ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول/الباب الثاني والثلاثون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


في وجوب النيات في جميع الأعمال والفرق بين الخطأ الذي تعمد فعله ولم يقصد به خلاف ما أمر وبين الخطأ الذي لم يتعمدفعله وبين العمل المصحوب بالقصد إليه، وحيث يلحق عمل المرء غيره بأجر أو إثم وحيث لا يلحق

قال أبو محمد: قال الله عز وجل: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ } وقال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } ، وقال: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } ، وقال تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } ، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } ، وقال تعالى: {إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } .

حدثنا حمام بن أحمد، حدثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا أبو زيد المروزي، ثنا الفربري، ثنا البخاري، ثنا أبو نعيم، ثنا زكريا، عن عامر ــــ هو الشعبي ــــ سمعت النعمان بن بشير/ سمعت النبي يقول ــــ فذكر الحديث، وفيه: «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الجَسَدُ كُلَّهُ وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلَّهُ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ» .

حدثنا عبد اللـه بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا عبد اللـه بن مسلمة بن قعنب، نا داود ــــ يعني ابن قيس ــــ عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللـه ــــ فذكر الحديث وفيه: «التَّقْوَى ههُنَا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات. حدثنا القاضي حمام بن أحمد، ثنا عبد اللـه بن إبراهيم الأصيلي، ثنا أبو زيد المروزي، نا محمد ابن يوسف الفربري، نا محمد بن إسماعيل البخاري، نا الحميدي، نا سفيان، نا يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي، أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر: سمعت رسول اللـه يقول: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى» . حدثنا عبد اللـه بن يوسف بن نامي، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا عمرو الناقد، نا كثير بن هشام، نا جعفر بن برفان، عن يزيد الأصم/ عن أبي هريرة قال: قال رسول اللـه : «إِنَّ اللـه لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» .

قال أبو محمد: فصح بكل ما ذكرنا أن النفس هي المأمورة بالأعمال، وأن الجسد آلة لـها، فإن نوت النفس بالعمل الذي تصرف فيه الجسد وجهاً مَّا، فليس لـها غيره، وصح أن اللـه تعالى لا يقبل إلا ما أمر به، بالإخلاص لـه، فكل عمل لم يقصد به الوجه الذي أمر اللـه تعالى به فليس ينوب عما أمر اللـه تعالى به، فبطل قول من قال: إن من توضأ تبرداً أو تعليماً، أو تيمم بغير نية، أو لم يأكل ولا شرب ولا وطأ بغير نية، أو مشى في المناسك بغير نية: إنه يجزيه عن الوضوء المأمور به للصلاة. وعن التيمم المأمور به للصلاة، وعن الصيام المأمور به، أو المتطوع به للـه عز وجل، وعن الحج المأمور به، أو المتطوع به للـه عز وجل، لأنه لم يخلص في كل ذلك للـه عز وجل، ولا فعلـه ابتغاء مرضاته تعالى، ولا نوى به ما أمر به. وقد أخبر اللـه تعالى على لسان نبيه عليه السلام أنه لا ينظر إلى الصور، فإذا لم ينظر إلى الصور فقد بطل أن يجزي عمل الصورة المنفرد على عمل القلب الذي هو النية، وصح أنه تعالى إنما ينظر إلى القلب وما قصد به فقط، ولا بيان أكثر من تكذيب اللـه عز وجل لمنافقين في شهادتهم أن محمداً رسول اللـه. وهذا عين الحق وعنصره الذي لا يتم حق إلا به، فلما كانوا غير ناوين لذلك القول بقلوبهم صاروا كاذبين فيه، وهذا بيان جليّ في بطلان كل قول وعمل لم ينو بالقلب، ونحن نحكي أقوال الكفار ونتلوها في القرآن، ولكنا لم ننوها بقلوبنا لم يضرنا ذلك شيئاً، وصح بنص الحديث على رسول اللـه أن التقوى في القلب، فكل عمل لم يقصده القلب فليس تقوى، وكل عمل لم يقصد بالمضغة التي بها يصلح الجسد فهو باطل، وإن عملـه الجسد، وفي هذا كفاية.

على أن القائلين بخلاف قولنا يتناقضون أقبح تناقض، فمن مفرق بين التيمم والوضوء، ومن مفرق في النية في الصوم بين أول النهار وآخره، ومن مفرق في الحج بين الإحرام وبين سائر فرائضه، كل ذلك استطالة في الدين بالآراء الفاسدة والأهواء المضلة بلا دليل من الله تعالى، فإن قال قائل منهم: إنما أمر الله تعالى بغسل أعضاء الوضوء فغاسلها، وإن لم تكن له نية قد غسلها، قيل له وبالله تعالى التوفيق: ما أمر الله تعالى قط بغسلها مجرداً عن النية بذلك للصلاة وبيان ذلك في الآيتين اللتين ذكرنا. وفي الحديثين اللذين نصصنا وأيضاً: فإن الصلاة حركات من وقوف وانحناء ووضع رأس بالأرض، فإن فعل ذلك إنسان متمدداً ومتأملاً شيئاً بين يديه ومستريحاً، حتى أتم بذلك ركعتين في وقت صلاة الصبح لا ينوي بذلك صلاة الصبح أتروه يجزيه ذلك من صلاة الصبح المفترضة عليه؟ وهذا ما لا يقولونه فقد حصلوا على التناقض.

فإن احتجوا في الصيام بما روي أنه كان يدخل على عائشة فيقول: «أَعِنْدَكُمْ طَعَامٌ» فإن قالت: لا. قال: «إِنِّي صَائِمٌ» قيل لهم وبالله تعالى التوفيق. لا حجة لكم في ذلك لأنه ليس فيه نص على أنه استأنف الصوم من حينئذ وجائز أن يكون سأل: «هَلْ عِنْدَكُمْ طَعَامٌ» وهو قد نوى الصيام، فلو وجد طعاماً أفطر عليه وترك الصوم، كما روى من طريق عائشة أنها قربت إليه طعاماً فأكل وقال : «إِنِّي كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِماً» وهذا جائز لنا نحن أيضاً، وأما عمل بلا نية فلا سبيل إليه، لما قدمنا قبل. فإن قالوا: فإنكم تجيزون غسل النجاسة بلا نية؟ فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن كل نجاسة أمر رسول الله بإزالتها بعمل موصوف وبعدد محدود فلا بد في إزالتها من النية، ولا تجزى إلا بالقصد إليه تأدية العمل المأمور به فيها، وإلا فلا، وأما كل نجاسة أمرنا باجتنابها فقط، دون أن يجد لنا فيها عمل أو عدد فكيف ما زالت فقد زالت وقد اجتنبناها، وأيضاً فإنه لولا الإجماع ما أجزنا ذلك ههنا.

وأيضاً فإن لباس الثوب النجس حلال إلا في الصلاة وفرض الصلاة، أن يصلي قاصداً بنيته إلى لباس وثياب طاهرة عنده لا نجاسة فيه، فإذا صلى في ثوب هذه صفته، ناوياً لذلك فقد أدى فرضه كما أمر بالنية التي أمر بها، وليس غسلها فرضاً، لا يجزي سواه، بل لو قطعها أو انقطع موضعها من ثوبه، أو لبس ثوباً آخر أجزأه، فحسبنا أن يكون الثوب طاهراً لا نجاسة فيه، ولا نبالي كيف زالت النجاسة عنه، ولا فرق بين إجازة مالك النية للصوم لرمضان في أول ليلة منه، ويجزي ذلك عنده من تحديد النية كل ليلة، وبين إجازة أبي حنيفة إحداث النية لصيام كل يوم من رمضان قبل زوال الشمس وإن لم ينوه من الليل، ولا فرق بين تقديم النية قبل وقت العمل، وبين تأخيرها عن وقت العمل، وفي كلا الوجهين يحصل العمل المأمور به مؤدى بلا نية مصاحبة له، ولا يجوز أن يؤدى عمل إلا بنية متقدمة، يتصل بها ومعها الدخول فيه بلا مهلة، ولا يعرى الابتداء به منها.

ولو أمكن ذلك في الصوم حتى تكون النية متصلة بطلوع الفجر لما أجزأ غير ذلك، ولكن لما كان ذلك غير ممكن في كل وقت، أجزأ ذلك على قدر الطاقة هذا مع الحديث الوارد في هذا المعنى من طريق حفصة: «لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنَ اللَّيْلِ» وبالله تعالى التوفيق. ولا بد لكل عمل من نية، وكل شيء يتصرف فيه المرء فلا يخلو من أحد وجهين: إما حركة، وإما إمساك عن حركة، وإنما يفرق بين الطاعة من هذين الوجهين وبين المعصية منهما وبين اللغو منهما النيات فقط، ولا فرق بين الطاعة والمعصية واللغو في الحركات والإمساك عن الحركات إلا بالنيات فقط، وإلا فكل واحد فهو إما واقع تحت جنس الحركة وإما واقع تحت جنس الإمساك عن الحركة. فوجب بالضرورة أن لا يتم عمل، ولا يصح أن يكون حركة أو إمساك متوجهين إلى الطاعة المأمور بها. خارجين عن المعصية وعن اللغو إلا بنية. هذا أمر لا محيد عنه أصلاً إلا لجاهل لا معرفة له بحقائق الأمور. فمن صلى بنية رياء ففاسق عاص، ومن صلى بنية الطاعة التي أمر بها فمطيع فاضل، ومن ركع وسجد وقام وقعد لا بنية رياء ولا بنية الطاعة فذلك لغو، وليس مطيعاً ولا عاصياً، ومن توضأ بنية الرياء ففاسق عاص، ومن توضأ بنية الطاعة كما أمر فمطيع فاضل، ومن غسل أعضاءه تبرداً بلا نية طاعة ولا بنية رياء فليس مطيعاً ولا عاصياً، وإذا لم يكن مطيعاً فلم توضأ الوضوء الذي هو طاعة الله عز وجل مأمور به.

وكذلك الصوم والحج والجهاد والزكاة، لأن الصوم إنما هو إمساك عن الأكل والشرب، والوطء، والقيء، والكذب والغيبة، ومباشرة من لا يحل للمرء مباشرته، فإن أمسك عن كل ذلك بنية الرياء فهو عاص لله عز وجل فاسق غير صائم، وإن أمسك عن كل ذلك بنية الطاعة في تركه كما أمر فهو مطيع فاضل صائم. وإن أمسك عن كل ذلك لا بنية الرياء ولا بنية الطاعة كما أمر، فليس مطيعاً ولا عاصياً، وإذا لم يكن كذلك فليس صائماً، وإذا لم يمسك بنية الطاعة عن ذلك في صوم الفرض في الوقت الذي أمر فيه بالإمساك عن كل ما ذكرنا فهو عاص، لأنه خالف ما أمر به وهكذا القول في رمي الجمار والوقوف بعرفة والمزدلفة والطواف والسعي. وكذلك سائر الأشياء كلها. فمن أكل الشعير مؤثراً بالبُرّ المساكين، ناوياً للبر في ذلك، ففاضل محمود، ومن أكله لؤماً وبخلاً وخزَّن البُر مستكثراً للمال. فمذموم آثم، ومن مشى راجلاً وحمل متاعه بيده، تواضعاً لله تعالى لا بخلاً ولا دناءة، وتصاون عن الخسائس مع ذلك، وتصدق ناوياً بكل ذلك ما ذكرنا، فهو فاضل محمود، ومن فعل ذلك بخلاً ودناءة فمذموم، وإن فعل بنية رياء ففاسق، ومن أنكح بنته عبده أو علجاً ــــ كما فعل ضرار بن عمرو ــــ تواضعاً ونيته التسوية بين المسلمين، وهو مع ذلك عزيز النفس غير طمع ولا جشع ففاضل محمود عند أهل العقول، رائض لنفسه الغضبية، ومن فعل ذلك طمعاً أو مهانة نفس فمذموم ساقط، ومن لبس الوشي المرتفع الذي ليس حريراً بنية الاقتداء بالنبي فمأجور فاضل، ومن لبسه بنية التخنث والأشر والإعجاب ففاسق مذموم، وهكذا جميع الأعمال، أولها عن آخرها، فصح أن لا عمل أصلاً إلا بنية كما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.

فإن قال قائل: أنتم تقولون فيمن أعتق في نفسه أمته أو عبده، ونوى عتقهما وأمضاه نية صحيحة، إلا أنه لم يلفظ بعتقهما أنهما لا يكونان بذلك حرين، ولا يكون هو معتقاً لا عند الله ولا في الحكم، فإن العبد والأمة باقيان مملوكين له كما كانا. وتقولون فيمن طلق في نفسه، ونوى الطلاق إلا أنه لم يلفظ بلفظ من ألفاظ الطلاق: إنه لا يكون مطلقاً بذلك لا عند الله ولا في الحكم، وإنما امرأته حلال له كما كانت، حتى أنكم تقولون: إنه إن لفظ بلفظ ليس من ألفاظ الطلاق ونوى به الطلاق، إنه لا يلزمه بذلك طلاق وإنها امرأته كما كانت حلال له في الحكم والفتيا معاً. وتقولون: إن من وهب نيته أو تصدق بنيته بشيء من ماله مسمى، ولكنه لم يلفظ بلفظ من ألفاظ الهبة أو الصدقة إنه بذلك غير واهب ولا متصدق، ولا يلزمه شيء، لا في الفتيا ولا في القضاء، وإن اعترف بذلك وأقر بأنه نواه. ثم تقولون: إن من نوى في حال صيامه أنه تارك للصوم عامداً بذلك، ذاكراً لصومه، إلا أنه لم يأكل ولم يشرب ولا وطىء ولا فعل فعلاً ينقض الصوم، فإن صومه قد بطل، وأنه قد أفطر، وتقولون فيمن نوى في حال صلاته: إنه تارك الصلاة خارج عنها، إلا أنه لم يفارق ما هو فيه من هيئتها أنه قد بطلت صلاته إذا تعمد ذلك وهو ذاكر أنه في صلاة، وتقولون فيمن نوى في حال إعطائه زكاة ماله أنه ليس ذلك عن زكاته المفترضة عليه، إنه كذلك غير مؤدّ فرض زكاته وأن عليه أداءها ثانية.

وتقولون فيمن نوى في حال تذكيته ما يذكي: أنه عابث غير قاصد إلى التذكية المأمور بها، إنها ميتة لا يحل أكلها، وتقولون فيمن نوى في حال عمرته وحجه إنه رافض لهما، وهو مع ذلك متماد في عملهما، فإن حجه وعمرته قد بطلا، وتقولون فيمن نوى في حال وضوئه وغسله، إن بعض عمله لهما لا ينوي به أداء الغسل الوضوء المفترضين عليه: إن ذلك الغسل والوضوء ناقصان، لا بد من إعادة ما عمل بغير نية. وتقولون فيمن أتم كل هذه الأعمال بنية لها فلما أتمها نوى بطلانها: إنه لا يبطل شيء منها بذلك، وأنها ماضية جازية جائزة، فما الفرق بين ما جوزتموه وبين ما أبطلتموه من ذلك؟ وهل كل ذلك إلا سواء؟ وما الفرق بين استغناء النية في بعض هذه الوجوه عن مضامة العمل إليها، وبين افتقارها إلى مضامة العمل إليها في بعضها؟. فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إن جميع الأعمال المأمور بها هي مفتقرة إلى نية تصحبها كما قدمنا لما ذكرنا في أول هذا الباب من وجوب القصد إلى الله تعالى والإخلاص له بالعمل، فمتى قصد المرء إلى إبطال تلك النية فقد بطل ذلك العمل، إذ لم يأت به كما أمر من إصحاب النية إياه، فلذلك بطل ما ذكرنا من الوضوء والغسل والصوم والحج، لأنه ليس إلا صائم أو غير صائم، أو مصل، أو غير مصل، ومتوضىء أو غير متوضىء. وهكذا في الزكاة والحج وغير ذلك، فإذا لم يكن صائماً. ولا مصلياً ولا متوضئاً كما أمر، فهو غير صائم ولا متوضىء ولا مصل وهكذا، سائر الأعمال. وهكذا القول عندنا، فيمن طلق أو عتق أو تصدق بغير نية، إن كل ذلك لا يلزمه عند الله تعالى، وإن كنا نقضي عليه بإمضائه، لأنا لا نعلم نيته في ذلك، ولو علمنا أنه بغير نية لما حكمنا عليه بشيء من ذلك أصلاً، فلو وصل قوله كله فقال: عبدي حر بغير نية مني لعتقه، أو قال ذلك في الطلاق والنكاح والصدقة والهبة، لما أنفذنا عليه شيئاً من ذلك أصلاً. وكل ما ذكرنا وما لم نذكر من سائر الأعمال، فلا تجزىء فيه النية دون العمل ولا العمل دون النية، ولا بد من اقترانهما معاً، لأنه مأمور من الله تعالى بهما معاً، فلا بد في الصلاة من حركات محدودة معمولة مع النية، ولا بد في الوضوء من مثل ذلك أيضاً، ولا بد في الحج من مثل ذلك، ولا بد في الصوم من إمساك عن كل ما أمر بالإمساك عنه، مع النية أيضاً، ولا بد في العتق والطلاق، والنكاح والهبة والصدقة، من نطق ولفظ مع النية في كل ذلك، لأنه لا يعلم شيء من ذلك إلا بالألفاظ المعبرة عنه، وإن انفرد في كل ما ذكرنا عمل دون نية فهو باطل، وإن انفرد نية فيه دون عمل فهي باطل أيضاً.

فمن نوى أن يصلي أو يتوضأ، أو يحج أو يصوم ولم يصل ولا توضأ ولا حج ولا صام فلا شيء له، فلا يظن الظان أن قولنا اختلف في شيء مما ذكرنا، بل هو كله باب واحد، وهو أنه لا بد من عمل ونية، لا حكم لأحدهما دون الآخر، ومن خالفنا في هذا فإنه يتناقض، فمرة يقول بقولنا في بعض المواضع، ومنها الصلاة، ومرة لا يقول بقولنا دون دليل، لكن اتباعاً للهوى والتقليد الذي لا يحل. فإن قال: فإنكم تقولون فيمن أفطر ناسياً غير ذاكر لصومه، أو تكلم أو عمل أو أكل ناسياً في صلاته غير ذاكر أنه في صلاة، أو قتل صيداً وهو محرم غير معتمد لقتله ــــ إنه لا شيء عليه في كل ذلك. ثم تقولون: من أحدث بشيء يخرج من مخرجيه من غائط أو بول أو ريح أو مذي أو ودي أو مني ناسياً، أو نام مغلوباً فقد بطلت طهارته وتقولون إن من ذبح أو نحر أو تصيد، فلم يسم الله تعالى ناسياً أو عامداً، فكلاهما سواء لا يحل أكل شيء من ذلك. فالجواب وبالله تعالى التوفيق: أن الأصل الذي تجري عليه الفتيا أنه لا شيء على الناس لقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } فلا يخرج عن هذا النص إلا ما أخرجه نص أو إجماع، فلهذا النص ولما أخبرنيه أبو العباس أحمد بن عمر العذري، أنا الحسين بن عبد الله الجرجاني، ثنا عبد الرزاق بن أحمد بن عبد الحميد الشيرازي، أخبرتنا فاطمة بنت الحسن بن الريان المخزومي وراق القاضي أبي بكار بن قتيبة قالت: ثنا الربيع بن سليمان المؤذن، ثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله : «إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .

ففي هذا الحديث نص التسوية بين العمل المقصود نسياناً بغير نية، وبين الخطأ الذي لم يقصد، فلهذا ولنصوص أُخر لم يبطل الصوم بفطر نسيان، ولا بطلت الصلاة لعمل نسيان، وهكذا كل نسيان، إلا نسياناً استثناه من هذا النص نص آخر أو إجماع، كما صح من الإجماع المتيقن المقطوع به في الأحداث المذكورة أنها تنقض الطهارة على كل حال بالنسيان والعمد. وبالضرورة ندري أنه لم يزل الناس يحدثون في كل يوم من عهد رسول الله ، وكلهم يوجب الوضوء من ذلك، فصح أنه إجماع منقول إلى رسول الله ، وكذلك النوم لأنه لا يكون إلا بغلبة أبداً لا بقصد، ولو قصد المرء دهره كله أن ينام لم يقدر إلا أن يغلبه النوم، وأما سائر الأحداث التي لا إجماع فيها فإنها لا تنقض الطهارة عندنا إلا بالقصد والعمد لا بالنسيان، كاللمس للنساء وكمس الفرج.

وأما الذكاة فإن النص ورد بألا نأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } فلما كان ما ذكاه الناس للتسمية مما لم يذكر اسم الله عليه بلا شك كان مما نهينا عن أكله بالنص، وأما الإثم فساقط عن الناسي جملة. وقد رام قوم أن يتوصلوا إلى إباحة ما نسي ذكر اسم الله عليه بقوله عز وجل في الآية المذكورة: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وقالوا: الفسق لا يقع إلا على النسيان.

قال أبو محمد: وهذا تمويه ضعيف، لأننا لم نقل إن الله تعالى أوقع اسم الفسق على نسيان الناسي للتسمية، وإنما قلنا ما في نص الآية: إن ذلك الشيء المذبوح أو المنحور أو المتصيد الذي لم يسم الله تعالى عليه عمداً أو نسياناً هو نفسه المسمى فسقاً، كما سمى الله تعالى الخمر والميسر رجساً من عمل الشيطان، فبطل تمويههم، وكان الناس لذكر اسم الله تعالى على التذكية غير مذك، وغير المذكى لا يحل أكله، وكذلك من نسي أن يذكي ففك الرقبة، وكذلك من نسي النية في مدخل صلاته ومدخل صومه ومدفع زكاته، فهؤلاء كلهم غير مصل ولا صائم ولا مزكّ، إلا أن الزكاة ليست مرتبطة بوقت محدود الطرفين فهي تقضى أبداً.

وقد جاء النص بوجوب قضاء الصلاة على الناسي، وأما الصيام فهو مرتبط بوقت محدود الطرفين، فلا سبيل إلى نقله إلا بنص آخر، وكذلك المذكي إنما هو عمل في شيء بعينه، لا يقدر على استرجاعه بعد موته، فلما لم يسم الله عليه بنسيان أو عمد فهو ميتة لا يحل أكله، والتسمية في اللغة لا تقع إلا على ما ذكرنا باللسان لا على ما استقر في القلب دون ذكر باللسان. والعجب كل العجب ممن يرى على المفطر ناسياً القضاء ولا يعذره، وقد جاء النص بأنه صائم تام الصوم، ثم يرى أكل ما نسي ذكر اسم الله تعالى عليه من المذبوحات وغيرها، ويعذر ههنا بالنسيان حيث عم النص بالمنع منه، وهذا كما ترى، وبالله تعالى التوفيق. وكذلك من افتتح العمل الذي أمر به بنية قصد إليه كما أمر، ثم نسي النية في درج ذلك العمل، وكان العمل متصلاً غير منقطع، فهذا لا يبطل عمله بالنسيان للنص الذي ذكرنا، فبطل بكل ما ذكرنا ما ظنه الظان من أن قولنا: إن كون الفطر بنية الفطر عمداً في الصوم دون الأكل واقع أنه مخالف لقولنا: إن العتق والطلاق بالنية دون النطق غير واقعين، بل هو كله باب واحد، وذلك أن الإمساك عما ينقض الصوم بغير نية، قصد بذلك إلى أداء الصوم فاسد باطل. وكذلك نية الصوم دون الإمساك عما ينقض الصوم عمداً باطل فاسد. وكذلك العتق والطلاق دون نية لهما باطل، وكذلك النية لهما دون إظهارهما بما لا يكونان إلا به فاسدة باطل، ولاح أن الشك إنما وقع لمن وقع في هذا لاختلاف الأجوبة.

وبيان تحقيق رفع الإشكال في هذا الباب هو أن يسأل السائل فيقول: ما تقولون فيمن طلق في نيته دون قول؟ وفيمن أعتق في نيته دون قول؟ وفيمن أفطر في نيته دون عمل يفسد به الصوم؟ وفيمن نوى إبطال صلاته التي هو فيها بنيته دون عمل مضاد للصلاة، أو نوى تبرداً في خلال وضوئه ولم يحدث حدثاً ينقض الوضوء، وفعل كل ذلك عامداً ذاكراً لما هو فيه؟. فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن نقول له: كل من ذكرت لا عتق له ولا طلاق له ولا صوم له، ولا وضوء له، ولا صلاة له، ومثل هذا الإيمان فإنه قول ونية فمن عدم النية ولفظ بالإيمان فهو إيمان له، ومن عدم القول ونوى بالإيمان فلا إيمان له، وإذا كان لا إيمان له فهو كافر، لأنه ليس إلا مؤمن أو كافر، وأما من أتم العمل الذي أمر به كما أمر به، من عمل ونية ثم نوى بعد انقضائه نقضه وإبطاله، لم يكن ذلك العمل منتقضاً، لأنه قد كمل وتأدى كما أمر الله تعالى، وانقضى وقته فلا ينقضه نية مستأنفة. وكذلك لا تصلح العمل الفاسد نية غير مضامة له، إما متقدمة وإما متأخرة، وقد أقمنا البراهين على أن كل ما صح في وقت لم يبطل في ثان إلا بنص أو إجماع وما بطل في وقت لم يصح في ثان إلا بنص أو إجماع، وهذا القول فيمن طلق بنية وأعتق بنيته دون لفظ: إن الملك والنكاح قد صحا في أول فلا يبطلان في ثان إلا بنص، ولا نص ولا إجماع في بطلانهما بالنية دون الألفاظ الموضوعة لنقضهما، وبطل بما ذكرنا قول من أراد أن يحقق جواز العمل بنية متقدمة له غير متصلة به، لأنه لو جاز أن يكون بين النية والعمل دقيقة لجاز أن يكون بينهما مائة عام ولا فرق. وقد قال المالكيون: إن في أول ليلة من شهر رمضان تجزىء النية لصيام باقيه، وهذا باطل، لأنه لو جاز ذلك لأجزت نية واحدة في أول رمضان يصومه المرء عن إحداث نية لكل رمضان يأتي، وهم لا يقولون ذلك، فإن قالوا: إنه يحول بين رمضان ورمضان شهور لا صيام فيها، قيل لهم: وكذلك يحول بين كل يومين من أيام رمضان ليل لا صيام فيه، ولكل يوم حكمه، وقد يمرض ويسافر فيفطر ولا يبطل لذلك صيام ما سلف. ومن قولهم: إن انتقاض صيام يوم من رمضان بطاعة أو بمعصية لا ينقض صيام ما سلف فيه، وهذا هدم لقولهم، فإن ادعوا في ذلك إجماعاً أكذبهم سعيد بن المسيب عميد أهل المدينة، لأنه يقول: من أفطر في رمضان يوماً عمداً فعليه قضاء الشهر كله، لأنه عنده كيوم واحد وكصلاة واحدة، إن انتقضت منها ركعة تعمداً انتقضت كلها، فاستبان بكل ما ذكرنا أن كل هذا نوع واحد لا خلاف بين شيء منه، ولم نقل هذا على أننا حاكمون لبعض ما ذكرنا بمثل حكمنا لسائره، قياساً، ومعاذ الله من ذلك. ولكنا أرينا أصحاب القياس تناقضهم في ذلك، حيث يرتضونه ويصححونه ويحكمون به من القياس الفاسد.

وأما نحن فإنما معتمدنا في كل ما ذكرنا على ما قد بيناه من أن كل عمل خلا من نية، أو كل نية خلت من عمل، فكل ذلك فاسد لقوله تعالى: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ } فأمرنا بشيئين كما ترى، العبادة وهي العمل، والإخلاص وهو النية، فلا يجزىء أحدهما دون الآخر، وبقوله عليه السلام: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى» فصح بهذا النص أنه لا عمل إلا بنية مقترنة معه، غير متقدمة ولا متأخرة، وقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } إلا أن يأتي نص باستثناء شيء من هذه النصوص فنصير إليه وإلا فلا.

وقد سألني بعضهم فقال: ما تقول فيمن أفطر ناسياً لصومه؟ فقلت له: صومه تام. قال: فما تقول فيمن ترك ركعة من صلاته ناسياً؟ فقلت: يصليها ما لم ينتقض وضوءه، أو يعيد الصلاة كلها إن انتقض وضوءه، فقال لي: لم فرقت بين الأمرين؟ وهلا أجزت الصلاة مع نسيان بعضها، كما أجزت الصيام مع نسيان بعضه بإفطار في بعض نهاره؟. فالجواب وبالله تعالى التوفيق: إننا لسنا من أصحاب القياس فيلزمنا هذا السؤال، وإنما اتبعنا النص الوارد فيمن أفطر ناسياً أنه يتم صومه، واتبعنا فيمن نسي صلاته أو بعضها أن يصليها، لأننا مأمورون بالصلاة بالنص، وبعض الصلاة صلاة، فمن لم يصل ناسياً، قيل له بالنص: أقم الصلاة التي نسيت إذا ذكرتها ولا مزيد، ولكنا نتطوع ونريه فساد ما أراد إلزامنا إياه من طريق القياس الذي يدعونه، وهم أترك الناس لطرده. فنقول وبالله تعالى التوفيق: ليس يشبه تارك ركعة ناسياً من أفطر ناسياً، وإنما يشبه من أفطر ناسياً من تكلم في صلاته ناسياً، ويشبه تارك الركعة ناسياً من نسي أنه صائم، فنوى الفطر في باقي نهاره إلا أن النص فرق بين حكميهما، وذلك أن النبي يقول: «مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» ولم يأمر في نسيان الصوم بذلك والصوم له وقت محدود حده الله تعالى فلا سبيل إلى نقله إلى وقت آخر أصلاً إلا حيث جاء النص بنقله فقط، ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى، قال الله عز وجل: {يأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } نعوذ بالله من الظلم والظلم حرام.

وأما من نوى أن يفطر ولو بعد ساعة ولم ينو أنه مفطر في وقته ذلك فلا يكون بذلك مفطراً أصلاً، فإن جازت تلك الساعة ولم يحدث فيها نية للفطر مجددة لم يضر صومه تلك شيئاً وصومه تام. وهكذا من نوى أن يزني ولم يزن أو أن يشرب ولم يشرب أو أن يتصدق ولم يتصدق، لا يكتب له ولا عليه ما لم يفعل من كل ذلك شيئاً، وهو كله باب واحد ولا عمل إلا بنية مصحبة للدخول فيه يكون أول الدخول فيه بعد إحداثها.

والخطأ يكون على ضربين: أحدهما فعل لم يقصده الإنسان أصلاً، وذلك كرجل رمى غرضاً فأصاب إنساناً لم يقصده، وكإنسان جر نفسه فاستجر ذباباً، فدخل حلقه وهو صائم، أو أراد حك فخذه فمس ذكره فهذا وجه، وهو الذي يسميه أهل الكلام التولد، لأنه تولد عن فعله ولم يقصد هو فعله. والوجه الثاني: فعل قصد الإنسان عمله إلا أنه لم ينو بذلك طاعة ولا معصية، ولا نوى بذلك ما حدث من فعله، ولا قصد إلى بعض ما أمر به، ولا إلى خلاف ما أمر به كإنسان لطم آخر فوافق منية الملطوم، أو كإنسان صائم عمد الأكل وهو غير ذاكر لصومه، ولا قاصد إفساد صومه، أو نسي أنه في صلاة فقصد إلى الأكل أو إلى الكلام أو إلى المشي غير عامد لإفساد صلاته، أو نسي أنه على طهارة فقصد إلى مس ذكره غير قاصد بذلك إلى نقض وضوئه، أو سقاه إنسان بحضرة عدول من إناء أخبره أن فيه نبيذاً غير مسكر، فلما جرع منه قاصداً إلى شربه علم أنه خمر، فأزاله عن فيه بعد أن شرب منه، أو وطىء امرأة لقيها في فراشه عامداً لوطئها وهو يظنها امرأته، فإذا بها أجنبية أدخلت عليه، أو قرأ آية قاصداً إلى الألفاظ التي قرأ يظنها من القرآن وهي بخلاف ذلك في القرآن، أو قتل صيداً عامداً لقتله غير ذاكر لإحرامه وهو محرم. فهذا وجه ثان وكلاهما مرفوع لا ينقض شيء من ذلك عملاً ولا إيماناً، ولا يوجب إثماً ولا حكماً إلا حيث جاء النص بأنه يوجب حكماً مما ذكرنا، فيوقف عنده ويكون مستثنى من الجملة التي ذكرنا منها طرفاً، كالنص الوارد في إيجاب الدية على العاقلة، لأنه في كلا الوجهين المذكورين لم ينو معصية. وكذلك من فعل أي فعل كان ولم ينو به الطاعة لله تعالى فهو غير موجب له أجراً ولا أدى ما أمر به. وأما العمد المرتبط بالقصد إلى ما يحدث من ذلك العمد، أو إلى بعض ما هو فيه كقصد الصائم إلى الأكل، وهو ذاكر لأنه صائم فرض، وكضربه إنساناً بما يمات منه قاصداً لضربه به، عالماً بأنه قد يمات من مثله، وكتبديله القرآن عامداً عالماً بأنه ليس كذلك في المصحف، وكشربه الخمر، وهو يعلمها خمراً، وكوطئه أجنبية، وهو يعلم أنها ليست له زوجاً، ولا ملك يمين. فهذا كله يوجب الحكم بالإثم، وبما أتى به النص. وإنما قلنا في قاتل الصيد عامداً لقتله غير ذاكر لإحرامه: إنه لا جزاء عليه لقوله تعالى في آخر الآية: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } والنقمة لا تقع إلا على عاص ولا يكون عاصياً بقتل الصيد أصلاً إلا حتى يعمد قتله، وهو مع ذلك ذاكر لإحرامه، عالم بأنه منهي عن قتله في تلك الحال، هذا ما لا خلاف فيه، أعني أنه لا يأثم إلا في هذه الحال. وكذلك من قصد بنيته إلى فعل الطاعة فهو مؤد لما أمر به من ذاك والنفس هي الفعالة، وفعلها المعرفة بما نفعله وغرضها فيه، وهي المحركة للجسد فلا بد من توفيتها فعلها الذي أمرت به بتمامه.

ومما ذكرنا: من لقي رجلاً في صف المشركين فظنه مشركاً فقتله عمداً، وهو لا يعلم أنه مسلم، فإذا هو مسلم، فلا خلاف في أنه لا قود عليه ولا إثم. وكذلك سقط الإثم والقود عن المتأول من الحكام، وإن كان عامداً، ليس ذلك إلا لأنه لم يقصد خلاف ما أمر به وهو يعلمه معصية. وكذلك من أكل لحم خنزير وهو يظنه لحم كبش أو حنث غير ذاكر ليمينه فكل هذا لا شيء عليه فيه ولا قضاء ولا إثم ولا تعزير ولا حد. فإن جاء نص في شيء ما من ذلك كان مستثنى، كمن صلى وهو يظن أنه متوضىء، فإذا به غير متوضىء فذكر بعد ذلك، فهذا لم يصل فليصل، لقوله عليه السلام: «لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِطَهُورٍ» وهذا لم يصل كما أمر، وأما من صلى وفي ثوبه شيء فرض اجتنابه على من بلغه، أو صلى إلى غير القبلة، فإن كان ممن لم يبلغه فرض اجتناب ذلك الشيء، ولا فرض القبلة، فصلاته تامة، لأنه لم يكلف ما لم يبلغه، فإن كان ممن بلغه كل ذلك فعليه أن يعيد الصلاة ما دام وقتها، لأنه علم ووقتها قائم، إذ لم يصل تلك الصلاة كما أمر، ففرض عليه أن يصليها كما أمر. وأما بعد الوقت فلا، لأنه لا يصلي صلاة إلا في وقتها حاشا النائم والناسي والسكران، فإنهم خصوا بالنص فيهم، وكالدية وعتق الكفارة في قتل الخطأ، فهذا مستثنى بالنص من سائر ما لم يقصده المرء. واعلم أن خصومنا يتناقضون في كل ما ذكرنا تناقضاً لا يرجعون فيه إلى أصل، لكن مرة يلزمونه ومرة لا يلزمونه دون برهان من الله تعالى في كل ذلك.

ومما يؤيد ما قلنا ما حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا محمد بن المثنى، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل. ــــ هو شقيق بن سلمة ــــ يقول: ثنا أبو موسى الأشعري/ أن رجلاً أعرابيّاً أتى النبي فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال له رسول الله : «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَة الله هِي العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله» . وقد روى الأعمش هذا الحديث فذكر فيه: «الذي يقاتل شجاعة وحمية وغضباً ورياء» وأنه لم يجعل في سبيل الله إلا من قاتل لتكون كلمة الله عز وجل العليا، فلو أجزأ عمل بغير نية لأجزأ الجهاد الذي هو أفضل الأعمال بعد الإيمان، ولكن لا سبيل إلى أن يجزىء عمل بغير نية. ومن هذا الباب أيضاً المكره على الكفر، فإن عبد بلسانه ولم يعبد بقلبه فلم يخرج بذلك عن الإيمان، قال الله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فإنما راعى تعالى عمل القلب فقط، وقد بين ذلك النبي إذ سئل عمن أكل ناسياً، فأخبر عليه السلام أنه لم ينتقض صومه بذلك، ولا شك في أن هذا الصائم عمد الأكل، ولكنه كان ذاكراً لصيامه، فصح ما قلنا نصّاً، وبالله تعالى التوفيق.

وقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } احتج بهذا قوم في إبطال أن يحج أحد عن غيره أو يصلي أحد عن غيره أو يصوم أحد عن غيره، وقد أخطؤوا في ذلك خطأ فاحشاً، وليس في هذه الآية معارضة لأمر النبي بالحج عن الشيخ الكبير، وبالصيام عن الوليِّ الميت، وبقضاء النذر عن الميت، لأن كل ما ذكرنا فالحي المؤدي هو المكلف ذلك في نفسه، وهي شريعة ألزمه الله تعالى إياها وافترضها عليه، كالصلوات الخمس وسائر صيامه في رمضان، فقد تعين في ذلك فرضاً على الوليِّ زائداً، كلفه في نفسه، هو مأجور على أدائه، لأنه أدى فرضاً كلفه. والله تعالى متفضل على الميت والمحجوج عنه بأجر آخر زائد، وخزائن الله لا تنفد، وفضله تعالى لا ينقطع، فبطل ظن من جهل ولم يفهم، وقدر أن بين الآية التي ذكرنا، والأحاديث التي وصفنا (تعارضاً) وقد تناقضوا فأجازوا أن يؤدي المرء الدَّين عن غيره، وجعلوا له أجراً بذلك. وللميت المؤدَّى عنه حطيطة الدين الذي عليه، وهكذا قلنا نحن في سائر ما أمرنا بأدائه من الصوم والحج والصلاة المنذورة ولا فرق،، وأوجبوا غرم بني عم المرء الدية عن القاتل خطأ فنقضوا قولهم، فإن قالوا: الإجماع أوجب ذلك كذبوا، لأن عثمان البتي لا يرى ذلك، يعني غرم العاقلة الدية عن قاتل الخطأ.

قال أبو محمد رحمه الله: واحتج مخالفنا أيضاً في ذلك بقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } . قال أبو محمد: وقد بينا فيما خلا أن يضاف كل ما قاله إلى ما قال ربه تعالى.

فصح أنه تعالى قد يتفضل على المرء بأن يلحقه دعاء ولده بعد موته وليس بما سعى، وأنه تلحقه صدقة وليه عنه وليس مما سعى، وكذلك سائر ما نص عليه السلام على أنه يلحقه، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وقال تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } . وأخبر عليه السلام أن من سن في الإسلام سنَّة حسنة كان له أجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة كان له مثل وزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً.

قال أبو محمد: وكل هذا متفق لا تعارض فيه أصلاً، لأن معنى قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي أنهم لا يسقطون عنهم بتقليدهم إياهم إثماً، ولكن للعامل إثمه، وللسان مثل ذلك أيضاً؛ وهذا بيِّن، وبالله تعالى التوفيق. وكذلك ما أمر به رسول الله من ألا يحنط الميت المحرم، ولا يمس طيباً، ولا يغطى وجهه ولا رأسه، وأن يكفن في ثوبه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً، وما أمر به في الشهيد ألا يغسل ولا يكفن، وأن يدفن في ثيابه، وأخبر أنه «يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعبُ دَماً، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ» فكلا الأمرين عمل كلفناه نحن وألزمناه، فمن فعله أطاع الله تعالى، ومن لم يفعله عصى الله عز وجل.

فتخيل أهل الجهل والاستخفاف بأوامر الله تعالى، وأوامر رسوله فقالوا: إن عمل الميت قد انقطع، فيا ليت شعري من قال لهم: إن هذا عمل أمر به الميت وإنما قيل لهم: إنه عمل أمرنا نحن به في الميت، كما أمرنا بغسل سائر موتانا وتحنيطهم بالسدر والكافور والصلاة عليهم، فهذا كله سواء ولا فرق. وتلبية المحرم يوم القيامة فضل له حينئذ وجزاء كثعب جرح الشهيد، ولا فرق فبطل تمويه أهل الجهل والحمد لله. وقوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } ، وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } وقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } وقوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } وقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .

قال أبو محمد رحمه الله: فهذا كله لا يعارض ما ذكرنا البتة، وإنما معناه أن أحداً لا يحمل إثم غيره ولا وزره، إلا أن يكون سن ذلك العمل السوء فله مثل إثم صانعيه أبداً، لأن الآي مضاف بعضها إلى بعض، وقد قال تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } . وأخبر عليه السلام أن كل قتيل يقتل فعلى ابن آدم الأول كفل منه، لأنه أول من سن القتل. فمعنى الآي الأول أن الله لا يلقي إثم أحد على بريء منه، وأما من استن الشر ورتبه فله حظ من كل فعل يوافق ما سبق، وكذلك من سن الخير أبداً، فلا يلحق عمل أحد أحداً أبداً إلا ما جاء به النص، فيصير حينئذ فعلاً مأموراً به من كلف أداه، يؤجر على فعله ويأثم بتركه كسائر ما أمر به ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول

في استصحاب الحال (1) | في استصحاب الحال (2) | في استصحاب الحال (3) | وهو باب الحكم بأقل ما قيل | في ذم الاختلاف | في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل | في الشذوذ | في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا | في الدليل | في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض | في صفة التفقه في الدين | في وجوب النيات في جميع الأعمال | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها