولا ينكر على من تركه ولا يعلق استحقاق الرزق به، وإن شرطه واقف، وإذا قيل: إن في بعض هذه الأصوات مصلحة راجحة على مفسدتها، فنقتصر من ذلك على القدر الذي يحصل به المصلحة دون الزيادة التي هي ضرر بلا مصلحة راجحة.

ويستحب أن يجيب المؤذن ويقول مثل ما يقول ولو في الصلاة، وكذلك يقول في الصلاة كل ذكر ودعاء وجد سببه في الصلاة، ويجيب مؤذنا ثانيا، وأكثر حيث يستحب ذلك، كما كان المؤذنان يؤذنان على عهد النبي وأما المؤذنون الذين يؤذنون مع المؤذن الراتب يوم الجمعة في مثل صحن المسجد، فليس أذانهم مشروعا باتفاق الأئمة، بل ذلك بدعة منكرة، وقد اتفق العلماء على أنه لا يستحب التبليغ وراء الإمام، بل يكره إلا لحاجة. وقد ذهب طائفة من الفقهاء أصحاب مالك، وأحمد إلى بطلان صلاة المبلغ إذا لم يحتج إليه، وظاهر كلامه هذا أن المجيب يقول مثل ما يقول حتى في الحيعلة، وقيل: يقول لا حول ولا قوة إلا بالله.

ويجوز الأذان للفجر قبل دخول وقتها، وقاله جمهور العلماء، وليس عند أحمد نص في أول الوقت الذي يجوز فيه التأذين، إلا أن أصحابنا قالوا: يجوز بعد نصف الليل كما يجوز بعد نصف الليل الإفاضة من مزدلفة، وعلى هذا فينبغي أن يكون الليل الذي يعتبر نصفه أوله غروب الشمس، وآخره طلوعها، كما أن النهار المعتبر نصفه أوله طلوع الشمس، وآخره غروبها لانقسام الزمان ليلا ونهارا. ولعل قول النبي في أحد الحديثين: { ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل } الذي ينتهي لطلوع الفجر، وفي الآخر حين يمضي نصف الليل يعني الليل الذي ينتهي بطلوع الشمس، فإنه إذا انتصف الليل الشمسي يكون قد بقي ثلث الليل الفجري تقريبا، ولو قيل: تحديد وقت العشاء إلى نصف الليل تارة، وإلى ثلثه أخرى من هذا الباب لكان متوجها، ويستحب ؛ إذا أخر المؤذن في الأذان أن لا يقوم، إذ في ذلك تشبه بالسلطان. قال أحمد: لا يقوم أو ما يبدي أو يصير.

باب ستر العورة

اختلفت عبارة أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة، فقال بعضهم: ليس بعورة. وقال بعضهم: عورة، وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة. والتحقيق: أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه، ولا يختلف المذهب في أن ما بين السرة والركبة من الأمة عورة، وقد حكى جماعة من أصحابنا أن عورتها السوأتان فقط كالرواية في عورة الرجل، وهذا غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصا، وعلى الشريعة عموما، وكلام أحمد أبعد شيء عن هذا القول، ولا يصح الصلاة في الثوب المغصوب والحرير والمكان المغصوب، هذا إذا كانت الصلاة فرضا وهو أصح الروايتين عن أحمد، وإن كانت نفلا. فقال الآمدي: لا تصح رواية واحدة. وقال أبو العباس: أكثر أصحابنا أطلقوا الخلاف وهو الصواب، لأن منشأ القول بالصحة أن جهة الطاعة مغايرة لجهة المعصية فيجوز أن يثاب من وجه ويعاقب من وجه، وينبغي أن يكون الذي يجر ثوبه خيلاء في الصلاة على هذا الخلاف ؛ لأن المذهب أنه حرام، وكذلك من لبس ثوبا فيه تصاوير. قلت: لازم ذلك أن كل ثوب يحرم لبسه يجري على هذا الخلاف، وقد أشار إليه صاحب المستوعب، والله أعلم.

ولو كان المصلي جاهلا بالمكان والثوب أنه حرام فلا إعادة عليه، سواء قلنا: إن الجاهل بالنجاسة يعيد أو لا يعيد ؛ لأن عدم علمه بالنجاسة لا يمنع العين أن تكون نجسة، وكذا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية، بل يكون طاعة، وأما المحبوس في مكان غصب فينبغي أن لا نوجب عليه الإعادة إذا صلى فيه قولا واحدا ؛ لأن لبثه فيه ليس بمحرم. ومن أصحابنا من يجعل فيمن لم يجد إلا الثوب الحرير روايتين، كمن لم يجد إلا الثوب النجس، وعلى هذا فمن لم يمكنه أن يصلي إلا في الموضع الغصب فيه الروايتان وأولى، وكذلك كل مكره الكون بالمكان النجس والغصب بحيث يخاف ضررا من الخروج في نفسه أو ماله ينبغي أن يكون كالمحبوس، وذكر ابن الزاغوني في صحة الصلاة في ملك غيره بغير إذنه إذا لم يكن محوطا عليه وجهين، وأن المذهب الصحة يؤيده أنه يدخله ويأكل ثمره فلأن يدخله بلا أكل ولا أذى أولى وأجزى، والمقبوض بتعد فاسد من الثياب والعقار أفتى بعض أصحابنا بأنه كالمغصوب سواء، وعلى هذا فإن لم يكن المال الذي يلبسه ويسكنه حلالا في نفسه لم يتعلق به حق الله تعالى ولا حق لعباده، وإلا لم تصح فيه الصلاة. وكذلك الماء في الطهارة، وكذلك المركوب، والزاد في الحج، وهذا يدخل فيه شيء كثير وفيه نوع مشقة. ومن لم يجد إلا ثوبا لطيفا أرسله على كتفه وعجزه وصلى جالسا، ونص عليه أو اتزر به وصلى قائما. وقال القاضي: يستر منكبيه ويصلي جالسا والأول هو الصحيح، وقول القاضي ضعيف ولو صلى على راحلة مغصوبة فهو كالأرض المغصوبة، وإن صلى على فراش مغصوب فوجهان، أظهرهما البطلان، ولو غصب مسجدا وغيره بأن حوله عن كونه مسجدا بدعوى ملكه أو وقفه على جهة أخرى لم تصح صلاته فيه، وإن أبقاه مسجدا، ومنع الناس من الصلاة فيه في صحة صلاته فيه وجهان، اختار طائفة من المتأخرين الصحة، والأقوى البطلان ولو تلف في يده لم يضمنه عند ابن عقيل، وقياس المذهب ضمانه. وإن لم يجد العريان ثوبا ولا حشيشا، ولكن وجد طينا لزمه الاستتار عند ابن عقيل، ولا يلزمه عند الآمدي وغيره، وهو الصواب المقطوع به، وقيل: إنه المنصوص عن أحمد، لأن ذلك يتناثر ولا يبقى، ولكن يستحب أن يستتر بحائط، أو شجرة، ونحو ذلك إن أمكن. وتستحب الصلاة بالنعل، وقاله طائفة من العلماء، والعبد الآبق لا يصح نفله، ويصح فرضه عند ابن عقيل، وابن الزاغوني، وبطلان فرضه قوي أيضا كما جاء في الحديث مرفوعا، وينبغي قبول صلاته، والله تعالى أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة، وهو أخذ الزينة، فقال: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } فعلق الأمر باسم الزينة لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة.

باب اجتناب النجاسة

ومواضع الصلاة وجوب تطهير البدن من الخبث يحتج عليه بأحاديث الاستنجاء، وحديث التنزه من البول، وبقوله { حتيه، ثم اقرصيه، ثم انضحيه بالماء ثم صلي فيه } من حديث أسماء وغيرها، وبحديث أبي سعيد في { دلك النعلين بالتراب ثم الصلاة فيهما }، وطهارة البقعة يستدل عليها بقول النبي في حديث الأعرابي: { إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والعذرة } وأمره بصب الماء على البول.

ومن صلى بالنجاسة ناسيا أو جاهلا فلا إعادة عليه، وقاله طائفة من العلماء ؛ لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله مخطئا أو ناسيا لا تبطل العبادة به، وذكر القاضي في " المجرد " والآمدي، أن الناسي يعيد رواية واحدة عن أحمد لأنه مفرط، وإنما الروايتان في الجاهل والروايتان منصوصتان عن أحمد في الجاهل بالنجاسة، فأما الناسي فليس عنه نص فلذلك اختلف الطريقان. والنهي عن قربان المسجد لمن أكل الثوم، ونحوه عام في كل مسجد عند عامة العلماء، وحكى القاضي عياض أن النهي خاص بمسجد النبي .

ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها، والنهي عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك، وذكر طائفة من أصحابنا أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة ؛ لأنه لا يتناول اسم المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا. وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب ؛ والمقبرة كل ما قبر فيه. لا أنه جمع قبر. وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه فهذا يعين أن المنع يكون متنا، ولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه، وذكر الآمدي وغيره أنه لا تجوز الصلاة فيه، أي المسجد الذي قبلته إلى القبر، حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر. وذكر بعضهم هذا منصوص أحمد ولا تصح الصلاة في الحش ولا إليه، ولا فرق عند عامة أصحابنا بين أن يكون الحش في ظاهر جدار المسجد أو باطنه، واختار ابن عقيل أنه إذا كان بين المصلي وبين الحش ونحوه حائل، مثل جدار المسجد لم يكره، والأول هو المأثور عن السلف، والمنصوص عن أحمد، والمذهب الذي عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنيسة المصورة، فالصلاة فيها وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك ومقتضى كلام الآمدي، وأبي الوفاء بن عقيل: أنه لا تصح الصلاة في أرض الخسف، وهو قوي ونص أحمد لا يصلي فيها، وقال الآمدي: ويكره في الرحى ولا فرق بين علوها وسفلها. قال أبو العباس: ولعل هذا لما فيها من الصوت الذي يلهي المصلي ويشغله، ولا تصح الفريضة في الكعبة بل النافلة، وهو ظاهر مذهب أحمد. وأما صلاة النبي في البيت فإنها كانت تطوعا فلا يلحق الفرض ؛ لأنه { صلى داخل البيت ركعتين، ثم قال: هذه القبلة } فيشبه والله أعلم أن يكون ذكره لهذا الكلام في عقيب الصلاة خارج البيت بيانا ؛ لأن القبلة المأمور باستقبالها هي البنية كلها، لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كاف في الفرض، لأجل أنه صلى التطوع في البيت، وإلا فقد علم الناس كلهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة فلا بد لهذا الكلام من فائدة، وعلم شيء قد يخفى ويقع في محل الشبهة، وابن عباس روى هذا الحديث وفهم منه هذا المعنى وهو أعلم بمعنى ما سمع، وإن نذر الصلاة في الكعبة جاز كما لو نذر الصلاة على الراحلة، وأما إن نذر الصلاة مطلقا اعتبر فيها شروط الفريضة ؛ لأن النذر المطلق يحذى به حذو الفرائض.

باب استقبال القبلة

قال الدارقطني وغيره في قول الراوي إنه { صلى النبي على حمار غلط من عمرو بن يحيى المازني }، وإنما المعروف صلاته على راحلته أو البعير، والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره مسلم في رواية أخرى، ولهذا لم يذكر البخاري حديث عمرو هذا وقيل إن في تغليطه نظرا وقيل إنه شاذ لمخالفته رواية الجماعة، وقوله { ما بين المشرق والمغرب قبلة } هذا خطاب منه لأهل المدينة، ومن جرى مجراهم كأهل الشام والجزيرة والعراق. وأما أهل مصر فقبلتهم بين المشرق والجنوب من مطلع الشمس في الشتاء، وذكر طائفة من الأصحاب أن الواجب في استقبال القبلة هواؤها دون بنيانها بدليل المصلي على أبي قبيس وغيره من الجبال العالية، فإنه إنما يستقبل الهواء لا البناء، وبدليل لو انتقضت الكعبة والعياذ بالله، فإنه يكفيه استقبال العرصة. قال أبو العباس: الواجب استقبال البنيان، وأما العرصة والهواء فليس بكعبة ولا ببناء. وأما ما ذكروه من الصلاة على أبي قبيس ونحوه، فإنما ذلك لأن بين يدي المصلي قبلة شاخصة مرتفعة، وإن لم تكن مسامتة، فإن المسامتة لا تشترط كما لم تكن مشروطة في الائتمام بالإمام وأما إذا زال بناء الكعبة فنقول بموجبه، وأنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئا يصلي إليه، لأن أحمد جعل المصلي على ظهر الكعبة لا قبلة له، فعلم أنه جعل القبلة الشيء الشاخص. وكذلك قال الآمدي: إن صلى بإزاء البيت وكان مفتوحا لا تصح صلاته، وإن كان مردودا صحت، وإن كان مفتوحا وبين يديه شيء منصوب كالسترة صحت ؛ لأنه يصلي إلى جزء من البيت فإن زال بنيان البيت والعياذ بالله وصلى وبين يديه شيء، صحت الصلاة، وإن لم يكن بين يديه شيء لم تصح، وهذا من كلام الآمدي، يدل على أن البناء لو زال لم تصح الصلاة إلا أن يكون بين يديه شيء، وإنما يعني به والله أعلم ما كان شاخصا كما قيده فيما إذا صلى إلى الباب ولأنه علل ذلك بأنه إذا صلى إلى سترة فقد صلى إلى جزء من البيت. فعلم أن مجرد العرصة غير كاف، ويدل على هذا ما ذكره الأزرق في أخبار مكة، أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل الستور عليها حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها، ففعل ذلك ابن الزبير، وهذا من ابن عباس وابن الزبير دليل على أن الكعبة التي يطاف بها ويصلى إليها لا بد أن تكون شيئا منصوبا شاخصا وأن العرصة ليست قبلة، ولم ينقل أن أحدا من السلف خالف في ذلك ولا أنكره، نعم لو فرض أنه قد تعذر نصب شيء من الأشياء موضعها بأن يقع ذلك إذا هدمها ذو السويقتين من الحبشة في آخر الزمان، فهنا ينبغي أن يكتفي حينئذ باستقبال العرصة، كما يكتفي المصلي أن يخط خطا إذا لم يجد سترة، فإن قواعد إبراهيم كالخط. وذكر ابن عقيل وغيره من أصحابنا أن البناء إذا زال صحت الصلاة إلى هواء البيت، مع قولهم إنه لا يصلي على ظهر الكعبة، ومن قال هذا يفرق بأنه إذا زال لم يبق هناك شيء شاخص يستقبل بخلاف ما إذا كان هناك قبلة تستقبل، ولا يلزم من سقوط الشيء الشاخص إذا كان معدوما سقوط استقباله إذا كان موجودا، كما فرقنا بين حال إمكان نصب شيء وحال تعذره، وكما يفرق في سائر الشروط بين حال الوجود والعدم والقدرة والعجز، فإذا قلنا لا بد من الصلاة إلى شيء شاخص، فإنه يكفي شخوصه، ولو أنه شيء يسير كالعتبة التي للباب قاله ابن عقيل. وقال أبو الحسن الآمدي: لا يجوز أن يصلي إلى الباب إذا كان مفتوحا، لكن إذا كان بين يديه شيء منصوب كالسترة صحت، فعلى هذا لا يكفي ارتفاع العتبة ونحوها، بل لا بد أن يكون مثل آخرة الرحل، لأنها السترة التي قدر بها الشارع السترة المستحبة، فلأن يكون تقديرها في الواجب أولى ثم إن كانت السترة التي فوق السطح ونحوه بناء أو خشبة مسمرة، ونحو ذلك، مما يتبع في مطلق البيع لو كان في موضع مملوك جازت الصلاة إليه لأنه جزء من البيت، وإن كان هناك لبن وآجر بعضه فوق بعض، أو خشبة معروضة غير مسمرة ونحو ذلك لم يكن قبلة فيما ذكره أصحابنا لأنه ليس من البيت، ويتوجه أن يكتفى في ذلك بما يكون سترة في الصلاة لأنه شيء شاخص ؛ ولأن حديث ابن عباس، وابن الزبير دليل على الاكتفاء بكل ما يكون قبلة وسترة، فإن الخشب والستور المعدة عليها لا يتبع في مطلق البيع. قلت: وقد يقال إنما اكتفي بما نصبه ابن الزبير، وإن لم يتبع في مطلق البيع ؛ لأنه حال ضرورة، ولا ضرورة بالمصلي إلى الصلاة على ظهر الكعبة أو باطنها، إذ يمكنه أن يتوجه إلى جزء منها أو أن يستقبل جميعها. والله أعلم. وقال ابن حامد وابن عقيل في " الواضح " وأبو المعالي: لو صلى إلى الحجر من فرضه المعاينة لم تصح صلاته ؛ لأنه في المشاهدة، والعيان، ليس من الكعبة البيت الحرام وإنما وردت الأحاديث بأنه كان من البيت فعمل بتلك الأحاديث في وجوب الطواف دون الاكتفاء به للصلاة احتياطا للعبادتين. وقال القاضي في " التعليق ": يجوز التوجه إليه في الصلاة، وتصح صلاته كما لو توجه إلى حائط الكعبة. قال أبو العباس: وهذا قياس المذهب لأنه من البيت بالسنة الثابتة المستفيضة، وبعيان من شاهده من الخلق الكثير لما نقضه ابن الزبير. ونص أحمد أنه لا يصلي الفرض في الحجر، فقال: لا يصلي في الحجر، الحجر من البيت. قال أبو العباس: والحجر جميعه ليس من البيت، وإنما الداخل في حدود البيت ستة أذرع وشيء، فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاته ألبتة.

باب النية

والنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله قصده ضرورة، ويحرم خروجه لشكه في النية، للعلم بأنه ما دخل إلا بالنية، ولو أحرم منفردا ثم نوى الإمامة صحت صلاته فرضا ونفلا، وهو رواية عن أحمد اختارها أبو محمد المقدسي وغيره. ولو سمى إماما أو جنازة فأخطأ صحت صلاته إن كان أفسده خلف من حضر وإلا فلا، ووجوب مقارنة النية للتكبير قد يفسر بوقوع التكبير عقيب النية، وهذا ممكن لا صعوبة فيه بل عامة الناس إنما يصلون هكذا. وقد يفسر بانبساط آخر النية على أجزاء التكبير، بحيث يكون أولها مع أوله وآخرها مع آخره، وهذا لا يصح ؛ لأنه يقتضي عزوب كمال النية عن أول الصلاة، وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة، وقد يفسر بحضور جمع النية الواجبة، وقد يفسر بجميع النية مع جميع أجزاء التكبير، وهذا قد نوزع في إمكانه فضلا عن وجوبه، ولو قيل بإمكانه فهو متعسر فيسقط بالحرج. وأيضا فما يبطل هذا والذي قبله أن المكبر ينبغي له أن يتدبر التكبير ويتصوره فيكون قلبه مشغولا بمعنى التكبير لا بما يشغله عن ذلك من استحضار المنوي ؛ ولأن النية من الشروط، والشرط يتقدم العبادة ويستمر حكمه إلى آخرها.

باب تسوية الصفوف

وظاهر كلام أبي العباس أنه يجب تسوية الصفوف ؛ لأنه عليه السلام { رأى رجلا باديا صدره فقال: لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم } وقال عليه السلام: { سووا صفوفكم فإن تسويتها من تمام الصلاة } متفق عليهما. وترجم عليه البخاري بباب: إثم من لم يقم الصف. قلت: ومن ذكر الإجماع على استحبابه فمراده ثبوت استحبابه لا نفي وجوبه والله أعلم.

وإذا قدر المصلي أن يقول الله أكبر لزمه ولا يجزئه غيرها، وهو قول مالك، وأحمد، ولا يشترط أن يسمع المصلي نفسه القراءة الواجبة، بل يكفيه الإتيان بالحروف، وإن لم يسمعها وهو وجه في مذهب أحمد، واختاره الكرخي من الحنفية، وكذا كل ذكر واجب.

ويستحب أن يجمع في الاستفتاح بين قوله: " سبحانك اللهم وبحمدك " إلى آخره، وبين: " وجهت وجهي " إلى آخره، وهو اختيار أبي يوسف، وأبي هبيرة، ولا يجمع بين لفظي كبير وكثير، بل يقول هذا تارة، وهذه تارة، وكذا المشروع في القراءات سبع أن يقرأ هذه تارة وهذه تارة لا الجمع بينهما ونظائره كثيرة، والأفضل أن يأتي في العبادات الواردة على وجوه متنوعة بكل نوع منها: كالاستفتاحات، وأنواع صلاة الخوف، وغير ذلك، والمفضول قد يكون أفضل لمن انتفاعه به إثم.

ويستحب التعوذ أول كل قراءة ويجهر في الصلاة بالتعوذ وبالبسملة وبالفاتحة في الجنازة ونحو ذلك أحيانا، فإنه المنصوص عن أحمد تعليما للسنة، ويستحب الجهر بالبسملة للتأليف كما استحب أحمد ترك القنوت في الوتر تأليفا للمأموم، ولو كان الإمام متطوعا تبعه المأموم والسنة أولى ونص عليه أحمد. قلت: وحكي عن أبي العباس التخيير بين الجهر والإسرار، وهو مذهب إسحاق بن راهويه، والظاهر أن هذا القول أخذ من قوله أن يجهر بها أحيانا، وهذا المأخذ ليس بجيد، والله أعلم. والبسملة آية منفردة فاصلة بين السور ليست من أول كل سورة لا الفاتحة ولا غيرهما، وهذا ظاهر مذهب أحمد، وروى الطبراني بإسناد حسن عن ابن العباس أن { النبي كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم إذا كان بمكة، وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات }. ورواه أبو داود في كتاب " الناسخ والمنسوخ " وهو مناسب للواقع فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها، وأما أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون، والدارقطني لما دخل مصر وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بالبسملة فجمعها، فقيل له: هل فيها شيء صحيح ؟ فقال: أما عن النبي فلا، وأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف، وتكتب البسملة أوائل الكتب كما كتبها سليمان، وكتبها النبي في صلح الحديبية وإلى قيصر وغيره، فتذكر في ابتداء جميع الأفعال، وعند دخول المنزل والخروج منه للبركة، وهي تطرد الشيطان، وإنما تستحب إذا ابتدأ فعلا تبعا لغيرها لا مستقلة فلم تجعل كالهيللة والحمدلة، ونحوهما.

والفاتحة أفضل سورة في القرآن، قال عليه السلام فيها { أعظم سورة في القرآن } رواه البخاري، وذكر معناه ابن شهاب وغيره، وآية الكرسي أعظم آي القرآن كما رواه مسلم عنه عليه السلام، وحكي عن أبي العباس أن تفاضل القرآن عنده في نفس الحرف أي ذات الحرف، واللفظ بعضه أفضل من بعض وهذا قول بعض أصحابنا، ولعل المراد غير آية الكرسي والفاتحة لما تقدم، والله أعلم.

ومعان القرآن ثلاثة أصناف: توحيد، وقصص، وأمر ونهي. { قل هو الله أحد } متضمنة ثلث التوحيد، ولا يستحب قراءتها ثلاثا إلا إذا قرئت منفردة وقال في موضع آخر: السنة إذا قرأ القرآن كله أن يقرأها كما في المصحف، وأما إذا قرأها منفردة أو مع بعض القرآن ثلاثا فإنها تعدل القرآن، وإذا قيل: ثواب قراءتها مرة يعدل ثلث القرآن فمعادلة الشيء للشيء يقتضي تساويهما في القدر لا تماثلهما في الوصف كما في قوله تعالى { أو عدل ذلك صياما }. ولهذا لا يجوز أن يستغني بقراءتها ثلاث مرات عن قراءة سائر القرآن لحاجته إلى الأمر والنهي والقصص، كما لا يستغني من ملك نوعا شريفا من المال عن غيره، ويحسن ترجمة القرآن لمن يحتاج إلى تفهيمه إياه بالترجمة. قلت: وذكر غيره هذا المعنى والله أعلم.

ومعان القرآن ثلاثة أصناف: توحيد، وقصص، وأمر ونهي. { قل هو الله أحد } متضمنة ثلث التوحيد، ولا يستحب قراءتها ثلاثا إلا إذا قرئت منفردة وقال في موضع آخر: السنة إذا قرأ القرآن كله أن يقرأها كما في المصحف، وأما إذا قرأها منفردة أو مع بعض القرآن ثلاثا فإنها تعدل القرآن، وإذا قيل: ثواب قراءتها مرة يعدل ثلث القرآن فمعادلة الشيء للشيء يقتضي تساويهما في القدر لا تماثلهما في الوصف كما في قوله تعالى { أو عدل ذلك صياما }. ولهذا لا يجوز أن يستغني بقراءتها ثلاث مرات عن قراءة سائر القرآن لحاجته إلى الأمر والنهي والقصص، كما لا يستغني من ملك نوعا شريفا من المال عن غيره، ويحسن ترجمة القرآن لمن يحتاج إلى تفهيمه إياه بالترجمة. قلت: وذكر غيره هذا المعنى والله أعلم.

وقوله : { من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات } رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. المراد بالحرف الكلمة ووقوف القارئ على رءوس الآيات سنة، وإن كانت الآية الثانية متعلقة بالأولى تعلق الصفة بالموصوف أو غير ذلك، والقراءة القليلة بتفكر أفضل من الكثيرة بلا تفكر وهو المنصوص عن الصحابة صريحا. ونقل عن أحمد ما يدل عليه نقل عنه مثنى بن جامع رجل أكل فشبع، وأكثر الصلاة والصيام، ورجل أقل الأكل، فقلت نوافله وكان أكثر فكرا، أيهما أفضل ؟ فذكر ما جاء في الفكر { تفكر ساعة خير من قيام ليلة } قال: فرأيت هذا عنده أفضل للفكر وما خالف المصحف، وصح سنده، صحت الصلاة به. وهذا نص الروايتين عن أحمد، ومصحف عثمان أحد الحروف السبعة، وقاله عامة السلف وجمهور العلماء.

ويكره أن يقول مع إمامه { إياك نعبد وإياك نستعين } ونحوه. وقراءة المأموم خلف الإمام أصول الأقوال فيها ثلاثة طرفان ووسط فأحد الطرفين لا يقرأ بحال، والثاني يقرأ بكل حال، والثالث وهو قول أكثر السلف إذا سمع قراءة الإمام أنصت وإذا لم يسمع قرأ بنفسه فإن قراءته أفضل من سكوته، والاستماع لقراءة الإمام أفضل من السكوت. وعلى هذا فهل القراءة حال مخافتة الإمام واجبة على المأموم، أو مستحبة على قولين في مذهب أحمد أشهرهما أنها مستحبة، ولا يقرأ حال تنفس إمامه، وإذا سمع همهمة الإمام، ولم يفهم قراءته قرأ لنفسه، وهو رواية عن أحمد. وأحمد وغيره استحب، في صلاة الجهر سكتتين عقيب التكبير للاستفتاح، وقبل الركوع لأجل الفصل، ولم يستحب أن يسكت سكتة تتسع لقراءة المأموم، ولكن بعض أصحابه استحب ذلك والقراءة إذا سمع، هل هي محرمة أو مكروهة وهل تبطل الصلاة إن قرأ على قولين في مذهب أحمد وغيره. أحدهما: القراءة محرمة وتبطل الصلاة بها حكاه ابن حامد. والثاني: لا تبطل، وهو قول الأكثرين، وهو المشهور من مذهب أحمد، وهل الأفضل للمأموم قراءة الفاتحة للاختلاف في وجوبها، أم غيرها ؛ لأنه استمعها مقتضى نصوص أحمد، وأكثر أصحابه أن القراءة بغيرها أفضل. قلت: فمقتضى هذا أنه إنما يكون غيرها أفضل إذا سمعها وإلا فهي أفضل من غيرها. والله أعلم. ولا يستفتح ولا يستعيذ حال جهر الإمام، وهو رواية عن أحمد ومن أصحاب أحمد، من قال لا يستفتح ولا يستعيذ حال جهر الإمام رواية واحدة، وإنما الخلاف حال سكوت الإمام، والمعروف عند أصحابه أن النزاع في حال الجهل ؛ لأنه بالاستماع يحصل مقصود القراءة بخلاف الاستفتاح والتعوذ، وما ذكره ابن الجوزي من قراءة المأموم وقت مخافتة الإمام أفضل من استفتاحه: غلط، بل قول أحمد وأكثر أصحابه الاستفتاح أولى ؛ لأن استماعه بدل عن قراءته، والمرأة إذا صلت بالنساء جهرت بالقراءة وإلا فلا تجهر إذا صلت وحدها. ونقل ابن أصرم عن أحمد في من جهل ما قرأ به إمامه يعيد الصلاة، قال أبو إسحاق بن شاقلا: لأنه لم يدر هل قرأ إمامه الحمد أم لا، ولا مانع من السماع، وقال أبو العباس: بل لتركه الإنصات الواجب. وحديث عبد الرحمن بن أبزى أنه { صلى مع النبي فكان لا يتم تكبيره } رواه أبو داود، والبخاري في التاريخ. وقد حكي عن أبي داود الطيالسي أنه قال حديث باطل. قال أبو العباس وهذا وإن كان محفوظا فلعل ابن أبزى صلى خلف النبي في مؤخر المسجد وكان النبي صوته ضعيفا فلم يسمع تكبيره فاعتقد أنه لم يتم التكبير وإلا فالأحاديث المتواترة عن النبي خلاف هذا.

وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن النخعي: إن أول من نقص التكبير زياد وكان أميرا في زمن عمر، وإذا رفع الإمام رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد " وهو رواية عن أحمد واختارها أبو الخطاب، والآجري، وأبو البركات. ويسن رفع اليدين إذا قام المصلي من التشهد الأول إلى الثالثة، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو البركات، كما يسن في الركوع والرفع منه، ومن لم يقدر على رفع يديه إلا بزيادة على أذنيه رفعهما ؛ لأنه يأتي بالسنة وزيادة لا يمكنه تركها.

وتبطل الصلاة بتعمد تكرار الركن الفعلي لا القولي، وهو مذهب الشافعي وأحمد، ومن لم يحسن القراءة ولا الذكر أو الأخرس لا يحرك لسانه حركة مجردة، ولو قيل إن الصلاة تبطل بذلك كان أقرب ؛ لأنه عبث ينافي الخشوع وزيادة على غير المشروع.

وآل النبي أهل بيته، ونص عليه أحمد واختاره الشريف أبو جعفر وغيره، فمنهم بنو هاشم، وفي بني المطلب الروايتان في الزكاة، وفي دخول أزواجه في أهل بيته روايتان، والمختار الدخول. وأفضل أهل بيته علي، وفاطمة، وحسن، وحسين الذين أدار عليهم الكساء وخصهم بالدعاء، وظاهر كلام أبي العباس في موضع آخر أن حمزة أفضل من حسن، وحسين، واختاره بعض العلماء، ولا تجوز الصلاة على غير الأنبياء إذا اتخذت شعارا، وهو قول متوسط بين من قال بالمنع مطلقا، وهو قول طائفة من أصحابنا، ومن قال بالجواز مطلقا وهو منصوص أحمد.

ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد لا التكبير عقيب الصلاة لا قاله بعض السلف ولا الخلف، لا يقرأ آية الكرسي سرا لا جهرا لعدم نقله.

والتسبيح المأثور أنواع: أحدها: أن يسبح عشرا، ويحمد عشرا، ويكبر عشرا. والثاني: أن يسبح إحدى عشرة، ويحمد إحدى عشرة، ويكبر إحدى عشرة. والثالث: أن يسبح ثلاثا وثلاثين، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويكبر ثلاثا وثلاثين، فيكون تسعة وتسعين. والرابع: أن يقول ذلك، ويختم المائة بالتوحيد التام: وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. الخامس: أن يسبح ثلاثا وثلاثين، ويحمد ثلاثا وثلاثين، ويكبر أربعا وثلاثين. السادس: أن يسبح خمسا وعشرين، ويحمد خمسا وعشرين، ويكبر خمسا وعشرين، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. خمسا وعشرين، ولا يستحب الدعاء عقيب الصلوات لغير عارض كالاستسقاء والانتصار، أو تعليم المأموم ولم تستحبه الأئمة الأربعة وما جاء في خبر ثوبان من أن الإمام إذا خص نفسه بالدعاء فقد خان المؤمنين، المراد به الدعاء الذي يؤمن عليه كدعاء القنوت فإن المأموم إذا أمن كان داعيا. قال تعالى لموسى وهارون: { قد أجيبت دعوتكما } وكان أحدهما يدعو والآخر يؤمن والمأموم إنما أمن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما فإن لم يفعل فقد خان الإمام المأموم.

ويسن للداعي رفع يديه والابتداء بالحمد لله والثناء عليه، والصلاة على النبي وأن يختمه بذلك كله وبالتأمين، وصفة المشروع في الصلاة على النبي ما صحت به الأخبار. قال أبو العباس: الأحاديث التي في الصحاح لم أجد في شيء منها: { كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم } بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ " وآل إبراهيم " بإسناد ضعيف، عن ابن مسعود مرفوعا ورواه ابن ماجه موقوفا على ابن مسعود. قلت: بل روى البخاري في صحيحه الجمع بينهما. والله أعلم.

واتفق المسلمون على أن محمدا أفضل الرسل لكن وقع النزاع في أنه هل هو أفضل من جملتهم قطع طائفة من العلماء بأنه وحده أفضل من جملتهم كما أن صديقه وزن بمجموع الأمة فرجح بهم.

وقد أنكر طائفة من العلماء على محمد بن أبي زيد في صفة الصلاة على النبي : { اللهم ارحم محمدا وآل محمد } لأنه خلاف الوارد في تعليم الصلاة. قلت: وحكى القاضي عياض في شرح مسلم " المنع قول الأكثرين، والله أعلم. ويحرم الاعتداء في الدعاء، لقوله تعالى إنه لا يحب المعتدين، وقد يكون الاعتداء في نفس الطلب وقد يكون في نفس المطلوب.

ولا يكره رفع بصره إلى السماء في الدعاء لفعله وهو قول مالك، والشافعي، ولا يستحب. وإذا لم يخلص الداعي الدعاء، ولم يجتنب الحرام تبعد إجابته إلا مضطرا أو مظلوما، ويستحب للمصلي أن يدعو قبل السلام بما أوصى به النبي لمعاذ أن يقوله دبر كل صلاة: { اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك } ولا يفرد المنفرد ضمير الدعاء ؛ لأنه يدعو لنفسه وللمؤمنين ويكون دعاء الاستخارة قبل السلام. وقال ابن الزاغوني: بل والدعاء سبب لجلب المنافع ودفع المضار ؛ لأنه عبادة يثاب عليها الداعي، ولا يحصل بها جلب المنافع ودفع المضار، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وإذا ارتاضت نفس العبد على الطاعة، وانشرحت بها، وتنعمت بها، وبادرت إليها طواعية، ومحبة: كان أفضل ممن يجاهد نفسه على الطاعات ويكرهها عليها. وهو قول الجنيد وجماعة من عباد البصرة، والتكبير مشروع في الأماكن العالية وحال ارتفاع العبد، وحيث يقصد الإعلان: كالتكبير في الأذان والأعياد وإذا علا شرفا، وإذا رقى الصفا والمروة، وإذا ركب دابة، والتسبيح في الأماكن المنخفضة، كما في السنن عن جابر: { كنا مع النبي فإذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك }. وفي نهيه عن قراءة القرآن في الركوع والسجود دليل على أن القرآن أشرف الكلام، إذ هو كلام الله، وحالة الركوع والسجود ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب منع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين والانتظار أولى.

باب ما يبطل الصلاة وما يكره فيها

والنفخ إذا بان منه حرفان هل تبطل الصلاة به أم لا ؟ في المسألة عن مالك وأحمد روايتان، وظاهر كلام أبي العباس ترجيح عدم الإبطال. والسعال، والعطاس، والتثاؤب، والبكاء، والتأوه، والأنين الذي يمكن دفعه، فهذه الأشياء كالنفخ، فالأولى أن لا تبطل، فإن النفخ أشبه بالكلام من هذه والأظهر أن الصلاة تبطل بالقهقهة إذا كان فيها أصوات عالية تنافي الخشوع الواجب في الصلاة، وفيها من الاستخفاف والتلاعب ما يناقض مقصود الصلاة فأبطلت لذلك لا لكونها كلاما. ويقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب الأسود، والبهيم، وهو مذهب أحمد رحمه الله.

والمشهور عن الأئمة إذا غلب الوسواس على أكثر الصلاة أنها لا تبطل، ويسقط الفرض بذلك. وقال أبو حامد الغزالي في " الإحياء " وتبعه ابن الجوزي: تبطل، وعلى الأول لا يثاب إلا على ما علمه بقلبه فلا يكفر من سيئاته إلا بقدره، فالباقي يحتاج إلى تكفير، فإذا ترك واجبا استحق العقوبة. فإذا كان له تطوع سد مسده، فكمل ثوابه، وهذا كلام المؤمن الذي يقصد العبادة لله بقلبه مع الوسواس، وأما المنافق الذي لا يصلي إلا رياء وسمعة فهذا عمله حابط لا يحصل به ثواب، ولا يرتفع به عقاب، وابن حامد ونحوه سدد بين النوعين. فإن كليهما إنما تسقط عنه الصلاة القتل في الدنيا من غير أن تبرأ ذمته، ولا ترفع عنه عقوبة الآخرة، والتسوية بين المؤمن والمنافق في الصلاة خطأ.

ولا بأس بالسلام على المصلي إن كان يحسن الرد بالإشارة، وقاله طائفة من العلماء، ولا يثاب على عمل مشوب إجماعا، ومن صلى لله ثم حسنها وأكملها للناس أثيب على ما أخلصه لله لا على ما عمله للناس، ولا يظلم ربك أحدا.

ولا تبطل الصلاة بكلام الناسي والجاهل، وهو رواية عن أحمد ولا مما إذا أبدل ضادا بظاء، وهو وجه في مذهب أحمد، وقاله طائفة من العلماء. ولا بأس بالقراءة لحنا غير مخل للمعنى عجزا، وقد أمر النبي أن يذهب إلى النعل، فيأخذه ويقتل به الحية أو العقرب، ثم يعيده إلى مكانه، وكذلك سائر ما يحتاج إليه المصلي من الأفعال، وكان أبو برزة ومعه فرسه وهو يصلي كلما خطا يخطو معه خشية أن ينفلت. وقال أحمد: إن فعل كما فعل أبو برزة فلا بأس، وظاهر مذهب أحمد وغيره أن هذا لا يقدر بثلاث خطوات ولا ثلاث فعلات، كما مضت به السنة، ومن قيدها بثلاث كما يقوله أصحاب الشافعي وأحمد، فإنما ذلك إذا كانت متصلة، وأما إذا كانت موقوفة فيجوز وإن زادت على ثلاث، والله أعلم.

باب سجود التلاوة

قال أبو العباس: والذي تبين لي أن سجود التلاوة واجب مطلقا في الصلاة وغيرها، وهو رواية عن أحمد، ومذهب طائفة من العلماء، ولا يشرع فيه تحريم ولا تحليل هذا هو السنة المعروفة عن النبي وعليها عامة السلف. وعلى هذا فليس هو صلاة فلا يشترط له شروط الصلاة، بل يجوز على غير طهارة، واختارها البخاري لكن السجود بشروط الصلاة أفضل، ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر، فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به، لكن يقال إنه لا يجب في هذا الحال. كما لا يجب على السامع إذا لم يسجد قارئ السجود، وإن كان ذلك السجود جائزا عند جمهور العلماء والأفضل أن يسجد عن قيام، وقاله طائفة من أصحاب أحمد، والشافعي. وسجود الشكر لا يفتقر إلى طهارة: كسجود التلاوة، ووافق أبو العباس على سجود السهو في اشتراط الطهارة. ولو أراد الإنسان الدعاء فعفر وجهه لله في التراب، وسجد له ليدعوه، فهذا سجود لأجل الدعاء ولا شيء يمنعه، وابن عباس سجد سجودا مجردا لما جاء نعي بعض أزواج النبي ، وقد قال : { إذا رأيتم آية فاسجدوا } وهذا يدل على أن السجود يشرع عند الآيات، فالمكروه هو. ومن البدع إن صلى الصبح أو غيرها من الصلوات سجد بعد فراغه منها وقبل الأرض، وذكر غير واحد من العلماء أن هذا السجود من المنكرات، وأما تقبيل الأرض، ونحو ذلك، مما فيه السجود مما يفعل قدام بعض الشيوخ وبعض الملوك فلا يجوز، بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضا، أما إذا أكره على ذلك بحيث إنه لو لم يفعله يحصل له ضرر فلا بأس، وأما إن فعل لنيل الرياسة وإلمام فحرام.

باب سجود السهو

يشرع للسهو لا للعمد عند الجمهور، ومن شك في عدد الركعات بنى على غالب ظنه وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهما، وعلى هذا عامة أمور الشرع، ويقال مثله في الطواف، والسعي، ورمي الجمار، وغير ذلك، وأظهر الأقوال. وهو رواية عن أحمد فرق بين الزيادة والنقص، وبين الشك مع التحري والشك مع البناء على اليقين فإذا كان السجود لنقص كان قبل السلام ؛ لأنه جابر ليتم الصلاة به، وإن كان لزيادة كان بعد السلام لأنه إرغام للشيطان لئلا يجمع بين زيادتين في الصلاة، كذلك إذا شك وتحرى فإنه يتم صلاته، وإنما السجدتان إرغام للشيطان فتكونان بعده. وكذلك إذا سلم وقد بقي عليه بعض صلاته ثم أكملها فقد أتمها، والسلام فيها زيادة، والسجود في ذلك بعد السلام ترغيما للشيطان، وأما إذا شك ولم يبن له الراجح فيعمل هنا على اليقين، فإما أن يكون صلى خمسا أو أربعا فإن كان صلى خمسا فالسجدتان يشفعان له صلاته ليكون كأنه صلى لله ستا لا خمسا. وهذا إنما يكون قبل السلام فهذا الذي بصرناه يستعمل فيه جميع الأحاديث الواردة في ذلك، وما شرع قبل السلام يجب فعله قبل السلام، وما شرع بعد السلام لا يفعل إلا بعده وجوبا، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وعليه يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة، وهل يتشهد ويسلم إذا سجد بعد السلام فيه ثلاثة أقوال: ثالثها المختار يسلم، ولا يتشهد، وهو قول ابن سيرين. ووجه في مذهب أحمد والأحاديث الصحيحة تدل على ذلك. والتكبير لسجود السهو ثابت في الصحيحين عن النبي وهو قول عامة أهل العلم وإن نسي سجود السهو سجد ولو طال الفصل وتكلم أو خرج من المسجد وهو رواية عن أحمد.

باب صلاة التطوع

والتطوع يكمل به صلاة الفرض يوم القيامة إن لم يكن المصلي أتمها وفيه حديث مرفوع رواه أحمد في المسند، وكذلك الزكاة وبقية الأعمال. واستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلا ونهارا أفضل من جهاد لم يذهب فيه نفسه وماله، والعبادة في غيره تعدل الجهاد للأخبار الصحيحة المشهورة، وقد رواها أحمد وغيره. والعمل بالقوس والرمح أفضل من الرباط في الثغر وفي غيره نظيرها ومن طلب العلم أو فعل غيره مما هو آجر في نفسه لما فيه من المحبة له لا لله ولا لغيره من الشركاء فليس مذموما بل قد يثاب بأنواع من الثواب إما بزيادة فيها، وفي أمثالها فتنعم بذلك، وإما بغير ذلك. وتعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد، وأنه من أنواع الجهاد من جهة أنه من فروض الكفايات. وأشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فذنبه من جنس ذنب اليهود. والمتأخرون من أصحابنا أطلقوا القول بأن أفضل ما تطوع به الجهاد، وذلك لمن أراد أن يفعله تطوعا باعتبار أنه ليس بفرض عين عليه بحيث إن الفرض قد سقط عنه وإذا باشره، وقد سقط الفرض عنه، فهل يقع فرضا أو نفلا على وجهين كالوجهين في صلاة الجنازة إذا أعادها بعد أن صلاها غيره، وانبنى على الوجهين في صلاة الجنازة جواز فعلها بعد الفجر والعصر مرة ثانية، والصحيح أن ذلك يقع فرضا وأنه يجوز فعلها بعد الفجر والعصر، وإن كان ابتداء الدخول في ذلك تطوعا كما في التطوع الذي يلزم بالشروع فإنه كان نفلا ثم يصير إتمامه فرضا. والطواف بالبيت أفضل من الصلاة فيه، وهو قول العلماء والذكر بقلب أفضل من القرآن بلا قلب. وقال أبو العباس: في رده على الرافضي بعد أن ذكر تفضيل أحمد للجهاد والشافعي للصلاة وأبي حنيفة، ومالك للعلم: والتحقيق أنه لا بد لكل من الآخرين، وقد يكون كل واحد أفضل في حال كفعل النبي وخلفائه بحسب المصلحة والحاجة ويوافق هذا قول إبراهيم بن جعفر لأحمد الرجل يبلغني عنه صلاح، فأذهب فأصلي خلفه قال: قال لي أحمد: انظر إلى ما هو أصلح لقلبك فافعله. وقال الإمام أحمد: معرفة الحديث والفقه أعجب إلي من حفظه. ويجب الوتر على من يتهجد بالليل، وهو مذهب بعض من يوجبه مطلقا ويخير في الوتر بين فصله ووصله، وفي دعائه بين فعله وتركه، والوتر لا يقضى إذا فات لفوات المقصود منه بفوات وقته، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ولا يقنت في غير الوتر، إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة فيقنت كل مصل في جميع الصلوات، لكنه في الفجر والمغرب آكد بما يناسب تلك النازلة، وإذا صلى قيام رمضان فإن قنت جميع الشهر، أو نصفه الأخير، أو لم يقنت بحال فقد أحسن والتراويح إن صلاها كمذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد: عشرين ركعة أو: كمذهب مالك ستا وثلاثين، أو ثلاث عشرة، أو إحدى عشرة فقد أحسن. كما نص عليه الإمام أحمد لعدم التوقيف فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره، ومن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة، ويقرأ أول ليلة من رمضان في العشاء الآخرة سورة ( القلم ) لأنها أول ما نزل، ونقله إبراهيم بن محمد الحارث عن الإمام أحمد، وهو أحسن مما نقله غيره أنه يبتدئ بها التراويح.

ومن السنن الراتبة قبل الظهر أربع، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وليس للعصر سنة راتبة وهو مذهب أحمد، وما تبين فعله منفردا كقيام الليل وصلاة الضحى ونحو ذلك إن فعل في جماعة في بعض الأحيان فلا بأس بذلك لكن لا يتخذ سنة راتبة.

وتستحب المداومة على صلاة الضحى إن لم يقم في ليلة، وهو مذهب بعض من يستحب المداومة عليها مطلقا. قلت: لكن أبو العباس له قاعدة معروفة وهي ما ليس من السنن الراتبة لا يداوم عليه حتى يلحق بالراتب كما نص الإمام أحمد على عدم سورة السجدة، وهل أتى يوم الجمعة، ولا يجوز التطوع مضطجعا لغير عذر، وهو قول جمهور العلماء.

وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء ومن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد وللمالكية وجهان في كراهتها، وكرهها مالك، وأما قراءة واحد والباقون يتسمعون له فلا يكره بغير خلاف وهي مستحبة، وهي التي كان الصحابة يفعلونها: كأبي موسى وغيره.

وتعليم القرآن في المسجد لا بأس به، إذا لم يكن فيه ضرر على المسجد وأهله، بل يستحب تعليم القرآن في المساجد. وقول الإمام أحمد في الرجوع إلى قول التابعي عام في التفسير وغيره. وقيام بعض الليالي كلها مما جاءت به السنة. وصلاة الرغائب بدعة محدثة لم يصلها النبي ولا أحد من السلف، وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل، وكان في السلف من يصلي فيها، لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة وكذلك الصلاة الألفية.

وتقول المرأة في سيد الاستغفار وما في معناه: " وأنا أمتك بنت أمتك أو بنت عبدك " ولو قالت: " وأنا عبدك " فله مخرج في العربية بتأويل شخص، وتكفير الطهارة، والصلاة، وصيام رمضان، وعرفة، وعاشوراء للصغائر فقط، وكذا الحج ؛ لأن الصلاة ورمضان أعظم منه وكثرة الركوع والسجود وطول القيام سواء في الفضيلة، وهو إحدى الروايات عن أحمد. ونص الإمام أحمد وأئمة الصحابة على كراهة صلاة التسبيح ولم يستحبها إمام، واستحبها ابن المبارك عن صفة لم يرد بها الخبر، فأما أبو حنيفة، والشافعي، ومالك: فلم يستحبوها بالكلية. وقال الشيخ أبو محمد المقدسي: لا بأس بها فإن الفضائل لا يشترط لها صحة الخبر، كذا قال أبو العباس: يعمل بالخبر الضعيف يعني أن النفس ترجو ذلك الثواب، أو ذلك العقاب، ومثله الترغيب والترهيب بالإسرائيليات، والمنامات، ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي لا الاستحباب ولا غيره، لكن يجوز ذكره في الترغيب والترهيب فيما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإنه ينفع ولا يضر، واعتقاد موجبه من قدر الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي، وقال أيضا في التيمم بضربتين: يعمل بالخبر الوارد فيه، ولو كان ضعيفا، وكذا من يشرع في عمل قد علم أنه مشروع، في الجملة فإذا رغب في بعض أنواعه بخبر ضعيف عمل به. أما إثبات سنة فلا وكل من عبد عبادة نهي عنها، ولم يعلم بالنهي لكن هي من جنس المأمور به: مثل الصلاة وقت النهي، وصوم العيد أثيب على ذلك. فصل: ولا نهي عند طلوع الشمس إلى زوالها يوم الجمعة ؛ وهو قول الشافعي وتقضى السنن الراتبة، ويفعل ما له سبب في أوقات النهي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار جماعة من أصحابنا وغيرهم، ويصلي صلاة الاستخارة وقت النهي في أمر يفوت بالتأخير إلى وقت الإباحة، ويستحب أن يصلي ركعتين عقب الوضوء ولو كان وقت النهي، وقاله الشافعية.

باب صلاة الجماعة

في حديث أبي هريرة، وأبي سعيد { تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة } وفي حديث ابن عمر: { بسبع وعشرين درجة } والثلاثة في الصحيح. وقد جمع بينهما بأن حديث الخمس والعشرين ذكر فيه الفضل الذي بين صلاة المنفرد والصلاة في الجماعة والفضل خمس وعشرون، وحديث السبعة والعشرين ذكر فيه صلاته منفردا وصلاته في الجماعة، فصار المجموع سبعا وعشرين ومن كانت عادته الصلاة في جماعة والصلاة قائما ثم ترك ذلك لمرض أو سفر فإنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم وكذلك من تطوع على الراحلة وقد كان يتطوع في الحضر فإنه يكتب له ما كان يعمل في الإقامة وأما من لم تكن عادته الصلاة في جماعة ولا الصلاة قائما إذا مرض أو سافر فصلى قاعدا أو وحده فهذا لا يكتب له مثل صلاة الصحيح المقيم. وقال أبو العباس في " الصارم المسلول ": خبر التفضيل في المعذور الذي تباح له الصلاة وحده، لقوله : { صلاة الرجل قاعدا على النصف ومضطجعا على النصف } فإن المراد به المعذور كما في الخبر أنه خرج على أصحابه وقد أصابهم وعك وهم يصلون قعودا، فقال ذلك، وذكر في موضع آخر، أن { من صلى قاعدا لغير عذر له أجر القائم }. والجماعة شرط للصلاة المكتوبة وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختارها ابن أبي موسى، وأبو الوفاء بن عقيل، ولو لم يمكنه الذهاب إلا بمشيه في ملك غيره فعل، فإذا صلى وحده لغير عذر لم تصح صلاته، وفي " الفتاوى المصرية ": وإذا قلنا هي واجبة على الأعيان، وهو المنصوص عن أحمد وغيره من أئمة السلف، وفيها الحديث، فهؤلاء تنازعوا فيما إذا صلى منفردا لغير عذر هل تصح صلاته ؟ على قولين: أحدهما: لا تصح، وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد ذكره القاضي في " شرح المذهب " عنهم. والثاني: تصح مع إثمه بالترك وهو المأثور عن أحمد، وقول أكثر أصحابه. وليس للإمام إعادة الصلاة مرتين، ولو جعل الثانية فائتة أو غيرها، والأئمة متفقون على أنه بدعة مكروهة، وفي " الفتاوى المصرية ": وإذا صلى الإمام بطائفة ثم صلى بطائفة أخرى تلك الصلاة بعينها لعذر جاز ذلك للعذر، مثل: صلاة الخوف ونحوها، ولا ينبغي له أن يفعل ذلك لغير عذر، ولا يعيد الصلاة من بالمسجد وغيره بلا سبب، وهو ظاهر كلام بعض أصحابنا، وذكره بعض الحنفية وغيرهم.

ومن نذر متى حفظ القرآن صلى مع كل صلاة فريضة أخرى، وحفظه لا يلزمه الوفاء به، فإنه منهي عنه، ويكفر كفارة يمين، ولا يدرك الجماعة إلا بركعة وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختارها جماعة من أصحابنا، وهو مذهب مالك، ووجه في مذهب الشافعي، واختاره الروياني. وأصح الطريقين لأصحاب أحمد: أنه يصح ائتمام القاضي بالمؤدي، وبالعكس، ولا يخرج عن ذلك ائتمام المفترض بالمتنفل ولو اختلفا، أو كان صلاة المأموم أقل، وهو اختيار أبي البركات وغيره، وحكى أبو العباس في صلاة الفريضة خلف صلاة الجنازة روايتين، واختار الجواز. وقال أبو العباس: سئلت عن ما يفعله الرجل شاكا في وجوبه على طريق الاحتياط، فهل يأتم به المفترض ؟ قال: قياس المذهب أنه يصح لأن الشاك يؤديها بنية الوجوب إذا احتاط، ويجزئه عن الواجب حتى لو تبين له فيما بعد الوجوب أجزأه كما قلنا في ليلة الإغماء وإن لم نقل بوجوب الصوم، وكما قلنا فيمن فاتته صلاة من خمس لا يعلم عينها، وكما قلنا فيمن شك في انتقاض وضوئه فتوضأ، وكذلك سائر صور الشك في وجوب طهارة، أو صيام ؛ أو زكاة، أو صلاة، أو نسك، أو كفارة أو غير ذلك، بخلاف ما لو اعتقد عدم الوجوب وأداه بنية النفل وعكسه، كما لو اعتقد الوجوب ثم تبين عدمه، فإن هذه خرج فيها خلاف في الحقيقة نفل، لكنها في اعتقاده واجبة والمشكوك فيها هي في قصده واجبة، والاعتقاد متردد. والمأموم إذا لم يعلم بحدث الإمام حتى قضيت الصلاة أعاد الإمام وحده، وهو مذهب أحمد وغيره. ويلزم الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره، وليس له أن يزيد على القدر المشروع، وينبغي أن يفعل غالبا ما كان النبي يفعله، ويزيد وينقص للمصلحة كما كان النبي يزيد وينقص أحيانا. والصلاة بالمسجد الحرام " بمائة ألف، وبمسجد المدينة " بألف، والصواب في " الأقصى " بخمسمائة.

والجن ليسوا كالإنس في الحد، والحقيقة، لكنهم يشاركونهم في جنس التكليف بالأمر، والنهي، والتحليل، والتحريم بلا نزاع بين العلماء، وكان أبو العباس إذا أتي بالمصروع وعظ من صرعه، وأمره ونهاه، فإن انتهى وأفاق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود، وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارقه ضربه على أن يفارقه، والضرب في الظاهر يقع على المصروع، وإنما يقع في المصروع، وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه، ولهذا لا يتألم من ضربه ويصحو.

ولا يقدم في الإمامة بالنسب وهو قول أبي حنيفة، ومالك، وأحمد. ويجب تقديم من قدمه الله ورسوله، ولو مع شرط الواقف بخلافه، فلا يلتفت إلى شرط يخالف شرط الله ورسوله، وإذا كان بين الإمام والمأموم معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء أو المذاهب لم ينبغ أن يؤمهم بالصلاة جماعة ؛ لأنها لا تتم إلا بالائتلاف، ولهذا قال : { لا تختلفوا فتختلف قلوبكم }، وإذا فعل الإمام ما يسوغ فيه الاجتهاد يتبعه المأموم فيه وإن كان هو لا يراه، مثل: القنوت في الفجر، ووصل الوتر، وإذا ائتم من يرى القنوت بمن لا يراه تبعه في تركه.

ولا تصح الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع والفسقة، مع القدرة على الصلاة خلف غيرهم، وتصح إمامة من عليه نجاسة يعجز عن إزالتها بمن ليس عليه نجاسة، ولو ترك الإمام ركنا يعتقده المأموم ولا يعتقده الإمام صحت صلاته خلفه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ومذهب مالك، واختيار المقدسي. وقال أبو العباس في موضع آخر: لو فعل الإمام ما هو محرم عند المأموم دونه مما يسوغ فيه الاجتهاد صحت صلاته خلفه، وهو المشهور عن أحمد، وقال في موضع آخر: إن الروايات المنقولة عن أحمد لا توجب اختلافا وإنما ظواهرها أن كل موضع يقطع فيه بخطإ المخالف تجب الإعادة، وما لا يقطع فيه بخطإ المخالف، لا تجب الإعادة وهو الذي تدل عليه السنة، والآثار، وقياس الأصول، وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء، ولم يتنازعوا في أنه لا ينبغي تولية الفاسق.

ولا يجوز أن يقدم العامي على فعل لا يعلم جوازه ويفسق به إن كان مما يفسق به، ذكره القاضي. وتصح صلاة الجمعة ونحوها قدام الإمام لعذر، وهو قول في مذهب أحمد من تأخر بلا عذر له، فلما أذن جاء فصلى قدامه عزر، وتصح صلاة الفذ لعذر، وقاله الحنفية، وإذا لم يجد إلا موقفا خلف الصف فالأفضل أن يقف وحده ولا يجذب من يصافه لما في الجذب من التصرف في المجذوب، فإن كان المجذوب يطيعه قائما أفضل له، وللمجذوب الاصطفاف مع بقاء فرجة أو وقوف المتأخر وحده. وكذلك لو حضر اثنان وفي الصف فرجة، فأيهما أفضل: وقوفهما جميعا، أو سد أحدهما الفرجة وينفرد الآخر ؟ رجح أبو العباس الاصطفاف مع بقاء الفرجة لأن سد الفرجة مستحب والاصطفاف واجب، وإذا ركع دون الصف، ثم دخل الصف بعد اعتدال الإمام كان ذلك سائغا، ومن أخر الدخول في الصلاة مع إمكانه حتى قضى القيام، أو كان القيام متسعا لقراءة الفاتحة ولم يقرأها ؛ فهذا تجوز صلاته عند جماهير العلماء، وأما الشافعي فعليه عنده أن يقرأ، وإن تخلف عن الركوع، وإنما تسقط قراءتها عنده عن المسبوق خاصة، فهذا الرجل كان حقه أن يركع مع الإمام ولا يتم القراءة لأنه مسبوق، والمرأة إذا كان معها امرأة أخرى تصاففها كان من حقها أن تقف معها وكان حكمها إن لم تقف معها حكم الرجل المنفرد عن صف الرجال وهو أحد القولين في مذهب أحمد وحيث صحت الصلاة عن يسار الإمام كرهت إلا لعذر.

والمأموم إذا كان بينه وبين الإمام ما يمنع الرؤية والاستطراق صحت صلاته، إذا كانت لعذر، وهو قول مذهب أحمد، بل نص أحمد وغيره.

وينشأ مسجد إلى جنب آخر، إذا كان محتاجا إليه، ولم يقصد الضرر، فإن قصد الضرر أو لا حاجة فلا ينشأ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، نقلها عنه محمد بن موسى، ويجب هدمه، وقاله أبو العباس فيما بنى بجوار جامع بني أمية.

ولا ينبغي أن يترك حضور المسجد إلا لعذر، كما دلت عليه السنن والآثار، ونهى عن اتخاذه بيتا مقيلا، قاله أحمد في رواية حارث، وقد سئل عن النساء يخرجن في العيد في زماننا قال: لا يعجبني هذا. انتهى. وبهذا يعلم سائر الصلوات والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب صلاة أهل الأعذار

متى عجز المريض عن الإيماء برأسه سقطت عنه الصلاة، ولا يلزمه الإيماء بطرفه، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، ويكره إتمام الصلاة في السفر قال أحمد: لا يعجبني، ونقل عن أحمد إذا صلى أربعا أنه توقف في الإجزاء، وتوقفه عن القول بالإجزاء يقتضي أنه يخرج على قولين في مذهبه، ولم يثبت أن أحدا من الصحابة كان يتم على عهد النبي في السفر. وحديث عائشة في مخالفة ذلك لا تقوم به الحجة، ويجوز قصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا سواء قل أو كثر، ولا يتقدر عده، وهو مذهب الظاهرية، ونصره صاحب " المغني " فيه، وسواء كان مباحا أو محرما، ونصره ابن عقيل في موضع، وقاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد، والشافعي، وسواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام، أو لا، وروي هذا عن جماعة من الصحابة. وقرر أبو العباس قاعدة نافعة وهي: أن ما أطلقه الشارع بعمل يطلق مسماه، ووجوده، لم يجز تقديره وتحديده بمدة، فلهذا كان الماء قسمين طاهرا طهورا، أو نجسا، ولا حد لأقل الحيض وأكثره ما لم تصر مستحاضة، ولا لأقل سنه، وأكثره، ولا لأقل السفر، أما خروجه إلى بعض علم أرضه، وخروجه إلى قباء فلا يسمى سفرا ولو كان بريدا ؛ ولهذا لا يتزود ولا يتأهب له أهبة السفر، هذا مع قصره المدة فالمسافة القريبة في المدة الطويلة سفر، لا البعيدة في المدة القليلة، ولا حد للدرهم والدينار، فلو كان أربعة دوانق أو ثمانية خالصا، أو مغشوشا، قل غشه أو كثر، لا درهما أسود عمل به في الزكاة والسرقة وغيرهما، ولا تأجيل في الدية، وأنه نص أحمد فيها ؛ لأن النبي لم يؤجلها، وإن رأى الإمام تأجيلها فعل ؛ لأن عمر أجلها فأيهما رأى الإمام فعل، وإلا فإيجاب أحد الأمرين لا يسوغ. والخلع فسخ مطلقا، والكفارة في كل أيمان المسلمين، وفروع هذه القاعدة مذكورة في هذا المختصر في مظانها. ويوتر المسافر ويركع سنة الفجر، ويسن تركه غيرهما، والأفضل له التطوع في غير السنن الراتبة، ونقله بعضهم إجماعا.

والجمع بين الصلاتين في السفر يختص بمحل الحاجة ؛ لأنه من رخص السفر من تقديم وتأخير، وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عليه. ويجمع لتحصيل الجماعة، وللصلاة في الحمام مع جوازها فيه خوف فوات الوقت، ولخوف يحرج في تركه. وفي الصحيحين: من حديث ابن عباس أنه سئل لما فعل ذلك قال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته. فلم يعلله بمرض ولا غيره، وأوسع المذاهب في الجمع مذهب أحمد ؛ فإنه جوز الجمع إذا كان له شغل، كما روى النسائي ذلك مرفوعا إلى النبي وأول القاضي وغيره نص أحمد على أن المرأة بالشغل الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة.

ولا موالاة في الجمع في وقت الأولى، وهو مأخوذ من نص الإمام أحمد في جمع المضطر إذا صلى إحدى الصلاتين في بيته، والأخرى في المسجد، فلا بأس ومن نصه في رواية أبي طالب والمروزي: للمسافر أن يصلي العشاء قبل أن يغيب الشفق. وعلله أحمد بأنه يجوز له الجمع، ويجمع ويقصر بمزدلفة وعرفة مطلقا، وهو مذهب مالك، وغيره من السلف، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، واختاره أبو الخطاب في عباداته.

ويجوز الجمع للمرضع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة، ونص عليه ويجوز الجمع أيضا للطباخ، والخباز، ونحوهما ممن يخشى فساد ماله، وقال غيره بترك الجمع، ولا يشترط للقصر والجمع نية، واختاره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره، وتصح صلاة الفرض على الراحلة خشية الانقطاع عن الرفقة أو حصول ضرر بالمشي، أو تبرز للخفر، ويصلي صلاة الخوف في الطريق إذا فات الوقوف بعرفة، وهو أحد الوجوه الثلاثة في مذهب أحمد.

باب اللباس

ولبس الحرير حيث يكون سدى بحيث يكون القطن، والكتان أغلى قيمة منه، وفي تحريمه إضرار بهم ؛ لأنه أرخص عليهم يخرج على وجهين لتعارض لفظ النص، ومعناه، كالروايتين في إخراج غير الأصناف الخمسة إذا لم يكن قوتا لذلك البلد، ولو كان الظهور للحرير وهو أقل من غيره ففيه ثلاثة أوجه التحريم: والكراهة، والإباحة. وحديث السيراء والقسي يستدل به على تحريم ما ظهر فيه خيوط حرير أو سيور لا بد أن ينسج مع غيرها من الكتان أو القطن لأن ما فيه الحرير، فالنبي حرمها لظهور الحرير فيها ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من القطن والكتان أكثر أم لا مع أن العادة أنه أقل فإن استويا فالأشبه بكلام أحمد التحريم، والثياب القسية: ثياب مخطوطة بحرير. قال البخاري في صحيحه ": قال عاصم: عن أبي بردة قلنا لعلي: ما القسية ؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير كأمثال الأترج. وقال أبو عبيد: هي ثياب يؤتى بها من مصر، فيها حرير. فقد اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير وليست حريرا مصمتا. وهذا هو الملحم، والخز أخف من وجهين: أحدهما: أن سداه من حرير، والسدى أيسر من اللحمة، وهو الذي بين ابن عباس جوازه بقوله: فأما العلم، والحرير، والسدى لثوب فلا بأس به. والثاني: أن الخز ثخين، والحرير مستور بالوبر فيه، فيصير بمنزلة الحشو. والخز اسم لثلاثة أشياء: للوبر الذي ينسج مع الحرير وهو وبر الأرنب، واسم لمجموع الحرير والوبر، واسم لرديء الحرير. فالأول، والثاني: حلال، والثالث: حرام، وجعل بعض أصحابنا المتأخرين الملحم، والقسي، والخز على الوجهين، وجعل التحريم قول أبي بكر ؛ لأنه حرم الملحم، والقسي، والإباحة قول ابن البناء ؛ لأنه أباح الخز، وهذا لا يصلح ؛ لأن أبا بكر قال: ويلبس الخز، ولا يلبس الملحم، ولا الديباج. وأما المنصوص عن أحمد وقدماء الأصحاب، فإباحة الخز دون الملحم، وغيره، فمن زعم أن في الخز خلافا فقد غلط. وأما لبس الرجال الحرير: كالكلوبة، والقباء: فحرام على الرجال بالاتفاق على الأجناد وغيرهم، لكن تنازع العلماء في لبسه عند القتال لغير ضرورة على قولين: أظهرهما الإباحة، وأما إن احتاج إلى الحرير في السلاح ولم يقم غيره مقامه فهذا يجوز بلا نزاع، وأما إلباسه الصبيان الذين دون البلوغ ففيه روايتان أظهرهما: التحريم. ولبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه، فإذا جاءت السنة بإباحة خاتم الفضة كان ذلك دليلا على إباحة ذلك، وما هو في معناه، وما هو أولى منه بالإباحة، وما لم يكن كذلك يحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه، وتباح المنطقة الفضة في أظهر قولي العلماء، وكذلك التركاشي، وغشاء القوس، والنشاب والجوشن، والقرقل، والخوذة، وكذلك حلية المهماز الذي يحتاج إليه لركوب الخيل، والكلاليب التي يحتاج إليها أولى بالإباحة من الخاتم فإن الخاتم يتخذ للزينة، وهذه للحاجة وهي متصلة بالسير ليست مفردة: كالخاتم ولا حد للمباح من ذلك، وذلك أن النبي لم يحرم لباس الفضة على الرجال وعلى النساء، وإنما حرم على الرجال لبس الذهب والحرير، وحرم آنية الذهب والفضة، والرخصة في اللباس أوسع من الآنية ؛ لأن حاجتهم إلى اللباس أشد، وتنازع العلماء في يسير الذهب في اللباس والسلاح على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره: أحدها: لا تباح. والثاني: تباح في السيف خاصة. والثالث: تباح في السلاح. وكان عثمان بن حنيف في سيفه مسمار من ذهب. والرابع: وهو الأظهر أنه يباح يسير الذهب في اللباس والسلاح، فيباح طراز الذهب إذا كان أربعة أصابع فما دونها، وخز القبان وحيلة القوس كالسرج والبردين ونحو ذلك، وحديث: { لا يباح من الذهب ولو خز بصيصة } وخز بصيصة: عين الجرادة ؛ محمول على الذهب المفرد: كالخاتم ونحوه، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده. وجعل القاضي، وابن عقيل تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال من قسم المكروه، والصحيح: أنه محرم، وحكى بعض أصحابنا التحريم رواية، وما كان من لبس الرجال مثل: العمامة، والخف، القباء الذي للرجال، والثياب التي تبدي مقاطع خلقها، والثوب الرقيق الذي لا يستر البشرة، وغير ذلك، فإن المرأة تنهى عنه، وعلى وليها كأبيها وزوجها أن ينهاها عن ذلك. وهذه العمائم التي تلبسها النساء على رءوسهن حرام بلا ريب. قال أبو العباس: وقد سئل عن لبس القباء. والنظري ليس له التشبيه في لباسه بلباس أعداء المسلمين. واللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء، والصوفية، والفقهاء، وغيرهم بحيث يصير شعارا فارقا كما أمر أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم، فيه مسألتان: المسألة الأولى: هل يشرع ذلك استحبابا لتميز الفقير والفقيه من غيره، فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك، وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وبثوب الشهرة. أقول هذا فيه تفصيل في كراهته وإباحته واستحبابه فإنه يجمع من وجه ويفرق من وجه. المسألة الثانية: إن لبس المرقعات، والمصبغات، والصوف من العباءة وغير ذلك: فالناس فيه على ثلاثة طرق: منهم من يكره ذلك مطلقا: إما لكونه بدعة، وإما لما فيه من إظهار الدين. ومنهم من استحبه بحيث يلزمه ويمتنع من تركه، وهو حال كثير ممن ينسب إلى الخرقة واللبسة، وكلا القولين والفعلين خطأ، والصواب: أنه جائز: كلبس غير ذلك، وأنه يستحب أن يرقع الرجل ثوبه للحاجة، كما رقع عمر بن الخطاب ثوبه، وعائشة، وغيرهما من السلف، وكما لبس قوم الصوف للحاجة، ويلبس أيضا للتواضع والمسكنة مع القدرة على غيره، كما جاء في الحديث: { من ترك جيد اللباس وهو يقدر كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة } فأما تقطيع الثوب الصحيح وترقيعه، فهذا فساد وشهرة. وكذلك تعمد صبغ الثوب لغير فائدة، أو حك الثوب ليظهر التحتاني، أو المغالاة في الصوف الرفيع، ونحو ذلك مما فيه إفساد المال ونقص قيمته أو فيه إظهار التشبه بلباس أهل التواضع والمسكنة مع ارتفاع قيمته وسعره، فإن هذا من النفاق والتلبيس، فهذان النوعان فيهما إرادة العلو في الأرض، أو الفساد، والدار الآخرة للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، مع ما في ذلك من النفاق، وأيضا فالتقييد بهذه اللبسة بحيث يكره اللابس غيرها أو يكره أصحابه أن لا يلبسوا غيرها، هو أيضا منهي عنه، وليس للإنسان أن يطول القميص والسراويل، وسائر اللباس أسفل من الكعبين ".

باب صلاة الجمعة

وتجب الجمعة على من أقام في غير بناء كالخيام، وبيوت الشعر ونحوها وهو أخذ في قول الشافعي، وحكى الأزجي رواية عن أحمد ليس على أهل البادية جمعة ؛ لأنهم ينتقلون فأسقطها عنهم، وعلل بأنهم غير مستوطنين. وقال أبو العباس في موضع آخر: يشترط مع إقامتهم في الخيام ونحوها أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية، ويحتمل أن تلزم الجمعة مسافرا له القصر تبعا للمقيمين، وتنعقد الجمعة بثلاثة: واحد يخطب واثنان يستمعان، وهو إحدى الروايات عن أحمد. وقول طائفة من العلماء، وقد يقال بوجوبها على الأربعين ؛ لأنه لم يثبت وجوبها على من دونهم، وتصح ممن دونهم ؛ لأنه انتقال إلى أعلى الفرضين: كالمريض، بخلاف المسافر فإن فرضه ركعتان ولا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت، بل لا بد من مسمى الخطبة عرفا، ولا تحصل باختصار يفوت به المقصود، ويجب في الخطبة أن يشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأوجب أبو العباس في موضع آخر الشهادتين، وتردد في وجوب الصلاة على النبي في الخطبة. قال في موضع آخر: ويحتمل وهو الأشبه أن تجب الصلاة عليه فيها ولا تجب مفردة، لقول عمر وعلي: الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك . وتقدم الصلاة عليه على الدعاء لوجوب تقديمه على النفس، وأما الأمر بتقوى الله فالواجب أما معنى ذلك وهو الأشبه من أن يقال الواجب لفظ التقوى. ومن أوجب لفظ التقوى فقد يحتج بأنها جاءت بهذا اللفظ في قوله تعالى: { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } وليست كلمة أجمع لما أمر الله من كلمة التقوى، قال الإمام أحمد في قوله تعالى: { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون }: أجمع الناس أنها نزلت في الصلاة. وقد قيل في الخطبة: والصحيح أنها نزلت في ذلك كله، وظاهر كلام أبي العباس أنها تدل على وجوب الاستماع، وصرح بأنها تدل على وجوب القراءة في الخطبة ؛ لأن كلمة إذا إنما تقولها العرب فيما لا بد من وقوعه، لا فيما يحتمل الوقوع وعدمه ؛ لأن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالبا والظرف للفعل لا بد أن يشتمل على الفعل وإلا لم يكن ظرفا والسنة في الصلاة على النبي أن يصلي عليه سرا كالدعاء، أما رفع الصوت بها قدام بعض الخطباء فمكروه، أو محرم اتفاقا، لكن منهم من يقول: يصلي عليه سرا، ومنهم من يقول: يسكت، ودعاء الإمام بعد صعوده لا أصل له، ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة وهو أصح الوجهين لأصحابنا ؛ لأن النبي إنما كان يشير بأصبعه إذا دعا. وأما في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر. ويقرأ في أولى فجر الجمعة ألم السجدة، وفي الثانية { هل أتى على الإنسان } ويكره مداومته عليهما، وهو منصوص أحمد وغيره، ويكره تحري سجدة غيرها، والسنة إكمال السجدة، و { هل أتى }.

وصلاة الركعتين قبل الجمعة حسنة مشروعة، ولا يداوم عليها إلا لمصلحة ويحرم تخطي رقاب الناس. وقال أبو العباس في موضع آخر: ليس لأحد أن يتخطى الناس ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فرجة، لا يوم الجمعة ولا غيره ؛ لأن هذا من الظلم والتعدي لحدود الله تعالى، وإذا فرش مصلى ولم يجلس عليه ليس له ذلك ولغيره رفعه في أظهر قولي العلماء، وإذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزى بالعيد وصلى ظهرا جاز إلا للإمام وهو مذهب أحمد. وأما القصاص الذين يقومون على رءوس الناس ثم يسألون فهؤلاء منعهم من أهم الأمور، فإنهم يكذبون ويتخطون الناس ويشغلون عما يشرع في الصلاة والقراءة والدعاء لا سيما إن قصوا أو سألوا، والإمام يخطب فإن هذا من المنكرات الشنيعة التي ينبغي إزالتها باتفاق الأئمة، وينبغي لولاة الأمور أن يمنعوا من هذه المنكرات كلها فإنهم متصدون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

باب صلاة العيدين

وهي فرض عملي، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، وقد يقال بوجوبها على النساء، ومن شرطها الاستيطان وعدد الجمعة، ويفعلها المسافر والعبد والمرأة تبعا، ولا يستحب قضاؤها لمن فاتته منهم، وهو قول أبي حنيفة، ويستفتح خطبتها بالحمد لله ؛ لأنه لم ينقل عن النبي أنه افتتح خطبة بغيرها.

والتكبير في عيد الأضحى مشروع باتفاق، وكذا مشروع في عيد الفطر عند مالك، والشافعي، وأحمد. وذكر الطحاوي ذلك مذهبا لأبي حنيفة وأصحابه، والمشهور عنهم خلافه، والتكبير فيه هو المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم، والتكبير فيه آكد من جهة أمر الله به والتكبير أوله من رؤية الهلال وآخره انقضاء العيد، وهو فراغ الإمام من الخطبة على الصحيح، والتكبير في عيد النحر آكد من جهة أنه يشرع أدبار الصلاة، وأنه متفق عليه، وعيد النحر أفضل من عيد الفطر، ومن سائر الأيام.

والاستغفار المأثور عقيب الصلوات، وقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال الإكرام، هل يقدم على التكبير والتلبية أم يقدمان عليه كما يقدم عليه سجود السهو ؟ وبيض لذلك أبو العباس والذي يدل عليه كلام أحمد في أكثر المواضع، وهو الذي تدل عليه السنة وآثار السلف أن الاجتماع على الصلاة، أو القراءة وسماعها، أو ذكر الله تعالى، أو دعائه، أو تعليم العلم، أو غير ذلك نوعان: نوع شرع اجتماع له على وجه المداومة، وهو قسمان: قسم يدور بدوران الأوقات: كالجمعة، والعيدين، والحج، والصلوات الخمس، أو يتكرر بتكرر الأسباب: كصلاة الاستسقاء، والكسوف، والآيات، والقنوت في النوازل. والمؤقت فرضه ونفله إما أن يعود بعود اليوم وهو الذي يسمى عمل يوم وليلة: كالصلوات الخمس وسننها: الرواتب، والوتر، والأذكار، والأدعية المشروعة طرفي النهار وزلفا من الليل، وإما أن يعود بعود الأسبوع: كالجمعة، وصوم الاثنين، والخميس، وإما أن يعود بعود الشهر: كصيام أيام البيض، أو ثلاثة أيام من كل شهر، والذكر المأثور عند رؤية الهلال، وإما أن يعود بعود الحلول: كصيام شهر رمضان، والعيدين، والحج. والمتسبب ما له سبب وليس له وقت محدود: كصلاة الاستسقاء، والكسوف، وقنوت النوازل. وما لم يشرع فيه الجماعة: كصلاة الاستخارة، وصلاة التوبة، وصلاة الوضوء، وتحية المسجد، ونحو ذلك مما لم يذكر نوعه في باب صلاة التطوع، والأوقات المنهي عن الصلاة فيها. والنوع الثاني: ما لم يسن له الاجتماع المعتاد الدائم: كالتعريف في الأمصار، والدعاء المجتمع عليه عقب الفجر، والعصر، والصلاة، والتطوع المطلق في جماعة، والاجتماع لسماع القرآن وتلاوته، أو سماع العلم، والحديث، ونحو ذلك، فهذه الأمور لا يكره الاجتماع لها مطلقا، ولم يسن مطلقا، بل المداومة عليها بدعة فيستحب أحيانا، ويباح أحيانا وتكره المداومة عليها، وهذا هو الذي نص عليه أحمد في الاجتماع على الدعاء، والقراءة، والذكر، ونحو ذلك، والتفريق بين السنة والبدعة في المداومة أمر عظيم ينبغي التفطن له.

باب صلاة الكسوف

ويجهر بالقراءة في صلاة الكسوف ولو نهارا، وهو مذهب أحمد وغيره. وتصلى صلاة الكسوف لكل آية كالزلزلة وغيرها، وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وقول محققي أصحابنا وغيرهم، ولا كسوف إلا في ثامن وعشرين، أو تاسع وعشرين، ولا خسوف إلا في إبدار القمر، والتوسل بالنبي كمسألة اليمين به والتوسل بالإيمان به، وطاعته ومحبته، والصلاة والسلام عليه وبدعائه وشفاعته مما هو فعله، أو أفعال العباد المأمور بها في حقه مشروع إجماعا وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله: { اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة }. وقصد القبر للدعاء عنده رجاء الإجابة بدعة لا قربة باتفاق الأئمة، وقول القائل: أنا في بركة فلان وتحت نظره إن أراد بذلك أن نظره وبركته مستقلة بتحصيل المصالح، ودفع المضار، فكذب وإن أراد أن فلانا دعا لي فانتفعت بدعائه، أو أنه علمني وأدبني فأنا في بركة ما انتفعت به من تعليمه وتأديبه فصحيح. وإن أراد بذلك أنه بعد موته يجلب المنافع، ويدفع المضار، أو مجرد صلاحه ودينه وقربه من الله ينفعني من غير أن يطيع الله فكذب.