إقامة الدليل على إبطال التحليل/10

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


سئل: عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة ؟ الجواب: الحمد لله، كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد فهو خير من كل من كفر به ; وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة، سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم ; فإن اليهود والنصارى كفار، كفرا معلوما بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول لا مخالف له لم يكن كافرا به، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول .

فصل وأما سؤال القائل " إنهم أصحاب العلم الباطن " فدعواهم التي ادعوها من العلم الباطن هو أعظم حجة ودليل على أنهم زنادقة منافقون ; لا يؤمنون بالله، ولا برسوله، ولا باليوم الآخر، فإن هذا العلم الباطن الذي ادعوه هو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى ; بل أكثر المشركين على أنه كفر أيضا ; فإن مضمونه أن للكتب الإلهية بواطن تخالف المعلوم عند المؤمنين في الأوامر، والنواهي، والأخبار، أما " الأوامر " فإن الناس يعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن محمدا أمرهم بالصلوات المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، وأما " النواهي " فإن الله تعالى حرم عليهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والأثم، والبغي بغير الحق، وأن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون، كما حرم الخمر، ونكاح ذوات المحارم، والربا والميسر، وغير ذلك، فزعم هؤلاء أنه ليس المراد بهذا ما يعرفه المسلمون، ولكن لهذا باطن يعلمه هؤلاء الأئمة الإسماعيلية، الذين انتسبوا إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، الذين يقولون: إنهم معصومون، وأنهم أصحاب العلم الباطن، كقولهم :" الصلاة " معرفة أسرارنا ; لا هذه الصلوات ذات الركوع والسجود والقراءة، " والصيام " كتمان أسرارنا ليس هو الإمساك عن الأكل والشرب والنكاح، " والحج " زيارة شيوخنا المقدسين، وأمثال ذلك، وهؤلاء المدعون للباطن لا يوجبون هذه العبادات ولا يحرمون هذه المحرمات ; بل يستحلون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونكاح الأمهات والبنات، وغير ذلك من المنكرات، ومعلوم أن هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، فمن يكون هكذا كيف يكون معصوما ؟، ، وأما " الأخبار " فإنهم لا يقرون بقيام الناس من قبورهم لرب العالمين ; ولا بما وعد الله به عباده من الثواب والعقاب ; بل ولا بما أخبرت به الرسل من الملائكة ; بل ولا بما ذكرته من أسماء الله وصفاته، بل أخبارهم التي يتبعونها اتباع المتفلسفة المشائين التابعين لأرسطو، ويريدون أن يجمعوا بين ما أخبر به الرسل وما يقوله هؤلاء، كما فعل أصحاب " رسائل إخوان الصفا " وهم على طريقة هؤلاء العبيديين، ذرية " عبد الله بن ميمون القداح "، فهل ينكر أحد ممن يعرف دين المسلمين، أو اليهود، أو النصارى: أن ما يقوله أصحاب " رسائل إخوان الصفا " مخالف للملل الثلاث وإن كان في ذلك من العلوم الرياضية، والطبيعية، وبعض المنطقية، والإلهية، وعلوم الأخلاق، والسياسة، والمنزل: ما لا ينكر ; فإن في ذلك من مخالفة الرسل فيما أخبرت به وأمرت به، والتكذيب بكثير مما جاءت به، وتبديل شرائع الرسل كلهم بما لا يخفى على عارف بملة من الملل، فهؤلاء خارجون عن الملل الثلاث، ومن أكاذيبهم وزعمهم: أن هذه " الرسائل " من كلام جعفر بن محمد الصادق، والعلماء يعلمون أنها إنما وضعت بعد المائة الثالثة زمان بناء القاهرة، وقد ذكر واضعها فيها ما حدث في الإسلام من استيلاء النصارى على سواحل الشام، ونحو ذلك من الحوادث التي حدثت بعد المائة الثالثة، وجعفر بن محمد - رضي الله عنه - توفي سنة ثمان وأربعين ومائة، قبل بناء القاهرة بأكثر من مائتي سنة ; إذ القاهرة بنيت حول الستين وثلاثمائة، كما في تاريخ الجامع الأزهر "، ويقال: إن ابتداء بنائها سنة ثمان وخمسين، وأنه في سنة اثنين وستين قدم " معد بن تميم " من المغرب واستوطنها، ومما يبين هذا أن المتفلسفة الذين يعلم خروجهم من دين الإسلام كانوا من أتباع مبشر بن فاتك أحد أمرائهم، وأبي علي بن الهيثم اللذين كانا في دولة الحاكم نازلين قريبا من الجامع الأزهر، وابن سينا وابنه وأخوه كانوا من أتباعهما: قال ابن سينا: وقرأت من الفلسفة، وكنت أسمع أبي وأخي يذكران " العقل " " والنفس "، وكان وجوده على عهد الحاكم، وقد علم الناس من سيرة الحاكم ما علموه، وما فعله هشتكين الدرزي بأمره من دعوة الناس إلى عبادته، ومقاتلته أهل مصر على ذلك، ثم ذهابه إلى الشام حتى أضل وادي التيم بن ثعلبة، والزندقة والنفاق فيهم إلى اليوم، وعندهم كتب الحاكم، وقد أخذتها منهم، وقرأت ما فيها من عبادتهم الحاكم ; وإسقاطه عنهم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وتسمية المسلمين الموجبين لهذه الواجبات المحرمين لما حرم الله ورسوله بالحشوية، إلى أمثال ذلك من أنواع النفاق التي لا تكاد تحصى، وبالجملة " فعلم الباطن " الذي يدعون مضمونه الكفر بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ; بل هو جامع لكل كفر، لكنهم فيه على درجات فليسوا مستوين في الكفر ; إذ هو عندهم سبع طبقات، كل طبقة يخاطبون بها طائفة من الناس بحسب بعدهم من الدين وقربهم منه، ولهم ألقاب وترتيبات ركبوها من مذهب المجوس، والفلاسفة، والرافضة مثل قولهم: " السابق " " والتالي " جعلوهما بإزاء، العقل " " والنفس " كالذي يذكره الفلاسفة، وبإزاء النور والظلمة كالذي يذكره المجوس، وهم ينتمون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، ويدعون أنه هو السابع ويتكلمون في الباطن، والأساس، والحجة، والباب، وغير ذلك مما يطول وصفهم، ومن وصاياهم في " الناموس الأكبر، والبلاغ الأعظم " أنهم يدخلون على المسلمين من " باب التشيع " وذلك لعلمهم بأن الشيعة من أجهل الطوائف، وأضعفها عقلا وعلما، وأبعدها عن دين الإسلام علما وعملا، ولهذا دخلت الزنادقة على الإسلام من باب المتشيعة قديما وحديثا، كما دخل الكفار المحاربون مدائن الإسلام بغداد بمعاونة الشيعة، كما جرى لهم في دولة الترك الكفار ببغداد وحلب وغيرهما ; بل كما جرى بتغير المسلمين مع النصارى وغيرهم، فهم يظهرون التشيع لمن يدعونه، وإذا استجاب لهم نقلوه إلى الرفض والقدح في الصحابة، فإن رأوه قابلا نقلوه إلى الطعن في علي وغيره ثم نقلوه إلى القدح في نبينا وسائر الأنبياء، وقالوا: إن الأنبياء لهم بواطن وأسرار تخالف ما عليه أمتهم، وكانوا قوما أذكياء فضلاء قالوا بأغراضهم الدنيوية بما وضعوه من النواميس الشرعية، ثم قدحوا في المسيح ونسبوه إلى يوسف النجار، وجعلوه ضعيف الرأي حيث تمكن عدوه منه حتى صلبه فيوافقون اليهود في القدح من المسيح ; لكن هم شر من اليهود، فإنهم يقدحون في الأنبياء، وأما موسى ومحمد فيعظمون أمرهما، لتمكنهما وقهر عدوهما ; ويدعون أنهما أظهرا ما أظهرا من الكتاب لذب العامة، وأن لذلك أسرارا باطنة من عرفها صار من الكمل البالغين، ويقولون: إن الله أحل كل ما نشتهيه من الفواحش والمنكرات، وأخذ أموال الناس بكل طريق ; ولم يجب علينا شيء مما يجب على العامة: من صلاة، وزكاة وصيام وغير ذلك ; إذ البالغ عندهم قد عرف أنه لا جنة ولا نار ; ولا ثواب ولا عقاب، وفي " إثبات واجب الوجود " المبدع للعالم على قولين لأئمتهم تنكره وتزعم أن المشائين من الفلاسفة في نزاع إلا في واجب الوجود ; ويستهينون بذكر الله واسمه حتى يكتب أحدهم اسم الله واسم رسوله في أسفله ; وأمثال ذلك من كفرهم كثير، وذوو الدعوة التي كانت مشهورة ; والإسماعيلية الذين كانوا على هذا المذهب بقلاع الألموت وغيرها في بلاد خراسان ; وبأرض اليمن وجبال الشام ; وغير ذلك: كانوا على مذهب العبيديين المسئول عنهم ; وابن الصباح الذي كان رأس الإسماعيلية ; وكان الغزالي يناظر أصحابه لما كان قدم إلى مصر في دولة المستنصر، وكان أطولهم مدة ; وتلقى عنه أسرارهم، وفي دولة المستنصر كانت فتنة البساسري في المائة الخامسة سنة خمسين وأربعمائة لما جاهد البساسري خارجا عن طاعة الخليفة القائم بأمر الله العباسي، واتفق مع المستنصر العبيدي وذهب يحشر إلى العراق، وأظهروا في بلاد الشام والعراق شعار الرافضة كما كانوا قد أظهروها بأرض مصر، وقتلوا طوائف من علماء المسلمين وشيوخهم كما كان سلفهم قتلوا قبل ذلك بالمغرب طوائف، وأذنوا على المنابر: " حي على خير العمل " حتى جاء الترك السلاجقة " الذين كانوا ملوك المسلمين فهزموهم وطردوهم إلى مصر، وكان من أواخرهم " الشهيد نور الدين محمود " الذي فتح أكثر الشام، واستنقذه من أيدي النصارى ; ثم بعث عسكره إلى مصر لما استنجدوه على الإفرنج، وتكرر دخول العسكر إليها مع صلاح الدين الذي فتح مصر ; فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية، وأظهر فيها شرائع الإسلام، حتى سكنها من حينئذ من أظهر بها دين الإسلام، وكان في أثناء دولتهم يخاف الساكن بمصر أن يروي حديثا عن رسول الله فيقتل، كما حكى ذلك إبراهيم بن سعد الحبال صاحب عبد الغني بن سعيد، وامتنع من رواية الحديث خوفا أن يقتلوه، وكانوا ينادون بين القصرين: من لعن وسب، فله دينار وإردب، وكان بالجامع الأزهر عدة مقاصير يلعن فيها الصحابة ; بل يقطعهم فيها بالكفر الصريح، وكان لهم مدرسة بقرب " المشهد " الذي بنوه ونسبوه إلى الحسين وليس، فيه الحسين، ولا شيء منه: باتفاق العلماء، وكانوا لا يدرسون في مدرستهم علوم المسلمين ; بل المنطق، والطبيعة، والإلهي، ونحو ذلك من مقالات الفلاسفة، وبنوا أرصادا على الجبال وغير الجبال، يرصدون فيها الكواكب، يعبدونها، ويسبحونها، ويستنزلون روحانياتها التي هي شياطين تتنزل على المشركين الكفار، كشياطين الأصنام، ونحو ذلك، " والمعز بن تميم بن معد " أول من دخل القاهرة منهم في ذلك، فصنف كلاما معروفا عند أتباعه ; وليس هذا " المعز بن باديس " فإن ذاك كان مسلما من أهل السنة، وكان رجلا من ملوك المغرب ; وهذا بعد ذاك بمدة، ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان، حتى قالت فيها العلماء: إنها كانت دار ردة ونفاق، كدار مسيلمة الكذاب، والقرامطة " الخارجين بأرض العراق الذين كانوا سلفا لهؤلاء القرامطة ذهبوا من العراق إلى المغرب، ثم جاءوا من المغرب إلى مصر ; فإن كفر هؤلاء وردتهم من أعظم الكفر والردة، وهم أعظم كفرا وردة من كفر أتباع مسيلمة الكذاب ونحوه من الكذابين ; فإن أولئك لم يقولوا في الإلهية والربوبية والشرائع ما قاله أئمة هؤلاء، ولهذا يميز بين قبورهم وقبور المسلمين، كما يميز بين قبور المسلمين والكفار فإن قبورهم موجهة إلى غير القبلة، وإذا أصاب الخيل أرصده أتوا بها إلى قبورهم، كما يأتون بها إلى قبور الكفار، وهذه عادة معروفة للخيل إذا أصاب الخيل مغل ذهبوا بها إلى قبور النصارى بدمشق، وإن كانوا بمساكن الإسماعيلية والنصيرية ونحوهما، ذهبوا بها إلى قبورهم، وإن كانوا بمصر ذهبوا بها إلى قبور اليهود والنصارى، أو لهؤلاء العبيديين الذين قد يتسمون بالأشراف، وليسوا من الأشراف، ولا يذهبون بالخيل إلى قبور الأنبياء والصالحين ; ولا إلى قبور عموم المسلمين وهذا أمر مجرد معلوم عند الجند وعلمائهم، وقد ذكر سبب ذلك: أن الكفار يعاقبون في قبورهم، فتسمع أصواتهم البهائم، كما أخبر النبي بذلك أن الكفار يعذبون في قبورهم، ففي الصحيحين عن النبي: { أنه كان راكبا على بغلته، فمر بقبور فحادت به كادت تلقيه، فقال: هذه أصوات يهود تعذب في قبورها، فإن البهائم إذا سمعت ذلك الصوت المنكر أوجب لها من الحرارة ما يذهب المغل }، وكان الجهال يظنون أن تمشية الخيل عند قبور هؤلاء لدينهم وفضلهم، فلما تبين لهم أنهم يمشونها عند قبور اليهود والنصارى والنصيرية ونحوهم دون قبور الأنبياء والصالحين، وذكر العلماء أنهم لا يمشونها عند قبر من يعرف بالدين بمصر والشام وغيرها ; إنما يمشونها عند قبور الفجار والكفار: تبين بذلك ما كان مشتبها، ومن علم حوادث الإسلام، وما جرى فيه بين أوليائه وأعدائه الكفار والمنافقين: علم أن عداوة هؤلاء المعتدين للإسلام الذين بعث الله به رسوله أعظم من عداوة التتار، وأن علم الباطن الذي كانوا يدعون حقيقته هو إبطال الرسالة التي بعث الله بها محمدا ; بل إبطال جميع المرسلين ; وأنهم لا يقروه بما جاء به الرسول عن الله، ولا من خبره، ولا من أمره ; وأن لهم قصدا مؤكدا في إبطال دعوته وإفساد ملته، وقتل خاصته واتباع عثرته، وأنهم في معاداة الإسلام ; بل وسائر الملل: أعظم من اليهود والنصارى ; فإن اليهود والنصارى يقرون بأصل الجمل التي جاءت بها الرسل: كإثبات الصانع، والرسل ; والشرائع، واليوم الآخر، ولكن يكذبون بعض الكتب والرسل، كما قال الله سبحانه: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا }، وأما هؤلاء القرامطة فإنهم في الباطن كافرون بجميع الكتب والرسل، يخفون ذلك ويكتمونه عن غير من يثقون به ; لا يظهرونه، كما يظهر أهل الكتاب دينهم، لأنهم لو أظهروه لنفر عنهم جماهير أهل الأرض من المسلمين وغيرهم، وهم يفرقون بين مقالتهم ومقالة الجمهور ; بل الرافضة الذين ليسوا زنادقة كفارا يفرقون بين مقالتها ومقالة الجمهور، ويرون كتمان مذهبهم، واستعمال التقية، وقد لا يكون من الرافضة من له نسب صحيح مسلما في الباطن ولا يكون زنديقا ; لكن يكون جاهلا مبتدعا، وإذا كان هؤلاء مع صحة نسبهم وإسلامهم يكتمون ما هم عليه من البدعة والهوى لكن جمهور الناس يخالفونهم: فكيف بالقرامطة الباطنية الذين يكفرهم أهل الملل كلها من المسلمين واليهود والنصارى، وإنما يقرب منهم " الفلاسفة المشاءون أصحاب أرسطو " فإن بينهم وبين القرامطة مقاربة كبيرة، ولهذا يوجد فضلاء القرامطة في الباطن متفلسفة: كسنان الذي كان بالشام، والطوسي الذي كان وزيرا لهم بالألموت، ثم صار منجما لهؤلاء وملك الكفار، وصنف " شرح الإشارات لابن سينا " وهو الذي أشار على ملك الكفار بقتل الخليفة وصار عند الكفار الترك هو المقدم على الذين يسمونهم " الداسميدية " فهؤلاء وأمثالهم يعلمون أن ما يظهره القرامطة من الدين والكرامات ونحو ذلك أنه باطل ; لكن يكون أحدهم متفلسفا، ويدخل معهم لموافقتهم له على ما هو فيه من الإقرار بالرسل والشرائع في الظاهر، وتأويل ذلك بأمور يعلم بالاضطرار أنها مخالفة لما جاءت به الرسل، فإن " المتفلسفة " متأولون ما أخبرت به الرسل من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر بالنفي والتعطيل الذي يوافق مذهبهم، وأما الشرائع العملية فلا ينفونها كما ينفيها القرامطة ; بل يوجبونها على العامة ; ويوجبون بعضها على الخاصة، أو لا يوجبون ذلك، ويقولون: إن الرسل فيما أخبروا به وأمروا به لم يأتوا بحقائق الأمور ; ولكن أتوا بأمر فيه صلاح العامة، وإن كان هو كذبا في الحقيقة، ولهذا اختار كل مبطل أن يأتي بمخاريق لقصد صلاح العامة، كما فعل ابن التومرت الملقب بالمهدي، ومذهبه في الصفات مذهب الفلاسفة لأنه كان مثلها في الجملة، ولم يكن منافقا مكذبا للرسل معطلا للشرائع، ولا يجعل للشريعة العملية باطنا يخالف ظاهرها ; بل كان فيه نوع من رأي الجهمية الموافق لرأي الفلاسفة، ونوع من رأي الخوارج الذين يرون السيف ويكفرون بالذنب، فهؤلاء " القرامطة " هم في الباطن والحقيقة أكفر من اليهود والنصارى وأما في الظاهر فيدعون الإسلام بل وإيصال النسب إلى العترة النبوية، وعلم الباطن الذي لا يوجد عند الأنبياء والأولياء، وأن إمامهم معصوم، فهم في الظاهر من أعظم الناس دعوى بحقائق الإيمان وفي الباطن من أكفر الناس بالرحمن بمنزلة من ادعى النبوة من الكذابين قال تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } وهؤلاء قد يدعون هذا وهذا فإن الذي يضاهي الرسول الصادق لا يخلو إما أن يدعي مثل دعوته فيقول: إن الله أرسلني وأنزل علي، وكذب على الله أو يدعي أنه يوحى إليه ولا يسمي موحيه كما يقول قيل لي ونوديت وخوطبت ونحو ذلك ويكون كاذبا، فيكون هذا قد حذف الفاعل أو لا يدعي واحدا من الأمرين لكنه يدعي أنه يمكنه أن يأتي بما أتى به الرسول ووجه القسمة أن ما يدعيه في مضاهاة الرسول إما أن يضيفه إلى الله أو إلى نفسه أو لا يضيفه إلى أحد فهؤلاء في دعواهم مثل الرسول هم أكفر من اليهود والنصارى فكيف بالقرامطة الذين يكذبون على الله أعظم مما فعل مسيلمة وألحدوا في أسماء الله وآياته أعظم مما فعل مسيلمة وحاربوا الله ورسوله أعظم مما فعل مسيلمة، وبسط حالهم يطول لكن هذه الأوراق لا تسع أكثر من هذا، وهذا الذي ذكرته حال أئمتهم وقادتهم العالمين بحقيقة قولهم، ولا ريب أنه قد انضم إليهم من الشيعة والرافضة من لا يكون في الباطن عالما بحقيقة باطنهم ولا موافقا لهم على ذلك، فيكون من أتباع الزنادقة المرتدين الموالي لهم الناصر لهم ; بمنزلة أتباع الاتحادية الذين يوالونهم ويعظمونهم وينصرونهم، ولا يعرفون حقيقة قولهم في وحدة الوجود ; وأن الخالق هو المخلوق، فمن كان مسلما في الباطن وهو جاهل معظم لقول ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض وأمثالهم من أهل الاتحاد فهو منهم، وكذا من كان معظما للقائلين بمذهب الحلول والاتحاد فإن نسبة هؤلاء إلى الجهمية كنسبة أولئك إلى الرافضة والجهمية، ولكن القرامطة أكفر من الاتحادية بكثير ; ولهذا كان أحسن حال عوامهم أن يكونوا رافضة جهمية، وأما الاتحادية ففي عوامهم من ليس برافضي ولا جهمي صريح ; ولكن لا يفهم كلامهم ; ويعتقد أن كلامهم كلام الأولياء المحققين، وبسط هذا الجواب له مواضع غير هذا، والله أعلم .

سئل: عن " الدرزية " " والنصيرية ": ما حكمهم ؟ أجاب: هؤلاء الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم، ولا نكاح نسائهم ; بل ولا يقرون بالجزية ; فإنهم مرتدون عن دين الإسلام، ليسوا مسلمين ; ولا يهود، ولا نصارى، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس، ولا وجوب صوم رمضان، ولا وجوب الحج ; ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما، وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين، فأما " النصيرية " فهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير، وكان من الغلاة الذين يقولون: إن عليا إله، وهم ينشدون: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين وأما " الدرزية " فأتباع هشتكين الدرزي ; وكان من موالي الحاكم أرسله إلى أهل وادي تيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلى إلهية الحاكم، ويسمونه " الباري، العلام " ويحلفون به، وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله، وهم أعظم كفرا من الغالية، يقولون بقدم العالم، وإنكار المعاد، وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب، وغايتهم أن يكونوا " فلاسفة " على مذهب أرسطو وأمثاله أو " مجوسا "، وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس، ويظهروا التشيع نفاقا، والله أعلم . وأما " أوانيهم وملابسهم " فكأواني المجوس وملابس المجوس، على ما عرف من مذاهب الأئمة، والصحيح في ذلك أن أوانيهم لا تستعمل إلا بعد غسلها ; فإن ذبائحهم ميتة، فلا بد أن يصيب أوانيهم المستعملة ما يطبخونه من ذبائحهم فتنجس بذلك، فأما الآنية التي لا يغلب على الظن وصول النجاسة إليها فتستعمل من غير غسل كآنية اللبن التي لا يضعون فيها طبيخهم، أو يغسلونها قبل وضع اللبن فيها، وقد توضأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جرة نصرانية، فما شك في نجاسته لم يحكم بنجاسته بالشك، ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، ولا يصلى على من مات منهم ; فإن الله سبحانه وتعالى نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين: كعبد الله بن أبي، ونحوه ; وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين ; ولا يظهرون مقالة تخالف دين الإسلام ; لكن يسرون ذلك، فقال الله: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، ولا تقم على قبره ; إنهم كفروا بالله ورسوله، وماتوا وهم فاسقون ) فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر والإلحاد، وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر، وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم: فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم، وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر ; فإن المخامر قد يكون له غرض: إما مع أمير العسكر، وإما مع العدو، وهؤلاء مع الملة، نبيها ودينها، وملوكها ; وعلمائها، وعامتها، وخاصتها، وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين، وعلى إفساد الجند على ولي الأمر، وإخراجهم عن طاعته، والواجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر، ولا في غير ثغر ; فإن ضررهم في الثغر أشد، وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام، وعلى النصح لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ; بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلما فكيف بمن يغش المسلمين كلهم ؟ ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه ; بل أي وقت قدر على الاستبدال بهم وجب عليه ذلك، وأما إذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم فلهم إما المسمى وإما أجرة المثل، لأنهم عوقدوا على ذلك، فإن كان العقد صحيحا وجب المسمى وإن كان فاسدا وجبت أجرة المثل، وإن لم يكن استخدامهم من جنس الإجارة اللازمة فهي من جنس الجعالة الجائزة ; لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم، فالعقد عقد فاسد، فلا يستحقون إلا قيمة عملهم، فإن لم يكونوا عملوا عملا له قيمة فلا شيء لهم ; لكن دماؤهم وأموالهم مباحة، وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء ; فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم، ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم ; فإن مالهم يكون فيئا لبيت المال ; لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة ; لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم، وفيهم من يعرف، وفيهم من قد لا يعرف، فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم، فلا يتركون مجتمعين، ولا يمكنون من حمل السلاح، ولا أن يكونوا من المقاتلة، ويلزمون شرائع الإسلام: من الصلوات الخمس، وقراءة القرآن، ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام، ويحال بينهم وبين معلمهم، فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة لما ظهروا على أهل الردة، وجاءوا إليه، قال لهم الصديق: اختاروا إما الحرب المجلية، وإما السلم المخزية، قالوا: يا خليفة رسول الله، هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية ؟ قال: تدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ونقسم ما أصبنا من أموالكم، وتردون ما أصبتم من أموالنا، وتنزع منكم الحلقة والسلاح، وتمنعون من ركوب الخيل، وتتركون تتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله والمؤمنين أمرا بعد ردتكم، فوافقه الصحابة على ذلك ; إلا في تضمين قتلى المسلمين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: هؤلاء قتلوا في سبيل الله فأجورهم على الله، يعني هم شهداء فلا دية لهم، فاتفقوا على قول عمر في ذلك، وهذا الذي اتفق الصحابة عليه هو مذهب أئمة العلماء، والذي تنازعوا فيه تنازع فيه العلماء، فمذهب أكثرهم أن من قتله المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن ; كما اتفقوا عليه آخرا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى هو القول الأول، فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين بعد عودهم إلى الإسلام يفعل بمن أظهر الإسلام والتهمة ظاهرة فيه، فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلاح والدرع التي تلبسها المقاتلة، ولا يترك في الجند من يكون يهوديا ولا نصرانيا ويلزمون شرائع الإسلام حتى يظهر ما يفعلونه من خير أو شر، ومن كان من أئمة ضلالهم وأظهر التوبة أخرج عنهم، وسير إلى بلاد المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور، فإما أن يهديه الله تعالى، وإما أن يموت على نفاقه من غير مضرة للمسلمين، ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب ; فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدءوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب ; فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين، وحفظ رأس المال مقدم على الربح، وأيضا فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك ; بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم في الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب، ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم ; بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ولا يحل لأحد أن يعاونهم على بقائهم في الجند والمستخدمين، ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله به ورسوله، ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله ; فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى: وقد قال الله تعالى لنبيه : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وهؤلاء لا يخرجون عن الكفار والمنافقين، والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى: فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم: كما قال الله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس تأتون بهم من القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الإسلام . فالمقصود بالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ; هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد بحسب الإمكان، فمن هداه الله سعد في الدنيا والآخرة، ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره، ومعلوم أن الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: هو أفضل الأعمال، كما قال : { رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله تعالى } وفي الصحيح عنه أنه قال: { إن في الجنة لمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله } وقال : { رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه } ومن مات مرابطا مات مجاهدا وجرى عليه عمله وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتنة، والجهاد أفضل من الحج والعمرة، كما قال تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم }، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . - مسألة: في طائفة من رعية البلاد كانوا يرون مذهب النصيرية، ثم أجمعوا على رجل واختلفت أقوالهم فيه، فمنهم من يزعم أنه إله، ومنهم من يزعم أنه نبي مرسل، ومنهم من ادعى أنه محمد بن الحسن، يعنون المهدي، وأمروا من وجده بالسجود له، وأعلنوا بالكفر بذلك، وسب الصحابة، وأظهروا الخروج عن الطاعة، وعزموا على المحاربة، فهل يجب قتالهم وقتل مقاتلتهم، وهل تباح ذراريهم وأموالهم أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، هؤلاء يجب قتالهم ما داموا ممتنعين حتى يلتزموا شرائع الإسلام، فإن النصيرية من أعظم الناس كفرا بدون اتباعهم لمثل هذا الدجال، فكيف إذا اتبعوا مثل هذا الدجال، وهم مرتدون من أسوإ الناس ردة، تقتل مقاتلهم وتغنم أموالهم، وسبي الذرية فيه نزاع، لكن أكثر العلماء على أنه تسبى الصغار من أولاد المرتدين، وهذا هو الذي دلت عليه سيرة الصديق في قتال المرتدين، وكذلك قد تنازع العلماء في استرقاق المرتد، وطائفة تقول: إنها تسترق كقول أبي حنيفة، وطائفة تقول لا تسترق كقول الشافعي وأحمد، والمعروف عن الصحابة هو الأول، وأنه تسترق منهن المرتدات نساء المرتدين، فإن الحنفية التي تسرى بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه أم ابنه محمد بن الحنفية من سبي بني حنيفة المرتدين الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه والصحابة لما بعث خالد بن الوليد في قتالهم، والنصيرية لا يكتمون أمرهم، بل هم معروفون عند جميع المسلمين، لا يصلون الصلوات الخمس، ولا يصومون شهر رمضان، ولا يحجون البيت، ولا يؤدون الزكاة ولا يقرون بوجوب ذلك، ويستحلون الخمر وغيرها من المحرمات، ويعتقدون أن الإله علي بن أبي طالب ويقولون: نشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين وأما إذا لم يظهروا الرفض، وأن هذا الكذاب هو المهدي المنتظر، وامتنعوا، فإنهم يقاتلون أيضا، لكن يقاتلون كما يقاتل الخوارج المارقون الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأمر رسول الله وكما يقاتل المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فهؤلاء يقاتلون ما داموا ممتنعين، ولا تسبى ذراريهم، ولا تغنم أموالهم التي لم يستعينوا بها على القتال، وأما ما استعانوا به على قتال المسلمين من خيل وسلاح وغير ذلك ففي أخذه نزاع بين العلماء، وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه نهب عسكره ما في عسكر الخوارج، فإن رأى ولي الأمر أن يستبيح ما في عسكرهم من المال كان هذا سائغا، هذا ما داموا ممتنعين، فإن قدر عليهم فإنه يجب أن يفرق شملهم ويحسم مادة شرهم، وإلزامهم شرائع الإسلام، وقتل من أصر على الردة منهم، وأما قتل من أظهر الإسلام وأبطن كفرا منه، وهو المنافق الذي تسميه الفقهاء الزنديق، فأكثر الفقهاء على أنه يقتل وإن تاب، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه، وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة والشافعي، ومن كان داعيا منهم إلى الضلال لا ينكف شره إلا بقتله، قتل أيضا، وإن أظهر التوبة، وإن لم يحكم بكفره كأئمة الرفض الذين يضلون الناس، كما قتل المسلمون غيلان القدري، والجعد بن درهم وأمثالهما من الدعاة، فهذا الدجال يقتل مطلقا والله أعلم .

مسألة: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم على إظهار الحق المبين، وإخماد شغب المبطلين: في " النصيرية " القائلين باستحلال الخمر، وتناسخ الأرواح، وقدم العالم، وإنكار البعث والنشور والجنة والنار في غير الحياة الدنيا، وبأن " الصلوات الخمس " عبارة عن خمسة أسماء، وهي: علي، وحسن، وحسين، ومحسن، وفاطمة، فذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزيهم عن الغسل من الجنابة، والوضوء وبقية شروط الصلوات الخمسة وواجباتها، وبأن " الصيام " عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلا، واسم ثلاثين امرأة، يعدونهم في كتبهم، ويضيق هذا الموضع عن إبرازهم ; وبأن إلههم الذي خلق السموات والأرض هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فهو عندهم الإله في السماء، والإمام في الأرض، فكانت الحكمة في ظهور اللاهوت بهذا الناسوت على رأيهم أن يؤنس خلقه وعبيده ; ليعلمهم كيف يعرفونه ويعبدونه، وبأن النصيري عندهم لا يصير نصيريا مؤمنا يجالسونه، ويشربون معه الخمر، ويطلعونه على أسرارهم، ويزوجونه من نسائهم: حتى يخاطبه معلمه، وحقيقة الخطاب عندهم أن يحلفوه على كتمان

دينه، ومعرفة مشايخه، وأكابر أهل مذهبه ; وعلى أن لا ينصح مسلما ولا غيره إلا من كان من أهل دينه، وعلى أن يعرف ربه وإمامه بظهوره في أنواره وأدواره، فيعرفه انتقال الاسم والمعنى في كل حين وزمان، فالاسم عندهم في أول الناس آدم والمعنى هو شيث، والاسم يعقوب، والمعنى هو يوسف، ويستدلون على هذه الصورة كما يزعمون بما في القرآن العظيم حكاية عن يعقوب ويوسف - عليهما الصلاة والسلام - فيقولون: أما يعقوب فإنه كان الاسم، فما قدر أن يتعدى منزلته فقال: { سوف أستغفر لكم ربي } وأما يوسف فكان المعنى المطلوب فقال: { لا تثريب عليكم اليوم } فلم يعلق الأمر بغيره ; لأنه علم أنه الإله المتصرف، ويجعلون موسى هو الاسم، ويوشع هو المعنى ويقولون: يوشع ردت له الشمس لما أمرها فأطاعت أمره ; وهل ترد الشمس إلا لربها ؟، ويجعلون سليمان هو الاسم، وآصف هو المعنى القادر المقتدر، ويقولون: سليمان عجز عن إحضار عرش بلقيس، وقدر عليه آصف لأن سليمان كان الصورة، وآصف كان المعنى القادر المقتدر، وقد قال قائلهم: هابيل شيث يوسف يوشع آصف شمعون الصفا حيدر ويعدون الأنبياء والمرسلين واحدا واحدا على هذا النمط إلى زمن رسول الله فيقولون: محمد هو الاسم، وعلي هو المعنى، ويوصلون العدد على هذا الترتيب في كل زمان إلى وقتنا هذا، فمن حقيقة الخطاب في الدين عندهم أن عليا هو الرب، وأن محمدا هو الحجاب، وأن سلمان هو الباب، وأنشد بعض أكابر رؤسائهم وفضلائهم لنفسه في شهور السنة سبع مائة فقال: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين ويقولون: إن ذلك على هذا الترتيب لم يزل ولا يزال، وكذلك الخمسة الأيتام، والاثنا عشر نقيبا، وأسماؤهم مشهورة عندهم، ومعلومة من كتبهم الخبيثة، وأنهم لا يزالون يظهرون مع الرب والحجاب والباب في كل كور ودور أبدا سرمدا على الدوام والاستمرار، ويقولون: إن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ويليه في رتبة الإبليسية أبو بكر رضي الله عنه ; ثم عثمان - رضي الله عنهم أجمعين وشرفهم وأعلى رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحال أنواع الضالين والمفسدين - فلا يزالون موجودين في كل وقت دائما حسبما ذكر من الترتيب، ولمذاهبهم الفاسدة شعب وتفاصيل ترجع إلى هذه الأصول المذكورة، وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام [ وهم ] معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب، وقد حقق أحوالهم كل من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم، ومن عامة الناس أيضا في هذا الزمان ; لأن أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين على البلاد الساحلية ; فلما جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم، والابتلاء بهم كثير جدا، فهل يجوز لمسلم أن يزوجهم، أو يتزوج منهم ؟ وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه، أم لا ؟ وما حكم الجبن المعمول من إنفحة ذبيحتهم وما حكم أوانيهم وملابسهم ؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين، أم لا وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم ؟ أم يجب على ولي الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة، وهل يأثم إذا أخر طردهم ؟ أم يجوز له التمهل مع أن في عزمه ذلك ؟ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم، وإذا صرفها وتأخر لبعضهم بقية من معلومه المسمى ; فأخره ولي الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحقين، أو أرصده لذلك، هل يجوز له فعل هذه الصور ؟ أم يجب عليه ؟ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال، أم لا ؟ وإذا جاهدهم ولي الأمر أيده الله تعالى بإخماد باطلهم، وقطعهم من حصون المسلمين، وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وألزمهم بالصوم والصلاة، ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار ; هل ذلك أفضل وأكثر أجرا من التصدي والترصد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد سيبس وديار الإفرنج على أهلها ؟ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا، ويكون أجر من رابط في الثغور على ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر، أم هذا أكبر أجرا ؟ وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد على إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم، فلعل الله تعالى أن يهدي بعضهم إلى الإسلام وأن يجعل من ذريتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم أم يجوز التغافل عنهم والإهمال ؟ وما قدر المجتهد على ذلك، والمجاهد فيه، والمرابط له والملازم عليه ؟ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى إنه على كل شيء قدير ; وحسبنا الله ونعم الوكيل، فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى ; بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم ; فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع، وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله، ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار ولا بأحد من المرسلين قبل محمد ولا بملة من الملل السالفة بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها ; يدعون أنها علم الباطن ; من جنس ما ذكر من السائل، وما غير هذا الجنس، فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته، وتحريف كلام الله تعالى ورسوله عن مواضعه ; إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها من جنس ما ذكر السائل، ومن جنس قولهم: أن " الصلوات الخمس " معرفة أسرارهم، " والصيام المفروض " كتاب أسرارهم " وحج البيت العتيق " زيارة شيوخهم، وأن { يدا أبي لهب } هما أبو بكر وعمر، وأن البناء العظيم والإمام المبين هو علي بن أبي طالب: ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين ; كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم، وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة، وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره، وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ; وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد، الذي هم به أكفر من اليهود والنصارى، ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام، وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم، ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم، وهم دائما مع كل عدو للمسلمين ; فهم مع النصارى على المسلمين ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل، وانقهار النصارى ; بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى - والعياذ بالله تعالى - النصارى على ثغور المسلمين، فإن ثغور المسلمين ما زالت بأيدي المسلمين، حتى جزيرة قبرص يسر الله فتحها عن قريب، وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين " عثمان بن عفان " رضي الله عنه، فتحها " معاوية بن أبي سفيان " إلى أثناء المائة الرابعة، فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل ; ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره ; فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك ; ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى " كنور الدين الشهيد، وصلاح الدين " وأتباعهما ; وفتحوا السواحل من النصارى، وممن كان بها منهم، وفتحوا أيضا أرض مصر ; فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصارى، فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية، ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين لا بمعاونتهم ومؤازرتهم ; فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو " النصير الطوسي " كان وزيرا لهم بالألموت، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء، ولهم " ألقاب " معروفة عند المسلمين تارة يسمون " الملاحدة " وتارة يسمون " القرامطة " وتارة يسمون " الباطنية " وتارة يسمون " الإسماعيلية " وتارة يسمون " النصيرية " وتارة يسمون " الخرمية "، وتارة يسمون " المحرمة " وهذه الأسماء منها ما يعمهم، ومنها ما يخص بعض أصنافهم، كما أن الإسلام والإيمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه إما لنسب، وإما لمذهب، وإما لبلد، وإما لغير ذلك، وشرح مقاصدهم يطول، وهم كما قال العلماء فيهم: ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض، وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين ; لا بنوح، ولا إبراهيم، ولا موسى، ولا عيسى ولا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا بشيء من كتب الله المنزلة، لا التوراة، ولا الإنجيل، ولا القرآن، ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه ولا بأن له دينا أمر به، ولا أن له دارا يجزي الناس فيها على أعمالهم على هذه الدار، وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة الطبيعيين أو الإلهيين، وتارة يبنونه على قول المجوس الذين يعبدون النور، ويضمون إلى ذلك الرفض . ويحتجون لذلك من كلام النبوات: إما بقول مكذوب ينقلونه، كما ينقلون عن النبي أنه قال: { أول ما خلق الله العقل } والحديث، موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ; ولفظه { إن الله لما خلق العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، فقال له: أدبر، فأدبر } فيحرفون لفظه فيقولون { أول ما خلق الله العقل }، ليوافقوا قول المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل، وإما بلفظ ثابت عن النبي فيحرفونه عن مواضعه، كما يصنع أصحاب " رسائل إخوان الصفا " ونحوهم، فإنهم من أئمتهم، وقد دخل كثير من باطلهم على كثير من المسلمين، وراج عليهم حتى صار ذلك في كتب طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين ; وإن كانوا لا يوافقونهم على أصل كفرهم ; فإن هؤلاء لهم في إظهار دعوتهم الملعونة التي يسمونها " الدعوة الهادية " درجات متعددة، ويسمون النهاية " البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم " ومضمون البلاغ الأكبر جحد الخالق تعالى ; والاستهزاء به، وبمن يقر به، حتى قد يكتب أحدهم اسم الله في أسفل رجله، وفيه أيضا جحد شرائعه ودينه وما جاء به الأنبياء، ودعوى أنهم كانوا من جنسهم طالبين للرئاسة، فمنهم من أحسن في طلبها، ومنهم من أساء في طلبها حتى قتل، ويجعلون محمدا وموسى من القسم الأول، ويجعلون المسيح من القسم الثاني، وفيه من الاستهزاء بالصلاة، والزكاة والصوم، والحج ومن تحليل نكاح ذوات المحارم، وسائر الفواحش: ما يطول وصفه، ولهم إشارات ومخاطبات يعرف بها بعضهم بعضا، وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثر فيها أهل الإيمان فقد يخفون على من لا يعرفهم، وأما إذا كثروا فإنه يعرفهم عامة الناس فضلا عن خاصتهم، وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم ; ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم امرأة، ولا تباح ذبائحهم، وأما الجبن المعمول بإنفحتهم " ففيه قولان مشهوران للعلماء، كسائر إنفحة الميتة، وكإنفحة ذبيحة المجوس، وذبيحة الفرنج الذين يقال عنهم: إنهم لا يذكون الذبائح، فمذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين أنه يحل هذا الجبن ; لأن إنفحة الميتة طاهرة على هذا القول ; لأن الإنفحة لا تموت بموت البهيمة، وملاقاة الوعاء النجس في الباطن لا ينجس، ومذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى أن هذا الجبن نجس لأن الإنفحة عند هؤلاء نجسة ; لأن لبن الميتة وإنفحتها عندهم نجس، ومن لا تؤكل ذبيحته فذبيحته كالميتة، وكل من أصحاب القولين يحتج بآثار ينقلها عن الصحابة فأصحاب القول الأول نقلوا أنهم أكلوا جبن المجوس، وأصحاب القول الثاني نقلوا أنهم أكلوا ما كانوا يظنون أنه من جبن النصارى، فهذه مسألة اجتهاد ; للمقلد أن يقلد من يفتي بأحد القولين .

- سئل: عن رجل لعن اليهود، ولعن دينه، وسب التوراة: فهل يجوز لمسلم أن يسب كتابهم، أم لا ؟ أجاب: الحمد لله ليس لأحد أن يلعن التوراة ; بل من أطلق لعن التوراة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان ممن يعرف أنها منزلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها: فهذا يقتل بشتمه لها ; ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء، وأما إن لعن دين اليهود الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس به في ذلك، فإنهم ملعونون هم ودينهم، وكذلك إن سب التوراة التي عندهم بما يبين أن قصده ذكر تحريفها مثل أن يقال: نسخ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر: فهذا الكلام ونحوه حق لا شيء على قائله، والله أعلم .

- مسألة: في رجل له مملوك ذكر أنه سرق له قماشا ; وذكر الغلام أنه أودعه ؟ عند سيده القديم [ في ] منديل: فهل يقبل قوله في ذلك ؟ وما يلزم في ذلك، الجواب: لا يؤخذ بمجرد قول الغلام باتفاق المسلمين، سواء كان الحاكم بينهما والي الحرب، أو قاضي الحكم ; بل الذي عليه جمهور الفقهاء في المتهم بسرقة ونحوها أن ينظر في المتهم: فإما أن يكون معروفا بالفجور، وإما أن يكون مجهول الحال، فإن كان معروفا بالبر لم يجز مطالبته ولا عقوبته، وهل يحلف ؟ على قولين للعلماء، ومنهم من قال: يعزر من رماه بالتهمة، وإما أن يكون مجهول الحال فإنه يحبس حتى يكشف أمره، قيل: يحبس شهرا، وقيل: اجتهاد ولي الأمر، لما في السنن عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: { أن رسول الله حبس في تهمة } وإن كان قد يكون الرجل معروفا بالفجور المناسب للتهمة، فقال طائفة من الفقهاء: يضربه الوالي ; دون القاضي، وقد ذكر ذلك طوائف من أصحاب مالك، والشافعي، والإمام أحمد، ومن الفقهاء من قال: لا يضرب وقد ثبت في الصحيح عن النبي { أنه أمر الزبير بن العوام أن يمس بعض المعاهدين بالعذاب، لما كتم إخباره بالمال الذي كان النبي قد عاهدهم عليه، وقال له: أين كنز حيي بن أخطب ؟ فقال: يا محمد، أذهبته النفقات والحروب، فقال: المال كثير، والعهد قريب من هذا وقال للزبير: دونك هذا فمسه الزبير بشيء من العذاب ; فدلهم على المال }، وأما إذا ادعى أنه استودع المال فهذا أخف، فإن كان معروفا بالخير لم يجز إلزامه بالمال باتفاق المسلمين ; بل يحلف المدعى عليه، سواء كان الحاكم واليا، أو قاضيا .

حد السرقة - - مسألة: في رجل سرق بيته مرارا، ثم وجد بعد ذلك في بيته مملوكا بعد أن أغلق بابه فأخذ فأقر أنه دخل البيت مختلسا مرارا عديدة، ولم يقر أنه أخذ شيئا: فهل يلزمه ما عدم لهم من البيت ؟ وما الحكم فيه ؟ الجواب: هذا العبد يعاقب باتفاق المسلمين على ما ثبت عليه من دخول البيت ; ويعاقب أيضا عند كثير من العلماء، فإذا أقر بما تبين أنه أخذ المال: مثل أن يدل على موضع المال، أو على من أعطاه إياه، ونحو ذلك: أخذ المال، وأعطي لصاحبه إن كان موجودا، وغرمه إن كان تالفا، وينبغي للمعاقب له أن يحتال عليه بما يقر به، كما يفعل الحذاق من القضاة والولاة بمن يظهر لهم فجوره حتى يعترف، وأقل ما في ذلك أن يشهد عليهم برد اليمين على المدعي، فإذا حلف رب المال حينئذ حكم لرب المال إذا حلف، وأما الحكم لرب المال بيمينه بما ظهر من اللوث، والإمارات التي يغلب على الظن صدق المدعي، فهذا فيه اجتهاده، وأما في النفوس فالحكم بذلك مذهب أكثر العلماء كالشافعي، وأحمد، والله أعلم .

- سئل: عن رجل قال: قال رسول الله : { من قال لا إله إلا الله دخل الجنة } وقال آخر: إذا سلك الطريق الحميدة واتبع الشرع دخل ضمن هذا الحديث، وإذا فعل غير ذلك ولم يبال ما نقص من دينه وزاد في دنياه لم يدخل في ضمن هذا الحديث، قال له ناقل الحديث: أنا لو فعلت كل ما لا يليق ; وقلت لا إله إلا الله: دخلت الجنة ولم أدخل النار ؟ فأجاب رحمه الله: الحمد لله رب العالمين، من اعتقد أنه بمجرد تلفظ الإنسان بهذه الكلمة يدخل الجنة ولا يدخل النار بحال فهو ضال، مخالف للكتاب والسنة وإجماع المؤمنين: فإنه قد تلفظ بها المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وهم كثيرون ; بل المنافقون قد يصومون ويصلون ويتصدقون ; ولكن لا يتقبل منهم، قال الله تعالى: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }، وقال تعالى: { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين، وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } وقال

تعالى: { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } وقال تعالى: { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير } إلى قوله { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا }، وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: { آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان }، ولمسلم { وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم } وفي الصحيحين عنه أنه قال: { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب ; وإذا وعد أخلف ; وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر }، ولكن إن قال: لا إله إلا الله خالصا صادقا من قلبه ومات على ذلك فإنه لا يخلد في النار ; إذ لا يخلد في النار من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي  ; لكن من دخلها من " فساق أهل القبلة " من أهل السرقة، والزنا وشرب الخمر، وشهادة الزور وأكل الربا وأكل مال اليتيم ; وغير هؤلاء، فإنهم إذا عذبوا فيها عذبهم على قدر

ذنوبهم، كما جاء في الأحاديث الصحيحة { منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه } ومكثوا فيها ما شاء الله أن يمكثوا أخرجوا بعد ذلك كالحمم ; فيلقون في نهر يقال له الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويدخلون الجنة مكتوب على رقابهم، هؤلاء الجهنميون عتقاء الله من النار " وتفصيل هذه المسألة في غير هذا الموضع، والله أعلم .

- سئل: عن رجل حبس خصما له عليه دين بحكم الشرع، فحضر إليه رجل يشفع فيه فلم يقبل شفاعته، فتخاصما بسبب ذلك، فشهد الشافع على الرجل لأنه صدر منه كلام يقتضي الكفر، خاف الرجل غائلة ذلك، فأحضر إلى حاكم شافعي، وادعى عليه رجل من المسلمين بأنه تلفظ بما قيل عنه، وسأل حكم الشرع في ذلك، فقال الحاكم للخصم عن ذلك فلم يعترف، فلقن أن يعترف ليتم له الحكم بصحة إسلامه وحقن دمه فاعترف بأن ذلك صدر منه جاهلا بما يترتب عليه، ثم أسلم، ونطق بالشهادتين، وتاب واستغفر الله تعالى، ثم سأل الحاكم المذكور أن يحكم له بإسلامه وحقن دمه وتوبته وبقاء ماله عليه، فأجابه إلى سؤاله، وحكم بإسلامه، وحقن دمه، وبقاء ماله عليه، وقبول توبته وعزره تعزير مثله وحكم بسقوط تعزير ثان عنه، وقضى بموجب ذلك كله، ثم نفذ ذلك حاكم آخر حنفي: فهل الحكم المذكور صحيح في جميع ما حكم له به، أم لا ؟ وهل يفتقر حكم الشافعي إلى حضور خصم من جهة بيت المال ; أم لا ؟ وهل لأحد أن يتعرض بما صدر منه من أخذ ماله أو شيء منه بعد إسلامه، أم لا ؟ وهل يحل لحاكم آخر بعد الحكم والتنفيذ المذكورين أن يحكم في ماله بخلاف الحكم الأول وتنفيذه أم لا ؟ وهل ثياب ولي الأمر على منع من يتعرض إليه بأخذ ماله أو شيء منه بما ذكر، أم لا ؟ الجواب: الحمد لله، نعم الحكم المذكور صحيح، وكذلك تنفيذه وليس لبيت المال في مال مثل هذا حق باتفاق المسلمين ; ولا يفتقر الحكم بإسلامه وعصمة ماله إلى حضور خصم من جهة بيت المال ; فإن ذلك لا يتوقف على الحكم ; إذ الأئمة متفقون على أن المرتد إذا أسلم عصم بإسلامه دمه وماله وإن لم يحكم بذلك حاكم ; ولا كلام لولي بيت المال في مال من أسلم بعد ردته ; بل مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد أيضا في المشهور عنه أن من شهدت عليه بينة بالردة فأنكر وتشهد الشهادتين المعتبرتين حكم بإسلامه، ولا يحتاج أن يقر بما شهد به عليه، فكيف إذا لم يشهد عليه عدل ؟ فإنه من هذه الصورة لا يفتقر الحكم بعصمة دمه وماله إلى إقراره باتفاق المسلمين: ولا يحتاج عصمة دم مثل هذا إلى أن يقر ثم يسلم بعد إخراجه إلى ذلك، فقد يكون فيه إلزام له بالكذب على نفسه أنه كفر ; ولهذا لا يجوز أن يبنى على مثل هذا الإقرار حكم الإقرار الصحيح ; فإنه قد علم أنه لقن الإقرار، وأنه مكره عليه في المعنى فإنه إنما فعله خوف القتل، ولو قدر أن كفر المرتد كفر سب فليس في الحكام بمذهب الأئمة الأربعة من يحكم بأن ماله لبيت المال بعد إسلامه ; إنما يحكم من يحكم بقتله لكونه يقتل حدا عندهم على المشهور، ومن قال: يقتل لزندقته فإن مذهبه أنه لا يؤخذ بمثل هذا الإقرار، وأيضا فمال الزنديق عند أكثر من قال بذلك لورثته من المسلمين فإن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي كانوا إذا ماتوا ورثهم المسلمون مع الجزم بنفاقهم ; كعبد الله بن أبي وأمثاله ممن ورثهم ورثتهم الذين يعلمون بنفاقهم، ولم يتوارث أحد من الصحابة غير ميراث منافق، والمنافق هو الزنديق في اصطلاح الفقهاء الذين تكلموا في توبة الزنديق، وأيضا فحكم الحاكم إذا نفذ في دمه الذي قد يكون فيه نزاع نفذ في ماله بطريق الأولى ; إذ ليس في الأمة من يقول: يؤخذ ماله ولا يباح دمه، فلو قيل بهذا كان خلاف الإجماع ; فإذا لم يتوقف الحكم بعصمة دمه على دعوى من جهة ولي الأمر فماله أولى، وقد تبين أن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال غير ممكن من وجوه: أحدها: أنه لم يثبت عليه ما يبيح دمه: لا ببينة، ولا بإقرار متعين ; ولكن بإقرار قصد به عصمة ماله ودمه من جنس الدعوى على الخصم المسخر، الثاني: أن الحكم بعصمة دمه وماله واجب في مذهب الشافعي والجمهور وإن لم يقر ; بل هو واجب بالإجماع مع عدم البينة والإقرار، الثالث: أن الحكم صحيح بلا ريب، الرابع: أنه لو كان حكم مجتهد فيه لزال ذلك بتنفيذ المنفذ له، الخامس: أنه ليس في الحكام من الحكم بمال هذا لبيت المال ولو ثبت عليه الكفر ثم الإسلام ; ولو كان الكفر سببا ; فكيف إذا لم يثبت عليه ؟، أم كيف إذا حكم بعصمة ماله ؟، بل مذهب مالك وأحمد الذي يستند إليها في مثل هذه من أبعد المذاهب عن الحكم بمال مثل هذا لبيت المال ; لأن مثل هذا الإقرار عندهم قرار تلجئة لا يلتفت إليه ; ولما عرف من مذهبهما في الساب، والله أعلم .

-مسألة: فيما يتعلق بالتهم في المسروقات في ولايته ; فإن ترك الفحص في ذلك ضاعت الأموال، وطمعت الفساق، وإن وكله إلى غيره ممن هو تحت يده غلب على ظنه أنه يظلم فيها، أو يتحقق أنه لا يفي بالمقصود في ذلك ؟ وإن أقدم وسأل أو أمسك المتهومين وعاقبهم خاف الله تعالى في إقدامه على أمر مشكوك فيه ؟ وهو يسأل ضابطا في هذه الصورة، وفي أمر قاطع الطريق ؟ الجواب: أما التهم في السرقة وقطع الطريق ونحو ذلك فليس له أن يفوضها إلى من يغلب على ظنه أنه يظلم فيها مع إمكان أن يقيم فيها من العدول ما يقدر عليه، وذلك أن الناس في التهم ثلاثة أصناف: صنف: معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم، فهذا لا يحبس، ولا يضرب ; بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء ; بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم، والثاني: من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور، فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله، وقد قيل: يحبس شهرا، وقيل: يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر، والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره { أن النبي  حبس في تهمة } وقد نص على ذلك الأئمة، وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه

مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما، وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله، فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره، ثم إذا سأل عنه ووجد بارا أطلق، وإن وجد فاجرا كان من: الصنف الثالث: وهو الفاجر الذي قد عرف منه السرقة قبل ذلك، أو عرف بأسباب السرقة: مثل أن يكون معروفا بالقمار، والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال، وليس له مال، ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة ; ولهذا قالت طائفة من العلماء إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي - كما قال أشهب صاحب مالك وغيره - حتى يقر بالمال، وقالت طائفة: يضربه الوالي ; دون القاضي، كما قال ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، كما ذكره القاضيان الماوردي والقاضي أبو يعلى في كتابيهما في الأحكام السلطانية، وهو قول طائفة من المالكية، كما ذكره الطرسوسي وغيره، ثم المتولي له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره المعروف، فيكون تعزيرا وتقريرا، وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهومين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق ; بل قد أنزل على نبيه في قصة كانت تهمة في سرقة قوله تعالى: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا، ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا } إلى آخر الآيات، وكان سبب ذلك أن قوما يقال لهم بنو أبيرق سرقوا لبعض الأنصار طعاما ودرعين، فجاء صاحب المال يشتكي إلى رسول الله فجاء قوم يزكون المتهمين بالباطل ; فكأن النبي ظن صدق المزكين فلام صاحب المال: فأنزل الله هذه الآية، ولم يقل النبي لصاحب المال: أقم البينة ; ولا حلف المتهمين ; لأن أولئك المتهمين كانوا معروفين بالشر، وظهرت الريبة عليهم، وهكذا حكم النبي بالقسامة في الدماء إذا كان هناك لوث يغلب على الظن صدق المدعين ; فإن هذه الأمور من الحدود في المصالح العامة ; ليست من الحقوق الخاصة، فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء فيقتل الرجل عدوه خفية، ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة ; واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث اليمين، وقول النبي : { لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ; ولكن اليمين على المدعى عليه } هذا فيما لا يمكن من المدعي حجة غير الدعوى فإنه لا يعطى بها شيئا، ولكن يحلف المدعى عليه، فأما إذا أقام شاهدا بالمال فإن النبي قد حكم في المال بشاهد ويمين وهو قول فقهاء الحجاز وأهل الحديث، كمالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم، وإذا كان في دعوى الدم لوث فقد قال النبي للمدعين: { أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم } ؟، كذلك أمر " قطاع الطريق " وأمر " اللصوص " وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة ; فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء، ولا يزجرهم أن يحلف كل منهم ; ولهذا اتفق الفقهاء على أن قاطع الطريق لأخذ المال يقتل حتما، وقتله حد لله ; وليس قتله مفوضا إلى أولياء المقتول، قالوا: لأن هذا لم يقتله لغرض خاص معه ; إنما قتله لأجل المال، فلا فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره، فقتله مصلحة عامة، فعلى الإمام أن يقيم ذلك، وكذلك " السارق " ليس غرضه في مال معين، وإنما غرضه أخذ مال هذا ومال هذا، كذلك كان قطعه حقا واجبا لله ليس لرب المال ; بل رب المال يأخذ ماله، وتقطع يد السارق، حتى لو قال صاحب المال: أنا أعطيه مالي لم يسقط عنه القطع، كما قال صفوان للنبي : أنا أهبه ردائي، فقال النبي : { فهلا فعلت قبل أن تأتي به }، وقال النبي : { من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال } وقال للزبير بن العوام { إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع }، ومما يشبه هذا من ظهر عنده مال يجب عليه إحضاره كالمدين إذا ظهر أنه غيب ماله وأصر على الحبس، وكمن عنده أمانة ولم يردها إلى مستحقها ظهر كذبه، فإنه لا يحلف ; لكن يضرب حتى يحضر المال الذي يجب إحضاره، أو يعرف مكانه، كما قال النبي للزبير بن العوام عام خيبر في عم حيي بن أخطب، وكان النبي صالحهم على أن له الذهب والفضة ; فقال لهذا الرجل: { أين كنز حيي بن أخطب ؟ فقال: يا محمد، أذهبته النفقات، والحروب، فقال: المال كثير، والعهد أحدث من هذا ثم قال: دونك هذا فمسه بشيء من العذاب، فدلهم عليه في خربة هناك } فهذا لما قال أذهبته النفقات والحروب والعادة تكذبه في ذلك لم يلتفت إليه بل أمر بعقوبته حتى دلهم على المال ; فكذلك من أخذ من أموال الناس وادعى ذهابها دعوى تكذبه فيها العادة كان هذا حكمه .

- مسألة: في تاجر نصب عليه جماعة ; وأخذوا مبلغا، فحملهم لولي الأمر ; وعاقبهم حتى أقروا بالمال، وهم محبوسون على المال، ولم يعطوه شيئا، وهم مصرون على أنهم لا يعطونه شيئا ؟ الجواب: الحمد لله هؤلاء من كان المال بيده وامتنع من إعطائه فإنه يضرب حتى يؤدي المال الذي بيده لغيره، ومن كان قد غيب المال وجحد موضعه فإنه يضرب حتى يدل على موضعه، ومن كان متهما لا يعرف هل معه من المال شيء أم لا ; فإنه يجوز ضربه معاقبة له على ما فعل من الكذب والظلم، ويقرر مع ذلك على المال أين هو، ويطلب منه إحضاره، والله أعلم .

- مسألة: عن المفسدين في الأرض ; الذين يستحلون أموال الناس ودماءهم: مثل السارق، وقاطع الطريق: هل للإنسان أن يعطيهم شيئا من ماله ؟ أو يقاتلهم ؟ وهل إذا قتل رجل أحدا منهم: فهل يكون ممن ينسب إلى النفاق ؟ وهل عليه إثم في قتل من طلب قتله ؟ أجاب: أجمع المسلمون على جواز مقاتلة قطاع الطريق، وقد ثبت عن النبي أنه قال: { من قتل دون ماله فهو شهيد }، فالقطاع: إذا طلبوا مال المعصوم لم يجب عليه أن يعطيهم شيئا باتفاق الأئمة بل يدفعهم بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفعوا إلا بالقتال فله أن يقاتلهم، فإن قتل كان شهيدا، وإن قتل واحدا منهم على هذا الوجه كان دمه هدرا ; وكذلك إذا طلبوا دمه كان له أن يدفعهم ولو بالقتل إجماعا ; لكن الدفع عن المال لا يجب، بل يجوز له أن يعطيهم المال ولا يقاتلهم، وأما الدفع عن النفس ففي وجوبه قولان، هما روايتان عن أحمد .

سئل: عن ثلاثة من اللصوص أخذ اثنان منهم جمالا، والثالث قتل الجمال: هل يقتل الثلاثة ؟ الجواب: إذا كان الثلاثة حرامية اجتمعوا ليأخذوا المال بالمحاربة قتل الثلاثة ; وإن كان الذي باشر القتل واحد منهم، والله أعلم .

-مسألة: في عسكر نزلوا مكانا باتوا فيه فجاء أناس سرقوا لهم قماشا فلحقوا السارق فضربه أحدهم بالسيف، ثم حمل إلى مقدم العسكر ثم مات بعد ذلك ؟ الجواب: إذا كان هذا هو الطريق في استرجاع ما مع السارق لم يلزم الضارب شيء، فقد روى ابن عمر أن لصا دخل داره فقام إليه بالسيف فلولا أنهم ردوه عنه لضربه بالسيف، وفي الصحيحين { من قتل دون ماله فهو شهيد } .

- مسألة: في رجل له ملك، وهو واقع، فأعلموه بوقوعه فأبى أن ينقضه ثم وقع على صغير فهشمه هل يضمن أو لا ؟ الجواب: هذا يجب الضمان عليه في أحد قولي العلماء، لأنه مفرط في عدم إزالة هذا الضرر، والضمان على المالك الرشيد الحاضر أو وكيله إن كان غائبا أو وليه إن كان محجورا عليه، ووجوب الضمان في مثل هذا هو مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، والواجب نصف الدية والأرش فيما لا تقدير فيه، ويجب ذلك على عاقلة هؤلاء إن أمكن وإلا فعليهم في أصح قولي العلماء .

كتاب الجهاد - مسألة: في الحديث وهو: { حرس ليلة على ساحل البحر أفضل من عمل رجل في أهله ألف سنة } وفي سكنى مكة، والبيت المقدس، والمدينة المنورة على نية العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والسكنى بدمياط، وإسكندرية، وطرابلس على نية الرباط أيهم أفضل، الجواب: الحمد لله، بل المقام في ثغور المسلمين كالثغور الشامية، والمصرية أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، وما أعلم في هذا نزاعا من أهل العلم، وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، وذلك لأن الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج كما قال تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله }، وفي الصحيحين: عن النبي : أنه سئل أي الأعمال أفضل قال: " { إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا ؟ قال: ثم جهاد في سبيله، قيل: ثم ماذا ؟ قال: ثم حج مبرور }، وقد روي: { غزوة في سبيل الله أفضل من سبعين حجة }، وقد روى مسلم في صحيحه: عن سلمان الفارسي أن النبي قال: { رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا مات مجاهدا وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان }، وفي السنن عن عثمان عن النبي أنه قال: { رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل } "، وهذا قاله عثمان على منبر رسول الله وذكر أنه قال لهم ذلك تبليغا للسنة، وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود، وفضائل الرباط الحرس في سبيل الله كثيرة لا تسعها هذه الورقة، والله أعلم . - مسألة: في رجل جندي وهو يريد أن لا يخدم ؟ الجواب: إذا كان للمسلمين به منفعة وهو قادر عليها لم ينبغ له أن يترك ذلك لغير مصلحة راجحة على المسلمين، بل كونه مقدما في الجهاد الذي يحبه الله ورسوله أفضل من التطوع بالعبادة كصلاة التطوع، والحج التطوع، والصيام التطوع، والله أعلم .

-مسألة: في بلد " ماردين " هل هي بلد حرب أم بلد سلم ؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا ؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم في ذلك، وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا ؟ الجواب: الحمد لله دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في ماردين أو غيرها، وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة، سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم، والمقيم بها إن كان عاجزا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه، وإلا استحبت ولم تجب ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال، محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم من تغيب، أو تعريض، أو مصانعة، فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت، ولا يحل سبهم عموما ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم، وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ليست بمنزلة دار السلم التي يجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه .

- مسألة: إذا دخل التتار الشام ونهبوا أموال النصارى والمسلمين ثم نهب المسلمون التتار وسلبوا القتلى منهم فهل المأخوذ من أموالهم وسلبهم حلال أم لا ؟ الجواب: كل ما أخذ من التتار يخمس ويباح الانتفاع به . وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة: منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعقد له ذمة بخلاف الكافر الأصلي، ومنها: أن المرتد يقتل وإن كان عاجزا عن القتال بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد، ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، ومنها أن المرتد لا يرث، ولا يناكح، ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي، إلى غير ذلك من الأحكام، وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه، ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار ويعلم أن المرتدين الذين فيهم من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين من الترك ونحوهم، وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم، وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك الذين كانوا كفارا، فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حالا ممن لم يدخل بعد في تلك الشرائع مثل: مانعي الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق، وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقها، أو متصوفا أو تاجرا، أو كاتبا، أو غير ذلك فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا في تلك الشرائع وأصروا على الإسلام، ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء على الدين ما لا يجدونه من ضرر أولئك، وينقادون للإسلام وشرائعه وطاعة الله ورسوله أعظم من انقياد هؤلاء الذين ارتدوا عن بعض الدين ونافقوا في بعضه، وإن تظاهروا بالانتساب إلى العلم والدين، وغاية ما يوجد من هؤلاء يكون ملحدا نصيريا، أو إسماعيليا، أو رافضيا، وخيارهم يكون جهميا اتحاديا أو نحوه، فإنه لا ينضم إليهم طوعا من المظهرين للإسلام إلا منافق، أو زنديق، أو فاسق فاجر، ومن أخرجوه معهم مكرها فإنه يبعث على نيته، ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه إذ لا يتميز المكره من غيره، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي أنه قال: { يغزو هذا البيت جيش من الناس، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل: يا رسول الله، إن فيهم المكره، فقال: يبعثون على نياتهم }، والحديث مستفيض عن النبي من وجوه متعددة أخرجه أرباب الصحيح عن عائشة، وحفصة، وأم سلمة، ففي صحيح مسلم: عن أم سلمة قالت: { قال رسول الله : يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها، قال: يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته } وفي الصحيحين: عن عائشة قالت: { عبث رسول الله في منامه فقلنا: يا رسول الله، صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله، فقال: العجب أن ناسا من أمتي يؤمون هذا البيت برجل من قريش، وقد لجأ إلى البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم المستنصر والمجنون وابن السبيل فيهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله عز وجل على نياتهم } وفي لفظ للبخاري: عن عائشة قالت: { قال رسول الله : يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، قالت: قلت: يا رسول الله، يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم، قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم }، وفي صحيح مسلم: عن حفصة { أن رسول الله قال: سيعوذ بهذا البيت - يعني الكعبة - قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة، يبعث إليهم جيش يومئذ حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم }، قال يوسف بن ماهك: وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة فقال عبد الله بن صفوان: أما والله ما هو بهذا الجيش فالله تعالى أهلك الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته المكره فيهم وغير المكره، مع قدرته على التمييز بينهم مع أنه يبعثهم على نياتهم، فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين المكره وغيره وهم لا يعلمون ذلك بل لو ادعى مدع أنه خرج مكرها لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه، كما روي { أن العباس بن عبد المطلب قال للنبي لما أسره المسلمون يوم بدر: يا رسول الله، إني، كنت مكرها، فقال: أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله }، بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضا فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار، ولو لم نخف على المسلمين جاز وهي أولئك المسلمين أيضا في أحد قولي العلماء، ومن قتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله هو في الباطن مظلوم كان شهيدا، وبعث على نيته، ولم يكن قتله أعظم فسادا من قتل من يقتل من المؤمنين المجاهدين، وإذا كان الجهاد واجبا وإن قتل من المسلمين ما شاء الله فقيل من يقتل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا، بل قد أمر النبي المكره في قتال الفتنة بكسر سيفه وليس له أن يقاتل، وإن قتل، كما في صحيح مسلم عن أبي بكرة { قال رسول الله : إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتن ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال: فقال رجل يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل، ولا غنم، ولا أرض قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى إحدى الصفين أو إحدى الفئتين فيضربني رجل بسيفه أو بسهمه فيقتلني، قال: يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار }، ففي هذا الحديث أنه نهى عن القتال في الفتنة بل أمر بما يتعذر معه القتال من الاعتزال أو إفساد السلاح الذي يقاتل به، وقد دخل في ذلك المكره وغيره ثم بين أن المكره إذا قتل ظلما كان القاتل قد باء بإثمه وإثم المقتول كما قال تعالى في قصة ابني آدم عن المظلوم { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين } ومعلوم أن الإنسان إذا صال صائل على نفسه جاز له الدفع بالسنة والإجماع وإنما تنازعوا هل يجب عليه الدفع بالقتال على قولين هما روايتان عن أحمد: إحداهما: يجب الدفع عن نفسه ولو لم يحضر الصف، والثانية: يجوز له الدفع عن نفسه، وأما الابتداء بالقتال في الفتنة فلا يجوز بلا ريب، والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل، بل عليه إفساد سلاحه، وأن يصبر حتى يقتل مظلوما فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام: كمانعي الزكاة، والمرتدين، ونحوهم، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين، وإن أكرهه بالقتل فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس، فليس له أن يظلم غيره فيقتله، لئلا يقتل هو، بل إذا فعل ذلك كان القود على المكره جميعا عند أكثر العلماء: كأحمد، ومالك، والشافعي، في أحد قوليه، وفي الآخر: يجب القود على المكره فقط كقول: أبي حنيفة، ومحمد، وقيل: القود على المكره المباشر كما روي ذلك عن زفر، وأبو يوسف: يوجب الضمان بالدية بدل القود ولم يوجبه، وقد روى مسلم في صحيحه: عن النبي قصة أصحاب الأخدود وفيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين، ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، وقد بسطنا القول في هذه المسألة في موضع آخر، فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا، الذي لا يندفع إلا بذلك أولى وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قتل وإن كان المال الذي يأخذه قيراطا من دينار، كما قال النبي في الحديث الصحيح: { من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمه فهو شهيد }، فكيف بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام المحاربين لله ورسوله الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم، فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع، وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين في أنفسهم، وأموالهم، وحرمهم، ودينهم، وكل من هذه يبيح قتال الصائل عليها، ومن قتل دونها فهو شهيد، فكيف بمن قاتل عليها كلها وهم من شر البغاة المتأولين الظالمين، لكن من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون فقد أخطأ خطأ قبيحا وضل ضلالا بعيدا فإن أقل ما في البغاة المتأولين أن يكون لهم تأويل سائغ خرجوا به، ولهذا قالوا: إن الإمام يراسلهم، فإن ذكروا شبهة بينها، وإن ذكروا مظلمة أزالها، فأي شبهة لهؤلاء المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا، والخارجين عن شرائع الدين ولا ريب أنهم لا يقولون أنهم أقوم بدين الإسلام علما وعملا من هذه الطائفة بل هو مع دعواهم الإسلام يعلمون أن هذه الطائفة أعلمهم بإسلام منهم، وأتبع له منهم، وكل من تحت أديم السماء من مسلم وكافر يعلم ذلك وهم مع ذلك ينذرون المسلمين بالقتال، فامتنع أن تكون لهم شبهة بينة يستحلون بها قتال المسلمين كيف وهم قد سبوا غالب حريم الرعية الذين لم يقاتلوهم ؟ حتى إن الناس قد رأوهم يعظمون البقعة ويأخذون ما فيها من الأموال، ويعظمون الرجل ويتبركون به، ويسلبونه ما عليه من الثياب، ويسبون حريمه ويعاقبونه بأنواع العقوبات التي لا يعاقب بها إلا أظلم الناس وأفجرهم، والمتأول تأويلا دينيا لا يعاقب إلا من يراه عاصيا للدين، وهم يعظمون من يعاقبونه في الدين، ويقولون: إنه أطوع لله منهم، فأي تأويل بقي لهم، ثم لو قدر أنهم متأولون لم يكن تأويلهم سائغا، بل تأويل الخوارج ومانعي الزكاة أوجه من تأويلهم، أما الخوارج فإنهم ادعوا اتباع القرآن، وأن ما خالفه من السنة لا يجوز العمل به، وأما مانعوا الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا: إن الله قال لنبيه: خذ من أموالهم صدقة وهذا خطاب لنبيه فقط فليس علينا أن ندفعها لغيره فلم يكونوا يدفعونها لأبي بكر ولا يخرجونها له، والخوارج لهم علم وعبادة وللعلماء معهم مناظرات كمناظرتهم مع الرافضة والجهمية، وأما هؤلاء فلا يناظرون على قتال المسلمين، فلو كانوا متأولين لم يكن لهم تأويل يقوله ذو عقل، وقد خاطبني بعضهم بأن قال: ملكنا ملك ابن ملك ابن ملك إلى سبعة أجداد، وملككم ابن مولى فقلت: له: آباء ذلك الملك كلهم كفار، ولا فخر بالكافر، بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر، قال الله تعالى { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم }، فهذه وأمثالها حججهم، ومعلوم أن من كان مسلما وجب عليه أن يطيع المسلم ولو كان عبدا ولا يطيع الكافر، وقد ثبت في الصحيح: عن النبي أنه قال: { اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله }، ودين الإسلام إنما يفضل الإنسان بإيمانه وتقواه لا بآبائه، ولو كانوا من بني هاشم أهل بيت النبي فإنه خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان شريفا قرشيا، وقد قال تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وفي السنن عنه أنه قال: " { لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب }، وفي الصحيحين: عنه أنه قال لقبيلة قريبة منه: { إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين }، فأخبر النبي أن موالاته ليست بالقرابة والنسب، بل بالإيمان والتقوى، فإذا كان هذا في قرابة الرسول فكيف بقرابة جنكيز خان الكافر المشرك، وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه في الإيمان والتقوى، وإن كان الأول أسود حبشيا والثاني علويا أو عباسيا .

كتاب البيوع قواعد في العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرها وأما العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرها، فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة، فإن ذلك فيها كالقول في العبادات، فمن ذلك: صفة العقود فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: إن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغة، وهي العبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء في ذلك: البيع، والإجارة والهبة، والنكاح، والعتق، والوقف، وغير ذلك، وهذا ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد، يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع والوقف، ويكون تارة رواية مخرجة كالهبة والإجارة، ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها، كما في إشارة الأخرس، ويقيمون أيضا الكتابة في مقام العبارة عند الحاجة وقد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها، كما في الهدي إذا عطب دون محله، فإنه ينحر ثم يضمخ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس، ومن أخذه ملكه، وكذلك الهدية ونحو ذلك، لكن الأصل عندهم هو اللفظ ; لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا }، والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي قد جعلت لإبانة ما في القلب، إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها يحتمل وجوها كثيرة، ولأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر والدعاء في العبادات، القول الثاني: إنها تصح بالأفعال فيما كثر عقده بالأفعال، كالمبيعات بالمعاطاة، وكالوقف في مثل من بنى مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه، أو سبل أرضا للدفن، أو بنى مطهرة وسبلها للناس، وكبعض أنواع الإجارة: كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة، أو ركب سفينة ملاح، وكالهدية ونحو ذلك، فإن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أمور الناس، ولأن الناس من لدن النبي وإلى يومنا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود، وهذا قول الغالب على أصول أبي حنيفة، وهو قول في مذهب أحمد، ووجه في مذهب الشافعي، بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف، القول الثالث: إنها تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، فكل ما عده الناس بيعا وإجارة فهو بيع وإجارة، وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستمر لا في شرع ولا في لغة، بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس، كما تتنوع لغاتهم، فإن لفظ البيع والإجارة في لغة العرب، ليس هو اللفظ الذي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة، بل قد يختلف أنواع اللغة الواحدة، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات، ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم، إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم، وإن كان قد يستحب بعض الصفات، وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد، ولهذا يصح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقا وإن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر، بأن يقول: خذ هذا لله فيأخذه، أو يقول: أعطني خبزا بدرهم فيعطيه، أو لم يوجد لفظ من أحدهما بأن يضع الثمن ويقبض جرزة البقل أو الحلوى أو غير ذلك كما يتعامل به غالب الناس، أو يضع المتاع ليوضع له بدله، فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه، كما يجلبه التجار عن عادة بعض أهل

المشرق، فكل ما عده الناس بيعا فهو بيع، وكذلك في الهبة مثل الهدية، ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية، وكذلك الإجارات، مثل ركوب سفينة الملاح، والمكارين، وركوب دابة الجمال إذ الحمار أو البغال المكارين على الوجه المعتاد أنه إجارة، ومثل الدخول إلى حمام الحمامي، ومثل دفع الثوب إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر، أو دفع الطعام إلى طباخ أو شواي يطبخ، أو يشوي للآخر سواء شواي اللحم مشروحا أو غير مشروح، حتى اختلف أصحابه، هل يقع بالمعاطاة مثل أن تقول: اخلعني بهذه الألف، أو بهذا الثوب، فيقبض العوض على الوجه المعتاد أنه رضي بالمعاوضة ؟ فذهب العكبريون كأبي حفص، وأبي علي بن شهاب إلى أن ذلك خلع صحيح وذكروا من كلام أحمد ومن كلام غيره من السلف من الصحابة والتابعين ما يوافق قولهم، ولعله هو الغالب على نصوصه، بل قد نص على أن الطلاق يقع بالفعل والقول، واحتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبي : { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به }، قال: وإذا كتب فقد عمل، وذهب البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت، كابن حامد ومن اتبعهم، كالقاضي أبي يعلى ومن سلك سبيله: أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام، وذكروا من كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك بناء على أن الفرقة فسخ النكاح، والنكاح يفتقر إلى لفظ، فكذلك فسخه، وأما النكاح فقال هؤلاء: ابن حامد، والقاضي، وأصحابه مثل: أبي الخطاب، وعامة المتأخرين: أنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج، كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكتابة ; لأنها تفتقر إلى نية، والشهادة شرط في صحة النكاح، والشهادة على النية غير ممكنة، ومنعوا من انعقاده بلفظ الهبة والعطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك، وقال أكثر هؤلاء أيضا: إنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها، فإن لم يحسنها ولم يقدر على تعليمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان، وإن قدر على تعلمها ففيه وجهان، بناء على أنه مختص بهذين اللفظين، وأن فيه شوب التعبد، وهذا مع أنه ليس منصوصا عن أحمد فهو مخالف لأصوله، ولم ينص أحمد على ذلك، ولا نقلوا عنه نصا في ذلك، وإنما نقلوا قوله في رواية أبي الحارث: إذا وهب لرجل فليس بنكاح، فإن الله قال: { خالصة لك من دون المؤمنين }، وهذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي وهو النكاح بغير مهر، بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك أو صداقك عتقك، أو بقوله: جعلت عتقك صداقك ذكر ذلك في غير موضع من جواباته، فاختلف أصحابه، فأما ابن حامد فطرد قياسه وقال: لا بد مع ذلك من أن يقول وتزوجتها أو نكحتها ; لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين اللفظتين، وأما القاضي أبو يعلى وغيره فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه ابن حامد، وأن تلك من صورة الاستحسان، وذكر ابن عقيل قولا في المذهب أنه ينعقد بعين لفظ الإنكاح والتزويج لنص أحمد، هذا وهذا أشبه بنصوص أحمد وأصوله، ومذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه، فإن أصحاب مالك اختلفوا: هل ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج على قولين، والمنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به النبي من هبة البضع بغير مهر "، قال ابن القاسم وإن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك، وهو عندي جائز، وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما، فإن الحكم مبني على مقدمتين: أحدهما: إنما نسمي ذلك كناية، وأن الكناية تفتقر إلى النية، ومذهبهما المشهوران دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة ويقوم مقام إظهار النية، ولهذا جعل الكنايات في الطلاق والقذف ونحوهما مع دلالة الحال كالصريح، ومعلوم أن دلالات الأحوال في النكاح من اجتماع الناس لذلك، والتحدث بما اجتمعوا، فإذا قال بعد ذلك: ملكتكها بألف درهم، علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الإنكاح، وقد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده أملاكا وملاكا، ولهذا روى الناس قول النبي لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتما من حديد تارة: { بأنكحتكها بما معك من القرآن }، وتارة: " ملكتكها "، وإن كان النبي يثبت أنه اقتصر على ملكتكها، بل إما قالهما جميعا أو قال أحدهما، لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء، رووا الحديث تارة هكذا وتارة هكذا، ثم تعين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن أصول أحمد ونصوصه وعن أصول الأدلة الشرعية، إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم، وهو إن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة، ومعلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربي ولا عجمي، وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعين لفظ عربي بالإجماع، ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهم من اللغة التي اعتادها، نعم لو قيل: يكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة، لكن متوجها كما قد روي عن مالك أحمد والشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة، وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع، وقد ذكر أصحاب الشافعي وأحمد كالقاضي وابن عقيل والمتأخرين، أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم كما اعتقدوه نكاحا بينهم، جاز إقرارهم عليه إذا تسلموا أو تحاكموا إلينا، إذا لم يكن حينئذ مشتملا على مانع، وإن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يجز الإقرار عليه، حتى قالوا: لو قهر حربي حربية فوطئها أو طاوعته واعتقداه نكاحا أقرا عليه وإلا فلا، ومعلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر، إنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح أن يميز عن السفاح، كما قال: { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان }، فأمر بالوالي والشهود ونحو ذلك مبالغة في تميزه عن السفاح وصيانة النساء عن التشبه بالبغايا، حتى شرع الصوت بالدف والوليمة الموجبة لشهرته، ولهذا جاء في الأثر: { المرأة لا تزوج نفسها، فإن البغي هي التي تزوج نفسها }، وأمر فيه بالإشهاد أو بالإعلان أو بهما جميعا ثلاثة أقوال: هي ثلاث روايات في مذهب أحمد، ومن اقتصر على الإشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن السفاح، وبأنه يحفظ النسب عن التجاحد، فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع في الكتاب والآثار حكمها بينه، فأما التزام لفظ خاص فليس فيه أثر ولا تعلق، وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل، هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي تعرفها القلوب، وذلك أن الله سبحانه قال: { فانكحوا ما طاب لكم من النساء }، وقال: { وأنكحوا الأيامى منكم }، وقال: { وأحل الله البيع }، وقال: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه }، وقال: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }، وقال: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }، وقال: { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إلى قوله: { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم } إلى قوله: { فرهان مقبوضة }، وقال: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا }، وقال: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل }، وقال: { يمحق الله الربا ويربي الصدقات }، وقال: { إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا }، وقال: { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا }، وقال: { فأمسكوهن بمعروف } إلى نحو ذلك من الآيات المشروع فيها العقود، إما أمر وإما إباحة، والمنهي فيها عن بعضها كالزنا فإن الدلالة فيها من وجوه: أحدها: أنه بالتراضي في البيع في قوله: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }، وبطيب النفس في التبرع في قوله: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } فتلك الآية في جنس المعاوضات وهذه من جنس التبرعات، ولم يشترط لفظا معينا، ولا فعلا معينا يدل على التراضي وعلى طيب النفس، ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس، والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وظاهر في بعضها، وإذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن، وبعض الناس قد يحمله الكذب في نصرة قول معين، على أن يجحد ما يعلم الناس من التراضي وطيب النفس، فلا عبرة بجحد مثل هذا، فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن موطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب، فالعبرة بلفظته التي لم يعارضها ما يغيرها، ولهذا قلنا: إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم بحيث لا يتواطأ على الكذب ; لأن الفطرة لا تتفق، فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد تتفق جماعات على الكذب، الوجه الثاني: أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله معلقا بها أحكام شرعية، وكل اسم فلا بد له من حد، فمنه ما يعلم حده باللغة، كالشمس، والقمر، والبحر، والبر، والسماء، والأرض، ومنه ما يعلم بالشرع، كالمؤمن، والكافر، والمنافق، وكالصلاة، والزكاة، والحج، وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس، كالقبض المذكور في قوله : { من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه }، ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحو ذلك لم يحد الشارع له حدا لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، بل ولا ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صيغة معينة من الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ، بل قد قيل إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم، وأنه من البدع، وليس لذلك حد في اللغة بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا، ولا يسمون هذا بيعا، حتى يدخل أحدهما في خطاب الله فلا يدخل الآخر، بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعا، والأصل بقاء اللغة وتقديرها لا نقلها وتغييرها، فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة المرجوع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعا فهو بيع، وما سموه هبة فهو هبة، الوجه الثالث: أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فاستقراء أصول الشريعة أن العبادات التي أوجبها الله أو أباحها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله ورسوله، وذلك ; لأن الأمر والنهي مما شرع الله تعالى، والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور كيف يحكم عليه بأنه عبادة ؟ وما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور ؟ ولهذا كان أصل أحمد وغيره من فقهاء الحديث: أن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى وإلا دخلنا في معنى قوله: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }، والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله وإلا دخلنا في معنى قوله: { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا }، ولهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون، وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون }، وقالوا: { هذه أنعام وحرث حجر }، فذكر ما ابتدعوه من العبادات ومن التحريمات، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن النبي قال: { قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا }، وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها، هي من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم، كالأكل، والشرب، واللباس، فالشريعة جاءت في العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت منها ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها، وإذا كان كذلك فالناس يتبايعون ويتاجرون كيف شاءوا ما لم تحرمه الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا ما لم تحرمه الشريعة، وإن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها، ولم تحد الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي، وأما السنة والإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي والصحابة والتابعين من أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات، علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين، والآثار بذلك كثيرة ليس هذا موضعها، إذ الغرض التنبيه على القواعد، وإلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا، فمن ذلك أن رسول الله بنى مسجده، والمسلمون بنوا المساجد على عهده وبعد موته، ولم يؤمر أحد أن يقول وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ، بل قال النبي : { من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة }، فعلق الحكم بنفس بنائه، وفي الصحيحين { أنه لما اشترى الجمل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: هو لك يا عبد الله بن عمر }، ولم يصدر من ابن عمر لفظ قبول، وكان يهدي ويهدى له، فيكون قبض الهدية قبولها، ولما نحر البدنات قال: " من شاء اقتطع "، مع إمكان قسمتها فكان هذا إيجابا، وكان الاقتطاع هو القبول، وكان يسأل فيعطي، أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطى، ويكون الإعطاء هو الإيجاب، والأخذ هو القبول في قضايا كثيرة جدا، ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ، ولا يلتزم أن يتلفظ لهم كما في إعطائه للمؤلفة وللعاملين وغيرهم، وجعل إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من المدلسات، وأيضا فإن التصرفات جنسان، عقود وقبوض، كما جمعهما النبي في قوله: { رحم الله عبدا كان سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى }، وتقول الناس البيع والشراء والأخذ والعطاء، والمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء، فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض أو جوازه بمنزلة إيجاب الشارع، ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود، بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد، ويتعلق به أحكام شرعية كما يتعلق بالعقد، فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحوال والأوقات، فكذلك العقود وإن حررت عبارته قلت أحد نوعي التصرفات، فكان المرجع فيه إلى عادة الناس كالنوع الآخر، ومما يلتحق بهذا أن الإذن العرفي في الاستباحة، أو التملك أو التصرف بطريق الوكالة، كالإذن اللفظي، وكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قول وفعل، والعلم برضى المستحق يقوم مقام إظهاره الترضي، وعلى هذا يخرج مبايعة النبي عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان، وكان غائبا، وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة، ومنزل جابر بدون استئذانهما، لعلمه أنهما راضيان بذلك، ولما دعاه اللحام سادس ستة تبعهم رجل فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي، وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصري أن أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه، قال: " ذكرتموني أخلاق قوم قد مضوا "، وكذلك معنى قول أبي جعفر إن الإخوان من يدخل أحدهم يده إلى جيب صاحبه فيأخذ منه ما شاء، ومن ذلك { قوله لمن استوهبه كبة شعر: أما ما كان إعطاؤه لي ولبني عبد المطلب فقد وهبته لك }، وكذلك المؤلفة عند من يقول إنه أعطاهم من أربعة الأخماس، وعلى هذا خرج الإمام أحمد بيع حكيم بن حزام وعروة بن الجعد، لما وكله النبي في شراء شاة بدينار فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار، فإن التصرف بغير استئذان خاص تارة بالمعاوضة، وتارة بالتبرع، وتارة بالانتفاع مأخذه إما إذن عرفي عام أو خاص .

وأيضا فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد والجداد، وفيه روايتان عن أحمد، إحداهما: يجوز كقول مالك وحديث جابر في الصحيح يدل عليه، وأيضا فقد دل الكتاب في قوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة }، والسنة في حديث بروع بنت واشق، وإجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق، وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم، وإذا مات عند فقهاء الحديث وأهل الكوفة المتبعين لحديث بروع، وهو أحد قولي الشافعي: ومعلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود، فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه، وكما رواه أحمد في المسند، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله : { نهى عن استئجار الأجير حتى يتبين له أجره، وعن اللمس والنجش وإلقاء الحجر }، فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر، وأن الإجارة لا تجوز إلا مع تبين الأجر، فدل على الفرق بينهما وسببه أن المعقود عليه في النكاح وهو منافع البضع غير محدود، بل المرجع فيها إلى العرف فكذلك عوضه الأجر، ولأن المهر فيه ليس هو المقصود، وإنما هو نخلة تابعة فأشبه الثمر

التابع للشجر في البيع قبل بدو الصلاح، وكذلك { لما قدم وفد هوازن على النبي فخيرهم بين السبي وبين المال، فاختاروا السبي، وقال لهم: إني قائم فخاطب الناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله على المسلمين، ونستشفع بالمسلمين على رسول الله، وقام فخطب الناس: فقال: إني قد رددت على هؤلاء سبيهم فمن شاء طيب ذلك ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفي الله علينا } فهذا معاوضة عن الإعتاق، كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة إلى أجل متفاوت غير محدود، وقد روى البخاري عن ابن عمر ; في حديث حنين { أن النبي قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وعاملهم على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يخلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله الصفراء والبيضاء والحلقة هي السلاح، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد } فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم، { وعن ابن عباس قال: صالح رسول الله أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر والبقية في رجب، يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من السلاح يغزون بها، والمسلمون صامتون لها حتى يردوها عليهم }، رواه أبو داود، فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس غير موصوفة بصفات السلم، وكذلك كل عارية خيل وإبل وأنواع من السلاح مطلقة غير موصوفة عند شرط، قد يكون وقد لا يكون، فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال كالصداق والكتابة والفدية في الخلع والصلح عن القصاص، والجزية والصلح مع أهل الحرب، ليس يجب أن يعلم كما يعلم الثمن والأجرة، ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر ; لأن الأموال إما أن لا تجب في هذه العقود، أو ليست هي المقصود الأعظم فيها، وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع بل يكون إيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر والحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده .

فصل ومما تمس الحاجة إليه من فروع هذه القاعدة، ومن مسائل بيع الثمر قبل بدو صلاحه ما قد عم به البلوى في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها، لا سيما دمشق، وذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس، وأرض تصلح للزرع، وربما اشتملت على مساكن فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزرعها أو يسكنها مع ذلك، فهذا إذا كان فيها أرض وغراس مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين والشافعي وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه، والقول الثاني: يجوز إذا كافي الشجر قليلا فكان البياض الثلثين أو أكثر، وكذلك إذا استكرى دارا فيها نخلات قليلة، أو شجرات عنب، ونحو ذلك، وهذا قول مالك وعن أحمد كالقولين فإن الكرماني قال لأحمد: الرجل يستأجر الأرض وفيها نخلات، قال: أخاف أن يكون استأجر شجرا لم يثمر، وكأنه لم يعجبه أظنه إذا أراد الشجر، فلم أفهم عنه أكثر من هذا، وقد تقدم فيها إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكثر هو غير الجنس، كشاة ذات صوف أو لبن بصوف أو لبن روايتان وأكثر أصوله على الجواز كقول مالك، فإنه يقول: إذا ابتاع عبدا وله مال وكان مقصوده العبد جاز، وإن كان المال مجهولا أو من جنس الثمن، ولأنه يقول إذا ابتاع أرضا أو شجرا فيها ثمر أو زرع لم يدرك يجوز إذا كان مقصوده الأرض والشجر، وهذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة، فإن ابتياع الأرض، واشتراء النخيل ودخول الثمرة التي لم تؤمن العاهة في البيع تبعا للأصل بمنزلة دخول تمر النخلات والعنب في الإجارة تبعا، وحجة الفريقين في المنع ما ثبت، عن النبي من { نهيه عن بيع اللبن وبيع الثمر حتى يبدو صلاحه }، كما خرجا في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله { نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع }، وفيها، عن جابر بن عبد الله، قال: { نهى رسول الله أن تباع الثمرة حتى تشقح، قيل: وما تشقح ؟ قال: تحمر أو تصفر ويؤكل منها } وفي رواية لمسلم أن هذا التفسير كلام سعيد بن ميناء المحدث عن جابر وفي الصحيحين عن جابر { نهى النبي عن المحاقلة والمزابنة والمعاوضة والمخابرة }، وفي رواية لهما { وعن بيع السنين } بدل المعاوضة، وفيها أيضا عن زيد بن أبي أنيسة، عن عطاء،

عن جابر: { أن رسول الله نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة، وأن يشتري النخل حتى يشقح }، والإشقاح أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء، والمحاقلة أن يبيع الحقل بكيل من الطعام معلوم، والمزابنة أن يباع للنخل بأوساق من الثمر، والمخابرة الثلث أو الربع وأشباه ذلك، قال زيد: قلت: لعطاء أسمعت جابرا يذكرها عن النبي ؟ قال: نعم، وفيها عن أبي البختري سألت ابن عباس عن بيع النخل، فقال: { نهى رسول الله عن بيع النخل حتى يؤكل منه أو يؤكل منه، وحتى يوزن }، فقلت: ما يوزن، فقال رجل عنده: حتى تحرز، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { لا تتبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ولا تتبايعوا التمر بالتمر )

فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة كما تقدم، فلا يجوز إلحاقها بها فتبقى على الأصل المبيح، فحرف المسألة أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة، فإن أراد الخاصة لم يصح، وإن أراد العامة فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم، فإن ذكر قياسا بين له الفرق الذي لا يخفى على غير فقيه فضلا عن الفقيه، وأن يجد إلى أمر يشمل مثل هذه الإجارة سبيلا فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحل، وسلك من هذا في طريقة أخرى وهو قياس العكس، وهو أن يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل، لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل، فيقال المعنى الموجب لكون الأجرة تجب أن تكون معلومة منتف في باب المزارعة ونحوها ; لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر فيكون في معنى بيع الغرر المقتضي أكل المال بالباطل، أو ما يذكر من هذا الجنس، وهذه المعاني منفية في الفرع، فإذا لم يكن للتحريم موجب إلا كذا وهو منتف فلا تحريم، وأما الأحاديث: حديث رافع بن خديج، وغيره فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبي أنه لم يكن عما فعل هو وأصحابه في عهده وبعده، بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه، فعن رافع بن خديج، قال: { كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض، قال: فيما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما يصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ }، رواه البخاري، وفي رواية له قال: { كنا أكثر أهل المدينة حقلا، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي وهذه لك، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهاهم النبي وفي رواية له فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الزرع }، وفي صحيح مسلم عن رافع قال: كنا أكثر أهل الأمصار حقلا، وكنا نكري الأرض، على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك، وأما الورق فلم ينهنا، وفي مسلم أيضا، عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق ؟، قال: فلا بأس به، إنما كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله بما على الماذيانات وإقبال الجداول وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، فلم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به، فهذا رافع بن خديج الذي عليه مدار الحديث يذكر أنه لم يكن لهم على عهد النبي كراء إلا بزرع مكان معين من الحقل، وهذا النوع حرام عند الفقهاء قاطبة وحرموا نظيره في المضاربة، فلو اشترط رب ثوب بعينه لم يجز، وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات وذلك أن الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين، فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم فحرمها الذي حرم الظلم على نفسه، وجعله محرما على عباده، فإذا كان أحد المتبايعين إذا ملك الثمن وبقي الآخر تحت الخطر، ولذلك حرم النبي بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فكذلك هذا إذا اشترط لأحد الشريكين مكانا معينا خرجا عن موجب الشركة، فإن الشركة تقتضي الاشتراك في النماء، فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب، ودخله الخطر ومعنى القمار كما ذكره رافع رضي الله عنه في قوله، ربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فيفوز أحدهما ويخيب الآخر، وهو معنى القمار، وأخبر رافع أنه لم يكن له كراء على عهد رسول الله إلا هذا، وأنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من المخاطرة ومعنى القمار، وأن النهي انصرف إلى ذلك الكراء المعهود، لا إلى ما تكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة، وسأشير إن شاء الله تعالى إلى مثل ذلك في نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، ورافع أعلم بنهي النبي عن أي شيء وقع، وهذا والله أعلم هو الذي نهى عنه عبد الله بن عمر، فإنه قال لما حدثه رافع قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وشيء من التبن، فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين، وكان ابن عمر يفعله ; لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبي حتى بلغه النهي، يدل على ذلك أن ابن عمر، كان يروي حديث معاملة خيبر دائما ويفتي به، ويفتي بالمزارعة على الأرض البيضاء، وأهل بيته أيضا بعد حديث رافع، فروى حرب الكرماني، حدثنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت كليب بن وائل، قال: أتيت ابن عمر، فقلت: أتاني رجل له أرض وماء، وليس له بذر ولا بقر، فأخذتها بالنصف، فبذرت فيها بذري وعملت فيها ببقري فناصفته، قال حسن، قال: وحدثنا ابن أخي حزم، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا سعيد بن عبيد سمعت سالم بن عبد الله وأتاه رجل، فقال الرجل: منا ينطلق إلى الرجل فيقول: أجيء ببذري وبقري وأعمل أرضك فما أخرج الله منه فلك منه كذا ولي منه كذا، قال: لا بأس به ونحن نضيقه، وهكذا أخبر أقارب رافع، ففي البخاري، عن رافع قال: حدثني عمومتي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله بما ينبت على الأربعاء، وشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهانا النبي عن ذلك، فقيل: لرافع فكيف بالدينار والدرهم، فقال: ليس به بأس بالدينار والدرهم، وكان الذي نهى عنه، وذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزئ، لما فيه من المخاطرة، وعن أسيد بن ظهير قال: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث أو الربع أو النصف، ويشترط ثلاث جداول، والقصارة، وما سقى الربيع، وكان العيش إذ ذاك شديدا وكان يعمل فيها بالحديد وما شاء الله ويصيب منها منفعة، فأتانا رافع بن خديج، فقال: إن رسول الله ينهاكم عن الحقل، ويقول: { من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه، أو ليدع } رواه أحمد وابن ماجه، وروى أبو داود قول النبي زاد أحمد { وينهاكم عن المزابنة } . والمزابنة: أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل فيأتيه الرجل فيقول أخذته بكذا وكذا وسقا من تمر، والقصارة: ما سقط من السنبل، وهكذا أخبر سعد بن أبي وقاص وجابر فأخبر سعد أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله ، كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع وما يتغذى بالماء مما حول البئر، فجاءوا رسول الله فاختصموا في ذلك، فنهاهم أن يكروا بذلك، وقال { اكروا بالذهب والفضة } رواه أحمد وأبو داود والنسائي، فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة، وأن النهي إنما كان عن اشتراط زرع مكان معين، وعن جابر، قال: كنا نخابر على عهد رسول الله فنصيب من القصارة ومن كذا، فقال رسول الله : { من كانت له أرض فليزرعها أو فليمنحها أخاه وإلا فليدعها } رواه مسلم، فهؤلاء أصحاب النبي الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها، والعلة التي نهى من أجلها، وإذا كان قد جاء في بعض طرق الحديث أنه نهى عن كراء المزارع، فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه، وهو أعلم بمقصوده، وكما جاء مفسرا عنه أنه رخص غير ذلك الكراء ومما يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة ونحوها، واللفظ وإن كان في المزابنة مطلقا فإنه إذا كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال أو عقب حكاية حال ونحو ذلك، فإن كثيرا ما يكون مقيلا بمثل حال المخاطب، كما لو قال المريض للطبيب: إن به حرارة فقال: لا تأكل الدسم، فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال، وذلك أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمى معهود أو حال تقتضيه انصرف إليه، وإن كان يكره كالمتبايعين إذا قال أحدهما بعتك عشرة دراهم فإنها مطلقة في اللفظ، ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم، فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ الكراء إلا لذلك الذي كانوا يفعلونه، ثم خوطبوا به لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه، وكان ذلك من باب التخصيص العرفي، كلفظ الدابة إذا كان معروفا بينهم أنه الفرس أو ذوات الحافر فقال: لا يأتي بدابة لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك، ونهي النبي لهم كان مقيدا بالعرف وبالسؤال، فقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج عن ظهير بن رافع، قال: دعاني رسول الله فقال : ما تصنعون بمحاقلكم، قلت: نؤاجرها على الربع، وعلى الأوسق من التمر والشعير، فقال: لا تفعلوا ازرعوها أو امسكوها }، فقد خرج بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه، وأما المزارعة المحضة فلم يتناولها النهي ولا ذكرها رافع وغيره فيما يجوز من الكراء ; لأنها والله أعلم عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد، فإن الكراء اسم لما وجبت فيه أجرة معلومة إما عين وإما دين، فإن كان دينا في الذمة مضمونا فهو جائز وكذلك إن كان عينا من غير الزرع، أما إن كان عينا من الزرع لم يجز، فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق، بل هو شركة محضة إذ ليس جعل العامل مكتريا لأرض بجزء من الزرع بأولى من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر، وإن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا، فإنما هو كراء بالمعنى العام الذي تقدم مثاله، فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره فلا، ولهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز وبين الكراء الآخر الذي نهو عنه، ولم يتعرض للشركة ; لأنها جنس آخر، بقي أن يقال قول النبي : { من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليمسكها } أمر إذا لم يفعل واحدا من الزرع والمنيحة أن يمسكها، وذلك يقتضي المنع من المؤاجرة ومن المزارعة كما تقدم، فيقال الأمر بهذا أمر ندب واستحباب لا أمر إيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد، وهذا كما أنه لما نهاهم عن لحوم الحمر فقال أهريقوا ما فيها وأكثرها وقال في آنية أهل الكتاب الذين سأله عنهم أبو ثعلبة: { إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فأرخصوها بالماء }، وذلك ; لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدا إلا بترك ما يقاربها من المباح، كما قيل لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال، كما أنها أحيانا لا تترك المعصية إلا بتدريج لا بتركها جملة، فهذا يقع تارة وهذا يقع تارة، ولهذا يوجد في سنة النبي لمن خشي منه النفرة عن الطاعة الرخصة في أشياء يستغني بها عن المحرم، ولمن وثق بإيمانه وصبره النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل، ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه وصبره من فعل المستحبات البدنية والمالية كالخروج عن جميع ماله مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ما لا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك، كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب فحدفه فلو أصابته لأوجعته، ثم قال: " { يذهب أحدكم فيخرج ماله ثم يجلس كلا على الناس }، يدل على ذلك ما قدمنا من رواية مسلم الصحيحة، عن ثابت بن الضحاك، { أن النبي نهى، عن المزارعة، وأمر بالمؤاجرة، وقال: لا بأس بها }، وما ذكرناه من رواية سعد أنه نهاهم أن يكروا بزرع موضع معين، وقال: اكروا بالذهب والفضة وكذلك فهمته الصحابة رضي الله عنهم، فإن رافع بن خديج قد روى ذلك، وأخبر أنه لا بأس بكرائها بالفضة والذهب، وكذلك فقهاء الصحابة كزيد بن ثابت وابن عباس، ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي نهى عنه، قال ابن عمرو: إني أعطيهم وأعينهم وأنا أعلمهم، أخبرني يعني ابن عباس { أن النبي لم ينه عنه، ولكن قال: إن منح أحدهم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما }، وعن ابن عباس أيضا أن رسول الله لم يحرم المزارعة، ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض، رواه مسلم مجملا، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، فقد أخبر طاوس عن ابن عباس أن النبي أمر بالرفق الذي منه واجب وهو ترك الربا والغرر ومنه مستحب كالعارية والقرض، ولهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الاختبار كان المسلم أحق، فقال: { لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما }، وقال: { من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو ليمسكها }، فكان الأخ هو الممنوح، ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي ولم يمنحهم، لا سيما والتبرع إنما يكون عن فضل غنى، فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب لها المنيحة، كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر، وكما كان الأنصار محتاجين إلى أرضهم حيث عاملوا عليها المهاجرين، وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة، كما نهاهم النبي عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الرأفة التي وجبت عليهم ليطعموا الجياع ; لأن إطعامهم واجب، فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض وأصحابها أغنياء نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ولم يأمرهم بالتبرع عينا كما نهاهم عن الادخار، فإن من نهى عن الانتفاع بماله جاد ببذله إذ لا يترك كذا، وقد ينهى النبي بل الله عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال، لما في ذلك من منفعة المنهي كما نهاهم في بعض المغازي، وأما ما رواه جابر، من نهيه عن المخابرة، فهذه هي المخابرة التي نهى عنها، واللام لتعريف العهد ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك، بين ذلك ما في الصحيح عن ابن عمر قال: كنا لا نرى بالخبرة بأسا حتى كان عام أول، فزعم رافع أن نبي الله نهى عنه فتركناه من أجله، فأخبر ابن عمر أن رافعا روى النهي عن الخبرة وقد تقدم معنى حديث رافع، قال أبو عبيد: الخبرة بكسر الخاء والمخابرة، والمزارعة بالنصف، أو الثلث والربع، وأقل وأكثر، وكان أبو عبيد يقول لهذا سمي الأكار خبيرا ; لأنه يخابر الأرض، المخابرة هي المؤاكرة، وقد قال بعضهم: أصل هذا من خيبر ; لأن رسول الله أقرها في أيديهم على النصف، فقيل خابرهم أي عاملهم في خيبر، وليس هذا بشيء فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط بل فعلها الصحابة في حياته وبعد موته، وإنما روى حديث المخابرة رافع، وجابر، وقد فسرا ما كانوا يفعلونه، والخبير هو الفلاح سمي بذلك ; لأنه يخبر الأرض، وقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة، فقالوا: المخابرة هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل، والمزارعة على أن يكون البذر من المالك، قالوا: والنبي نهى عن المخابرة لا المزارعة، وهذا أيضا ضعيف فإنا قد ذكرنا عن النبي ما في الصحيح أنه نهى عن المزارعة، كما نهى عن المخابرة، وكما نهى عن كراء الأرض، وهذه الألفاظ في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه، وإنما اختصت مما يفعلونه لأجل التخصيص العرفي لفظا وفعلا، ولأجل القرينة اللفظية وهي لام العهد، وسؤال السائل وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة هي المزارعة والاشتقاق يدل على ذلك .

ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط والبعض منه بالشرط ما لم يتضمن مخالفة الشرع كما سأذكره إن شاء الله، فيجوز للبائع أن يستثني بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير، اتباعا لحديث جابر لما باع النبي جمله واستثنى ظهره إلى المدينة، ويجوز أيضا للمعتق أن يستثني خدمة العبد مدة حياته أو حياة السيد أو غيرهما اتباعا لحديث سفينة لما أعتقته أم سلمة، واشترطت عليه خدمة النبي ما عاش، وجوز على عامة أقواله أن يعتق أمته ويجعل عتقها صداقها، كما في حديث صفية وكما فعله أنس بن مالك وغيره وإن لم ترض المرأة، كأنه أعتقها واستثنى منفعة البضع لكنه استثناها بالنكاح، إذ استثناؤها بلا نكاح غير جائز بخلاف منفعة الخدمة، فمن اشترط على المشتري أن يعتق ويكون الولاء لغيره، فهو كمن اشترط على المستنكح أنه إذا أولد كان النسب لغيره، وإلى هذا المعنى أشار النبي في قوله: { إنما الولاء لمن أعتق }، وإذا كان كتاب الله قد دل على تحريم هذا المشروط بخصوصه وعمومه لم يدخل في العهود التي أمر الله بالوفاء بها ; لأنه سبحانه لا يأمر بما حرمه، فهذا هذا مع أن الذي يغلب على القلب أن النبي لم يرد إلا المعنى الأول وهو إبطال الشروط التي تنافي كتاب الله، والتحذير من اشتراط شيء لم يبحه الله أو من اشتراط ما ينافي كتاب الله، بدليل قوله: { كتاب الله أحق وشرط الله أوثق }، وإذا ظهر أن لعدم تحريم العقود والشروط وصحتها أصلان: الأدلة الشرعية العامة، والأدلة العقلية التي هي الاستصحاب وانتفاء المحرم، فلا يجوز القول بموجب هذه القاعدة في أنواع المسائل وأعيانها إلا بعد الاجتهاد في خصوص ذلك النوع أو المسألة هل ورد من الأدلة الشرعية ما يقتضي التحريم، أما إذا كان المدرك الاستصحاب ونفي الدليل الشرعي فقد أجمع المسلمون، وعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد ويفتي بموجب هذا الاستصحاب والنفي إلا بعد البحث عن الأدلة الخاصة إذا كان أهل ذلك، فإن جميع ما أوجبه الله ورسوله، وحرمه الله ورسوله مغيرا لهذا الاستصحاب، فلا يوثق به إلا بعد النظر في أدلة الشرع لمن هو من أهل ذلك، وأما إذا كان المدرك هو منصوص العامة فالعام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة، هل هي من المستخرج أو المستبقى، وهذا أيضا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف بين العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه، أو علم تخصيص صور معينة منه ; هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وذكروا عن أحمد فيه روايتين، وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانهم ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم، وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره، فإن الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه، فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه، وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات التي بعد البحث عن المعارض سواء جعل عدم المعارض جزءا من الدليل، ولا العلة من أصحابنا وغيرهم، أو جعل المعارض المانع من الدليل فيكون الدليل هو الظاهر، لكن القرينة مانعة لدلالته، كما يقوله من يقول بتخصيص الدليل والعلة من أصحابنا وغيرهم، وإن كان الخلاف في ذلك إنما يعود إلى اعتبار عقلي، أو إطلاق لفظي، أو اصطلاح حري لا يرجع لأمر فقهي أو علمي، فإذا كان كذلك فالأدلة النافية لتحريم العقود والشروط والمثبتة لحلها مخصوصة بجميع ما حرمه الله ورسوله من العقود والشروط، فلا ينتفع بهذه القاعدة في أنواع المسائل إلا مع العلم، والحجج الخاصة في ذلك النوع فهي بأصول الفقه التي هي الأدلة العامة أشبه منها بقواعد الفقه التي هي الأحكام العامة، نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة خلافية، أو حادثة انتفع بهذه القاعدة، فيذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة، من ذلك ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا عن ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع، أو تبرع، كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها، فإن كان مما لا يصح فيه الغرر كالبيع فلا بد أن يكون المستثنى معلوما، لما روى جابر، وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش عبده أو عاش فلان، أو يستثني غلة الوقف ما عاش الواقف، ومن ذلك أن البائع إذا اشترط على المشتري أن يعتق العبد صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، لحديث بريرة وإن كان عنهما قول بخلافه، ثم هل يصير العتق واجبا على المشتري، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع، على وجهين في مذهبهما، ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس، لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضى العقد، فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا، قالوا: وإنما جوزته السنة ; لأن للشارع إلى العتق تشوقا لا يوجد في غيره، وكذلك أوجب فيه السراية مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره، وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره، قال أحمد بن القاسم، قيل لأحمد الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها، فأجازه، قيل له: فإن هؤلاء يعني أصحاب أبي حنيفة يقولون لا يجوز البيع على هذا الشرط، قال: لم لا يجوز، قد اشترى النبي بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة، واشترت عائشة بريرة على أنها تعتقها، فلم لا يجوز هذا، قال: وإنما هذا شرط واحد، والنهي إنما هو عن شرطين، قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز، قال: لا يجوز، فقد نازع من منع منه واستدل على جوازه باشتراط النبي ظهر بعير جابر، وحديث بريرة، وبأن النبي إنما نهى عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع، وهو يقضي لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقض موجب العقد المطلق، فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقض في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره ولا استدل عليه بما يشمل له ولغيره، وكذلك قال أحمد بن الحسن بن حسان سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكا واشترط هو حريته بعد موته، قال: هذا مدبر، فجوز اشتراط التدبير كالعتق، ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف، صحح الرافعي أنه لا يصح، ولذلك جوز اشتراط التسري فقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها، ولا تكون للخدمة، قال: لا بأس، فلما كان التسري لبائع الجارية فيه مقصود صحيح جوزه، وكذلك جوز أن يشترط على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول، كما روي عن عمر، وابن مسعود، وامرأته زينب، وجماع ذلك أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه، كما قال النبي  ; { من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع }، فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق وهو جائز بالإجماع، ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء، كما نهى النبي عن الشياه إلا أن تعلم فدل على جوازها إذا علمت، وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة، وقد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء الشائع مثل أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر، مثل أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها، أو الثياب أو العبيد أو الماشية التي قدر إياها إلا شيئا منها قد عيناه، واختلفوا في استثناء بعض المنفعة كسكن الدار شهرا أو استخدام العبيد شهرا، وركوب الدابة مدة معينة أو إلى بلدة معينة، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك ينفع إذا اشترى أمة مزوجة فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم يدخل في العقد، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة، ولكن هي اشترتها بشرط العتق فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق، والعتق لا ينافي نكاحها، فكذلك كان ابن عباس وهو ممن روى حديث بريرة يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة تأويلا لقوله تعالى: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }، قالوا: فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه فيباح له، ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج، واحتج بعض الفقهاء على ذلك بحديث بريرة، فلم يرض أحمد هذه الحجة ; لأن ابن عباس رواه وخالفه، وذلك والله أعلم لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا، ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك، وكان مالكا معصوم الملك لم يزل عنها ملك الزوج وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع، ومن حجتهم أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه، فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه، ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من ملك البائع والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه، بخلاف الماشية فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه، لكون أهل الحرب يباح دماؤهم وأموالهم، فكذلك ما ملكوه من الإبضاع .

المقدمة الثالثة: وفيها يظهر شر مسائل الأيمان ونحوها، أن صيغة التعليق التي تسمى صيغة الشرط وصيغة المجازاة تنقسم إلى ستة أنواع ; لأن الحالف إما أن يكون مقصوده وجود الشرط فقط أو وجود الجزاء فقط أو وجودهما، وإما أن لا يقصد واحد منهما بل يكون مقصوده عدم الشرط فقط أو الجزاء فقط أو عدمهما، فالأول: بمنزلة كثير من صور الخلع والكتابة ونذر التبرر والجعالة ونحوها، فإن الرجل إذا قال لامرأته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق أو فقد خالعتك، أو قال لعبده إن أديت ألفا فأنت حر، أو قال إن رددت عبدي الآبق فلك ألف، أو قال إن شفى الله مريضي أو سلم مالي الغائب فعلي عتق كذا والصدقة بكذا، فالمعلق قد لا يكون مقصوده إلا أخذ المال ورد العبد وسلامة العتق والمال وإنما التزم الجزاء على سبيل العوض كالبائع الذي كان مقصوده أخذ الثمن، والتزم رد المبيع على سبيل العوض، فهذا الضرب هو سببه بالمعاوضة في البيع والإجارة، وكذلك إذا كان قد جعل الطلاق عقوبة مثل أن يقول إذا ضربت أمتي فأنت طالق وإن خرجت من الدار فأنت طالق، فإنه في الخلع عوضها بالتطليق عن المال ; لأنها تزيل الطلاق وهنا عوضها عن معصيتها بالطلاق، وأما الثاني: قيل: أن يقول لامرأته إنه إذا ظهرت فأنت طالق، أو يقول لعبده إذا مت فأنت حر، أو إذا جاء رأس الحول فأنت حر أو فمالي صدقة ونحو ذلك من التعليق الذي هو توقيت محض، فهذا الضرب بمنزلة المنجز في أن كل واحد منهما قصد الطلاق والعتاق وإنما أخره إلى الوقت المعين، بمنزلة تأجيل الدين، وبمنزلة من يؤخر الطلاق من وقت إلى وقت لغرض له في التأخير لا لعوض ولا لحث على طلب أو خبر، ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا حلف أنه لا يحلف بالطلاق مثل أن يقول والله لا أحلف بطلاقك، أو إن حلفت بطلاقك فعبدي حر أو فأنت طالق فإنه إذا قال إن دخلت أو لم تدخلي ونحو ذلك مما فيه معنى الحض أو المنع فهو حالف ولو كان تعليقا محضا كقوله: إذا طلعت الشمس فأنت طالق وإن طلعت الشمس فاختلفوا فيه، فقال أصحاب الشافعي ليس بحالف وقال أصحاب أبي حنيفة والقاضي في الجامع هو حالف، وأما الثالث: وهو أن يكون مقصوده وجودهما جميعا، فمثل الذي قد آذته امرأته حتى أحب طلاقها واسترجاع الفدية منها، فيقول إن أبرأتني من صداقك أو من نفقتك فأنت طالق، وهو يريد كلا منهما، وأما الرابع: وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط، لكنه إذا وجد لم يكره الجزاء بل يحبه أو لا يحبه ولا يكرهه، فمثل أن يقول لامرأته إن زنيت فأنت طالق، وإن ضربت أمي فأنت طالق ونحو ذلك من التعليق الذي يقصد فيه عدم الشرط، ويقصد وجود الجزاء عند وجوده، بحيث تكون إذا زنت أو إذا ضربت أمه يجب فراقها ; لأنها لا تصلح له، فهذا فيه معنى اليمين ومعنى التوقيت فإنه منعها من الفعل وقصد إيقاع الطلاق عنده كما قصد إيقاعه عند أخذ العوض منها أو عند طهرها أو طلوع الهلال، وأما الخامس: وهو أن يكون مقصوده عدم الجزاء وتعليقه بالشرط، لئلا يوجد، وليس له غرض في عدم الشرط فهذا قليل كمن يقول إن أصبت مائة رمية أعطيتك كذا، وأما السادس: وهو أن يكون مقصوده عدمهما الشرط والجزاء، وإنما تعلق الجزاء بالشرط ليمتنع وجودهما، فهو مثل نذر اللجاج والغضب ومثل الحلف بالطلاق والعتاق على حض أو منع أو تصديق أو تكذيب، مثل أن يقال له تصدق فيقول إن أتصدق فعليه صيام كذا وكذا، أو فامرأته طالق، أو فعبيده أحرار، أو يقول إن لم أفعل كذا وكذا فعلي نذر كذا أو امرأتي طالق أو عبدي حر، أو يحلف على فعل غيره ممن يقصد منعه كعبده ونسيبه وصديقه ممن يحضه على طاعته، فيقول له: إن فعلت أو إن لم أفعل فعلي كذا أو فامرأتي طالق أو فعبدي حر ونحو ذلك، فهذا نذر اللجاج والغضب وهذا وما أشبهه من الحلف بالطلاق والعتاق بخلافه في المعنى نذر التبرر والتقرب وما أشبهه من الخلع والكتابة، فإن الذي يقول إن سلمني الله أو سلم مالي من كذا أو إن أعطاني الله كذا فعلي أن أتصدق أو أصوم أو أحج، قصده حصول الشرط الذي هو الغنيمة أو السلامة، وقصد أن يشكر الله على ذلك بما نذره له وكذلك المخالع والمكاتب قصده حصول العوض وبدل الطلاق والعتاق عوضا عن ذلك، وأما النذر في اللجاج والغضب إذا قيل له افعل كذا فامتنع من فعله، ثم قال إن فعلته فعلي الحج والصيام، فهنا مقصوده أن لا يكون الشرط ثم إنه لقوة امتناعه ألزم نفسه إن فعله بهذه الأمور الثقيلة عليه، ليكون إلزامها له إذا فعل مانعا له من الفعل، وكذلك إذا قال إن فعلته فامرأتي طالق أو فعبيدي أحرار، إنما مقصوده الامتناع والتزم بتقدير الفعل ما هو شديد عليه من فراق أهله وذهاب ماله، ليس غرض هذا أن يتقرب إلى الله بعتق أو صدقة ولا أن يفارق امرأته، ولهذا سمى العلماء هذا نذر اللجاج والغضب مأخوذ من قول النبي فيما أخرجاه في الصحيحين: { لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يأتي الكفارة التي فرض الله له }، فصورة هذا النذر صورة نذر التبرر في اللفظ، ومعناه شديد المباينة لمعناه، ومن هنا نشأت الشبهة التي سنذكرها في هذا الباب إن شاء الله تعالى على طائفة من العلماء، ويتبين فقه الصحابة رضي الله عنهم الذين نظروا إلى معاني الألفاظ لا إلى صورها إذا ثبتت هذه الأنواع الداخلة في قسم التعليق، فقد علمت أن بعضها معناه معنى اليمين بصيغة القسم وبعضها ليس معناه ذلك، فمتى كان الشرط المقصود حضا على فعل أو منعا منه أو تصديقا لخبر أو تكذيبا كان الشرط مقصود العدم وجزاؤه كنذر اللجاج والحلف بالطلاق على وجه اللجاج والغضب :

القاعدة الأولى: إن الحلف بالله سبحانه وتعالى قد بين الله تعالى حكمه بالكتاب والسنة والإجماع فقال تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }، وقال: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، وقال تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون }، وفي الصحيحين عن { عبد الله بن سمرة، أن النبي قال له: يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك }، فبين له النبي حكم الأمانة الذي هو الإمارة، وحكم العهد الذي هو اليمين، وكانوا في أول الإسلام لا مخرج لهم من اليمين قبل أن تشرع الكفارة، ولهذا قالت عائشة: كان أبو بكر لا يحنث في يمين، حتى أنزل الله كفارة اليمين، وذلك ; لأن اليمين بالله عقد بالله فيجب الوفاء به، كما يجب بسائر العقود وأشد، قوله احلف بالله واقسم بالله ونحو ذلك في معنى قوله اعقد بالله، ولهذا عدي بحرف الإلصاق الذي يستعمل في الربط والعقد، فينعقد المحلوف عليه بالله، كما تنعقد إحدى اليدين بالأخرى في المعاقدة، ولهذا سماه الله عقدا في قوله: { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } فإذا كان قد عقدها بالله كان الحنث فيها نقضا لعهد الله وميثاقه لولا ما فرضه الله من التحلة، ولهذا سمى حلها حنثا والحنث هو الاسم في الأصل، فالحنث فيها سبب للإثم لولا الكفارة الماحية، فإنما الكفارة منعته أن يوجب إثما، ونظير الرخصة في كفارة اليمين بعد عقدها الرخصة أيضا في كفارة الظهار بعد أن كان الظهار في الجاهلية وأول الإسلام طلاقا، وكذلك الإيلاء كان عندهم طلاقا، فإن هذا جار على قاعدة وجوب الوفاء بمقتضى اليمين، فإن الإيلاء إذا وجب الوفاء بمقتضاه من ترك الوطء صار الوطء محرما، وتحريم الوطء تحريما مطلقا مستلزم لزوال الملك، فإن الزوجة لا تكون محرمة على الإطلاق، ولهذا قال سبحانه: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم، قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }، والتحلة مصدر حللت الشيء أحله تحليلا وتحلة، كما يقال كرمته تكريما وتكرما، وهذا مصدر يسمى به المحلل نفسه الذي هو الكفارة، فإن أريد المصدر فالمعنى فرض الله لكم تحليل اليمين، وهو حلها الذي هو خلاف العقد، ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم، كأبي بكر عبد العزيز بهذه الآية على التكفير قبل الحنث ; لأن التحلة لا تكون بعد الحنث، فإنه بالحنث ينحل اليمين، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث، لينحل اليمين، وإنما هي بعد الحنث كفارة ; لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله، فإذا تبين أن ما اقتضت اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلا من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار التي نبه عليها بقوله: { ويضع عنهم إصرهم }، فالأفعال ثلاثة: إما طاعة، وإما معصية، وإما مباح، فإذا حلف ليفعلن مباحا أو ليتركنه فهنا الكفارة مشروعة بالإجماع، وكذلك إذا كان المحلوف عليه فعل مكروه أو ترك مستحب، وهو المذكور في قوله تعالى: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس }، وأما إن كان المحلوف عليه فعل واجب أو ترك محرم فها هنا لا يجوز الوفاء بالاتفاق، بل يجب التكفير عند عامة العلماء وقبل أن تشرع الكفارة كان الحالف على مثل هذا لا يحل له الوفاء بيمينه، ولا كفارة له ترفع عنه مقتضى الحنث، بل يكون عاصيا معصية لا كفارة فيها سواء وفى أو لم يف، كما لو نذر معصية عند من لم يجعل في نذره كفارة، وكما إن كان المحلف عليه فعل طاعة غير واجبة .

فصل فأما الحلف بالنذر الذي هو نذر اللجاج والغضب: مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي الحج أو فمالي صدقة، أو فعلي صيام، ويريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل، أو أن يقول إن لم أفعل كذا فعلي الحج ونحوه، فمذهب أكثر أهل العلم أنه يجزئه كفارة يمين من أهل مكة والمدينة والبصرة والكوفة، وهو قول فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم، وهذا إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهو الرواية المتأخرة عنه، ثم اختلف هؤلاء فأكثرهم قالوا هو مخير بين الوفاء بنذره وبين كفارة يمين، وهذا قول الشافعي والمشهور عن أحمد، ومنهم من قال بل عليه الكفارة عينا كما يلزمه ذلك في اليمين بالله، وهو الراوية الأخرى عن أحمد، وقول بعض أصحاب الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة في الرواية الأخرى، وطائفة من يحب الوفاء بهذا النذر، وقد ذكروا أن الشافعي، سئل عن هذه المسألة بمصر، فأفتى بها بالكفارة، فقال له السائل: يا أبا عبد الله هذا قولك، قال: قول من هو خير مني عطاء بن أبي رباح وذكروا أن عبد الرحمن بن القاسم حنث ابنه في هذه اليمين فأفتاه بكفارة يمين بقول الليث بن سعد، وقال: إن عدت حلفت أفتيتك بقول مالك وهو الوفاء به، ولهذا تفرع أصحاب مالك مسائل هذه اليمين على النذر لعمومات الوفاء بالنذر، لقوله: { من نذر أن يطيع الله فليطعه }، ولأنه حكم جائز معلق بشرط، فوجب عند ثبوت شرطه كسائر الأحكام، والقول الأول هو الصحيح والدليل عليه مع ما سنذكره إن شاء الله من دلالة الكتاب والسنة ما اعتمده الإمام أحمد وغيره، قال أبو بكر الأثرم في مسائله: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل، قال ماله في رتاج الكعبة، قال: كفارة يمين، واحتج بحديث عائشة قال: وسمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يحلف بالمشي إلى بيت الله أو الصدقة بالملك، ونحو ذلك من الأيمان، فقال: إذا حنث فكفارة إلا أني لا أحمله على الحنث ما لم يحنث، قيل له: لا تفعل، قيل لأبي عبد الله: فإذا حنث كفر، قال: نعم، قيل له: أليس كفارة يمين، قال: نعم، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلى بنت العجماء، حين حلفت بكذا وكذا وكل مملوك لها حر، فأفتت بكفارة يمين، فاحتج بحديث ابن عمر، وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جارية وأيمان فقال أما الجارية فتعتق، وقال الأثرم: حدثنا الفضل بن دكين، ثنا حسن، عن ابن

أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة قالت: من قال مالي في ميراث الكعبة ; وكل مالي فهو هدي وكل مالي في المساكين فليكفر يمينه، وقال: حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا معمر بن سليمان، قال: قال أبي: حدثنا بكر بن عبد الله، أخبرني أبو رافع، قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر ; وكل مال لها هدي ; وهي يهودية، وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك ; أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيت زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب، قال: فأتيتها فجاءت معي إليها، فقالت: في البيت هاروت وماروت، وقالت: يا زينب جعلني الله فداءك، إنها قالت كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية فقالت يهودية ونصرانية حل بين الرجل وبين امرأته، فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها فقالت: يا أم المؤمنين، جعلني الله فداءك إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية، وهي نصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية حل بين الرجل وبين امرأته، قال: فأتيت عبد الله بن عمر فجاء معي إليها فقام على الباب فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أنت أم من أي شيء أنت أفتتك زينب، وأفتتك أم المؤمنين، فلم تقبلي فتياهما، قالت: يا أبا عبد الرحمن جعلني الله فداك إنها قالت كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية فقال: يهودية ونصرانية كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وامرأته . وعن أحمد قال: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا عمر بن قتادة، عن الحسن، وجابر بن زيد في الرجل يقول إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة قالا ليس الإحرام إلا على من نوى الحج يمين يكفرها، وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال يمين يكفرها .