إقامة الدليل على إبطال التحليل/28

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



المسلك الثامن[عدل]

قوله سبحانه وتعالى: { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا } وقد روى ابن ماجه وابن بطة بإسناد جيد عن أبي بردة عن النبي قال: [ ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزؤن بأياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك ] وفي لفظ لابن ماجه خلعتك راجعتك وقد روى مرسلا عن أبي بردة فوجه الدلالة أن الله سبحانه حرم على الرجل أن يرتجع المرأة يقصد بذلك مضارتها بأن يطلقها ثم يمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يرتجعها ثم يطلقها قبل جماع أو بعده ويمهلها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يرتجعها ثم يطلقها فتصير العدة تسعة أشهر وهكذا فسره عامة العلماء من الصحابة والتابعين وجاء فيه حديث مستد

ومعلوم أن هذا الفعل لو وقع اتفاقا من غير قصد منه بأن يرتجعها راغبا فيه ثم يبدو له فيطلقها ثم يبدو له فيرتجعها راغبا ثم يبدو له فيطلقها لم يحرم ذلك عليه لكن لما فعله لا للرغبة لكن لمقصود آخر وهو أن يطلقها بعد ذلك ليطيل العدة عليها حرم ذلك عليه وتطويل العدة هنا لم يحرم لأنه في نفسه ضرر فإنه لو كان كذلك لحرم وإن لم يقصد الضرر كالطلاق في الحيض أو بعد الوطء قبل استبانة الحمل وإنما حرم لأنه قصد الضرر فالضرر هنا إنما حصل بأن قصد بالعقد فرقة توجب ضررا لو حصل بغير قصد إليه لم يكن سببه حراما كما أن المحلل قصد بالعقد فرقة توجب تحليلا لو حصل بغير قصد لم يكن سببه حراما فإما أن يكون القصد لغير مقصود العقد محرما للعقد أو لا يكون فإن لم يكن محرما للعقد والفعل المقصود هنا وهو الطلاق الموجب للعدة ليس محرما في نفسه فيجب أن يكون صحيحا على أصل من يعتبر ذلك وهو خلاف القرآن وإن كان محرما للعقد فيجب أن يكون نكاح المحلل باطلا وذلك أن الطلاق المنضم إلى النكاح المتقدم يوجب العدة المحرمة لنكاحها ويوجب حلها للزوج الأول فلا فرق بين أن يقصدج النكاح وجود نحريم شرع ضمنا أو وجود تحليل شرع ضمنا فإنه ما شرع الله من التحريم أو التحليل ضمنا وتبعا لا أصلا وقصدا ومتى أراده الإنسان أصلا وقصدا فقد ضاد الله في حكمه

يوضح ذلك: أن الطلاق سبب لوجوب العدة وإذا وقع كانت العدة عبادة لله تثاب المرأة عليها إذا قصدت ذلك كما أن الطلاق الثاني سبب يحل المطلقة والرجعة مقصودها المقام مع الزوجة لا فراقها كما أن النكاح مقصوده ذلك ولكن في العدة ضرر بالمرأة يحتمل من الشارع إيجاب ما يتضمنه ولا يحتمل من العبد قصد حصوله وكذلك في طلاق الزوج الثاني حل لمحرم وزوال ذلك التحريم يتضمن زوال المصلحة الحاصلة في ذلك التحريم فإنه لولا مافي تحريمها علىالمطلق من المصلحة لما شرعه الله وزوال هذه المصلحة يحتمل من الشارع إثبات ما يتضمنه ولا يحتمل من العبد قصد حصوله ولافرق في الحقيقة بين قصد تحليل مالم يشرع تحليله مقصودا وبين قصد تحرم مالم يشرع تحريمه مقصودا والله أعلم وهذا الوجه قد تقدم التنبيه عليه في قاعدة الحيل وإنما ذكرناه هنا لخصوصه في النكاح والرجعة

المسلك التاسع[عدل]

قوله سبحانه: { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } ومن آيات الله شرائع دينه في النكاح والطلاق والرجعة والخلع لأنها الطريق التي يحل بها الحرام من الفروج أو يحرم بها الحلال وهي من دين الله الذي شرعه لعباده وكل ما دل على أحكام الله فهو من آياته والعقود دلائل على الأحكام الحاصلة بها وذكره هذه الآية بعد أن أباح أشياء من هذه العقود وحرم أشياء دليل على أنها من الآيات وإلا لم يكن ذكرها عقيب ذلك مناسبا وعن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي أنه قال: [ ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك ] رواه ابن ماجه وابن بطة وفي لفظ له: خلعتك راجعتك طلقتك راجعتك

وهذا دليل عنى أنها من آياته وإذا كانت من آباته فاتخاذها هزوا ففعلها مع عدم اعتقاد حقائقها التي شرعت هذه الأسباب لها كما أن استهزاء المنافقين أنهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنما معكم إنما نحن مستهزئون فيأتون بكلمة الإيمان غير معتقدين حقيقتها بل مظهرين خلاف ما يبطنون فكل من أتى بالرجعة غير قاصد بها مقصود النكاح بل الضرر أو نحوه أو أتى بالنكاح غير قاصد به مقصود النكاح بل التحليل ونحوه فقد اتخذ آيات الله هزوا حيث تكلم بكلمة العقد وهو غير معتقد للحقيقة التي توجبها هذه الكلمة من مقصود النكاح كالمنافق في أصل الدين سواء فذاك نفاق في أصل الدين وهذا نفاق في شرائعه فإن قول الإنسان آمنا كقوله تزوجت هو إخبار عما في باطنه من الاعتقاد المتضمن للتصديق والإرادة من وجه وهو إنشاء العقد للإيمان وعقد النكاح من حيث هو يبتدىء الدخول في ذلك من وجه فإذا لم يكن صادقا في الإخبار عما في باطنه من الاعتقاد إذ لا تصديق معه ولا إرادة له ولا هو داخل في حقيقة الإيمان والنكاح بل إنما تكلم بكلمة ذلك لحصول بعض الأحكام التي هي من توابع ذلك فليس هو صادقا في هذه الكلمة لا من حيث هي إنشاء ولا من حيث هي إخبار

وذكره في هذه الآية بعد قوله سبحانه: { ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا } دليل على إمساكهن ضرارا من اتخاذ آيات الله هزوا وما ذاك إلا لأن الممسك تكلم بالرجعة وهو غير معتقد لمقصود النكاح بل إنما نكح ليطلق والطلاق ليس هو المقصود بالنكاح ولا من المقصود به وإثبت أن التحليل من اتخاذ آيات الله هزوا ثبت أنه حرام ثم يلزم من تحريمه فساده بإبطال مقصود المحلل من ثبوت نكاحه ثم نكاح المطلق وهذا الوجه قد تقدم ذكره بطريق العموم في القاعدة الأولى في الإستدلال بآيات الإستهزاء في تقرير أن المقاصد معتبرة في العقود وإنما ذكر هنا لأن الكتاب والسنة دلا على النهي عن الإستهزاء في النكاح بخصوصه فلذلك ذكر في الأدلة العامة والخاصة ثم لما دلت هذه الآية على إبطال الإستهزاء بآيات الله وكان ذلك يدخل في الهازل والمحلل بطل على كل منهما مقصوده ومقصود الهازل أن لا ينعقد النكاح فصحح عقده ومقصود المحلل هو التحليل فلا يحصل والله أعلم

المسلك العاشر[عدل]

إنه قصد بالعقد غير ما شرع له العقد فيجب أن لا يصح وذلك لأن الله سبحانه شرع العقود أسبابا إلى حصول أحكام مقصودة فشرع البيع سببا لملك الأموال بطريق المعاوضة والهبة سببا لملك المال تبرعا والنكاح سببا لملك البضع والخلع سببا لحصول البينونة فحقيقة البييع والهبة ومقصودهما المقوم لهما الذي لا قوام لهما بدونه إنتقال الملك من مالك إلى مالك على وجه مخصوص وملك المال هو القدرة على التصرف فيه بجميع الطرق المشروعة وحقيقة النكاح ومقصوده حصول السكن والإزدواج بين الزوجين لمنفعة المتعة وتوابعها ونحو ذلك وحقيقة الخلع ومقصوده حصول البينونة بين الزوجين وأن تملك المرأة نفسها فإذا تكلم بالكلمات التي هي صورة هذه العقود غير معتقد لمقاصدها وحقائقها بحيث يعلم من نفسه أنه إذا ثبت حقيقة العقد لم يرض لذلك لم يصح العقد لوجهين:

أحدهما: إن الله سبحانه إعتبر الرضى في البيع فهو في النكاح أعظم اعتبارا والرضا بالشيء إرادة له ورغبة فيه فمن لم يكن مريدا ولا راغبا في مقصود العقد لم يكن راضيا به فلا عقد له

الثاني: إن عقد المكروه لا يصح مع أنه قد تكلم بالعقد وما ذاك إلا لأنه قصد بلفظ العقد دفع الضرر عن نفسه لا موجب ذلك اللفظ كما قصد الناطق بكلمة الكفر مكرها دفع العذاب عن نفسه لا حقيقة الكفر وكذلك المخادع مثل المحلل ونحوه قصد بلفظ العقد رفع التحريم بأن يطلقها لا موجب ذلك اللفظ فهو كنطق المنافق بكلمة الإيمان كما أن الأول كنطق المكره بها فكلاهما لم يثبت في حقه حكم هذا القول لأنه قصد به غير موجبه بل إما بعض توابع موجبه أو غير ذلك لكن المكره معذور لأنه محمول عليه بسبب من خارج والمخادع غير معذور إذ هو محمول عليه بسبب من نفسه

ونكتة هذا: أن مقصود النيات معتبرة في العقود كاعتبارها في العبادات فإن الأعمال بالنيات فكل من قصد بالعقد غير المقصود الذي شرع له ذلك العقد بل قصد به سببا آخر أراد أن يتوسل بالعقد إليه فهو مخادع بمنزلة المرائي الذي يقصد بالعبادات عصمة دمه وماله لا حقيقة العبادة وإن كان هذا مقصودا تابعا لكنه ليس هو المقصود الأصلي وقد تقدم تقرير هذا الوجه في الأدلة العامة لكن ما كان من تلك الأدلة لا يمس بخصوصه مسألة التحليل لم نذكره وما دل عليها خصوصا كما دل على قاعدة الحيل عموما ذكرنا لأن تلقي الحكم من دليل يقتضيه بعينه أقوى من تلقيه من دليل عام

المسلك الحادي عشر[عدل]

إن الله سبحانه حرم المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره ومعلوم أن الله سبحانه إنما حرم ذلك لاشتمال هذا التحريم على مصلحة لعباده وحصول مفسدة في حلها له بدون الزوج الثاني وابنلاء وامتحانا لهم ليميز من يطيعه ممن يعصيه وقد قيل كان الطلاق في الجاهلية من غير عدد كلما شاء الرجل طلق المرأة ثم راجعها فقصر الله الأزواج على ثلاث تطليقات ليكف الناس عن الطلاق إلا عند الضرورة فإذا علم الرجل أن المرأة تحرم عليه بالطلاق كف عن ذلك إلا إذا كان زاهدا في المرأة فإذا كان هذا التحريم يزول بأن يرغب إلى بعض الأراذل في أن يطأ المرأة ويعطي شيئا على ذلك كان زوال هذا التحريم من أيسر الأشياء فما أكثر من يريد أن يطأ ويبذل فكيف إذا أعطى على ذلك جعلا

ولهذا قال : [ لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل ] فإن أدنى الحيلة من الحيل يمكن استحلال المحارم بها وإذا كان التحربم المتضمن لجلب مصالح خلعه ودفع المفاسد عنهم يزول بأدنى سعي غير مقصود لم يكن فيه كبير فائدة ولا مصلحة وكان إلى اللعب أقرب منه إلى الجد كما تقدم تقرير ذلك في الأدلة العامة

فإذا قيل: إن هذا حلال كان حقيقته أن المرأة تحرم على زوجها حتى ينزل عليها فحل من الفحول وإن لم يكن له رغبة في نكاحها بل يعطى على ذلك جعلا لكن لا بد أن يظهر صورة العقد والتزام المهر والأعمال بالنيات فيكون قائل هذا قد ادعى أن الله حرم المطلقة ثلاثا حتى توطأ وطء شبيها بالزنا بل هو زنا فإن هذا معناه معنى الزنا إذ الزاني هو من يريد وطء المرأة بدون النكاح الذي هو النكاح ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وقد سئل عن التحليل هو السفاح لو أدرككم عمر لنكلكم وفي رواية عنه كنا نعده على عهد رسول الله سفاحا وقال عمر رضي الله عنه لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وشبهه النبي بالتيس المستعار

إذ المقصود وطؤه لا ملكه كذلك هذا المحلل إنما يقصد منه الوطء المجرد لا أحكام العقد الذي هو الملك ولما رأى كثير من أهل الكتاب أن بعض المسلمين يقول أن المطلقة تحرم حتى توطأ على هذا الوجه وقد رأى أن معنى هذا معنى الزنا وحسب أن هذا من الدبن المأخوذ عن رسول الله أو تجاهل بإظهار ذلك أخذ يعير المسلمين بهذا ويقول إن دينهم أن المطلقة تحرم حتى تزني فإذا زنت حلت ذكر ذلك أبو يعقوب الجوزجاني وبعض المالكية وغيرهم حتى اعتمد بعض أعداء الله النصارى فيما يهجو به شرائع الإسلام على مسألة التحليل وأخذ ينفر أهل دينه عن الإسلام بالتشنيع بها ولم يعلم عدو الله أن هذا لا أصل له في الدين ولا هو مأخوذ عن السابقين ولا عن التابعين لهم بإحسان بل قد حرمه الله ورسوله قال أبو يعقوب الجوزجاني وأقول إن الإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهره وهو حقيق بالتوقير والصيانة من علة تشينه وأن ينزه عما أصبح أمناء الملل من أهل الذمة يعيرون به المسلمين على ما تقدم فيه من النهي عن رسول الله

وبالجملة: فهذا بين لمن تأمل وأنصف فإن دين الله أزكى وأطهر من أن يحرم فرجا من الفروج حتى يستعار له من تيس من التيوس لا يرغب في نكاحه ولا في مصاهرته ولا يرغب بقاؤه مع المرأة أصلا فينزو عليها وتحل بذلك فإن هذا بالسفاح أشبه منه بالنكاح بل هو سفاح وزنا كما سماه أصحاب رسول الله فكيف يكون الحرام محللا أم كيف يكون الخبيث مطيبا أو كيف يكون النجس مطهرا وغير خاف على من شرح الله صدره للإسلام ونور قلبه بالإيمان أن هذا من أقبح القبائح التي لا تأتي بها سياسة عاقل فضلا عن شرائع الأنبياء لاسيما أفضل الشرائع وأشرف المناهج والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يشرع مثل هذا ولما رأت القلوب السليمة والفطر المستقيمة أن حقيقة هذا حقيقة السفاح لا النكاح لم تلق له بالا فصار يتولد من فعل هذا من المفاسد أضعاف مفاسد المتعة

المسلك الثاني عشر[عدل]

وهذا هو المسلك الثاني عشر وهو أن جواز التحليل قد أفضى إلى مفاسد كثيرة وصار مظنة لها ولما هو أكبر منها وهو أن بعض التيوس المستعارة صار يحلل الأم وبنتها على ما أخبرني به من صدقته لأنه قد نصب نفسه لهذا السفاح فلا يميز من المنكوحة ولا له غرض في المصاهرة حتى يجتنب ما حرمته

ومنها: إنه يجمع ماءه في أكثر من أربع نسوة بل أكثر من عشر وهو ما أجمع الصحابة على تحريمه كما رواه عبيدة السلماني وغيره وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز إذا كان الطلاق رجعيا

ومنها: أن كثيرا ما يتوطأ هو والمرأة على أن لا يطأها إذ ليس له رغبة في ذلك والمرأة لا تعده زوجا فتنكشف أو تستحي أو تهاب أن تمكنه من نفسها إستشعارها أنه لم يتخذ زوجا

ومنها: إنه غالبا لا يكون كفء للمرأة ونكاح المرأة من غير كفء مكروه أو مشروط فيه رضا الأولياء أو باطل وغالبا لا يراعى فيه شيء من ذلك

ومنها: إن المطلقين لما ألقي إليهم خفة مؤونة الطلاق المحرم إذا كان التحريم يزول بتيس يعطى ثلاثة دراهم إو أقل أو أكثر حتى لقد بلغني ممن صدقته أن بعض التيوس طلب أكثر ما بذل له فقالت له المرأة وأي شيء تريد فعلت وأخذت سامح الناس في ذلك حتى ربما كتم لزوج الطلاق وحللها بدون إذن الولي لعلمه بأن الولي لا يزوجها من ذلك الرجل ونكاح المرأة من غير كفء بدون إذن الولي من أبطل النكاح وأعظمه مراغمة للشريعة ومما آل به إستخفاف شأن التحليل أن الأمر أفضى إلى أن صار كثير من الناس يحسب أن مجرد وطء الذكر مبيح حتى اعتقدوا أنها إذا ولدت ذكرا حلت واعتقد بعضهم أنه إذا وطئها بقدمه حلت واعتقد بعضهم أنه إذا صب دهنا فوق رأسها حلت كأنهم شبهوه بصب المني

حدثني بهده الأشياء من له خبرة بهذه الأشياء من النساء اللواتي تفضي النساء إليهن أسرارهن وحله بالأول مستقر في نفوس كثير من الجهال حتى بلغني أن الشيخ أبا حكيم النهرواني صاحب أبي الخطاب حضر حلقة شيخ نبيل الصورة فأكرمه وسأل الشيخ أبو حكيم عن المطلقة ثلاثا إذا ولدت ولدا ذكرا هل تحل فقال لا فقال له الشبخ أنا أفتي أنها تحل من البصرة إلى هنا فقال له الشيخ أبو حكيم ما زلت تفتي بغير دين الإسلام أو كما قال. فانظر إلى هذه الفضائح التي فيها انهدام شريعة الإسلام عند كثير من العامة أصلها والله أعلم ما ألقي إليهم ابتداء من أن المطلقة ثلاثا تحل بنكاح خارج عن النكاح المعروف وإلا فلو أن المطلقة لا تنكح إلا كما تنكح المرأة ابتداء لم يشتبه النكاح الذي هو النكاح بشيء من هذه القبائح كاشتباه التحليل به ومن مفاسده أن المرأة المطلقة إذا لم تنكح التيس نكاح رغبة لم يكن لها غرض في الولادة منه ولا في أن يبقى بينهما علاقة فربما قتلت الولد بل لعل هذا أوقع كثيرا ودائما وكثير منهن يستطيل العدة فإما أن تكذب أو تكتم

وما ذاك إلا لأنه يتوالى عليها عدتان ليس بينهما نكاحا وهي شديدة الرغبة في العودة إلى الأول ولو أنها ألقي إليها اليأس من العود إلى الأول إلا بعد نكاح تام كالنكاح المبتدأ لم يكن شيء من هذا ومن ذاك ما بلغني أن رجلا ترك من حلل امرأة في بيته فلما خرج دعته نفسه إلى أن راود المرأة عن نفسها وقال إن الحل لا يتم إلا برجلين وما ذاك إلا لأنه رأى غيره قد أتى بالسفاح دعته نفسه إلى التشبه به إذ النفوس مجبولة على التشبه ولو أن ذلك الرجل أحصن فرج المرأة ونكحها نكاح المسلمين لم يحدث هذا نفسه بالتشبه به في تلك المرأة ومن ذلك أن تجويز التحليل قد أفضى إلى ما هو غالب في التحليل بين الزوجين أو لازم له من الأمور المحرمة وهو أن المرأة المعتدة لا يحل لأحد أن يصرح بخطبتها في عدتها إلا أن يكون ممن يجوز له نكاحها في العدة دل عليه الكتاب واجتمعت عليه الأمة قال تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } وقد قال قبل هذا: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا }

وأما التعريض فيجوز في حق من لا يمكن عودها إلى زوجها مثل المتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثا عند الجمهور

فأما المرأة المزوجة فلا يجوز أن تخطب تصريحا ولا تعريضا بل ذلك تحبيب للمرأة على زوجها وهو من أقبح المعاصي والمطلقة ثلاثا أحرم على المطلق من المزوجة فلا يجوز له أن يصرح بخطبتها ولا يعرض لا في العدة ولا بعد العدة ثم إذا تزوجها رجل لم يجز له أن يصرح بخطبها أو لا يعرض حتى يطلقها ثم إذا طلقها لم يجز التصريح بخطبتها حتى تقضي العدة وإنما لجوز التعريض إذا كان الطلاق ثلاثا عند الجمهور فإن كان الطلاق بائنا ففيه خلاف مشهور وإن كان رجعيا لم يجز وفاقا وقد أفضى تجويز التحليل إلى أن يطلق الرجل المرأة ثلاثا فيواعدها في عدتها على أن يتزوجها بعد التحليل ويسعى هو في هذا التحليل وربما أعطاها ما تعطيه المحلل وأنفق عليها مدة العدتين إنفاقه على زوجته فيا سبحان الله أين مواعدتها على أن يتزوجها وهي في العدة من غيره وقد حرمه الله من مواعدتها على أن يتزوجها قبل العدة بدرجتين وليس يخفى على اللبيب أن هذا ركوب للمحرم مكررا مغلظا ومن شرح الله صدره للإسلام علم أن الفعل إذا كان مظنة لبعض هذه المفاسد حسم الشارع الحكيم مادته بتحريمه جميعه ألا نرى أن النبي لما استأذنه وفد عبد القيس في الانتباذ في وعاء صغير قال لو رخصت لكم في هذه لجعلتموها مثل هذه ثم يشرب أحدكم حتى يضرب ابن عمه بالسيف أو كما قال وفي القوم رجل قد أصابه ذلك قال فسرت رحلي حياء من النبي فحرم الله ورسوله قليل الخمر وكثيرها وحكم بنجاستها ونهى عن الخليطين وعن شرب النبيذ بعد ثلاث وعن الأوعية المقوية كل ذلك حسما للمادة وإن كان العناد التام هو شرب المسكر لأن القليل من ذلك يقتضي الكثير طبعا

فكذلك أصل التحليل لما كان مفضيا إلى هذه المفاسد كثيرا أو غالبا كان الذي يقتضيه القياس تحريمه وقد تقدم في مسلك الذرائع شواهد كثيرة لهذا الأصل واعلم أنه ليس في المتعه شر إلا وفي التحليل ما هو شر منه بكثير فإن المستمتع راغب إلى وقت فيعطي الرغبة حقها بخلاف المحلل فإنه تيس مستعار فمن العجب أن يشنع على بعض أهل الأهواء بنكاح المتعة ولهم في استحلاله سلف ومعهم فيه أثر وحظ من قياس وإن كان مدفوعا بما قد نسخه ثم يرخص في التحليل الذي لعن الشارع فاعله ولم يبحه في وقت من الأوقات واتفق سلف الأمة على لعن فاعله وليس فيه حظ من قياس بل القياس الجلي يقتضي تحريمه ويعتصم من يفرق بينهما بمقارنة الشرط العقد وتقدمه عليه أو يكون هذا شرطا وذاك توقيتا وهو فرق بين ما جمع الله بينه وليس له أصل في كتاب ولا سنة ولا يعرف مأثورا عن أحد من السلف بل الأصول من الكتاب والسنة وما هو المأثور عن سلف الأمة يدل على أن الشروط معتبرة أما صحة ووفاء وأما فساد أو إلغاء سواء قارنت العقد أو تقدم عليه ولولا أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك لبسطنا القول فيه

فإنما قد قررنا أن مجرد النية تحليل والشرط المتقدم بطريق الأولى ولكن ننبه على بعض أدلة ذلك لكي يدخل فيه إذا تواطأ على التحليل ثم تزوجها غيرنا وللتحليل من غير إظهار ذلك قال الله تعالى أوفوا بالعقود وقال: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } وقال: { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } وقال: { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا }

ولم يفرق سبحانه بين عقد وعقد وعهد وعهد ومن شارط غيره في بيع أو نكاح على صفات اتفقا عليها ثم تعاقدا بناء عليها فهي من عقودهم وعهودهم لا يعقلون ولا يفهمون إلا ذلك والقرآن نزل بلغة العرب وقال سبحانه وتعالى: { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } وقال: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } يعني العهود ومن نكث الشرط المتقدم فهو ناكث كمن نكث المقارن لا تفرق العرب بينهما في ذلك وكذلك قال المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا رواه أبو داود وغيره

والمسلمون يفهمون أن ما تقدم العقد شرط كما قارنه حتى أنه وقت الخصام يقول أحدهما لصاحبه ألم يكن الشرط بيننا كذلك ألم نشارطك على كذا والأصل عدم ثقل اللغة وتعييرها وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته بقدر غدرته فيقال هذه غدرة فلان ومن شارط غيره على شيء على أن يتعاقدا عليه وتعاقدا ثم لم يف له بشرطه فقد غدر به هذا هو الذي يعقله الناس وبفهمونه ولا يعرف التفريق بينهما في معاني الكلام عن أحد من أهل اللغة ولا في الحكم عمن قوله حجة تلزمه وفي الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن النبي لما خطب في شأن بنت أبي جهل لما أراد علي رضي الله عنه أن يتزوجها قال فذكر صهرا له من أبي العاص قال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي ومعلوم أنه إنما قال هذا مدحا لمن فعله وذما لمن تركه وإلا لم يكن حجة لما قرنه به والوعد في العقود إنما يتقدمها لا يقارنها فعلم أن من وفى به كان ممدوحا ومن لم يف به كان مذموما معيبا وهذا شأن الواجب

وفي حديث السيرة المشهور أن الأنصار لما بايعوا النبي ليلة العقبة [ قالوا يا رسول الله اشترط لربك واشترط لنفسك واشترط لأصحابك فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أزركم واشترط لأصحابي أن تواسوهم فقالوا إذا فعلنا ذلك فما لنا قال الجنة قالوا مد يدك فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك فبايعوه ]

أفلا ترى كيف تقدم الشرط العقد ولم يحتج حين المبايعة أن يتكلم بالشروط المتقدمة ولو كانوا قد تكلموا بها فإنهم سموا ما قبل العقد اشتراطا فيدخل في مسمى الشرط الذي دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء به وهذا المحلل يقال له شرطنا عنيك أنك إذا وطئتها فطلقها ويعقد العقد بعد ذلك وأيضا لو وصف المبيع أو الثمن المعين بصفات عند التساوم ثم بعد ذلك بزمان تعاقدا كان العقد مبنيا على ما تقدم بينهما من الصفة حتى إذا ظهر المبيع ناقصا عن تلك الصفة كان له الفسخ ولولا أن الصفة المتقدمة كالمقارنة لما وجب ذلك وكذلك لو رآه ثم تعاقدا بعد ذلك بزمن لا يفتر في مثله غالبا ولولا أن الرؤية المتقدمة كالمقارنة لما لزم البيع وبعض الناس يخالف في الصفة المتقدمة وأما الرؤية المتقدمة فلا أعلم فيها مخالفا ولا فرق بين الموضعين بل الواصف إلى الفرقة أقرب وأيضا فإن من دخل مع رجل في عقد على صفات تشارطوا عليها وعقدوا العقد ثم نكث به فلا ريب أنه قد خدعه ومكر به فإن الخدع أن يظهر له شيئا ويبطن خلافه والمكر قريب من ذلك وهذا مما تسميه الناس خديعة ومكرا

والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا زوالها وتغييرها والخديعة والمكر حرام في النار كما دل عليه الكتاب والسنة وأيضا فإن العقود في الحقيقة إنما تثبت على رضى المتعاقدين وإنما كلامهما دليل على رضاهما كما نبه عليه قوله سبحانه: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ولما كانت البيوع تقع غالبا قبل الإختيار والإستكشاف شرع فيها الخيار إلى التفرق بالأبدان ليتم الرضى بذلك وأكتفى في النكاح بما هو الغالب من تقدم الخطبة على العقد لاستعلام حال الزوجين وإذا تشارطا على أمر يتعاقدان عليه ثم تعاقدا فمن المعلوم أن كلا منهما إنما رضي بالعقد المشروط فيه الشرط الذي تشارطا عليه أولا ومن ادعى أن أحدهما رضي بعقد مطلق خال عن شرط كان بطلان قوله معلوما بالإضطرار وإذا كانا إنما رضيا بالعقد الذي تشارطا عليه قبل عقده وملاك العقود هو الرضى ووجب أن يكون العقد ما رضيا به لا سيما في النكاح الذى سبق شرطه عقده وليس بعد عقده خيار يستدرك فيه الفائت ولهذا قال : [ إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ] متفق عليه

وهذا بين لا خفاء فيه وأيضا فإن العقود في ائحقيقة إنما هي بالقلوب وإنما العبارات مبينات لما في القلوب لا سيما إن قيل هي إخبارات وبيانها لما في القلب لا يختلف بجمع الكلام في وقت أو يفرقه في وقتين لا سيما الكلام الكثير الذي قد يتعذر ذكره في التعاقد وهذا هو الواقع في خطاب جميع الخلق بل في أفصح الخطاب وأبلغه فإن من مهد قاعدة بين بها مراده فإنه يطلق الكلام ويرسله وإنما يريد به ذلك المقيد الذي تقدم والمستمع يفهم ذلك منه ويحمل كلامه عليه كالعالم يقول مثلا يجوز للرجل أن يوصي بثلث ماله فلا يدخل في كلامه المجنون ونحوه للعلم بأنه قد قرر في موضع آخر أن المجنون لا حكبم له في الشرع فكذلك الرجل يقول بعت وأنكحت فإن هذا اللفظ وإن كان مطلقا في اللفظ فهو مقيد بما تشارطا عليه قبل ومعنى كلامه بعتك البيع الذي تشارطنا وأنكحتك النكاح الذي تراضينا به فمن جعل كلامه مطلقا بعد أن تقدم منه المشارطة والمواطأة وققد خرج عن مقتضى قواعد خطاب الخلق وكلامهم في جميع إيجابهم ومقاصدهم وهذا واضح لا معنى للأطناب فيه

وإذا كان الشرط المشروط قبل العقد كالمشروط فيه فمعلوم أن الشرط العرفي كالشرط اللفظي ولهذا قالوا من دفع ثيابه إلى غسال يعرف منه الغسل بالأجرة لزمه الأجرة بناء على أن العرف شرط وكذلك من دخل حمام حمامي أو ركب سفينة ربان فإنه يلزمه الأجرة بناء على العرف وكذلك لا خلاف أنه لو أطلق الدراهم والدنانير في عقد بيع أو نكاح أو صلح أو غيرها إنصرف إلى النقد الغالب المعروف بين المتعاقدين وكان هذا العرف مقيدا للفظ ولم يجز أن ينزل على إطلاق اللفظ بإلزام مسمى الدرهم من أي نقد أو وزن كان ولو أطلق اللفظ في الإيمان والمثمنات ونحوها انصرف الاطلاق إلى السليم من العيوب بناء على أنه العرف وإن كان اللفظ أعم من ذلك والعرف الخاص في ذلك كالعام على ما شهد به باب الإيمان والنذور والوقوف والوصايا وغيرها من الأحكام الشرعية فإن كان بعض التيوس معروفا بالتحليل وجيء بالمرأة إليه فهو اشتراط منهم للتحليل لا يعقل الناس إلا هذا فلو لم يف بما شرطوه لكان عندهم خديعة ومكرا ونكثا وغدرا وعلى هذا فيبطل العقد من وجهين من جهة نية التحليل ومن جهة اشتراطه قبل العقد لفظا أو عرفا وكذلك على هذا لو شرط التحليل لفظا أو عرفا وعقد النكاح بنية ثانية كان النكاح باطلا على ظاهر المذهب لأن ما شرطوه عليه لم يرض الله به فلا يصح شرعا وما نواه الزوج لم ترض المرأة به ولا وليها فلا يصح لعدم الرضى من جهتهما فما رضوا به لم يأذن الله سبحانه فيه وما أذن الله فيه لم يرتضوا به فلا يصح واحد منهما

وهذا هو الجواب عما ذكروه في الاعتراض على دلالة الحديث من أن الشروط المؤثرة هي ما قارنت العقد دون ما تقدمته فإن هذا غير مسلم وهو ممنوع لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا وفاق ولا عبرة صحيحة والقول في النكاح والبيع وغيرهما واحد وقد سلمه بعض أصحابنا مثل أبي محمد المقدسي وادعى أن المؤثر في الفساد هو النية المقترنة بالعقد لا الشرط المتقدم والصحيح أن كلا منهما لو انفرد لكان مؤثرا كما تقدم وسلم آخرون منه القاضي أبو يعلى وغيره أن الشرط المتقدم إن لم يمنع القصد بالعقد كالتواطىء على أجل مجهول ونحوه لم يفسد العقد وإن منع القصد بالعقد كالتواطىء على بيع تلجئة ونكاح تحليل أبطل العقد والصحيح أن الشروط المتقدمة كالمقارنة مطلقا وهذا قول أبي حفص العكبري وهو قول المالكية

وأما قولهم بحمل الحديث على من أظهر التحلل دون من نواه ولم يظهره لئلا يفضي القول بالإفساد إلى إضرار المعاقد الآخر ولأن النية لو كانت شرطا لما صحت الشهادة على النكاح فنقول هذا السؤال من قال بموجبه فإنه يبطل أكثر صور التحليل التي هي منشأ الفساد وهو الذي قال به بعض التابعين إن صح وبعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه والجواب عنه أن الزوجة متى لم تعلم نية التحليل لم يضرها ذلك فإنها تعتقده حلالا فلا يكون أسوأ حالا من وطء الشبهة فالوطء حلال بالنسبة إليها حرام بالنسبة إلى الزوج كما لو تزوج امرأة يعلم أنها محرمة عليه وهي لا تعلم ذلك وكذلك ما يعطيها إياه من المهر والنفقة يحل لها أخذه كما يحل لها ذلك في مثل هذه الصورة ومثل ذلك ما ذكره أصحابنا وأكثر الفقهاء في الصلح على الإنكار والنكول فإن أحد المصالحين إذا علم كذب نفسه كان الصلح باطلا في حقه خاصة فيكون ما يأخذه من مال الآخر أو ما يهضمه من حقه حراما عليه

وكذلك لو ورث الرجل من أبيه رقيقا قد علم رجل أن الأب أعتقهم والابن لا يعلم ذلك فاشتراهم منه من يعلم بعتقهم كان البيع صحيحا بالنسبة إلى البائع فيحل له الثمن وكان إلى المشتري باطلا فلا يحل له استعبادهم وأشبه منه بمسألتنا لو كان بيد الرجل مال يملكه مثل عبد أعتقه فباعه لرجل فإنه يكون باطلا بالنسبة إلى البائع فيحرم عليه الثمن وهو حلال في الظاهر بالنسبة إلى المشتري فيحل له المبيع ونظائر هذا كثيرة في الشريعة وأما الشهود فإنهم يشهدون على لفظ المتعاقدين وبه يصح العقد في الظاهر فإن لم يشعروا بنيته للتحليل لم يكن عليهم إثم وإن علموا ذلك بقرينة لفظية أو عرفية كان كما لو علموا أن الزوج مكره فتحرم عليهم الشهادة على مثل هذا النكاح كما تحرم عليهم الشهادة على عقد الربا والنحل الجائرة وغير ذلك لكن إذا لم يكن إلا مجرد نية الزوج فهناك لا يظهر التحليل أصلا فلا يأثمون بالشهادة على ما ظاهره الصحة ولهذا لم يلعنوا في الحديث وإنما صححنا العقد في الظاهر بدون العلم بالقصد كما صححنا إسلام الرجل بدون العلم بما في قلبه فإن الألفاظ تعبر عما في القلوب والأصل فيها المطابقة والموافقة ولم تؤمر أن ننقب عما في قلوب الناس ولا نشق بطونهم ولكن نقبل علانيتهم ونكل سرائرهم إلى الله سبحانه ولكن هم فيما بينهم وبين الله مؤاخذون بنياتهم وسرائرهم وهذا بين وأما قولهم إذا اشترى بنيته أن لا يبيعه ولا يهب صح ولو شرط ذلك لم يصح فعلم أن النية ليست كالشرط فسيأتي إن شاء الله الكلام على ذلك ونبين الفرق بين نية تنافي مقصود العقد ومقتضاه ونية لا تنافيه كما فرق بين شرط ينافي العقد وشرط لا ينافيه ولا يلزم من كون بعض الأشياء تنافي العقد شرطا وقصدا أن يكون كل شيء ينافيه شرطا وقصدا كما سيأتي إن شاء الله تعالى

فإن قيل: فلوأظهرالمحلل فيما بعد العقد بنيته في العهد فما الحكم

قلنا: إن صدقته المرأة والزوج المطلق ثلاثا ثبت هذا المحكم في حق من صدقه فينفسخ نكاح المرأة وتحرم على المطلق ثلاثا مراجعتها ثم إن كان هذا قبل الدخول فلا صداق للمرأة إذا كانت مصدقة وإن كان بعده فلها المهر الواجب في النكاح الفاسد وإن لم تصدقه المرأة والمطلق لم يثبت حكم التحليل في حقها لكن إن كان هذا الإقرار قبل مفارقتها انفسخ النكاح ووجب نصف الصداق قبل الدخول وجميعه بعده وإن كان بعد المفارقة فإن صدقته المرأة وحدها لم يجز أن تعود إلى الأول لاعترافها بأنها محرمة هذا إن كانت ممن لها إقرار وإن صدقه المطلق ثلاثا وحده لم يؤثر في سقوط حق المرأة ولزمه ذلك في حق نفسه ولم يجز أن يتزوجها لاعترافه بأنها حرام عليه وأيهما غلب على ظنه صدق الزوج المحلل فيما ذكره من نيته فعليه فيما بينه وبين الله أن يبني على ذلك لكن في القضاء لا يؤخذ إلا بإقراره ونظير هذا أن يتزوج المرأة المطلقة ثلاثا رجل ثم يعترف أنها أخته من الرضاعة فإن هذا بمنزلة نية التحليل لأنه فساد انفرد بعمله

فإن قيل ما ذكرتموه معارض بما روى أبو حفص بن شاهين في غرائب السنن بإسناده عن موسى بن مطين عن أبيه عن بعض أصحاب النبي أن فلان تزوج فلانة ولا نراه إلا يريد أن يحلها لزوجها فقال رسول الله : [ أشهد على النكاح قالوا: نعم قال: ومهر قالوا: نعم قال: ودخل يعني الجماع قالوا: نعم قال: ذهب الخداع ] فوجه الدليل أنه لم يعرف حال الرجل ولم يقل إن نويت كذا فالنكاح باطل مع أنهم قالوا ما نراه يريد إلا ذلك والبحث عن مثل هذه الحال واجب إحتياطا للبضع وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإذا لم يبحث علم أن الأمر مطلق وأن الحكم لا يختلف قال بعض المنازعين وهذا مقطوع في الاستدلال

قلت: هذا حديث باطل لا أصل له عن رسول الله وموسى بن مطين متروك ساقط يروي المناكير عن المشاهير لا يحل الإستدلال بشيء من روايته قال فيه يحيى بن معين كذاب وقال أبو حاتم الرازي متروك الحديث ذاهب الحديث وقال أبو زرعة متروك الحديث وقال عبد الرحمن بن الحكم ترك الناس حديثه وهنا وإن كان معروفا عند العلماء فإنما ذكرناه لأن بعض المجازفين فيما ليس لهم به علم من مصنفي المجادلين قال موسى هذا من الثقاة العدول لما قيل إنه يروي المناكير عن المشاهير فاراد الدفع بما اتفق من غير مراقبة منه فيما يقول

ثم إن أصحابنا تكلموا على تقدير صحته فإن كان ذلك ضربا عن التكلف فإن مثل هذه العبارة يظهر عليها من التناقض ما لا يجوز نسبته إلى النبي بل هو دليل على أنه موضوع وذلك لأن قوله ذهب الخداع دليل على أن الخداع في العقود حرام وأن العقد إذا كان خداعا لم يحل وإلا لما فرق بين ذهابه وثبوته

ومعلوم أن العقد الفاسد الذي يعقد بغير شهود ولا إعلان ونحو ذلك مردود فلا يحصل به مقصود المحلل ولا غيره حتى يحصل به الخداع وإنما يخادع المخادع بأن يظهر ما ينفق في الظاهر فإذا كان مع فساد العقد في الظاهر لا خداع ومع صحته في الظاهر لا خداع فلم يبق للخداع موضع لأنه إما صحيح في الظاهر أو فاسد فكان هذا الكلام بعينه دليلا على أن مثل هذا العقد حلال حرام وهذا تناقض وانما أحسب الذي وضعه والله أعلم قد بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن التحليل خداع فإن أراد أن يضع حديثا يبين أن العقد إذا روعيت شروطه الظاهرة فقط ذهب خداعه فيكون خداعه إذا لم يراع وذلك أيضا لا خداع فيه إنما الخداع فيما خالف ظاهره فلجهله بمعنى الخداع ركب مثل هذا الكلام على النبي ثم إن هذا الحديث لوكان له أصل لكان حجة لأن التحليل محرم مبطل للعقد لأنهم قالوا: أن فلان تزوج فلانة ولا نراه إلا أن يريد أن يحلها لزوجها فعلم أنهم كان قد استقر عندهم إن أراد التحليل مما ينكر على الرجل لكنهم لم يجزموا بأنه أراد التحليل بل ظنوه ظنا والظن أكذب الحديث ثم لو لم تكن الإرادة مؤثرة في العقد لقال النبي وإذا أراد تحليلها أي إنكار في هذا كما قالوا تزوجها يريد أن يستمتع بها أو يريد أنها أعجبته إن أمسكها وإن كرهها فارقها أو نكحها يريد أن تربي أولاده كما قال جابر رضي الله عنه ونحو ذلك من المقاصد التي لا تحب فإن جواب هذا أنه كان يقول وإذا فعل هذا فأي منكر في هذا فلما لم يقل ذاك علم أن ذاك مؤثرا لكن إنما أنكر عليهم قولهم ولا نراه إلا يريد أن يحلها لزوجها قال الأصل في أقوال المسلمين وأعمالهم الصحة فلا يظن بهم خلاف ذلك إلا لإمارة ظاهرة ولم يذكروا ما يدل على ذلك ثم لو ظننا ذلك فإنا لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم كما أنه لما كان يُستأذن في قتل بعض من يظن به النفاق يقول أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فيقولون نعم فيقول أليس يصلي فيقولون نعم فيقول: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم كذلك إذا رأينا عقدا معقودا بشرائطه المعتبره لم يكن لنا أن نقول هذا باطل لأن صاحبه أراد كذا وكذا

لكن يقال على العموم من أراد التحليل فهو ملعون ونكاحه باطل فإذا ظهر أنه قصد ذلك رتب عليه حكمه في الظاهر وأما قول المنازع أنه لم يبحث عن نية الرجل فنقول قد كان تقدبم منه لعنه المحلل والمحلل له والنهي عن الخداع وفهموا مقصوده بذلك فلم يجب عليه بعد هذا أن يقول لكل من تزوج مطلقة غيره إن كنت نويت كما أنه لما بين سوء حال المنافقين لم يجب عليه كلما أسلم رجل أن يقول له هل أنت مؤمن أو منافق وصاحب العقد لم يظهر لهم أنه أراد الإحلال وإنما ظنوه ظنا بل لما فهموا من النبي أن مريد الإحلال مخادع

وظنوا بذلك الرجل أنه أراده من غير دلالة أنكروا عليه فأنكر عليهم هذا إن كاد لذلك أصل ثم إنه ذكر إمارات تدل علن عدم الخداع وهو المهر وما معه

ولأن المحلل يأخذ في العادة ولا يعطي و! لا فتسمية المهر ليست شرطا في صحة النكاح حتى يترتب عدم الخداع عليها فلما ذكرت دل ذلك على أنه يستدل بها على انتفاء الخداع فصار سوء الظن ممنوعا منه وبالجملة فالحديث لا أصل له ولو كان له أصل فهو إلى أن يكون حجة على إبطال التحليل أقرب منه إلى أن يكون حجة على صحته والله سبحانه أعلم فإن قيل هذا نصرف صدر من أهله في محله فيجب أن يكون صحيحا لأن السبب هو الإيجاب والقبول وهما ثابتان وأهلية المتصرف ومحلية الزوجين ثابتة لم يبق إلا القصد المقرون بالعقد وذلك لاتأثير له في إبطال الأسباب الظاهرة لوجوه:

أحدها: إنه إنما نوى الطلاق وهو مملوك له بالشرع فأشبه ما لو نوى المشتري إخراج المبيع عن ملكه وذلك لأن السبب مقتضى لتأييد الملك والنية لا تغير موجبات السبب حتى يقال إن النية توجب توقيت العقد وليس هي منافية لموجب العقد فإن له أن يطلق ولو نوى هو بالمبيع إتلافه أو إحراقه أوإغراقه لم يقدح في صحة البيع فنية الطلاق أولى وبهذا اعترضوا على قولنا إنه فصد إزالة الملك

الوجه الثاني: إن القصد لا يقدح في اقتضاء السبب حكمه لأنه وراء ما يتم به العقد فبصير كما لو اشترى عصيرا ومن نيته أن يتخذه خمرا أو جارية ومن نيته أن يكرهها على البغاء أو يجعلها مغنية فنية أو سلاحا ومن نيته أن يقتل به معصوما فكل ذلك لا أثر له من جهة أنه منقطع عن السبب فلا يخرج المسبب عن اقتضاء حكمه وبهدا يظهر الفرق بين هذا القصد وبين الإكراه فإن الرضى شرط في صحة العقد والإكراه ينافي الرضى وبه يظهر الفرق بينه وبين الشروط المقترنة فإنها تقدح في مقصود العقود وصاحب هذا الوجه يقول هب أنه قصد محرما لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك كما ذكرناه وكما لو تزوجها ليضارها أو ليضار زوجة له أخرى

الوجه الثالث: إن النية إنما تعطم في اللفظ المحتمل مثل أن يقول إشتريت هذا فإنه متردد بين الإشتراء له أو لموكله وإذا نوى أحدهما صح واللفظ هنا صريح في المقصود الصحيح والنية الباطنة لا أثر لها في مقتضيات الأسباب الظاهرة

الوجه الرابع: إن النية إما أن تكون بمنزلة الشروط أو لا تكون فإن كانت بمنزلة الشرط لزم أنه إذا نوى أن لا يبيع المشتري ولا يهبه ولا يخرجه عن ملكه أو نوى أن يخرجه عن ملكه أو نوى أن لا يطلق الزوجة أو أن يبيت عندها كل ليلة أو لا يسافر عنها بمنزلة أن يشترط ذلك في العقد وهو خلاف الإجماع وإن لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير لها حينئذ وهذا عمدة بعض الفقهاء

الوجه الخامس: إنا إنما أمرنا أن نحكم بالظاهر والله عز وجل يتولى السرائر فهذه خلاصة ما قيل في هذه المسأنة ولولا أنه كلام يخيل لمن لا فقه له حقيقة لكان الإضراب عنه أولى فإنه كلام مبناه على دعاوى محضة لم يعضد بحجة

فنقول في الجواب: لا نسلم أن هذا تصرف شرعي ولا نسلم وجود الإيجاب والقبول وذلك لأن الإيجاب والقبول إن عنى به مجرد اللفظ فيجب أن يقيد حكمه وإن صدر عن معتوه أو مكره أو نائم أو أعجمي لا يفقهه وإن عنى به اللفظ المقصود لم يخرج عن المكره لأنه قصد اللفظ أيضا ثم لا نسلم إن هذا بمجرد تصرف شرعي ولا إيجاب ولا قبول بل اللفظ المراد به خلاف معناه مكر وخداع وتدليس ونفاق

فإن كان من الألفاظ الشرعية فالتكلم به بدون معناه استهزاء بآيات الله سبحانه وتلاعب بحدوده ومخادعة الله ورسوله كما تقدم تقريره وإن عنى بالسبب للفظ الذي يقصد به معناه الذي وضع اللفظ له في الشرع سواء كان المعنى اللغوي مقررا أو مغيرا أو عنى به اللفظ لم يقصد به ما يخالف معناه أو اللفظ الذي قصد معناه حقيقة أو حكما وذكرنا هذين ليدخل فيهما الهازل فهدا صحيح لكن هذا حجة لنا لأن المحلل إذا قال تزوجت فلانة وهولا يقصد إلا أن يطلقها ليحلها فلم يقصد بلفظ التزوج المعنى الذي جعل له في الشرع لأننا نعلم أن هذا اللفظ لم يقع في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصده رد المطلقة إلى زوجها وليس له قصد في النكاح الذي هو النكاح ولا في شيء من توابعه حقيقة ولا حكما فإن النكاح مقصوده الإستمتاع والصلة والعشرة والصحبة بل هو أعلى درجات الصحبة فمن ليس قصده أن يصحب ولا يستمتع ولا أن يواصل ويعاشر بل أن يفارق لتعود إلى غيره فهو كاذب في قوله تزوجت بإظهاره خلاف ما في قلبه وإنما هو بمنزلة من قال لرجل وكلتك أو شاركتك أو ضاربتك أو ساقيتك وهو يقصد رفع هذا العقد وفسخه ليس له غرض في شيء من مقاصد هذه العقود فإنه كاذب في هذا القول بمنزلة قول المنافقين نشهد أنك لرسول الله وقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين فإن هذه الصيغ إخبارات عما في النفس من المعاني التي هي أصل العقود ومبدأ الكلام والحقيقة التي بها يصيراللفظ قولا ثم إنها إنما تتم قولا وكلاما باللفظ المقترن بذلك المعنى فتصير الصيغ إنشاءات للعقود والتصرفات من حيث أنها هي التي أثبتت الحكم وبها تم وهي إخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس فهي تشبه في اللفظ أحببت وأبغضت وأردت وكرهت وهي تشبه في المعنى قم وأقعد

وهذه الأقوال إنما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها حقيقة أو حكما ما جعلت له أو إذا لم يقصد بها ما يناقض معناها وهذا فيما بينه وبين الله سبحانه وأما في الظاهر والأمر محمول على الصحة الذي هو الأصل والغالب وإلا لما تم تصرف

فإذا قال: بعت وتزوجت كان هذا اللفظ دليلا على أنه قصد به معناه الذي هو المقصود به وجعله الشارع بمنزلة القاصد إذا هزل وباللفظ والمعنى جميعا يتم الحكم وإن كان العبرة في الحقيقة بمعنى اللفظ حتى ينعقد النكاح بالإشارة إذا تعذرت العبارة وينعقد بالكتابة أيضا ومعلوم أن حقيقة العقد لم يختلف وإنما اختلفت دلالته وصفته وهذا شأن عامة أنواع الكلام فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق لا سيما الأسماء الشرعية أعني التي علق الشارع بها أحكاما فإن المتكلم عليه أن يقصد تلك المعاني الشرعية والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني

فإن فرض أن المتكلم لم يقصد بها ذلك لم يضر ذلك المستمع شيئا وكان معذورا في حملها على معناها المعروف وكان المتكلم آثما فيما بينه وبين الله تعالى إنما يبطل الشارع معه ما نهاه عنه فإن كان لاعبا أبطل لعبه وجعله جادا وإن كان مخادعا أبطل خداعه فلم يحصل له موجب ذلك القول عند الله ولا شيء منه كالمنافق الذي قال أشهد أن محمدا رسول الله وقلبه لايطابق لسانه

وتحرير هذا الموضع: يقطع مادة الشغب فإن لفظ الإنكاح والتزويج موضوعهما ومفهومهما شرعا وعرفا نكاح وانضمام وازدواج موجبه التأييد إلا لمانع وحقيقته نكاح مؤبد يقبل الإنقطاع أو القطع ليس مفهومهما وموضوعهما نكاحا يقصد به رفعه ووصلا المطلوب منه قطعه وفرق بين اتصال يقبل الإنقطاع واتصال يقصد به الإنقطاع وكما أن هذا المعنى ليس هو معنى اللفظ ومفهومه فلا يجوز أن يراد به أصلا ولا يجوز أن يكون موضوعا له حقيقة ولا مجازا بخلاف استعماله في المتعة فإنه يصح مجازا وذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز أن يكون موضوعا لإثبات الشيء ونفيه على سبيل الجمع باتفاق العقلاء وإن كان كثير منهم أو أكثرهم يحيله على سبيل البدل أيضا لأن الجمع بين الإثبات والنفي جمع بين النقيضين وهو محال واللفظ لا يوضع لإرادة المحال

والنكاح هو صلة بين الزوجين يتضمن عشرة ومودة ورحمة وسكنا وازدواجا وهو مثل الأخوة والصحبة والموالاة ونحو ذلك من الصلات التي تقتضي رغبة كل واحد من المتواصلين في الآخر بل هو من أوكد الصلات فإن صلاح الخلق وبقاءه لا يتم إلا بهذه الصلة بخلاف تلك الصلات فإنها مكملات للمصالح فإذا كان مقصود الزوج حين عقده فسخه ورفعه صار قوله تزوجت معناه قصدت أن أصل إلى قطع وأوالي لا أعادي وأحب لا أبغض ومعلوم أن من قصد القطع والمعادات والبغض لم يقصد الوصل والموالاة والمحبة فلا يكون اللفظ دالا على شيء من معناه إلا على جهة التهكم والتشبه في الصورة بخلاف نكاح المتعة فإن غرضه وصل إلى حين وهذا نوع وصل مقصود فجاز أن يراد باللفظ ثم إن الشارع جعل موجب اللفظ هو الوصل المؤبد ومنع التوقيت لما أنه يحل بمقاصد النكاح ويشبه الإجارة والسفاح فكيف بالتحليل

فالمنع من دلالة هذا اللفظ على المتعة شرعي ولهذا جاز ورود الشرع بإباحة نكاح المتعة والمنع من دلالته على التحليل عقلي ولهذا لم يرد به الشرع بل لعن فاعله فهذا يبين فقه المسألة ويبين أن القول بجواز مثل هذا النكاح في غاية الفساد والمناقضة للشرع والعقل واللغة والعرف وأنه ليس له حظ من نظر ولا أثر أصلا خلاف ما ظنه بعض من لم يتفقه في الدين من أن القياس جوازه وكان هذا اعتقاد أن الحلال والحرام فيما بين العبد وبين ربه عز وجل إنما يرتبط بمجرد لفظ يخذل به لسانه وإن قصد بقلبه خلاف ما دل عليه لفظه بلسانه وهذا ظن من يرى النفاق نافعا عند الله تعالى

ونظير هذا ما يذكر أن بعض الناس بلغه أنه من أخلص لله أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فأخلص في ظنه أربعين صباحا لينال الحكمة فلم ينلها فشكى ذلك إلى بعض حكماء الدين فقال إنك لم تخلص لله سبحانه وإنما أخلصت للحكمة يعني أن الإخلاص لله سبحانه وتعالى إرادة وجهه فإذا حصل ذلك حصلت الحكمة تبعا فإذا كانت الحكمة هي المقصود ابتداء لم يقع الإخلاص لله سبحانه وإنما وقع ما يظن أنه إخلاص لله سبحانه وكذلك قوله ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله فلو تواضع ليرفعه الله سبحانه لم يكن متواضعا فإنه يكون مقصوده الرفعة وذلك ينافي التواضع وهكذا إذا تزوجها ليطلقها كان مقصوده هو الطلاق فلم يكن ما يقتضيه وهو النكاح مقصودا فلم يكن اللفط مطابقا للقصد

واعلم أن الكذب وإن كان يغلب في صيغ الأخبار وهذه صيغ إنشاء فإن الصيغ الدالة على الطلب والإرادة إذا لم يكن المتكلم بها طالبا مريدا كان عابثا مستهزئا أو ماكرا خادعا وأن الرجل لو قال لعبده أسقني ماء وهو لا يطلبه بقلبه ولا يريده فأتاه فقال ما طلبت ولا أردت كان مستهزئا به كاذبا في إظهاره خلاف ما في قلبه وإن قصد أن يجيبه ليضربه كان ماكرا خادعا فكيف بمن يقول تزوجت ونكحت وفي قلبه أنه ليس مريدا للنكاح ولا راغبا فيه وإنما هو مريد للإعادة إلى الأول فهو متصور بصورة المتزوج كما أن الأول متصور بصورة الآمر وبصورة المؤمن وبهذا ظهر الجواب عن قوله إن السبب تام فإنها مجرد دعوى باطلة وقوله لم يبق إلا القصد المقترن بالعقد

قلنا: لا نسلم ان هنا عقدا أصلا وإنما هو صورة عقد أما إن كانا متواطئين فلا عقد أصلا وإن كان الزوج عازما على التحليل فليس بعاقد بل هذا القصد يمنع العقد أن يكون عقدا في الحقيقة وإن كانت صورته صورة العقد وقوله وذلك لا تأثير له في الأسباب الظاهرة قلنا إن عنيت بالأسباب الظاهرة اللفظ المجرد كان التقدير أن المقاصد والنيات لا تأثير لها في الألفاظ وبطلان هذا معلوم بالاضطرار فإن المؤثر في صفاته اللفظ وأحكامه إنما هو عناية المتكلم وقصده وإلا فاللفظ وحده لا يقتضي شيئا وإن عنيت بالأسباب الظاهرة الألفاظ الدوال على معان فلا ريب أن القصد يؤثر فيها أيضا لأنه إذا قصد بها خلاف تلك المعاني كان صاحبها مدلسا ملبسا لكن الحكم في الظاهر يتبع الظاهر وليس القصد إشاعة الحكم بالصحة ظاهرا وإنما الكلام في الحل فيما بينه وبين الله سبحانه وقوله إنما نوى الطلاق وهو مملوك له بالعقد فهو كما لو نوى إخراج البيع عن ملكه وإحراقه أو إتلافه ونحو ذلك

قلنا: هذا منشأ الغلط فإن قصد الطلاق لم يناف النكاح من حيث هو قصد تصرفه في المملوك بإخراجه عن الملك وإنما نافاه من حيث أن قصد النكاح وقصد الطلاق لا يجتمعان فإن النكاح معناه الإجتماع والإنضمام على سبيل انتفاع كل من المجتمعين بصاحبه وألفه به وسكونه إليه وهذا ممن ليس له قصد إلا قطع هذا الوصل وفرق هذا الجمع مع عدم الرغبة في المؤالفة وانتفاء الغرض من المعاشرة لا يصح والطلاق ليس هو التصرف المقصود بالملك ولا شيئا منه وانما هو رفع سبب الملك فلا يقاس بتلك التصرفات وإنما ليرها من النكاح أن يقصد بالنكاح بعض مقاصده من النفع بها أو نفعها ونحو ذلك ونظير الطلاق أن لا يعقد البيع إلا لأن يفسخه بخيار شرط أو مجلس أو عيب أو فوات صفة أو إقالة فهل يجوز أن يقصد بالبيع أن يفسخ بعد عقده بأحد هذه الأسباب وإذا قال: بعت أو اشتريت وقصده فسخ العقد في مدة الخيار أو تواطأ على التقابل وعقدا فهل هناك تبايع حقيقي ونظير التحليل أن يحلف الرجل أنه لا بد أن يبيع عبده ثم يبيعه من رجل بنية أن يفسخ العقد في مدة أحد الخيارات فمن الذي سلم أن هذا باع عبده قط وإنما هذا تصور يصورة البائع وكذلك لو حلف ليهبن ماله ووهبه لابنه بنية أن يرتجعه ولما قال سبحانه: { وأقرضوا الله قرضا حسنا } و{ أنفقوا مما رزقناكم } لو أعطى ابنه مظهرا أنه مقرض منفق ومن نيته الارتجاع فهل يستحسن مؤمن هذا أن يدخل هذا في اسم المقرض المنفق وكذلك لما قال وآتوا الزكاة فلو آتاها الفقير قد واطأه على أن يعيدها إليه فهل يكون هذا مؤتيا للزكاة وبالجملة كل عقد أمكنه رفع من بيع أوإجارة أو هبة أو نكاح أو وكالة أو شركة أظهر عقده ومقصوده رفعه بعد العقد وليس غرضه العقد ولا شيئا من أحكامه وإنما غرضه رفعه بعد وقوعه فهذا يشبه التحليل وإن لم يمكن الفسخ إلا برضى المتعاقدين فتواطؤهما على التفاسخ قبل التعاقد من هذا الباب فإن هذا القصد والمواطأة تمنع أن يكون المقصود بالعقد مقتضاه ويقتضي أن يكون المقصود نقيض مقتضاه وإذا قصد المتكلم إنشاء أو إخبارا أو أمرا بالكلام نقيض موجبه ومقتضاه كأن الكلام نافيا لذلك المعنى وذلك القصد ومضادا له من هذه الجهة

ومما يوضح هذا: أن الطلاق وفسخ العقود هو تصرف في نفس الملك وموجب العقد برفعه وإزالته ليس هو تصرفا في المملوك بالعقد بإتلافه واهلاكه بخلاف أكل الطعام وإعتاق العبد المشتري وإحراقه واغراقه فإنه تصرف في الشيء المملوك لا بإتلاف وفرق بين إزالة الملك بقاء محل الملك ومورده الذي كان مملوكا وبين إتلاف نفس محل التصرف ومورده الذي هو محل الملك وإن كان المملوك قد يسمى ملكا تسمية للمفعول باسم المصدر فأين إتلاف نفس التصرف بفسخ العقد إلى إتلاف محل التصرف بالانتفاع به أو بغيره فتدبر هذا فإن به يظهر فساد قول من قال النية لا تغير موجب السبب وكيف لا تؤثر فيه وهي منافية لموجب السبب لأن مقتضاه ثبوت الملك المؤيد للانتفاع بالمعقود عليه ومقتضاها رفع هذا المقتض ليتبين لك الفرق بين النية المتعلقة بالسبب والنية المتعلقة بمحل السبب وبه يظهر الفرق بين هذا وبين أن ينوي بالبيع إتلاف المبيع فإن هذا نية لإتلاف المعقود عليه لا نية لرفع العقد

ومثل هذه النية لا تتأتى في النكاح فإن الزوج لا يمكنه إتلاف البضع ولا المعارضة عليه ولا يمكنه في الجملة أن ينتفع به إلا بنفسه فلا يتصرف فبه ببيع ولا هبة ولا إجارة ولا إعارة ولا نكاح ولا إتلاف وإذا أراد إخراجه عنه لم يكن له طريق مشروع لإزالة الملك بإبطال النكاح وأما البيع فلإخراج المبيع عن نفسه طرق فإذا قصد أن يزيل المبيع عن ملكه بإعتاق أو إحراق أو إغراق ونحو ذلك وكان مباحا مثل إيقاد الشمع وإلقاء المتاع في البحر ليخفف السفينة ونحو ذلك فإن هذا قصد بالعقد الانتفاع بالمعقود عليه فإن المقصود بالمال الانتفاع به والأعيان إنما ينتفع بذواتها إذا أتلفت ولهذا يصح أن يبذل المال ليحصل له الملك ليتلفه هذا الإتلاف ولا يجوز أن يبذل الصداق ليعقد البيع ليفسخ فإن هذا يبذل العوض لبقاء الأمرعلى ما كان وهذا حاصل بدون العوض ولم يبذله لشيء من مقاصد الملك وفوائد المعقود عليه والعقد إنما يقصد لأجل المعقود عليه فإذا لم يكن في المعقود عليه غرض لم يكن في العقد غرض أصلا فلم يكن عقدا وإنما هو صورة عقد لا حقيقة وإيضاح هذا أن نية الطلاق هو قصد رد المعقود عليه إلى مالكه وكذلك سائر الفسوخ وهذا القدر هو الذي ينافي قصد العقد أما قصد إخراجه مطلقا فإنه لا يتأتى في النكاح وهو في البيع لا ينافي العقد كما تقدم

وأما الجواب عن الوجه الثاني فنقول: قوله القصد لا يقدح في اقتضاء السبب حكمه دعوى مجردة فلا نسلم أن مجرد اللفظ سبب ولا نعلم أن القصد لا يقدح فيه وإنما السبب لفظ قصده المتكلم ابتداء ولم يقصد به ما ينافي حكمه أو لفظ قصد به المتكلم معناه حقيقة أو حكما وقد قدمت في الوجه الثاني عشر من إبطال الحيل ما يدل على اعتبار المقصود في العقود وبينا أن قصد ما ينافي موجب العقد في الشرع يمنع حله وصحته فإن عدم قصد العقد إن كان على وجه الإكراه عذر الإنسان فيه فلم يصح وان كان على وجه الهزل واللعب فيما لا يجوز فيه الهزل واللعب لم يلتفت الشرع إلى هزله ولعبه وأفسد هذا الوصف المنهى عنه وألزمه الحكم عقوبة له مع كونه لم يقصد ما ينافى العقد وانما ترك قصد العقد في كلام لا يصلح تجريده عن حكمه وبينا الفرق بين المحتال مثل المحلل ونحوه وبين الهازل من جهة السنة وآثار الصحابة،

ومن جهة أن هذا لو لفظ بما نواه بطل تصرفه وهذا لو لفظ به لم يبطل ومن جهة أن هذا أطلق اللفظ عاريا عن نبة لموجبه أو بخلاف موجبهما وهذا قيد اللفظ بنية تخالف موجبه ولهذا سمي الأول لاعبا وهازلا لكون اللفظ ليس من شانه أن يطلق ويعرى عن قصد معنى حتى يصير كالرجل الهزيل بل يوعي معنى يصير به حقا وجدا وسمي الثاني مخادعا مدالسا من جهة أنه أوعى اللفظ معنى غير معناه الذي جعله الشارع حقيقته ومعناه وذكرنا أن الأول لما أطلق اللفظ وهو لفظ لا يجوز في الشرع أعزاه عن معنى جعل الشارع له المعنى الذي يستحقه

والثاني: لما أثبت فيه ما يناقض المعنى الشرعي لم يمكن الجمع بين النقيضين فبطل حكمه وذكرنا أن صحة نكاح الهازل حجة في إبطال نكاح المحلل من جهة أن كلا منهما منهي عن اتخاذ آيات الله هزوا وعن التلاعب بحدوده فإذا فعل ذلك بطل هذا التلاعب وبطلان التلاعب في حق الهازل تصحيح العقد فإن موجب تلاعبه فساده وبطلان التلاعب في حق المحلل إفساد العقد فإن موجب تلاعبه صحته وذكرنا أن الهازل نقص العقد فكمله الشارع تحقيقا للعقد وتحصيلا لفائدته فإن هذا التكميل مزيل لذلك الهزل وجاعله جدا وأن المحلل زاد في العقد ما أوجب نفي أصله ولوأبطل الشارع تلك الزيادة لم يفد فإنها مقصودة له والقصد لم يرتفع كما أمكن رفع الهزل بجعل الأمر جدا وهذه فروق نبهنا عليها هنا وإن كان فيما تقدم كفاية عن هذا وأما المسائل التي ذكرها مثل شراء العصير فجوابها من وجهين:

أحدهما: إنه هناك قصد التصرف في المعقود عليه وهذا لا ينافي العقد وهنا قصد رفع العقد وهذا بنافيه ألا ترى أن قصده لاتخاذ العصير خمرا لا يفارق قصده أن يتخذه خلا من جهة العقد وموجباته وانما يفارقه من جهة أن هذا حلال وهذا حرام وهذا فرق يتعلق بحكم الشرع لا بالعقد من حيث حقيقته ونحن لم نقل أن الطلاق محرم وأنه أبطل العقد من جهة كونه محرما وإنما نافاه من جهة أن قصده بالعقد إزالته وإعدامه يناقض العقد حتى يصير صورة عقد لا حقيقة عقد

الوجه الثاني: إن الحكم في هذه المسائل كلها ممنوع فإن اشتراءه بهذه الئية حرام باطل ثم إن علم البائع بذلك كان بيعه حراما باطلا في حقه أيضا وقد تقدم ذكر ذلك والدلالة عليه وذكرنا لعن النبي عاصر الخمر وحديثا آخر ورد فيمن حبس العنب أيام القطاف ليبيعه لمن يتخذه خمرا بالوعيد الشديد وهذا الوعيد لا يكون إلا لفعل محرم وذكرنا أن الصحابة رضي الته عنهم جعلوا بيع العصير لمن يخمره بيعا للخمر وهو نهي يتعلق بتصرف العاقد في المعقود عليه فهو كنهي المسلم عن هبة المصحف لكافر وبيع العبد المسلم لكافر ونحو ذلك فيكون باطلا وقد تقدم ذكر ذلك في الوجه الثاني عشر وإن لم يعلم البائع بقصد المشتري كان البيع بالنسبة إلى البائع حلالا وبالنسبة إلى المشتري حراما لكن هنا فروع يخالف حكمها حكم غيرها مثل أن يتوب المشتري بعد ذلك فهل يجوز له التصرف في المشتري بدون تجديد عقد مع إمكانه وهو نظير إسلام الكافر هل يجوز له مع ذلك التصرف في المصحف الموهوب ونظير إسلام سيد العبد فإنا إنما منعنا من ثبوت يد الكافر على المصحف والمسلم لمقارنته اعتقاد الكفر له كما إنا منعنا من ثبوت يد المصرعلى ما يستعين به على المعصية لمقارنة اعتقاد المعصية له

وليس غرضنا هنا الكلام في هذا وإنما الغرض بيان منع هذه الأحكام ونظيره من النكاح أن يتزوج امرأة ليطأها في الدبر أو ليكريها لزنا ونحو ذلك فهذا مثل اشتراء العصير ليتخذه خمرا وبيع الأمة ليكرهها على البغاء فلا يجوز للولي تزويجها ممن يعلم أن هذا قصده ولا يصح النكاح حتى قد نص أصحابنا ومنهم أبو علي بن أبي موسى على أنه لو تزوجها نكاحا صحيحا ثم وطئها في الدبر فإنه ينهى عن ذلك فإن لم ينته فرق بينهما وهذا جيد فإن هذا الفعل حرام فمتى توافق الزوجان عليه أو أكرهها عليه ولم يمكن منعه إلا بالتفريق بينهما تعين التفريق طريقا لإزالة هذا المنكر وقد زعم بعض أهل الجدل المصنفين في خلاف الفقهاء لما ذكر عن الإمام أحمد أنه لا يجوز ولا ينعقد بيع العصير ممن يتخذه خمرا

قال: لا أظنه ينتهي إلى حد يقوي ولايجوز بيع العبد ممن يتلوط ولا بيع الأمة ولا تزوبج المرأة ممن يطأها في الموضع المكروه ثم قال ولا خلاف أنه يجوز بيع الأخشاب لمن يعمل آلات الملاهي وهذا الذي قاله هذا المجادل كله جهل وغلط وتخليط فإن الحكم في هذه المسائل كلها واحد وقد نص أصحاب الإمام أحمد على أنه لا يجوز بيع الأمرد ممن يعلم أنه يفسق به ولا بيع المغنية ممن يعلم أنه يتصرف فيها بما لا يحل ونص الإمام أحمد على أنه لا يجوز بيع الآنية من الأقداح ونحوها ممن لا يعلم أنه يشرب فيها المسكر ولا بيع المشمومات من الرياحين ونحوها ممن يعلم أنه يشرب عليها وكذلك مذهبه في بيع الخشب ممن يتخذها آلات اللهو وسائر هذا الباب جار عنده على القياس حتى أنه قد نص أيضا على أنه لا يجوز بيع العنب والعصير والدادي ونحو ذلك ممن يستعين على النبيذ المحرم المختلف فيه فإن الرجل لا يجوز له أن يعين أحدا على معصية الله وإن كان المعان لا يعتقدها معصية كإعانة الكافرين على الخمر والخنزير وجاء مثل قوله في هذا الأصل عن غير واحد من الصحابة وغيرهم رضي الله عنهم

هذا إذا كان التحريم لحق الله سبحانه وأما إذا تزوجها ليضارها فلا يحل له ذلك أيضا كما إذا اشترى من رجل شيئا ليضاره بمطل الثمن فإن علمت هي بذلك فقد رضيت بإسقاط حقها وإن لم تعلم لم يمكن إبطال العقد مطلقا لأن النهي عن العقد إذا كان لإضرار أحد المتعاقدين بالإحرام لم يقع باطلا كبيع المصراة وتلقي الركبان وبيع المعيب المدلس عيبه لأن النهي هنا إنما هو أحدهما لا كلاهما فلو أبطلنا العقد في حقهما جميعا لكان فيه إبطال لعقد من لم ينه ولكان فيه إضرار لمن أبطل العقد لرفع ضرره وهذا تعليق على الوصف ضد مقتضاه لأن قصد رفع ضرره قد جعل موجبا لضرره لكن يمكن أن يقال أن العقد باطل بالنسبة إلى المضار دون الآخر كما يقال في مواضع كغيرة مثل الصلح على الإنكار إذا كان أحدهما ظالما وشراء المعتق المجحود عتقه إذا لم يعلم المشتري ومثل دفع الرشوة إلى ظالم ليكف ظلمه ومثل إعطاء بعض المؤلفة قلوبهم ونظائره كثيرة فيكون نكاح الزوج باطلا بالنسبة إليه بمعنى أن استمتاعه بها حرام وبيع المدلس بالنسبة إلى البائع باطل بمعنى أنه لم يملك الثمن فهذا قد يقال مثله

وليس الغرض هنا بيان هذه المسائل وإنما الغرض بيان أنها غير واردة على ما ذكرنا وأما إذا تزوجها ليضار بها امرأة أخرى أو ليتعاونا على سحر أو غير ذلك من المحرمات ولم يكن مقصودهما النكاح وإنما الغرض التوصل به إلى ذلك المحرم فمن الذي سلم صحة هذا النكاح

فإن من قال: إن بيع الخبز واللحم ممن يعلم أنه يجمع عليه الفساق للشرب والزنا باطل وبيع الأقداح لمن يشرب فيها المسكر باطل وبيع السلاح ممن يقتل به معصوما باطل كيف لا يقول أن تزويج المرأة لمن يضر بها امرأة مسلمة ضررا محرما مثل أن يضربها باطل وإن أورد ما إذا لم يقصد الاستمتاع بها وإنما قصد مجرد إيذاء الزوجة الأولى بالغيرة فهذا نظير مسألتنا لأن هذا الأذى ليس بمحرم الجنس فلم يتزوجها لفعل محرم في نفسه ثم هو لا يمكن إلا مع بقاء النكاح فكأنه قصد بالنكاح بعض توابعه التي لا تحصل إلا مع وجوده وهي مما لا يحل قصده وإن جاز وجوده شرعا بطريق الضمن فهنا المحرم مجرد القصد فلا يشبه نكاح المحلل لأن المقصود هناك رفع النكاح وهنا بقاؤه لكن يشبهه من حيث أن المقصود هناك فعل هو محرم بطريق القصد مباح بطريق التبع وكذلك هنا المقصود غيرة الزوجة وهو محرم بطريق القصد مباح بطريق التبع

وصحة هذا النكاح فيها نظر فإن ما كان التحريم فيه لحق آدمي يختلف أصحابنا في فساده كما اختلفوا في الذبح بآلة مغصوبة وفي فساد العقود التي تحرم من الطرفين بحق آدمي مثل بيعه على بيع أخيه وسومه على سومه ونكاحه إذا خطب على خطبته فإن فيه خلافا معروفا ومن قال بالصحة اعتذر بأن المحرم ليس هو نفس العقد وإنما هو متقدم عليه وفرقا بعضهم بأن المنع هنا لحق آدمي فإن سلم صحة الفرق بين هذه الصورة وبين نكاح المحلل ونحوه لم يصح قياسه عليها ولا نقض دليلنا بها

وإن لم نسلم صحة الفرق سوينا بين جميع الصور في البطلان فيمنع الحكم في هذه المسائل وكذلك كلما يرد عليك من هذه المسائل المختلف فيها فإن الجواب على سبيل الإجمال أنه إنما يكون بين المسألتين فرق صحيح أو لا يكون فإن كان بينهما فرق لم يصح النقض ولا القياس وإن لم يكن بينهما فرق فالحكم في الجميع سواء نعم لو أوردت صور قد ثبتت الصحة فيها بنص أو إجماع وليس بينهما فرق لكان ذلك متوجها وليس إلى هذا سبيل ولا تعبأ بما يفرض من المسائل ويدعي الصحة فيها بمجرد التهويل أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك وقائل ذلك لا يعلم أحدا قال فيها بالصحة فضلا عن نفي الخلاف فيها وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يعذر المخالف فيها

وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد من ادعى الإجماع فهو كاذب فإنما هذه دعوى بشر وابن علية يريدون أن يبطلوا السنن بذلك يعني الإمام أحمد رضي الله عنه أن المتكلمين في الفقه من أهل الكلام إذا ناظرتهم بالسنن والآثار قالوا هذا خلاف الإجماع وذلك القول الذي بخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن فقهاء المدينة وفقهاء الكوفة مثلا فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالآراء حتى كان بعضهم ترد عليه الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام والآثار فلا يجد معتصما إلا أن يقول هذا لم يقل به أحد من العلماء وهو لا يعرف إلا أن أبا حنيفة ومالكا وأصحابهما لم يقولوا بذلك ولو كان له علم لرأى من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك خلقا كثيرا وإنما ذكرنا ذلك على سبيل المثال

وإلا فمن تتبع وجد في مناظرات الشافعي وأحمد وأبي عبيد واسحق بن راهويه وغيرهم لأهل عصرهم من هذا الضرب كثيرا ولهذا كانوا يسمون هؤلاء وأمثالهم فقهاء الحديث ومن تأمل ما ترد به السنن في غالب الأمر وجدها أصولا قد تلقيت بحسن الظن من المتبوعين وبنيت على قواعد مغروضة إما ممنوعة أو مسلمة مع نوع فرق ولم يعتصم المثبت لها في إثباته بكثير حجة أكثر من نوع رأي أو أثر ضعيف فيصير مثبتا للفرع بالفرع من غير رد إلى أصل معتمد من كتاب أو سنة أو أثر وهذا عام في أصول الدين وفروعه ويجعل هذه في مقابلة الأصول الثابتة بالكتاب والسنة فإذا حقق الأمر فيها على المستمسك بها لم يكن في يده إلا التعجب ممن يخالفها وهو لا يعلم لمن يقول بها من الحجة أكثر من مرونة عليها مع حظ من رأى

ومسألة بيع العصير ممن يتخذه خمرا من بابه الذي زعم هذا المجادل أن لا خلاف في بعضها: وعامة السلف على المنع منها وقد تقدم ذكر ذلك عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر في العنب والعصير بالتحريم وقال البخاري في بيع السلاح في الفتنة كره عمران بن حصين بيعه في الفتنة والكراهة المطلقة في لسان المتقدمين لا يكاد يراد بها إلا التحريم

ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف في ذلك إلا ما روى أبو بكر بن أبي موسى عن أبيه عن أبي موسى الأشعري أنه كان يبيع العصير وهذه حكاية حال يحتمل أنه كان يبيعه ممن يتخذه خلا أو ربا أو يشربه عصيرا أو نحو ذلك

وأما التابعون فقد منع بيع العصير ممن يتخذه خمرا عطاء بن أبي رباح وطاوس ومحمد بن سيرين وهو قول وكيع بن الجراح وإسحاق بن راهويه وسليمان بن داود الهاشمي وأبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأبي إسحاق الجوزجاني وغيرهم

ومنع مالك بن أنس من ببع الكفار ما يتقوون به من كراع وسروج وحرثى وغيره وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ذكرهما في الحاوي وجرى التصريح عن السلف بتحريم هذا البيع وبفساده أيضا وهو مذهب أهل الحجاز وأهل الشام وفقهاء الحديث تبعا للسلف فروى ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب عن سعيد عن مجاهد أن رجلا قال لابن عباس أن لي كروما فاعصرها خمرا فاعتق من ثمنها الرقاب وأحمل على جياد الخيل في سييل الله وأتصدق على الفقراء والمساكين فقال له ابن عباس: فسق إن أنفقت وفسق إن تركت فرجع الرجل فعقر كل شجرة عنب كان يملكها وروى عبد الله الملك بن حبيب في الواضحة عن شراحيل بن بكير أنه سأل ابن عمر عن بيع العصير فقال: لا يصلح فقال: إن عصرته ثم شربته مكاني قال: فلا بأس قال: فما بال بيعه حرام وشربه حلال فقال له ابن عمر ما أدري أجئت تستفتيني أم جئت تماريني قال ابن حبيب: نهى عن بيعه لأنه يصرف إلى الخمر إلا أن يكون يسيرا ويكون مبتاعه مأمونا يعلم أنه إنما يشتريه ليشربه عصيرا كما هو فلا بأس به

وكذلك بيع الكرم إذا خيف أن يكون مشتريه إنما يشتريه لعصره خمرا فلا يحل بيعه منه وكذلك إذا كان مشتريه مسلما يخالف أن يستحل ذلك فإما إن كان نصرانيا أو يهوديا فلا يحل بيعه منه على حال لأن شأنهم عصير الخمر وبيعها قد كره ذلك ابن عمر وابن عباس وغطاء والأوزاعي ومالك وغير واحد وضرب الأوزاعي لذلك مثلا كمن باع سلاحا ممن يعلم أنه يقتل به مسلما قال وكره مالك أن يبيع الرجل العسل أو التمر أو الزبيب أو القمح ممن يعمل ذلك شرابا مسكرا وكره طعام عاصر الخمر وبائعها وكره مبايعته ومخالطته في ماله إذا كان مسلما وكره أيضا أن يكري الرجل لبيته أو حانوته ممن يبيع فيها الخمر مسلما كان أو نصرانيا

قال ابن حبيب: وقد نهى ابن عمر أن يكري الرجل بيته أو حانوته ممن يبيع فيها الخمر حدثنيه عبد الله بن صالح عن الليث عن نافع قال ابن حبيب ومن فعل ما نهى عنه بأن باع كرمه ممن يعصره خمرا أو أكرى داره أو حانوته ممن يبيع فيها الخمر تصدق بجميع الثمن

وكذلك قال مالك: فهذا ابن عباس يبين أن إمساك هذا الثمن فسوق وأن إنفاقه فسق وهذا من أبين ما يكون في فساد العقد فإنه لو كان صحيحا لكان الثمن حلالا فإنا لا نعني بفساد العقد في حق البائع إلا أنه لم يملك الثمن الذي أخذه ولا يحل له الانتفاع به بل يجب عليه أن يتصدق به إذا تعذر رده على مالكه كما يتصدق بكل مال حرام لم يعرف مالكه

وهذا مذهب مالك الذي ذكره ابن حبيب وعليه دل حديث ابن عمر حيث بين أن هذا البيع حرام ولا نعلم عن أحد من المتقدمين خلاف ذلك وإنما نعرف الرخصة في بيع العصير لمن يخمره عمن بعد التابعين مثل سفيان الثوري وأبي حنيفة وقد روي عن إبراهيم أنه قال لا بأس ببيع العصير وهذا مطلق فيحتمل أنه أراد إذا لم يعلم بحال المشتري ويحتمل العموم فكيف يجوز بعد هذا أن يدعي عدم الخلاف في شيء من هذا النوع ولو قيل لقائل ذلك أنقل لنا عن واحد من المتقدمين الرخصة في ذلك لا بأس فنسأل الله سبحانه الهدى والسداد بفضله ومنه

وأما قوله في الفرق بين الإكراه وبين هذا أن الرضى معتبر في صحة العقود فنقول وهل الرضى المتعلق بفعل الراضي نفسه إلا نوع من الإرادة والقصد أو صفة مستلزمة للإرادة والقصد فإذا كان النوع أو الملزوم شرطا فالجنس واللازم شرط بالضرورة فإن وجود النوع بدون الجنس أو الملزوم بدون اللازم محال فكيف يصح الفرق مع وجود هذا الجمع نعم قد يقول المنازع إنما اشترط هذا للقدر من القصد فقط فنقول إنما اشترطه لعدم قصد الإنسان في العقد وأنه إلزام مالم يرده وإنما تكلم بلفظه فقط لقصد آخر يدفع عن نفسه به ضررا لا يجوز

فنقول هذا موجود في المحلل وغيره من المحتالين فإن تصحيح عقد لم يرده وإنما تكلم بلفظه فقط لقصد آخر يستحل به محرما لا يجوز وقد بينا اعتبار المقصود في العقود فيما مضى وأما ذكر الشروط المقترنة في العقد فلا تعلق لها بما نحن فيه لكن إنما تورد فيما إذا توافقا على التحليل قبل العقد كما هو واقع كثيرا فإن هذا أقبح من مجرد القصد وحكم هذا حكم المشروط في العقد وقد بينا ضعف الفرق بين المقترن والمتقدم فيما مضى

وأما الوجه الثالث: فنقول النية إنما تعمل في اللفظ المحتمل لمعنيين صحيحين دون ما لا يحتمل إلا بمعنى واحدا صحيحا فإن النية الباطنة لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة فليس في هذا الكلام أكثر من مجرد حكاية المذهب وحسبه من الجواب لا تسلم فإن الدعوى المجردة يكفيها المنع المجرد ثم نقول القول أنها لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة ظاهرا أم لا تؤثر فيها ظاهرا ولا باطنا الأول مسلم ولا يضرنا ذلك فإنا لم ندع أن مجرد النية تبطل حكم اللفظ ظاهرا وانما قلنا العقد في الباطن باطل في حق المحلل وإن كان حلالا بالنسبة إلى المرأة إذا لم تعلم بالتحليل فيأثم بوطئها وبإعادتها إلى الأول وهي لا تأثم بتمكينه كمن تزوج أخته من الرضاعة وهي لا تعلم وإن قال أن النية الباطنة لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة بحال فينتقض عليه بصرائح الطلاق والعتاق ونحوها إذا صرفها بنيته إلى ما يحتمله اللفظ فإن ذلك يؤثر في الباطن فكذلك لفظ نكحت يحتمل نكاح التحليل وقد نواه فينصرف اللفظ إليه لأن اللفظ إما أن يكون مشتركا أو متواطئا وإما أن يكون أحد المعنيين فيه ظاهرا والآخر باطنا واما أن يكون نصا لا يحتمل غير المعنى الواحد فأما المشترك فتؤثر النية فيه كما في الكنايات وكذلك المتواطىء كقوله اشتريت فإنه مطلق تقيده النية له أو لموكله وأما النص فلا تعمل النية في خلاف معناه وأما الظاهر فما أعلم أحدا خالف في أن النية تؤثر فيه في الجملة واللفظ الصريح يشمل النص والظاهر فقوله ان اللفظ هنا صريح فلا تعمل النية فيه منقوض بما شاء الله من الصور بل هذه القاعدة من أقوى الأدلة على المسألة فإن لفظ الإنكاح والتزويج ظاهر في النكاح الصحيح الشرعي وهو محتمل للأنكحة الفاسدة مثل نكاح المحلل ونكاح الشغار ونكاح المتعة وغير ذلك فإذا قال نكحت ونوى نكاح المحلل فقد قصد باللفظ ما يحتمله ثم من نوى ما يخالف الظاهر إن كان المنوى له دين في الباطن إذا أمكن وفي قبوله في الحكم خلاف مشهور إذا كان الإحتمال قريبا من الظاهر وإن كان الذي نواه عليه فإنه يقبل ظاهرا وباطنا كما لو قال أنت طالق إن قمت ثم قال سبق لساني بالشرط ولم أرده أو قال والله لا أنكح فلانة ونكحها نكاحا فاسدا وقال نويت الصحيح والفاسد فإذا كان الزوج قد نوى التحليل علمت نيته في الباطن في جانبه خاصة فإذا ادعى أنه نوى ذلك قبل فيما عليه من إفساد النكاح في حقه ثم هذا قياس بجميع ألفاظ العقود المفردة والمقترنة من الإيمان والنذور والطلاق والعتاق والظهارة والإيلاء والوقف والبيع والهبة والنكاح فكيف يقال بعد هذا أن النية الباطنة لا أثر لها في مقتضيات الأسباب الظاهرة ولو قال زوجتك بنتي بألف درهم لكان هذا اللفظ صريحا في نقد البلد الغالب فلو قال الزوج نويت النقد الفلاني وهو خير من نقد البلد أو دونه قبل منه أن صدق الآخر عليه وبالجملة فهذا السؤال دليل قوي في أصل المسألة وهو أن يقال نوى باللفظ معنى محتلا يخالف ظاهره فوجب أن يلزمه ما نواه فيما بينه وبين الله كما لو نوى ذلك بسائر ألفاظ العقود أو يقول كما لو نوى ذلك بألفاظ الأيمان والنذور والطلاق والعتق وبهذه الأصول يظهر الفرق أيضا بين طلاق الهازل والطلاق الذي نوى به خلاف ظاهره فإنه إذا هزل بالطلاق أو العتق ونحوهما وقع ولو نوى به خلاف ظاهره دين فيما بينه وبين الله تعالى بلا تردد وقبل في الحكم إذا كان ذلك أشد عليه بلا تردد أيضا فكذلك النكاح إذا هزل به وقع وإذا نوى بالعقد خلاف ظاهره عمل فيما بينه وبين الله تعالى بما نوى وقبل ما نواه في الحكم في جهته لأن الإقرار بفساد النكاح مقبول منه فيما يخصه ومن النقوض الموجهة على هذه الدعوى الباطلة وهي قوله النية الباطنة لا تؤثر في مقتضيات الأسباب الظاهرة إن كلمة الإسلام مقتضاها سعادة الدنيا والآخرة ثم إذا نوى ما يخالفها أثر ذلك في إبطال مقتضاها في الباطن ومن ذلك عقود الهازل فإن أكثرها أو عامتها عند المخالف باطلة لعدم قصدها فقد أثرت النية الباطنة في مقتضيات الأسباب الظاهرة

ولنا أن ننقض عليه بصور وإن كنا لا نعتقدها فإن حاصل ذلك أنك إذا لم تعتقد صحة دليلك فكيف تلزمه غيرك إذا كان هو أيضا لا يعتقد صحته ولهذا قالوا ليس للمناظر أن يلزم صاحبه ما لا يعتقده هو إلا النقض لأن ما سوى النقض إستدلال وليس للإنسان أن يستدل بما لا يعتقد صحته والنقض ليس استدلالا لكن إذا انقضت العلة على أصل المستدل فقد اتفقا على فسادها أما المستدل فبصورة النقض وأما الآخر فمحل النزاع لأنهما اتفقا على تخلف الحكم عن هذه العلة فالمستدل يقول تخلف الحكم عنها في صورة النقض والآخر يقول تخلف الحكم عنها في الفرع الذي هو محمل النزاع وإذا كان الحكم متخلفا عنها وفاقا كانت منتقضة وفاقا

وتخليص ذلك أن المستدل ليس له أن يستدل إلا بما هو دليل عنده فإذا استدل بما هو دليل عند مناظره دونه كان حاصله إظهار مناقضة المناظر لإثبات مذهب نفسه وهذا ليس استدلالا وإنما هو اعتراض في المعنى فأما المعترض فاعتراضه إن كان منعا فليس هو إلزاما وإن كان معارضة فيجوز له أن يعارض بما هو دليل عند المستدل وليس دليلا عنده إذا كان هو لا يعتقد صحة دليل المستدل كما ذكرنا في النقض عليه وإن كان هو أيضا يعتقد صحة دليل المستدل وقد عارضه بما هو دليل عند المستدل دونه فحاصله يرفع مناقضة المستدل وفي الحقيقة فكلاهما مخصوم أما المستدل فاستدل بدليل معترض عن مرجح وأما المعترض فترك العمل بالدليل السالم عن المعارض المقاوم

ومن ذلك صور الوكالة فإن قوله اشتريت مقتضاه الإشتراء له لا يحتاج في ثبوته إلى نية ثم إذا نوى الشراء لموكله أو لشريكه صح ذلك بالاتفاق وكذلك لو نواه لغير موكله على خلاف مشهور وقول المعترض إن قوله اشتريت متردد بين الإشتراء له ولموكله غلط بل هو ظاهر في الشراء له محتمل للشراء لموكله وربما قد ينازعنا فيما إذا كانت الوكالة في شراء شيء معين لظهور الشراء للموكل في مثل هذه الصورة فننقل الكلام إلى شراء الولي مثل وصي اليتيم وناظر ائوقف وشراء الابن فإنه لا خلاف إن مطلق هذا العقد يقتضي الشراء لنفس المشتري ظاهرا وباطنا والنية الباطنة تعمل في مقتضى هذا السبب الظاهر ولا يدعي أحد أن اللفظ هنا متردد بين الشراء لنفسه أو لموليه بل مقتضى اللفظ هنا الشراء لنفسه كما أن مقتضى لفظ النكاح هو النكاح الصحيح الشرعي ثم هنا إذا نوى الشرى لموليه أثرت النية في مقتضى السبب الظاهر فكذلك هناك وليس بينهما من الفرق أكثر من أن المنوى هناك جائز وهنا غير جائز لأنه هناك نوى أن يشتري بطريق الولاية وهنا نوى أن يكون محللا وهذا الفرق لا يقدح في كون النية تؤثر في مقتضى الأسباب الظاهرة بل هو دليل على أنها مؤثرة بحسبها إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا وهذا الفرق لم يجز إلا من خصوص المنوى وهذا لا بد منه فإن النيات وان اشتركت في كونها نية فلا بد أن نفترق في متعلقاتها

إذا تبين هذا: فقوله النية إنما تؤثر في اللفظ المحتمل إن عنى به الإحتمال المساوي لصاحبه فليس احتمال لفظ العقد للمولي والموكل مساويا فلا يصح كلامه وإن عنى به مطلق الإحتمال المساوي أو المرجوح فهدا لا يخرج اللفظ عن أن يكون صريحا كسائر الألفاظ الظاهرة وحينئذ فيكون قد نفى ما أثبته لأنها تعمل في كل لفظ محتمل ونفي عملها في الظواهر وهي محتملة وهو كلام متهافت وإن عنى بالصريح النص فهو خلاف كلام العلماء فإن صرائح الطلاق وغيره ظواهر فيه تحتمل غيره ليست نصوصا ثم مع هذا لا ينفعه هذا الكلام فإن لفظ النكاح يجوز أن يراد به النكاح الفاسد ولهذا يقال نكاح صحيح وفاسد ويقال نكاح المحلل

وهذا الاستعمال وإن سلم أته مجاز فإنه يخرج اللفظ عن أن يكون نصا إلى أن يكون ظاهرا وهومدخل للفظ النكاح في اللفظ المحتمل بالتفسير الذي نتكلم على تقريره واذا لم يكن النكاح داخلا في القسم الثاني أعني الصريح بل في الأول صار الكلام حجة عليه لا له وكذلك هو فإن المعترض بهذه الأسئلة رد بها كلام من احتج من الفقهاء على أن للنية تأثيرا في العقود كعقد التوكيل ونحوه فزعم أنها تؤثر في المحتمل دون الصريح وأن الوكالة من المحتمل والنكاح من الصريح وقد تبين لك أنهما من جنس واحد فأي تفسير فسر المحتمل والصريح دخل فيه القسمان جميعا وهذا توكيد للحجة

وأما الوجه الرابع فجوابه: إن النية ليست بمنزلة الشرط مطلقا وقوله إذا لم يكن بمنزلة الشرط مطلقا فلا تأثير لها غير مسلم ولا دليل عليه بل النية في الجملة تنقسم إلى مؤثر في العقد وإلى غير مؤثر كما أن الشروط تنقسم إلى مؤثر وغير مؤثر فإذا كان الشرط ينافي موجب العتد كاشتراط عدم الصداق كان باطلا وإذا لم ينافه كإشتراط مصلحة العقد أو العاقد لم يكن باطلا وكذلك النية إذا كانت منافية لموجب العقد أو لمقتضى الشرع كانت مؤثرة وإذا لم تكن منافية لم تؤثر فمن نوى بالشرى القنية أو التجارة لم يخرج بهذه النية عن مقتضى البيع بخلاف من أوجب ذلك بالشرط على المشتري أما من قصد أن يعقد ليفسخ لا لغرض في ائمعقود عليه أو قصد منفعة محرمة بالمعقود عليه

فهذا قصد ما ينافي العقد والشرع فكذلك أثر في العقد وقد تؤثر النية حيث لا يؤثر الشرط فإنه لو قصد التدليس على المشتري أو المستنكح أو المنكوحة كان ذلك حراما مثبتا لخيار الفسخ أو مبطلا للعقد ولو شرط ذلك لكان العقد صحيحا لازما فظهر أن القصد يؤثر حيث لا يؤثر الشرط كما أن الشرط يؤثر حيث لا يؤثر القصد وقد يؤثران جميعا إذا كل منهما مخالف للآخر في وحده وحقيقته وإنما غلط هنا من ظن أن المؤثر هو الشرط أو ما يقوم مقامه وليس الأمر كذلك والله أعلم

وأما الوجه الخامس: فقد اعترف المعترض بفساده وقال نحن لا ندعي أن النكاح صحيح باطنا وظاهرا وهو كما قال فإنا نقول بموجب الحديث فنحكم بالظاهر فلا نحكم في عقد أنه عقد تحليل حتى يثبت ذلك إما بإقرار الزوج أو ببينة تشهد على تواطئها قبل العقد أو تشهد بعرف جار بصورة التحليل فإن العرف المطرد على حال جاري مجرى الشرط بالمقال لكنا وإن لم نحكم إلا بالظاهر فلا يجوز لنا أن نعامل الله تعالى إلا بالبينات الصحيحة فإن الأعمال بالنيات فلا يجوز أن ننوي بالشيء ما حرمه الله سبحانه وعلينا أن ننهي الناس عما نهاهم الله عنه ورسوله من النيات الباطنة وان لم نعتقد أنها فيهم كما ننهاهم عن سائر ما حرمه الله سبحانه وأن لا نكتم ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب الذي تضمن طاعة الرسول واتباع سبيل السابقين الأولين وعلينا أن لا نعين أحد بنوع من أنواع الإعانة على عقب يغلب على الظن أنه تحليل وان لم نحكم بأنه تحليل كما لا يجوز أن نعين أحدا على عمل يغلب على الظن أنه يتوسل به إلى قتل معصوم أو وطء محرم وينبغي الإحتراز من الإعانة على ما يخاف أن يكون تحليلا وإن لم يغلب على القلب وبالجملة فالغرض هنا بيان تحريم التحليل وفساد عقد المحلل في الباطن وأما ترتيب الحكم عليه في الظاهر فسيأتي إن شاء الله تعالى وهذا بين إن شاء الله تعالى



ابن تيمية: إقامة الدليل على إبطال التحليل
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29