ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول/تتمة ثانية الباب الثالث والعشرون
قال أبو محمد: فأعرضوا عن هذا كله، وقد علمنا أنه لا ظلم للمسلم، ولا إسلام له ولا خذلان له، ولا تضييع لحاجته، ولا أتم لكربته، ولا فضيحة له، ولكل مسلم، ولا أشد خلافاً على الله تعالى وعلى رسول من ترك المسلم والمسلمة عند المشرك يذلها ويطؤها، ووجب بهذا ضرورة أن الإمام إذا تعاصى عليه خارج عن طاعته، ظالم طالب دنيا، فلم يراجع الطاعة إلا بأمان وعهود وعقود، على ألا يتعرض في شيء من حاله، ولا مما بيده، فإنه أمان فاسد، وعقد باطل، وعهود ساقطة، وشروط مفسوخة كلها، ولا يسقط عنه شيء إلا حد المحاربة فقط بنص القرآن، إذ يقول تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ولا يسقط بذلك قود لمسلم في نفس فما دونها، ولا حد من حدود الله تعالى، ولا حق لمسلم في مال أخذه بغير حق، بل يقام عليه الحكم في كل ذلك بما أوجبه القرآن أو السنة، وإلا فالإمام عاص لله تعالى إن أغفل ذلك.
قال أبو محمد: وهم يقولون فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها. إنها تطلق عليه، ويحتجون بـــــ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } ويرون في رسول الله أتى من دار الحرب فأسلم أنه يرد إلى الكفار، ثم يقولون في رجل كان له شريك مسلم في دار فعرض عليه شريكه أن يأخذ الشقص بما يعطى فيه، أو يترك فيبيعه ممن يريده، فأباح له شريكه أن يبيع، وعقد معه وأشهد الناس طائعاً على ترك شفعته، وأنه لا يقوم بها، فباع الشريك ــــ قالوا: فذلك العهد وذلك العقد ــــ ساقطان لا يلزمان وله الأخذ بالشفعة. قال أبو محمد: أفيكون في عكس الحقائق أشنع من هذا؟ وهذا شرط قد جاء النص بإلزامه فأبطلوه، وهو حكم الله تعالى وحكم رسوله ، وأجازوا شروطاً منسوخة لا يحل عقدها الآن أصلاً. حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، نا مسلم، نا أبو الطاهر، نا ابن وهب، عن ابن جريج: أن أبا الزبير أخبره أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله : «الشُّفْعَةُ في كُلِّ شركٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ حَائِطٍ، لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ فَيَأْخُذُ أَوْ يَدَعُ، فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ» وبه إلى مسلم، نا محمد بن عبد الله بن نمير، نا عبد الله بن إدريس، نا ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قضى رسول الله بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعه أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك. فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به.
فهذا حديث قد صح سماع أبي الزبير من جابر، ولم يجعل النبي الأخذ أم الترك للشريك إلا قبل بيع شريكه، ولم يجعل له بعد البيع حقّاً إلا إن كان الشريك لم يؤذنه قبل البيع. فعكس هؤلاء القوم الحقائق كما ترى، فيتركون احتجاجهم بــــ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } حيث شاؤوا فيبطلونه العقود لا يحل لمسلم القرار على سماعها، فكيف إمضاؤها، مما قد جاء النص بإبطاله، التي أمر الله تعالى بإمضائها، ويحتجون بــــ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } حيث شاؤوا فيمضون عقوداً ويبطلون من النذور ما قد أمر النبي بإنفاذه باسمه، كالنذر في الجاهلية الذي أمر عليه السلام عمر بالوفاء به، فعكس هؤلاء القوم في أقوالهم الحق عكساً، ويقولون من باع بيعاً فاشترط شروطاً تفسده. فقال: أنا أسقط الشرط جاز ذلك وصح البيع. قالوا: فإن باع بيعاً إلى أجل مجهول فقال: أنا أعجل الثمن وأسقط الأجل، قالوا: فذلك لا يجوز والبيع فاسد. قالوا: ومن اشترى عبداً بشرط أن يعتقه، فذلك جائز لازم له ولا يرده بعيب يجده فيه، لكن يأخذ أرش العيب، قالوا: فإن أعتقه بشرط ألا يفارقه لم يجز ذلك. قالوا: ومن قال لآخر: بعني عبدك للعتق بأربعين ديناراً. فقال: لا بل بخمسين ديناراً فأبى المشتري، فقال العبد لسيده: يعني منه بأربعين ديناراً وأنا أعقد لك وأشرط لك على نفسي بالعشرة الدنانير الزائدة، وأشهد لك بذلك، فأجاب السيد إلى ذلك والتزم العبد العشرة الدنانير طائعاً، وأشهد البينة على نفسه بذلك، فاشترى المشتري العبد فأعتقه، قالوا: لا يلزم العبد مما عقد على نفسه، وأشهد عليها به شيء أصلاً، قالوا: فلو قال لعبده أنت حر وعليك خمسون ديناراً ــــ جاز ذلك ولزم العبد أن يؤديها شاء أم أبى. قالوا: ومن شارط عبده على أن يخدمه هذه السنة التي أولها شهر كذا ثم أنت حر والتزم العبد ذلك، فأبقى العبد تلك السنة كلها، قالوا: فهو حر ولا يلزمه من شرط الخدمة شيء، وقد ذكرنا قولهم في الشفعة. وقالوا فيمن باع ثمر حائطه وشرط للمشتري على نفسه ألا يقوم بالجائحة إن أجيح فأجيح قالوا: لا يلزمه ذلك الشرط وله القيام بالجائحة، ثم قالوا في مريض شاور ورثته في أن يوصي بأكثر من ثلثه وهم في غير كفالته، فأجازوا له ذلك، فأوصى بأكثر من الثلث، ثم مات قالوا: يلزمهم ما التزموا ولا قيام لهم عليه.
قال أبو محمد: وهذا عكس الحقائق وإجازة ما لا يجوز، وتحليل ما حرم الله تعالى، وإبطال ما لا يجوز سواه وقالوا: لو تراضى المكاتب وسيده وتشارطا أن المكاتب متى فعل أمراً كذا فمحو كتابته بيد سيده، ففعل المكاتب ذلك الشيء، وأقر بفعله، أو قامت عليه بذلك بينة: قالوا: هذا شرط لا يلزم ولا يكون محو كتابته إلى سيده لكن إلى السلطان. ثم قالوا: إن حكم خصمان بينهما رجلاً من عرض المسلمين لا سلطان له، فحكم بينهما برضاهما، ثم امتنع أحد الخصمين، قالوا: ذلك الحكم لازم لهما ورضاهما به أو لا جائز عليهما. وهذا كله ينقض بعضه بعضاً، قالوا: فإن شرط على مكاتبه وصفاء غير موصوفين، قالوا: ذلك شرط جائز لازم، قالوا: فإن تشارطا برضاً منهما أن ما ولد للمكاتب بل تمام أداء كتابته من ولد، فإنهم غير داخلين في الكتابة. قالوا: هذا شرط لا يلزم ولا يجوز هذا هو قولهم إن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وأنه إن عجز عاد رقيقاً، قالوا: فإن شرط على مكاتبه أضاحي مسماة، وعملاً معروفاً. وخدمة محدودة وكسوة، ثم أدى بالمكاتب نجومه مجموعة قبل حلول الأجل المشترط، أجبر السيد على قبضها وعجل العتق للمكاتب وبطلت شروطهما في الآجال التي اتفقت الأمة على أنها شروط جائزة لازمة. قالوا: وسقط شرط الخدمة والعمل والسفر بلا عوض يكلفه المكاتب، ولم يسقط شرط الأضحية والكسوة ولا يلزم أيضاً، لكن يقول كل ذلك ويدفع قيمته مع ما عجل من نجوم كتابته، فأبطلوا شرط الآجال الذي صححه الله تعالى بلا دليل، وتكلموا في سائر الشروط، فأبطلوا بعضها وعوضوا من بعضها كل ذلك تحكم بلا دليل، ولكن تناقض لا معنى له.
فإذا تعلقوا في إسقاط أجل المكاتب بعمر بن الخطاب ــــ إذ أجبر أنساً على تعجيل عتق مكاتبه، إذ عجل له النجوم كلها ــــ قيل لهم هذا: عجب من العجب، هذه قضيتان اختلف فيهما عمر وأنس، فخالفتم عمر حيث لا يحل خلافه، واتبعتم أنساً في إحدى القضيتين، ثم خالفتم أنساً حيث لا يحل خلافه في القضية الثانية وتعلقتم بعمر، وذلك أن عمر أجبر أنساً على مكاتبة سيرين فكان القرآن يشهد لعمر في هذه القضية بالصواب بقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فخالفتم عمر وقلتم: لا يجوز أن يجبر السيد على مكاتبة عبده، وإن علم فيه كل خير ثم أجبر عمر أنساً على إسقاط الآجال في المكاتب، وتعجيل عتقه إذا عجل المكاتب كل ما عليه، وأنس يأبى ذلك، والنص يشهد لأنس في هذه القضية بالصواب، لأن هذا العقد في الآجال المشترطة في الكتابة داخلة في العقود التي اجتمعت الأمة على جوازها، فهي داخلة في عموم قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } وكل عقد صح بنص أو إجماع فلا يجوز إبطاله إلا بنص آخر أو إجماع ولا نص ولا إجماع على إسقاط آجال المكاتب بتعجيل ما عليه، فخالفتم أنساً في هذه القضية، وخالفتم عمر في الأولى فلو قيل لكم: اجتهدوا في الخطأ، ما أمكنكم أكثر من هذا.
قالوا: ومن وطىء مكاتبته فحملت، خيِّرت بين التمادي على المكاتبة وبين إسقاطها، ويذهب الشرط والعقد ضياعاً. قالوا: ومن كان له على آخر دين إلى أجل من طعام وذهب، إلى أجل مسمى فأتاه بهما قبل الأجل. قالوا: يجبر على قبض الذهب قبل الأجل، ولا يجبر على قبض الطعام إلا حتى يحين الأجل. فمرة يثبتون الشروط ويحتجون بـــ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } والمسلمون عند شروطهم ومرة يبطلون كل ذلك كيفما وافقهم. قالوا: ومن كان له على آخر دين إلى أجل مسمى أو حال فقال له: أنا أنظرك بالدَّينِ الذي لي عليك إلى عشرة أيام بعد الأجل الذي هو إليه، وأهبك غداً ديناراً، قالوا: يقضى عليه بالتأخير شاء أم أبى ولا يقضى عليه بالهبة الدينار الذي ذكر أصلاً.
قالوا: ولو قال لغريمه: جئني بحقِّي قبَلَك، والحق حال لا مؤجل، وأنا أهبك نصفه فأتاه به، لزمه ما وعده أن يهبه وقضى عليه بذلك. قالوا: ولو قال: مالي في المساكين صدقة. لزمه ثلث ماله ولم يقض عليه به أن يتصدق بالثلث، فإن فرط حتى تلف الثالث، ولم يؤمر أن يتصدق منه بشيء، قالوا: فلو تصدق على إنسان معين بدار، قضي عليه بذلك، قالوا: فلو قال: داري هذه صدقة على زيد، أو قال على المساكين إن دخلت دار عمرو، فدخلها عامداً ذاكراً ليمينه، قالوا: لا يقضى عليه بشيء ولا يحكم عليه بإمضاء ما تصدق به لا للمعين ولا للمساكين، قالوا: ولو قال ذلك في غير يمين قضي عليه بإمضاء ما تصدق به على المعين. قالوا: فلو قال عبدي حر إن دخلت دار عمرو، فدخلها قضي عليه بعتق العبد. قالوا: ولو قال في نذر: إن جاء أبي سالماً فعليَّ أن أعتق عبدي هذا حرّاً لله، فجاء أبوه سالماً، لم يقض عليه بعتق ذلك العبد، فلو قال: إن اشتريت عبد فلان فهو حر، فاشتراه، قالوا يقضى عليه بعتقه، وهذا ضد النص، وضد حكم النبي إذ يقول: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطِعْهُ» ، وإذ يقول عليه السلام: «إِنَّهُ لا نَذْرَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» ، فقضوا هم عليه بإمضاء النذر فيما لم يملك، إذ نذره ولم يقضوا عليه بالطاعة التي ألزمه الله تعالى إمضاءها والوفاء بها.
قالوا: فلو قال: أنا أهبك غداً درهماً لم يقض عليه بذلك، قالوا: ولو قال له: إن تبع هذا الثوب أنا أقويك بثمنه وبدرهم أهبه لك، قالوا: يقضى عليه بذلك، قالوا: ومن شرط لامرأته أن لا يرحلها، ولا يتسرى عليها، ولا يتزوج عليها، لم يلزمه شيء من ذلك، وجاز له النكاح، وله أن يرحلها ويتسرى عليها، ويتزوج، قالوا: فلو زاد في كل ذلك فإن فعل فأمرها بيدها، أو قال: فالسرية حرة والداخلة بنكاح طالق، فإن كل ذلك يلزمه ويقضى عليه به.
قال أبو محمد: وليس في التلاعب أكثر من هذا، قالوا: ومن شرط على نفسه نفقة امرأة ولده الناكح، ولم يلزمه في الكبير وثبت النكاح، واختلفوا في لزوم ذلك في امرأة الصغير. قالوا: فإن تزوج امرأة على أنه إن جاء بصداقها المسمى إلى أجل مسمى فذلك وإلا فلا نكاح بينهما. فسخ أبداً جاء بالصداق إلى ذلك الأجل أو لم يجىء، هذا مع قولهم إن من شرط في البيع شرطاً يفسده فرضي إسقاط الشرط صح البيع، وهم يقولون: إن البيوع تشبه النكاح، حتى إنهم أبطلوا النكاح حين النداء إلى الجمعة قياساً على بطلان البيع حينئذ، ثم قالوا: فإن تزوجها بصداق مسمى إلى الميسرة، فإن رضي بإسقاط الشرط عجل الصداق جاز النكاح، وإن أبى من إسقاط الشرط فسخ النكاح. قالوا: ومن قال لآخر: إن جئتني بأمر كذا في وقت كذا فقد زوجتك ابنتي فلانة فأتى بذلك الشيء في ذلك الوقت، قالوا: لا يجوز له أن يفي بهذا الشرط، فإن أنكحه بذلك الشرط فسخ النكاح أبداً، قالوا: ومن زوج أمته عبد غيره وتشارطا أن ما ولدت فهو حر، فسخ النكاح ولزم سيدها تحرير ما ولدت بالشرط، قالوا: فلو تشارطا أن ما ولدت فهو رقيق بينهما، قالوا: ينفذ النكاح ويثبت والولد رقيق لسيد الأمة، ويبطل الشرط ففي الأول بطل النكاح وثبت الشرط، وفي الثانية عكس ذلك، وهو ثبات النكاح وبطلان الشرط، قالوا: فلو تزوج المرأة على أن لها من النفقة كذا وكذا، فدخل بها، قالوا: بطل الشرط وينفذ النكاح، ولها نفقة أمثالها. قالوا: فلو تزوجها على أن أمرها بيدها إن تزوج عليها، قالوا: يثبت النكاح ويثبت الشرط ويكون أمرها بيدها إن تزوج. قالوا: إن تزوجها على ألا ينفق عليها ورضيت بذلك، وأشهدت على نفسها، فدخل بها ثم بدا لها، قالوا: ذلك لها ولا يلزم ذلك الشرط، ويقضى لها عليه بالنفقة. قالوا: فلو تزوج امرأة على مائة، فلما هموا بالفراغ قالوا: يضع لك خمسين على ألا تخرجها من دارها، أو قالوا: من ولدها، فقال: نعم، فزوجوه على ذلك الشرط، وهو راض وهي راضية وتشاهدوا، ثم بدا له فأراد إرحالها، قالوا: ذلك له، ويوفيها المائة الكاملة، ولا يلزم واحداً منهما ما تشارطاه، فلو قالت له: أتزوجك بمائة وأضع عنك خمسين على أن تخرجني. فقال: نعم، وتشاهدا على ذلك، فلما تزوجها أراد أن يرحلها قالوا: فذلك له شرط على نفسه في ألا يرحلها مفسوخ، وشرطها على نفسها فيما أسقطت عنه من الخمسين لازم لها لا ترجع عليه بشيء، قالوا: فلو قال لها: إن رحلتك فأمرك بيدك، فذاك لازم له، قالوا: ولو قال لها: إن غبت عنك سنة فأمرك بيدك، فله أن يطأها قبل أن يغيب، ولا يسقط بذلك ما جعل لها من الشرط، قالوا: فلو قال لها وهي حامل: إذا وضعت حملك فأمرك بيدك، قالوا: فإن وطئها بعد هذا القول وقبل أن تضع حملها فقد سقط ما جعل من لها الشرط. وقالوا: من خالع امرأته على أن عليها نفقة ولدها ست سنين، لم يلزمها من ذلك إلا رضاع سنتين فقط، ثم تعود النفقة على الأب، ويسقط عنها ما شرطت على نفسها، قالوا: فإن طلقها طلقة سنة فأعطته مالاً على أن لا رجعة له عليها، قالوا: ذلك لازم لها وله، وكأنه خلع، قالوا: فلو تشارطا في الخلع: إنك إن خاصمتني فأنت امرأتي فخاصمته، فإن لها ذلك، والشرط باطل لا يلزم.
قال أبو محمد: فهلا قالوا: هو لازم، وكأنه رجعة، كما قالوا في التي قبلها وكأنه خلع، قالوا: ومن كان لامرأته عليه دين فخالعها على أن يجعل لها نصف الدين، وتبرئه من الباقي، قالوا: فالطلاق نافذ، والإبراء جائز لازم وتجير على أن ترد إليه ما عجل فيبقى إلى أجله، هذا وهم يجبرون سيد المكاتب والغريم على قبض ما عجل لها، بضد ما فعلوه في المرأة قالوا: وإن قالت أمة تحت عبد: إن أعتقت فقد تخيرت نفسي أو قالت: فقد تخيرت زوجي، وأشهدت على نفسها بذلك، قالوا: فليس ذلك بشيء، ولا يلزمها، ولها استئناف الخيار إن أعتقت، وهم يقولون في عبد أو حر قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، أو قال: كظهر أمي. فتزوجها القائل ذلك، فهي طالق وكظهر أمه، ويقولون في قائل قال: إن وكلني زيد بطلاق امرأته فلانة فهي طالق، فوكله زيد بطلاق تلك المرأة، إنها لا تكون طالقاً إلا أن يحدث لها الوكيل طلاقاً إن شاء، وإلا فلا، ويقولون في قائل قال: متى طلقت زوجتي أو قال: إن طلقت زوجتي هذه فهي مراجعة مني، فطلقها، قالوا: لا تكون مراجعة بذلك، إلا أن يحدث لها رجعة إن شاء.
قالوا: ومن باع جارية على أن تعتق فذلك جائز لازم، قالوا: فإن باعها على أن لا تباع، قالوا: لا يجوز ويفسخ البيع إلا أن يرضى البائع إسقاط الشرط فيتم البيع ويسقط الشرط. وقالوا: ومن باع بثمن مجهول فسخ البيع، فإن باع نصف جارية له من زيد، واشترط على المشتري نفقتها سنة، قالوا: إن كان ذلك ثابتاً في الحياة والموت جاز الشرط، وليس في الثمن المجهول أكثر من هذا لاختلاف الشبع، وتناول النفقة في الصحة والمرض، قالوا: ومن باع سلعة بثمن مسمى على أن يتجر له في ثمنها سنة، فلا بأس بذلك، إذا كان ذلك ثابتاً عليه إن تلف الثمن أخلف مكانه غيره، وهم لا يجيزون القراض إلى أجل. قالوا: من عرف كيل صبرة له من طعام، فابتاعها منه مبتاع جزافاً وقال له المشتري: ما أبالي عرفت أنت أيها البائع كيلها أم لم تعرف، فتبايعنا على ذلك، قالوا: فلا يلزم هذا الشرط المشتري، وله أن يرد إن شاء، قالوا: فلو لم يعلم البائع كيلها فباعها جزافاً قالوا: فذلك للمشتري لازم ولا رد له. وتناقضهم فيما يلزمونه من العقود والشروط، وما لا يلزمونه منها، أكثر من أن يحصى أو يحاط به إلا في المدة الطويلة، وفيما ذكرنا كفاية لمن عقل، والحنفيون مثلهم في ذلك، وبالله تعالى التوفيق. قال أبو محمد: فلما قام البرهان بكل ما ذكرنا، وجب أن كل عقد أو شرط أو عهد أو نذر التزمه المرء فإنه ساقط مردود، ولا يلزمه منه شيء أصلاً، إلا أن يأتي نص أو إجماع على أن ذلك الشيء الذي التزمه بعينه واسمه لازم له، فإن جاء نص أو إجماع بذلك لزمه وإلا فلا، والأصل براءة الذمم من لزوم جميع الأشياء إلا ما ألزمنا إياه نص أو إجماع، فإن حكم حاكم بخلاف ما قلنا فسخ حكمه، وورد بأمر النبي ، إذ يقول: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» . قال أبو محمد:أبو محمد فإذ قد ثبت كل ما ذكرنا بالبراهين الضرورية، فقد ثبت أن كل ما لا يصح بصفة ما وشرط ما، وعقد ما، ففسدت تلك الصفة وذلك الشرط وذلك العقد في حين التعاقد، فإن ذلك الشيء لا يصح أبداً، ويبطل ذلك العقد ويفسخ أبداً لأن ما تعلقت صحته بما لا يجوز فلا صحة له، إذ لم يصح ما لا تمام له إلا به، وهذا أمر يعم بالضرورة، وبذلك وجب إبطال كل نكاح انعقد بشرط فاسد أو بصفة فاسدة، وكذلك كل بيع انعقد على ما لا يجوز فإن كل ذلك يفسخ أبداً، ووجب بذلك بطلان كل صلاة صليت في مكان مغصوب يعلم المصلي فيه أنه مغصوب، وكل صلاة فعل فيها المرء ما لا يجوز له، وبذلك حرمت ذبيحة الغاصب والسارق والمعتدي وبسكين مغصوبة، وبالله تعالى التوفيق.
وصح بهذا كله أن كل عقد أو عهد أو نذر أو شرط أوجبها أو أباح إيجابها نص، فإنها نافذة لازمة، فمن ادعى سقوط شيء من ذلك فقوله باطل وكل ذلك باق بحسبه لازم كما كان، إلا أن يأتي مدعي بطلانه بنص على بطلانه، فيجب الوقوف حينئذ عند ما أوجبه النص، مثال ذلك: أن الإجارة عقد قد جاء النص بجوازه وإباحة التزامه، وصح الدليل من النص والإجماع، على أن الإجارة إلى غير أجل وعلى غير عمل محدود باطل مردودة لا تجوز، لأنها أكل مال بالباطل، والإجارة على ما ذكرنا حرام مردودة بإجماع الأمة كلها من مجيز لها ومن مانع منها وبالنص.
ولا بد أن تكون الإجارة إلى أجل معلوم، أو إلى غير أجل، ولا سبيل إلى قسم ثالث بوجه من الوجوه، وقد بطل أحد القسمين المذكورين، فوجب ضرورة ــــ إذ قد جاء النص بإباحة الإجارة ــــ أن يصح القسم الآخر فصح وجوب ذكر الأجل المسمى في الإجارة ضرورة بالنص، وبمقدمتي الإجماع اللتين، ذكرنا فإذ قد صح ذلك فذكر الأجل في عقد الإجارة شرط صحيح، وإذا كان ذلك فقد ثبت عقده، وما ثبت عقده الآن، فلا يبطل في ثان إلا بنص، فصح أن لا رجوع للمؤاجر ولا للمستأجر فيما عقدوه، ما داموا أحياء، وما لم ينتقل ملك الشيء المستأجر عن المؤاجر له، وما كانت عين ذلك الشيء قائمة. فإن انتقل الملك أو مات أحدهما بطل عقد الإجارة، لقول الله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } وليس صحة عقد الإجارة مانعاً من إخراج المؤاجر عن ملكه الشيء الذي أجر، وإن أدى ذلك إلى بطلان العقد، لأن البيع مباح له بالنص؛ وليس بيعه ماله نقضاً لعقده؛ وإنما ينقض ذلك العقد ملك غير العاقد للشيء المعقود فيه.
قال أبو محمد: وقال بعضهم: أنتم إذا منعتم من نقض عقد الإجارة والكتابة والتدبير والعتق بصفة ثم أجزتم للعاقدين أن يخرجوا عن ملكهم الأعيان التي عقدوا فيها هذه العقود، وذلك مبطل للعقود، فقد تناقضتم وأجزتم إبطالها، قيل لهم وبالله تعالى التوفيق: لم نمنع قط من أن يفعل الإنسان في ماله ما أبيح له قبل العقد الذي عقد فيه. وليس ذلك العقد بمحرم عليه ما كان له حلالاً من إخراج ذلك الشيء عن ملكه، ومدعي هذا متحكم في الدين، قائل بغير بيان من الله تعالى، وإذا منعنا أن يفسخ بقوله ما عقد بقوله مما أبيح له عقده، أو أمر به فقط، وإنما يلزم هذا التعقب القائلين بالقياس، الذي يحرمون به المسكوت عنه، لتحريم المأمور بتحريمه، والرهن وغيره سواء فيما ذكرنا، إذا لم يمنع من إخراجه من الرهن بالبيع والعتق نص. وأما المنكرون لهذا فقد تناقضوا فيه أقبح تناقض وقالوا بما أنكروه علينا يعني أصحاب مالك. فقالوا: لا تقبل شهادة النساء في عتق أصلاً، ثم قالوا: إن شهدت امرأتان بدين على زيد لعمرو حلف عمرو معهما، ورد عتق زيد لعبد الذي أعتقه ودين عمرو محيط بماله، فقد أجازوا في رد العتق شهادة النساء، وكذلك قالوا: لو شهدت امرأتان بابتياع زيد وعمرو لأمة كانت تحت زيد، قبلتا مع يمين البائع، وفسخ نكاح الأمة ومثل هذا لهم كثير جداً.
قال أبو محمد: ومن استؤجر على عمل معلوم، فهو عقد قد جاء النص بإباحته، واتفق القائلون بالإجارة على لزومه في حين عقده، واختلفوا هل ينفسخ في ثانية أو لا؟ فوجب أن يبقى على ما جاء الدليل به من صحته ما لم يأت نص بفسخه، وهكذا القول في المدبر وفي الموصي بعتقه وفي المعتق بصفه، وفي المكاتب ــــ: أنها عقود قد اتفق الناس على ما جاءت به النصوص من صحتها في حين عقدها، وعلى القضاء بها ما لم يرجع العاقد لها فيها، ثم اختلفوا هل لعاقدها فسخها في ثاني عقده إياها أو لا: فوجب ألا يكون له في شيء منها رجوع إلا بنص، ولا نص ولا إجماع في إباحة الرجوع في ذلك، لا بتراضيها ولا بغيره، فلا يجوز أصلاً بخلاف المؤاجرة، وكان إخراجه لكل ما ذكرنا عن ملكه جائزاً، ويبطل بذلك العقد لانتقال الملك، كما قلنا في الشيء المؤاجر ولا فرق. وأما المكاتب فإنما يخرج عن الملك منه ما لم يؤد خاصة، وفي ذلك المقدار يبطل العقد لا فيما أدى وهو قول عليّ وروايته عن النبي وقد جاء النص ببيع المدبر وبيع المكاتب ما لم يؤد، فوجب إباحة ذلك وممن رأى للمؤجر والمستأجر أن يفسخ الإجارة أيهما شاء متى شاء قبل الأجل، وإن كره الآخر ــــ مسروق وشريح والشعبي، وممن رأى ألا رجوع لموصي في العتق خاصة الأوزاعي والثوري؛ وأما العارية فبخلاف ما ذكرنا، لأن العارية المطلقة التي ليست إلى أجل هي التي صحت بالنصوص وبالإجماع، وأما شرط التأجيل فيها فهو باطل، لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، ولا جاء به نص ولا إجماع فهو باطل.
وجمهور الفقهاء يقولون: إن العارية التي يشترط التأجيل فيها ليست شيئاً، وهو شرط لا يلزم، فلم يتفق على صحته فهو باطل، وكذلك الوعد بالعارية لا يلزم لما ذكرنا. وهكذا القول في ضمان ما لم يلزم بعد من المال. وفي ضمان الوجه: أن كل ذلك باطل، لأنها شروط لم يأت بصحتها نص ولا إجماع، ويبطل بما ذكرنا ضمان النفقة على زيد، وعلى من لم يأت نص ولا إجماع بإيجاب النفقة عليه، وهكذا ضمان الصداق عمن لم يتزوج بعد، ووجب بما ذكرنا الرجوع في الشركة والقراض لأيهما شاء متى شاء، وإن كره الآخر، لأن شرط التأجيل فيها باطل، إذ لم يأت بإباحته نص ولا إجماع.
وهكذا القول في كل شرط شرطه المحبس في الحبس من أجل محدود، أو من بيعه إن احتيج، كل ذلك باطل لما ذكرنا، وكذلك إن شرط في الهبة والعمرى والرقبى استرجاع شيء منها، فهو باطل كله لما ذكرنا، بخلاف وجوب ذكر الأجل في الإجارة، وبخلاف وجوب الرجوع في العارية. وأما ضمان ما قد وجب من الأموال فهو عقد مجمع على صحته، وقد جاء النص به، وكذلك الحوالة وإذ هما كذلك فلا رجوع لأحد فيها لما ذكرنا من أن ما صح في أول لم يبطل في ثان إلا بنص أو إجماع، وكذلك الحبس والهبات والصدقات والعمرى كل ذلك قد بان عن الملك، فالرجوع فيه كسب على غيره وقد جاء النص ببطلان ذلك، قال الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } وأما القرض المؤجل فقد صح النص فيه بالأجل، وإذا صح بالنص فهو ثابت فلا رجوع لأحد فيه إذا كان شرط الأجل في حيز القرض لقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فإن انعقد حالاً، ثم شرط على نفسه أجلاً فهو شرط فاسد لا يلزمه، والدَّين حال كما كان، لأنه شرط ليس في كتاب الله، ولا أجمع على لزومه فهو باطل.
وأما المزارعة والمساقاة المعقودتان إلى أجل فقد ادعى قوم أن كل من أجازهما ــــ وهم أهل الحق ــــ قد أجازوهما إلى أجل مسمى، فالأجل فيهما شرط صحيح. وإذا كان صحيحاً في حين العقد فهو لازم، وإذا كان لازماً في وقته لم يبطل في ثانية إلا بنص أو إجماع، ولا نص ولا إجماع في ذلك إلا بتراضيهما معاً، للإجماع على ذلك. قال أبو محمد: وهذا خطأ، بل قد صح الإجماع على عقدهما بغير أجل، ولم يأت عن أحد من الصحابة، ولا من التابعين تجويزهما إلى أجل فعقدهما إلى أجل لا يجوز البتة، لأنه لم يوجد نص ولا إجماع، فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل بحكم النبي . وليس تراضي المتعاقدين عقداً صحيحاً، أو المتشارطين شرطاً صحيحاً، بنص أو إجماع ثم تراضيا معاً على فسخه أو تأجيله، مجيزاً لهما ذلك، بل رضاهما بفسخه أو تأجيله، باطل، والعقد والشرط باق كما كان، إلا أن يبيح لهما النص أن يتراضيا على فسخه، فيكون لهما ذلك حينئذ، وإلا فلا، لأنه ليس لأحد أن يوجب، ولا أن يحرم، ولا أن يحلل إلا بنص، ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله، قال الله تعالى: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى } ، والكل عبيد لا أمر لهم ولا حكم إلا ما حكم به عليهم، ولهم خالقهم ومولاهم عز وجل.
وأما النكاح والبيع فقد جاء النص بصفة عقدهما، وبصفة فسخهما، فليس لأحد أن يعقدها بغير تلك الصفة، فإن فعل فليس نكاحاً ولا بيعاً، وهو مردود مفسوخ أبداً. ومن عقدهما كما أمر فليس له فسخهما إلا بالصفة التي أتى النص بفسخهما بها، وإلا كان فسخه باطلاً مردوداً، وثبت عقدهما كما كان، وقد حرم بيع أم الولد بالنص الوارد في ذلك مما قد ذكرناه في كتاب الإيصال وفي المحلى، فلم يلتفت إلى الخلاف في ذلك. وقد صح النص بجواز الهبة ووجوب قبولها، وتحريم الرجوع فيها، فلم يجز الرجوع في شيء من الهبة ولا الصدقة من ذلك حاشا العطية للولد فقط، للنص في ذلك، ولم يأت نص ولا إجماع على رد الحبس لا بتراض ولا بغير تراض فلم يجز أصلاً. قال أبو محمد: فإن قال قائل: أنتم لا تلزمون أحداً الوفاء بعهده ووعده إلا أن يوجب ذلك عليه نص، ومن مذهبكم أن وعد الله تعالى ووعيده نافذان لا سبيل إلى دخول خلف فيهما. فالجواب: أن هذا الذي نقول هو الذي لا يجوز تعديه، لأننا متعبدون ليس لنا أن نلتزم شيئاً إلا ما ألزمنا خالقنا تعالى، فإلزامنا فعل شيء لم يأتنا نص ولا إجماع بأن نفعله باطل، والله تعالى ليس كذلك، لأنه ليس فوقه أمر فكل ما قضى به نافذ وكل ما قاله فحق. وأيضاً فوعدنا نحن ليس خبراً لأنه لا علم لنا بما يكون في المستأنف، والله تعالى ليس كذلك، لأنه عليم بما يكون قبل أن يكون، فكل ما أخبر تعالى أنه يفعله فلا بد أن يفعله، ومن أجاز غير ذلك أجاز على الله تعالى الكذب في خبره، تعالى الله عن ذلك قال الله عز وجل: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } ما خالف الحق فهو باطل تعالى الله عن الباطل، فوعد الله تعالى ووعيده خبر لا بد من كونه لأنه حق وصدق وعلم منه تعالى بما يكون من ذلك، وعلمه صادق لا يخيس أصلاً. ولا يظن ظان أننا نقول بالوعيد كقول المعتزلة: من إبطال سيئة واحدة للحسنات، ومن الخلود على المصر على الكبائر، ومعاذ الله من ذلك. ولكنا نقول بما جاء به النص من الموازنة، وذهاب السيئات بالحسنات، بمعنى أن الحسنات تذهب السيئات، وبأن من استوت حسناته وسيئاته، أو رجحت حسناته لم ير نار أصلاً، ولكن من رجحت سيئاته وكبائره ممن مات مصرّاً فهؤلاء الذين يخرجون من النار بالشفاعة، ولا خلود على مسلم في النار، ولا يدخل الجنة كافر أبداً، وبالله تعالى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.