ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول/الباب التاسع والعشرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال أبو محمد: ظن قوم بجهلهم أن قولنا بالدليل خروج منا عن النص والإجماع وظن آخرون أن القياس والدليل واحد، فأخطؤوا في ظنهم أفحش خطأ. ونحن إن شاء الله عز وجل نبين الدليل الذي نقول به بياناً يرفع الإشكال جملة فنقول وبالله تعالى التوفيق: الدليل مأخوذ من النص ومن الإجماع. فأما الدليل المأخوذ من الإجماع فهو ينقسم أربعة أقسام كلها أنواع من أنواع الإجماع وداخلة تحت الإجماع وغير خارجة عنه، وهي استصحاب الحال، وأقل ما قيل وإجماعهم على ترك قولة ما، وإجماعهم على أن حكم المسلمين سواء وإن اختلفوا في حكم كل واحدة منها وهذه الوجوه قد بيناها كلها في كلامنا في الإجماع فأغنى عن تردادها. وبالله تعالى التوفيق. وأما الدليل المأخوذ من النص، فهو ينقسم أقساماً سبعة كلها واقع تحت النص: أحدها: مقدمتان تنتج نتيجة ليست منصوصة في إحداهما كقوله : «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» النتيجة: كل مسكر حرام، فهاتان المقدمتان دليل برهاني على أن كل مسكر حرام. وثانيها: شرط معلق بصفة فحيث وجد فواجب ما علق بذلك الشرط، مثل قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } فقد صح بهذا أن من انتهى غفر له.

وثالثها: لفظ يفهم منه معنى فيؤدى بلفظ آخر وهذا نوع من تسميه أهل الاهتبال بحدود الكلام «المتلائمات» مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } فقد فهم من هذا فهماً ضرورياً أنه ليس بسفيه وهذا هو معنى واحد يعبر عنه بألفاظ شتى كقولك الضيغم والأسد والليث والضرغام وعنبسة، فهذه كلها أسماء معناها واحد وهو الأسد. رابعها: أقسام تبطل كلها إلا واحداً فيصح ذلك الواحد مثل أن يكون هذا الشيء إما حرام فله حكم كذا، وإما فرض له حكم كذا وإما مباح فله حكم كذا، فليس فرضاً ولا حراماً فهو مباح له حكم كذا أو يكون قوله يقتضي أقساماً كلها فاسد فهو قول فاسد.

وخامسها: قضايا واردة مدرجة فيقتضي ذلك أن الدرجة العليا فوق التالية لها بعدها وإن كان لم ينص على أنها فوق التالية، مثل قولك: أبو بكر أفضل من عمر، وعمر أفضل من عثمان، فأبو بكر بلا شك أفضل من عثمان. وسادسها: أن نقول: كل مسكر حرام، فقد صح بهذا أن بعض المحرمات مسكر وهذا هو الذي تسميه أهل الاهتبال بحدود الكلام، عكس القضايا، وذلك أن الكلية الموجبة تنعكس جزئية أبداً. وسابعها: لفظ ينطوي فيه معان جمة مثل قولك: زيد يكتب، فقد صح من هذا اللفظ أنه حي، وأنه ذو جارحة سليمة يكتب بها وأنه ذو آلات يصرفها، ومثل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } فصح من ذلك أن زيداً يموت وأن هنداً تموت وأن عمراً يموت وهكذا كل ذي نفس، وإن لم يذكر نص اسمه. فهذه هي الأدلة التي نستعملها وهي معاني النصوص ومفهومها وهي كلها واقعة تحت النص وغير خارجة عنه أصلاً، وقد بيناها وأنعمنا الكلام عليها في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب واقتصرنا ههنا على هذا المقدار من ذكرها فقط، وجميع هذه الأنواع كلها لا تخرج من أحد قسمين، إما تفصيل لجملة، وإما عبارة عن معنى واحد بألفاظ شتى، كلغة يعبر عنها بلغة أخرى. وأما ما أدرك بالحس فقط جاء النص بقبوله عز وجل: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } وسائر النصوص المستشهد فيها بالحواس وبالعقل، مع أن الحواس والعقل أصل لكل شيء وبهما عرفنا صحة القرآن والربوبية والنبوة فلم نحتج في إثباتها بالنص، لأنه لولا النص لم يصح ما يدرك بالعقل والحواس لكن حسماً لشغب أهل الضعف العاكسين للاستدلال القائلين لا نأخذ إلا ما في النصوص. وقد مضى الكلام في هذا في (باب إثبات حجة العقل) من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق، والاستدلال هو غير الدليل، لأنه قد يستدل من لا يقع على الدليل، وقد يوجد الاستدلال وهو طلب الدليل ممن لا يجد ما يطلب وقد يرد الدليل مهاجمة على من لا يطلبه، إما بأن يطالعه في كتاب، أو يخبره به مخبر أو يثوب إلى ذهنه دفعه، فصح أن الاستدلال غير الدليل، وصح أن دليلنا غير خارج عن النص أو الإجماع أصلاً، وأنه إنما هو مفهوم اللفظ فقط، والعلة لا تسمى دليلاً، والدليل لا يسمى علة، فالعلة هي كل ما أوجب حكماً لم يوجد قط أحدهما خالياً من الآخر كتصعيد النار للرطوبات واستجلابها الناريات فذلك من طبعها.

وههنا خلط أصحاب القياس فسموا الدليل علة والعلة دليلاً ففحش غلطهم وسموا حكمهم في شيء لم ينص عليه بحكم قد نص عليه شيء آخر دليلاً وهذا خطأ بل هذا هو القياس الذي ننكره ونبطله فمزجوا المعاني وأوقعوا على الباطل اسم معنى صحيح وعلى معنى صحيح اسم معنى باطل، فمزجوا الأشياء وخلطوا ما شاؤوا. ولم يصفوا بعض المعاني من بعض، فاختلط الأمر عليهم وتاهوا ما شاؤوا والحمد لله على هدايته وتوفيقه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وبالله تعالى التوفيق والحول والقوة به عز وجل.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الأول

في استصحاب الحال (1) | في استصحاب الحال (2) | في استصحاب الحال (3) | وهو باب الحكم بأقل ما قيل | في ذم الاختلاف | في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل | في الشذوذ | في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا | في الدليل | في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض | في صفة التفقه في الدين | في وجوب النيات في جميع الأعمال | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها | في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد أيلزمنا اتباعها