الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية/كتاب القضاء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي الدمشقي الحنبلي


كتاب القضاء


وقد أوجب النبي تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر فهو تنبيه على أنواع الاجتماع. والواجب اتخاذه ولاية القضاء دينا وقربة فإنها من أفضل القربات وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها ومن فعل ما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه وما يستفيده المتولي بالولاية لا حد له شرعا بل يتلقى من اللفظ والأحوال والعرف وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعا والولاية لها ركنان القوة والأمانة فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل بتنفيذ الحكم والأمانة ترجع إلى خشية الله تعالى ويشترط في القاضي أن يكون ورعا. والحاكم فيه صفات ثلاث فمن جهة الإثبات هو شاهد ومن جهة الأمر والنهي هو صفة ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد لأنه لا بد أن يحكم بعدل ولا يجوز الاستفتاء إلا ممن يفتي بعلم وعدل وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره فيولي لعدمه أنفع الفاسقين وأقلهما شرا وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد وإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع وفيما ندر حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم. وأكثر من يميز في العلم من المتوسطين إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام ترجح عنده أحدهما لكن قد لا يثق بنظره بل يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه فالواجب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى منه للاجتهاد كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة إذا ترجح عنده أحدهما قلده والدليل الخاص الذي يرجح به قول على قول أولى بالاتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم وأدين وعلم الناس بترجيح قول على قول أيسر من علم أحدهم بأن أحدهما أعلم وأدين لأن الحق واحد ولا بد ويجب أن ينصب على الحكم دليلا وأدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع وتكلم الصحابة فيها وإلى اليوم بقصد حسن بخلاف الإمامية. وقال أبو العباس: النبيه الذي سمع اختلاف العلماء وأداءهم في الجملة وعنده ما يعرف به رجحان القول وليس للحاكم وغيره أن يبتدئ الناس بقهرهم على ترك ما يشرع وإلزامهم برأيه اتفاقا ولو جاز هذا لجاز لغيره مثله وأفضى إلى التفرق والاختلاف وفي لزوم التمذهب بمذهب وامتناع الانتقال إلى غيره وجهان في مذهب أحمد وغيره وفي القول بلزوم طاعة غير النبي في كل أمره ونهيه وهو خلاف الإجماع وجوازه فيه ما فيه. ومن أوجب تقليد إمام بعينه استتيب فإن تاب وإلا قتل وإن قال ينبغي كان جاهلا ضالا ومن كان متبعا لإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل أو لكون أحدهما أعلم وأتقى فقد أحسن. وقال أبو العباس: في موضع آخر بل يجب عليه وإن أحمد نص عليه ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع. وكره العلماء الأخذ بالرخص ولا يجوز التقليد مع معرفة الحكم اتفاقا وقبله لا يجوز على المشهور إلا أن يضيق الوقت ففيه وجهان أو يعجز عن معرفة الحق بتعارض الأدلة ففيه وجهان فهذه أربع مسائل والعجز قد يعني به العجز الحقيقي وقد يعني به المشقة العظيمة والصحيح الجواز في هذين الموضعين.

والقضاء نوعان إخبار هو إظهار وإبداء ؛ وأمر هو إنشاء وابتداء. فالخبر ثبت عندي ويدخل فيه خبره عن حكمة وعن عدالة الشهود وعن الإقرار والشهادة. والآخر وهو حقيقة الحكم أمر ونهي وإباحة ويحصل بقوله: أعطه ولا تكلمه أو الزمه وبقوله حكمت وألزمت. قال الحاكم: ثبت عندي بشهادتهما فهذا فيه وجهان أحدهما أن ذلك حكم كما قاله ابن عقيل وغيره. وفعل الحاكم حكم في أصح الوجهين في مذهب أحمد وغيره والوكالة يصح قبولها على الفور والتراخي بالقول والفعل والولاية نوع منها قال القاضي في التعليق إذا استأذن امرأة في غير عمله ليزوجها فأذنت له فزوجها في عمله لم يصح العقد لأن إذنها يتعلق بالحكم وحكمه في غير عمله لا ينفذ، فإن قالت إذا حصلت في عملك فقد أذنت لك فزوجها في عمله صح بناء على جواز تعليق الوكالة بالشرط ومن شرط جواز العقد عليها أن تكون في عمله حين العقد عليها فإن كانت في غير محله لم يصح عقده لأنه حكم على من ليس في عمله. قال أبو العباس: لا فرق بين أن تقول زوجني إذا صرت في عملك أو إذا صرت في عملك فزوجني لأن تقييد الوكالة أحسن حالا من تعليقها نعم لو قالت زوجني الآن أو فهم ذلك من إذنها فهنا أذنت لغير قاض وهذا هو مقصود القاضي. قال في المحرر ويجوز أن يولي قاضيين في بلد واحد وقيل إن ولاهما فيه عملا واحدا لم يجز. قال أبو العباس: تولية قاضيين في بلد واحد إما أن يكون على سبيل الاجتماع بحيث ليس لأحدهما الانفراد كالوصيين والوكيلين وإما على طريق الانفراد. أما الأول فليس هو مسألة الكتاب ولا مانع منه إذا كان فوقهما من يرد مواضع تنازعهما وأما الثاني فهو مسألة الكتاب. وتثبت ولاية القضاء بالأخبار وقصة ولاية عمر بن عبد العزيز هكذا كانت. وإذا استناب الحاكم في الحكم من غير مذهبه إن كان لكونه أرجح فقد أحسن وإلا لم تجز الاستنابة. وإذا حكم أحد الخصمين خصمه جاز لقصة ابن مسعود وكذا مفت في مسألة اجتهادية وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما أو يكفي وصف القصة له الأشبه أنه لا يفتقر بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزمه فإن أراد أحدهما الامتناع فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود. قال القاضي في التعليق وعلى أن الحدود تدخل في ولاية القضاء فمن لا يصلح لبعض ما تتضمنه الولاية لا يصلح لشيء منها ولا تنعقد الولاية له. قال أبو العباس: وكلام أحمد في تزويج الدهقان وتزويج الوالي صاحب الحسير يخالف هذا وولاية القضاء يجوز تبعيضها ولا يجب أن يكون عالما بما في ولايته فإن منصب الاجتهاد ينقسم حتى لو ولاه في المواريث لم يجب أن يعرف إلا الفرائض والوصايا وما يتعلق بذلك وإن ولاه عقد الأنكحة وفسخها لم يجب أن يعرف إلا ذلك وعلى هذا فقضاة الأطراف يجوز أن لا يقضي في الأمور الكبار والدماء والقضايا المشكلة وعلى هذا فلو قال اقض فيما تعلم كما يقول له أفت فيما تعلم جاز ويبقى ما لا يعلم خارجا عن ولايته كما يقول في الحاكم الذي ينزل على حكمه الكفار وفي الحاكم في جزاء الصيد قال في المحرر وغيره

ويشترط في القاضي عشر صفات. قال أبو العباس: هذا الكلام إنما اشترطت هذه الصفات فيمن يولى لا فيمن يحكمه الخصمان وذكر القاضي أن الأعمى لا يجوز قضاؤه وذكره محل وفاق قال وعلى أنه لا يمتنع أن يقول إذا تحاكما به ورضيا به جاز حكمه. قال أبو العباس: هذا الوجه قياس المذهب كما يجوز شهادة الأعمى إذ لا يعوزه إلا معرفة عين الخصم ولا يحتاج إلى ذلك بل يقضي على موصوف كما قضى داود بين المالكين ويتوجه أن يصح مطلقا ويعرف بأعيان الشهود والخصوم كما يعرف بمعاني كلامهم في الترجمة إذ معرفة كلامه وعينه سواء وكما يجوز أن يقضي على غائب باسمه ونسبه وأصحابنا قاسوا شهادة الأعمى على الشهادة على الغائب والميت وأكثر ما في الموضعين عند الرواية، والحكم لا يفتقر إلى الرؤية بل هذا في الحاكم أوسع منه في الشاهد بدليل الترجمة والتعريف بالحكم دون الشهادة وما به يحكم أوسع مما به يشهد ولا تشترط الحرية في الحاكم واختاره أبو الخطاب وابن عقيل قال وفي المحرر وفي العزل حيث قلنا به قبل العلم وجهان كالوكيل. قال أبو العباس: الأصوب أنه لا ينعزل هنا وإن قلنا ينعزل الوكيل لأن الحق في الولاية لله وإن قلنا هو وكيل والنسخ في حقوق الله لا يثبت قبل العلم كما قلنا على المشهور إن نسخ الحكم لا يثبت في حق من لم يبلغه وفرقوا بينه وبين الوكيل بأن أكثر ما في الوكيل ثبوت الضمان وذلك لا ينافي الجهل بخلاف الحكم فإن فيه الإثم وذلك ينافي الجهل كذلك الأمر والنهي وهذا هو المنصوص عن أحمد. ونص الإمام أحمد على أن للقاضي أن يستخلف من غير إذن الإمام فرقا بينه وبين الوكيل وجعلا له كالوصي إلا أنه لا يكره للحاكم شراء ما يحتاجه في مظنة المحاباة والاستغلال والتبدل، قال القاضي في التعليق قاسه المخالف على الوصي في مباشرة البيع فإنه لا يحابي في العادة والقاضي بخلافه ولا يكره له البيع في مجلس فتياه ولا يكره له قبول الهدية بخلاف القاضي. قال أبو العباس: هذا فيه نظر وتفصيل، فإن العالم في هديته ومعاملته شبيه بالقاضي، وفيه حكايات عن أحمد والعالم لا يعتاض على تعليمه.

والقضاة ثلاثة من يصلح ومن لا يصلح والمجهول فلا يرد من أحكام من يصلح إلا ما علم أنه باطل ولا ينفذ من أحكام من لا يصلح إلا ما علم أنه حق واختار صاحب المغني وغيره إن كان توليته ابتداء، وأما المجهول فينظر فيمن ولاه، وإن كان يولي هذا تارة وهذا تارة نفذ ما كان حقا ورد الباطل، والباقي موقوف، وبين لا يصلح إذا للضرورة ففيه مسألتان: إحداهما: على القول بأن من لا يصلح تنقض جميع أحكامه هل ترد أحكام هذا كلها أم يرد ما لم يكن صوابا. والثاني المختار لأنها ولاية شرعية. والثانية: هل تنفذ المجتهدات من أحكامه أم يتعقبها العالم العادل هذا فيه نظر. وإن أمكن القاضي أن يرسل إلى الغائب رسولا ويكتب إليه الكتاب والدعوى ويجاب عن الدعوى بالكتاب والرسول فهذا هو الذي ينبغي كما فعل النبي بمكاتبة اليهود لما ادعى الأنصاري، عليهم قتل صاحبهم وكاتبهم ولم يحضروه، وهكذا ينبغي أن في كل غائب طلب إقراره أو إنكاره إذا لم يقم الطالب بينة وإن أقام بينة فمن الممكن أيضا أن يقال إذا كان الخصم في البلد لم يجب عليه حضور مجلس الحاكم بل يقول أرسلوا إلى من يعلمني بما يدعي به علي، وإذا كان لا بد للقاضي من رسول إلى الخصم يبلغه الدعوى بحضوره، فيجوز أن يقوم مقامه رسول فإن المقصود من حضور الخصم سماع الدعوى ورد الجواب بإقرار أو إنكار، وهذا نظير ما نص عليه الإمام أحمد من أن النكاح يصح بالمراسلة مع أنه في الحضور لا يجوز تراخي القبول عن الإيجاب تراخيا كثيرا ففي الدعوى يجوز أن يكون واحدا لأنه نائب الحاكم كما كان أنيس نائب النبي في إقامة الحد بعد سماع الاعتراف أو يخرج على المراسلة من الحاكم إلى الحاكم، وفيه روايتنا فينظر في قضيته خبيرا. قال أبو العباس: فما وجدت إلا واحدا، ثم وجدت هذا منصوصا عن الإمام أحمد في رواية أبي طالب فإنه نص فيها على أنه قام بينة بالعين المودعة عند رجل سلمت إليه وقضى على الغائب قال: ومن قال بغير هذا يقول له أن ينتظر بقدر ما يذهب للكتاب ويجيء فإن جاء وإلا أخذ الغلام المودع وكلامه محتمل تخيير الحاكم بين أن يقضي على الغائب، وبين أن يكاتبه في الجواب.

باب الحكم وصفته

ومسألة تحرير الدعوى وفروعها ضعيفة لحديث الحضرمي في دعواه على الآخر أرضا غير موصوفة، وإذا قيل لا تسمع الدعوى إلا محررة فالواجب أن من ادعى مجملا استفصله الحاكم. وظاهر كلام أبي العباس صحة الدعوى على المهم كدعوى الأنصار قتل صاحبهم ودعوى المسروق منه على بني أبيرق وغيرهم. ثم المبهم قد يكون مطلقا وقد ينحصر في قوم كقولها أنكحني أحدهما وزوجني أحدهما، والثبوت المحض يصح بلا مدعى عليه، وقد ذكره قوم من الفقهاء وفعله طائفة من القضاة. وسمعت الدعوى في الوكالة من غير حضور الخصم المدعى عليه ونقله ههنا عن أحمد ولو كان الخصم في البلد وتسمع دعوى الاستيلاد وقاله أصحابنا وفسره القاضي بأن يدعي استيلاد أمة فتنكره. وقال أبو العباس: بل هي المدعية ومن ادعى على خصمه أن بيده عقارا استغله مدة معينة وعينه وإنه استحقه فأنكر المدعى عليه، وأقام المدعي بينة باستيلائه لا باستحقاقه لزم الحاكم إثباته والشهادة به، كما يلزم البينة أن تشهد به لأنه كفرع مع أصل وما لزم أصلا الشهادة به لزم فرعه حيث يقبل، ولو لم تلزم إعانة مدع بإثبات وشهادات ونحو ذلك، إلا بعد ثبوت استحقاقه لزم الدور بخلاف الحكم ثم إن أقام بينة بأنه هو المستحق أمر بإعطائه ما ادعاه وإلا فهو كمال مجهول يصرف في المصالح. ومن بيده عقار فادعى رجل بثبوته عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته ثم إلى ورثته، ولم يثبت أنه مخلف عن مورثه لا ينزع منه بذلك لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق. ولو شهدت له بينة بملكه إلى حين وقفه وأقام وارث بينة أن مورثه اشتراه من الواقف قبل وقفه قدمت بينة الوارث أن مورثه اشتراه من الواقف قبل وقفه لأن معها زيادة علم كتقديم من شهد له بأنه اشتراه من أبيه على من شهد له بأنه ورثه من أبيه، قال القاضي إذا ادعى على رجل ألفا من ثمن مبيع أو قرض أو غصب فقال لا يستحق علي شيئا ولم أغصبه فهل يكون جوابا يحلف عليه على وجهين: أحدهما: هو جواب صحيح يحلف عليه. والثاني: ليس بجواب صحيح يحلف عليه لأنه يحتمل أن يكون غصبه ثم رده عليه أو أقرضه ثم رده عليه أو باعه ثم رده إليه. قال أبو العباس: إنما يتوجه الوجهان في أن الحاكم هل يلزمه بهذا الجواب أم لا، وأما صحته فلا ريب فيها وقياس المذهب أن الإجمال ليس بجواب صحيح لأن المطلوب قد يعتقد أنه ليس عليه الجهل أو تأويل ويكون واجبا عليه في نفس الأمر أو في مذهب الحاكم، ويمين المدعي بمنزلة الشاهد وكما لا يشهد بتأويل أو جهل ومن أصلنا إذا كان له علي ثم أوفيته لم يكن مقرا فلا ضرر عليه في ذلك إلا إذا قلنا بالرواية الضعيفة فقد أطلق أحمد التعديل لي في موضع، فقال عبد الله سألت أبي عن أبي يعفور العبدي فقال ثقة، قال داود لأحمد الأسود بن قيس فقال ثقة. قال أبو العباس: وعلى هذه الطريقة فكل لفظ يحصل به تعديل الشهود مثل أن يقول الناس فيه لا نعلم إلا خيرا، كما نقل عن شريح وسوار وغيرهما ثم وجدت القاضي قد احتج في المسألة بأن عمر سأل رجلا عن رجل فقال لا نعلم إلا خيرا وعلى هذا فلا يعتبر لفظ الشهادة وإن أوجبنا اثنين لأن هذا من باب الاجتهاد ؛ بمنزلة تقويم المقوم والقائف لأنه من باب المسموع ومثله المزكي والتفليس والرشد ونحوها فإن هذا كله إثبات صفات اجتهادية ويقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة قول عدل واحد وهو رواية عن أحمد.

ويقبل الجرح والتعديل باستفاضة ومقتضى تعليل القاضي أنه لو قال المزكي هو عدل لكن ليس على أنه يقبل مطلقا مثل أن يكون عدو المعدل، وشهادة العدو لعدوه مقبولة فوجود العداوة لا يمنع التزكية وإن لم تقبل شهادته على المزكي وإذا كان المدعى به مما يعلمه المدعى عليه فقط مثل أن يدعي الورثة أو الوصي على غريم للميت فيزكي قضى عليه بالنكول وإن كان مما يعلمه المدعي كالدعوى على ورثة ميت حقا عليه يتعلق بتركته وطلب من المدعي اليمين على البتات، فإن لم يحلف لم يأخذ وإن كان كل منهما يدعي العلم أو طلب من المطلوب اليمين على نفي العلم فهنا يتوجه القولان. والقول بالرد أرجح وأصله أن اليمين ترد على جهة أقوى المتداعيين المتجاحدين ولو وصى لطفلة صغيرة تحت نظر أبيها بمبلغ دون الثلث وتوفيت الموصية وقتل والد الطفلة فيحكم للطفلة بما يثبت لها في الوصية ولا يحلف والدها ولا يوقف الحكم إلى بلوغها وحلفها بلا نزاع بل أبلغ من هذا لو ثبت للصبي أو المجنون حق على غائب بما لو كان المستحق بالغا عاقلا لحلف على عدم الإبراء والاستيفاء في أحد الوجهين يحكم به للصبي والمجنون ولا يحلف وليه كما نص عليه العلماء.

ولم يذكر العلماء تحليف البالغ الموصى له في الوصية، وإنما أخذ به بعض الناس قال الإمام أحمد في رواية مهنا في الرجل يقيم الشهود أيستقيم للحاكم أن يقول: احلف فقال قد فعل ذلك علي ويقيم ذلك قال: إن فعل ذلك علي وقال في رواية إبراهيم بن الحارث في رجل جاء بشهود على حق فقال المدعى عليه استحلفه لم يلزم المدعي اليمين فحمل القاضي الرواية الأولى على ما إذا لو ادعى على صبي أو مجنون أو غائب والثانية على ما إذا ادعى على غيره. وحمل أبو العباس الرواية الأولى على أن للحاكم أن يفعل ذلك إذا أراد مصلحة لظهور ريبة في الشهود لأنه يجب مطلقا، والثانية لا يجب مطلقا فلا منافاة بين الروايتين، كما قلنا في تفريق الشهود بين أين وحتى وكيف فإن الحاكم يفعل ذلك عند الريبة ولا يجب فعله في كل شهادة، وكذلك تغليظ اليمين للحاكم أن يفعله عند الحاجة.

اختلفت الرواية عن أحمد فيما لو حكم الحاكم بما يرى المحكوم له تحريمه فهل يباح بالحكم على روايتين والتحقيق في هذا أنه ليس للرجل أن يطلب من الإمام ما يرى أنه حرام ومن فعل هذا فقد فعل ما يعتقد تحريمه، وهذا لا يجوز لكن لو كان الطالب غيره أو ابتدأ الإمام بحكمه أو قسمه فهنا يتوجه القول بالحل قال أصحابنا، ولا ينقض الحاكم حكم نفسه ولا غيره إلا أن يخالف نصا أو إجماعا. قال أبو العباس: يفرق في هذا بما إذا استوفى المحكوم له الحق الذي ثبت له من مال أو لم يستوف فإن استوفى فلا كلام وإن لم يستوف فالذي ينبغي نقض حكم نفسه والإشارة على غيره بالنقض وليس للإنسان أن يعتقد أحد القولين في مسائل النزاع فيما له والقول الآخر فيما عليه باتفاق المسلمين كما يعتقد أنه إذا كان جارا استحق شفعة الجوار وإذا كان مشتريا لم يجب عليه شفعة الجوار والقضية الواحدة المشتملة على أشخاص أو أعيان فهل للحاكم أن يحكم على شخص أو له بخلاف ما حكم هو أو غيره لشخص آخر أو عليه أو عين مثل أن يدعي في مسألة الحمارية بعض ولد الأبوين فيقضي له بالتشريك ثم يدعى عنده فيقضي عليه بنفي التشريك أو يكون حاكم غيره قد حكم بنفي التشريك لشخص أو عليه فيحكم هو بخلافه فهذا ينبني على أن الحكم لأحد الشريكين أو الحكم عليه حكم عليه وله وقد ذكر ذلك الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لكن هناك يتوجه أن يبقى حق الغائب فيما طريقه الثبوت لتمليكه من قدح الشهود ومعارضته. أما إذا كان طريقه الفقه المحض فهنا لا فرق بين الخصم الحاضر والغائب ثم لو تداعيا في عين من الميراث فهل يقول أحد إن الحكم باستحقاق عين معينة لا يمنع الحكم بعدم استحقاق العين الأخرى مع اتخاذ حكمها من كل وجه هذا لا يقوله أحد يوضح ذلك أن الأمة اختلفت في هذه المسألة على قولين قائل يقول يستحق جميع ولد الأبوين جميع التركة، وقائل يقول لا حق لواحد منهم في شيء منها فلو حكم حاكم في وقتين أو حاكمان باستحقاق البعض أو استحقاقهم للبعض لكان قد حكم في هذه القضية بخلاف الإجماع وهذا قد يفعله بعض قضاة زماننا لكن هو ظنين في علمه ودينه بل ممن لا يجوز توليته القضاء ويشبه هذا طبقات الوقف أو أزمنة الطبقة فإذا حكم حاكم بأن هذا الشخص مستحق لهذا المكان من الوقف ومستحق الساعة بمقتضى شرط شامل لجميع الأزمنة فهو كالميراث. وأما إن حكم باستحقاق تلك الطبقة فهل يحكم للطبقة الثانية إذا اقتضى الشرط لهما، وأخذ هذا فيه نظر من حيث إن تلقي كل طبقة من الواقف في زمن حدوثها شبيه بما لو مات عتيق شخص فحكم حاكم بميراثه المال وذلك أن كل طبقة من أهل الوقف تستحق ما حدث لها من أهل الوقف يستحق ما حدث لها من الوقف عند وجودها مع أن كل عصبة تستحق ميراث المعتقين عند موتهم والأشبه بالمسألتين ما لو حكم حاكم في عتيق بأن ميراثه للأكبر ثم توفي ابن ذلك العتيق الذي كان محجوبا عن ميراث أبيه فهل لحاكم آخر أن يحكم بميراثه لغير الأكبر هذا يتوجه هنا وفي الوقف مما يترتب الاستحقاق فيه بخلاف الميراث ونحوه مما يقع مشتركا في الزمان. نقل الشيخ أبو محمد في الكافي عن أبي الخطاب أن الشهود إذا بانوا بعد الحكم كافرين أو فاسقين وكان المحكوم به إتلافا فإن الضمان عليهم دون المزكين، والحاكم قال لأنهم فوتوا الحق على مستحقه بشهادتهم الباطلة قال أبو العباس: هذا يبنى على أن الشاهد الصادق إذا كان فاسقا أو متهما بحيث لا يحل للحاكم الحكم بشهادته هل يجوز له أداء الشهادة إن جاز له أداء الشهادة بطل قول أبي الخطاب وإن لم يجز كان متوجها لأن شهادتهم حينئذ فعل محرم وإن كانوا صادقين كالقاذف الصادق. وإذا جوزنا للفاسق أن يشهد جوزنا للمستحق أن يستشهده عند الحاكم ويكتم فسقه وإلا فلا وعلى هذا فلو امتنع الشاهد الصادق العدل أن يؤدي الشهادة إلا بجعل هل يجوز إعطاؤه الجعل إن لم يجعل ذلك فسقا فعلى ما ذكرنا قال صاحب المحرر وعنه لا ينتقض الحكم إذا كانا فاسقين ويغرم الشاهدان المال لأنهما سبب الحكم بشهادة ظاهرها اللزوم. قال أبو العباس: وهذا يوافق قول أبي الخطاب ولا فرق إلا في تسميته ضمانهما نقضا وهذا لا أثر له لكن أبو الخطاب يقوله في الفاسق وغير الفاسق على ما حكي عنه وهذه الرواية لا تتوجه على أصلنا إذا قلنا: الجرح المطلق لا ينقض وكان جرح البينة مطلقا فإنه اجتهاد فلا ينتقض به اجتهاد ورواية عدم النقض أخذها القاضي من رواية الميموني عن أحمد في رجلين شهدا ههنا أنهما دفنا فلانا بالبصرة فقسم ميراثه ثم إن الرجل جاء بعد وقد تلف ماله قد بين للحاكم أنهما شهدا على زور أيضمنهما ماله قال وظاهر هذا أنه لم ينقض الحكم لأنه لم يغرم الورثة قيمة ما أتلفوه من المال بل أغرم الشاهدين ولو نقضه لأغرم الورثة ورجعوا بذلك على الشهود لأنهم معذورون فيكون قوله يضمنهما يعني الورثة. قال أبو العباس: النقض في هذه الصورة لا خلاف فيه فإن تبين كذب الشاهد غير تبين فسقه فقول أحمد إما أن يكون ضمانا في الجملة كسائر المتسببين أو يكون استقرارا كما دلت عليه أكثر النصوص من أن المعذور لا ضمان عليه ولو زكى الشهود ثم ظهر فسقهم ضمن المزكون، وكذلك يجب أن يكون في الولاية لو أراد الإمام أن يولي قاضيا أو واليا لا يعرفه فسأل عنه فزكاه أقوام ووصفوه بما يصلح معه للولاية ثم رجعوا أو ظهر بطلان تزكيتهم فينبغي أن يضمنوا ما أفسده الوالي والقاضي. وكذلك لو أشاروا عليه وأمروا بولايته لكن الذي لا ريب في ضمانه من تعهد المعصية منه مثل الخيانة أو العجز ويخبر عنه بخلاف ذلك أو يأمر بولايته أو يكون لا يعلم ويزكيه أو يشير له فأما إن اعتقد صلاحه وأخطأ فهذا معذور والسبب ليس محرما وعلى هذا فالمزكي للعامل من المقترض والمشتري والوكيل كذلك. وإخبار الحاكم أنه ثبت عندي بمنزلة إخباره أنه حكم به أما إن قال شهد عندي فلان أو أقر عندي فهو بمنزلة الشاهد سواء فإنه في الأول تضمن قوله: " ثبت عندي " الدعوى والشهادة والعدالة والإقرار وهذا من خصائص الحكم بخلاف قوله: شهد عندي أو أقر عندي فإنما يقتضي الدعوى وخبره في غير محل ولايته كخبره في غيره زمن ولايته ونظير إخبار القاضي بعد قوله إخبار أمير الغزو أو الجهاد بعد عزله بما فعله. ومن كان له عند إنسان حق ومنعه إياه جاز له الأخذ من ماله بغير إذنه إذا كان سبب الحق ظاهرا لا يحتاج إلى إثبات مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها واستحقاق الأقارب النفقة على أقاربهم واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به وإن كان سبب الحق خفيا يحتاج إلى إثبات لم يجز وهذه الطريقة المنصوصة عن الإمام أحمد وهي أعدل الأقوال.