محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الخامسة والعشرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب البيوع

1512 - مسألة : ولا يحل بيع الماء بوجه من الوجوه لا في ساقية ولا من نهر أو من عين ولا من بئر ، ولا في بئر ، ولا في صهريج ، ولا مجموعا في قربة ، ولا في إناء ، لكن من باع حصته من عنصر الماء ، ومن جزء مسمى منها ، أو باع البئر كلها أو جزءا مسمى منها ، أو باع الساقية كلها أو الجزء المسمى منها : جاز ذلك ، وكان الماء بيعا له . ولا يملك أحد الماء الجاري إلا ما دام في ساقيته ونهره ، فإذا فارقهما بطل ملكه عنه ، وصار لمن صار في أرضه وهكذا أبدا . فمن اضطر إلى ماء لسقيه ، أو لحاجته ، فالواجب أن يعامل على سوقه إليه ، أو على صبه عنده في إنائه على سبيل الإجارة فقط وكذلك من كان معاشه من الماء فالواجب عليه أن يعامل أيضا على صبه أو جلبه كذلك فقط . ومن ملك بئرا بحفر فهو أحق بمائها ما دام محتاجا إليه ، فإن فضل عنه ما لا يحتاج إليه لم يحل له منعه عمن يحتاج إليه ، وكذلك فضل النهر ، والساقية ولا فرق . برهان ذلك : ما روينا من طريق مسلم نا أحمد بن عثمان النوفلي نا أبو عاصم الضحاك بن مخلد نا ابن جريج : أخبرني زياد بن سعد : أخبرني هلال بن أسامة أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول " قال رسول الله  : { لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ } وحدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن زهير بن حرب نا أبي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أخبره أبو المنهال أن إياس بن عبد المزني قال لرجل : لا تبع الماء فإن رسول الله { نهى عن بيع الماء } ومن طريق ابن أبي شيبة نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال : سمع { إياس بن عبد المزني ورأى أناسا يبيعون الماء فقال : لا تبيعوا الماء ، فإني سمعت رسول الله ينهى أن يباع الماء . } ومن طريق ابن أبي شيبة نا يزيد بن هارون نا ابن إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت : { نهى رسول الله أن يمنع نقع البئر } يعني الماء هكذا في الحديث تفسيره . ورويناه أيضا مسندا من طريق جابر . فهؤلاء أربعة من الصحابة رضي الله عنهم ، فهو نقل تواتر ، ولا تحل مخالفته . وأما من قال بذلك فقد ذكرناه آنفا عن إياس بن عبد من فتياه . ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا المسعودي هو أبو عميس عن عمران بن عمير قال : منعني جاري فضل مائه فسألت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ؟ فقال : سمعت أبا هريرة يقول : لا يحل بيع فضل الماء . ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن آدم نا زهير عن أبي الزبير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن غلاما لهم باع فضل ماء لهم من عين بعشرين ألفا ، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص : لا تبعه فإنه لا يحل بيعه . ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد بن أبي بكر أنه قال : يكره بيع فضل الماء : فهذا إياس بن عبد ، وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو : يحرمون بيع الماء جملة ، ولا مخالف لهم من الصحابة رضي الله عنهم واثنان من التابعين : القاسم ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وروينا إباحة بيع الماء في الآنية ، وبيعه في الشرب : عن عطاء وأبي حنيفة ، والشافعي ، وإباحة بيعه كذلك ، وفي الشرب عن مالك ، وعن مسروق إباحة ثمن الماء جملة ولا حجة في أحد مع رسول الله . وبرهان زائد على تحريم بيع ماء الشرب : وهو أن الله تعالى يقول : { أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض } وقد صح النهي عن بيع المجهول ؛ لأنه غرر ، فلا يحل بيع الشرب ، لأنه لا يدري أفي السماء هو أم لا ؟ فهو أكل مال بالباطل وأيضا : فإنه إنما يأتي إلى العين ، والنهر ، والبئر : من خروق ، ومنافس في الأرض بعيدة هي في غير ملك صاحب المفجر ، فإنما يبيع ما لم يملك بعد ، وهذا باطل محرم وبالله تعالى التوفيق .

1513 - مسألة : ولا يحل بيع الخمر ، لا لمؤمن ، ولا لكافر ، ولا بيع الخنازير كذلك ، ولا شعورها ، ولا شيء منها ، ولا بيع صليب ، ولا صنم ، ولا ميتة ، ولا دم إلا المسك وحده ، فهو حلال بيعه وملكه ، فمن باع من المحرم الذي ذكرنا شيئا فسخ أبدا . وروينا من طريق مسلم نا أبو كريب نا أبو معاوية [ عن الأعمش ] عن مسلم هو أبو الضحى عن مسروق عن عائشة أم المؤمنين { خرج رسول الله إلى المسجد فحرم التجارة في الخمر . } وبه إلى مسلم : أنا قتيبة بن سعيد أنا ليث هو ابن سعد عن يزيد بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله ، " أنه سمع رسول الله عام الفتح وهو بمكة يقول : { إن الله عز وجل ورسوله حرم بيع الخمر والميتة ، والخنزير ، والأصنام ، فقيل : يا رسول الله أرأيت شحم الميتة فإنه يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس قال : لا ، هو حرام ، قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه . } قال أبو محمد : موه قوم بهذا الخبر في تصحيح القياس ، وليس فيه للقياس أثر ، لكن فيه : أن الأوامر على العموم ؛ لأنه عليه السلام أخبر : أن الله تعالى حرم الشحوم على اليهود فاستحلوا بيعها ، فأنكر ذلك عليهم أشد الإنكار ، إذ خصوا التحريم ولم يحملوه على عمومه . فصح بهذا أنه متى حرم شيء فحرام ملكه ، وبيعه ، والتصرف فيه ، وأكله على عموم تحريمه ، إلا أن يأتي نص بتخصيص شيء من ذلك فيوقف عنده . وقد حرم الله تعالى : الخنزير ، والخمر ، والميتة ، والدم ، فحرم ملك كل ذلك ، وشربه ، والانتفاع به ، وبيعه . وقد أوجب الله تعالى دين الإسلام على كل إنس وجن . وقال تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } وقال تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } وقال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } فوجب الحكم على اليهود ، والنصارى ، والمجوس : بحكم الإسلام ، أحبوا أم كرهوا . ومن أجاز لهم بيع الخمر ظاهرا وشراءها كذلك ، وتملكها علانية ، وتملك الخنازير كذلك ، لأنهم من دينهم بزعمه ، وصدقهم في ذلك : لزمه أن يتركهم أن يقيموا شرائعهم في بيع من زنى من النصارى الأحرار ، وخصاء القسيس إذا زنى ، وقتل من يرون قتله وهم لا يفعلون ذلك فظهر تناقضهم . وقال أبو حنيفة : إذا أمر المسلم نصرانيا بأن يشتري له خمرا : جاز ذلك وهذه من شنعه التي نعوذ بالله من مثلها . وأما المسك : فقد صح { عن رسول الله التطيب بالمسك وتفضيله على الطيب } وأيضا : فقد سقط عنه اسم الدم وصفاته وحده ، فليس دما ، والأحكام إنما هي على الأسماء ، والأسماء إنما هي على الصفات ، والحدود . روينا من طريق أبي عبيد أنا مروان بن معاوية أنا عمر المكتب أنا حزام عن ربيعة بن زكا أو زكار قال : نظر علي بن أبي طالب إلى زرارة فقال : ما هذه القرية ؟ قالوا : قرية تدعى زرارة يلحم فيها ، ويباع فيها الخمر ؟ قال : أين الطريق إليها ؟ قالوا : باب الجسر ، قالوا : يا أمير المؤمنين نأخذ لك سفينة ؟ قال : لا ، تلك شجرة ، ولا حاجة لنا في الشجرة ، انطلقوا بنا إلى باب الجسر ، فقام يمشي حتى أتاها ، فقال علي بالنيران أضرموها فيها ، فاحترقت . ومن طريق أبي عبيد نا هشام ومروان بن معاوية الفزاري عن إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني ، قال : بلغ عمر بن الخطاب أن رجلا من أهل السواد أثرى في تجارة الخمر ، فكتب : أن اكسروا كل شيء قدرتم له عليه ، وسيروا كل ماشية له ، ولا يؤوين أحد له شيئا . فهذا حكم علي ، وعمر ، بحضرة الصحابة رضي الله عنهم فيمن باع الخمر من المشركين ولا مخالف له يعرف من الصحابة فخالفوهما .

1514 - مسألة : ولا يحل بيع كلب أصلا ، لا كلب صيد ولا كلب ماشية ، ولا غيرهما ، فإن اضطر إليه ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه ، وهو حلال للمشتري حرام على البائع ينتزع منه الثمن متى قدر عليه ، كالرشوة في دفع الظلم ، وفداء الأسير ، ومصانعة الظالم ولا فرق . ولا يحل اتخاذ كلب أصلا ، إلا لماشية ، أو لصيد ، أو لزرع ، أو لحائط واسم الحائط يقع على البستان وجدار الدار فقط . ولا يحل أيضا : قتل الكلاب ، فمن قتلها ضمنها بمثلها ، أو بما يتراضيان عليه عوضا منه ، إلا الأسود البهيم ، أو الأسود ذا النقطتين أينما كانت النقطتان منه فإن عظمتا حتى لا تسميا في اللغة العربية نقطتين ، لكن تسمى لمعتين : لم يجز قتله ، فلا يحل ملكه أصلا لشيء مما ذكرنا ، وقتله واجب حيث وجد . برهان ذلك ما روينا من طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه نا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني إبراهيم بن قارظ عن السائب بن يزيد حدثني رافع بن خديج عن رسول الله قال : { ثمن الكلب خبيث ، ومهر البغي خبيث ، وكسب الحجام خبيث } فهذان صاحبان في نسق . ومن طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي مسعود الأنصاري { أن رسول الله نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن } وصح أيضا من طريق أبي هريرة وجابر وأبي جحيفة فهذا نقل تواتر لا يسع تركه ولا يحل خلافه . وروينا من طريق أحمد بن شعيب نا الحسن بن أحمد بن شبيب نا محمد بن عبد الرحمن بن نمير نا أسباط نا الأعمش عن عطاء بن أبي رباح قال : قال أبو هريرة : { أربع من السحت ، ضراب الفحل ، وثمن الكلب ، ومهر البغي ، وكسب الحجام . } ورويناه عن جابر أيضا . ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن إسرائيل عن عبد الكريم عن قيس بن حبتر عن ابن عباس رفعه { ثمن الكلب ومهر البغي وثمن الخمر حرام } وأقل ما فيه أن يكون قول ابن عباس . ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن إدريس عن أشعث عن ابن سيرين قال : أخبث الكسب كسب الزمارة ، وثمن الكلب . الزمارة : الزانية ، سمعت أبا عبيدة يقول ذلك . ومن طريق ابن أبي شيبة نا يونس بن محمد نا شريك عن أبي فروة سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول : ما أبالي ثمن كلب أكلت ، أو ثمن خنزير . ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن إدريس عن شعبة سمعت الحكم ، وحماد بن أبي سليمان يكرهان ثمن الكلب ولا يصح خلافهما عن أحد من الصحابة وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي سليمان ، وأبي ثور ، وغيرهم . وخالف الحنفيون السنن في ذلك ، وأباحوا بيع الكلاب ، وأكل أثمانها . واحتجوا في ذلك بما روينا من طريق أحمد بن شعيب ، قال : أخبرني إبراهيم بن الحسن بن أحمد المصيصي نا حجاج بن محمد عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله { أن رسول الله نهى عن ثمن السنور والكلب إلا كلب صيد } وبما روينا من طريق قاسم بن أصبغ نا محمد بن إسماعيل نا ابن أبي مريم نا يحيى بن أيوب حدثني المثنى بن الصباح عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة عن رسول الله قال { ثمن الكلب سحت إلا كلب صيد } وما رويناه من طريق ابن وهب عمن أخبره عن ابن شهاب عن أبي بكر عن النبي قال : { ثلاث هن سحت : حلوان الكاهن ، ومهر الزانية ، وثمن الكلب العقور . } ومن طريق ابن وهب عن الشمر بن نمير عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب { أن النبي نهى عن ثمن الكلب العقور . } قال أبو محمد : أما حديثا ابن وهب هذان فأسقط من أن يشتغل بهما إلا جاهل بالحديث ، أو مكابر يعلم الحق فيوليه ظهره ، لأن حسين بن عبد الله في غاية السقوط والاطراح باتفاق أهل النقل ، والآخر منقطع في موضعين . ثم لو صحا لما كان لهم فيهما حجة ، لأنه ليس فيهما إلا النهي عن ثمن الكلب العقور فقط وهذا حق ، وليس فيه إباحة ثمن ما سواه من الكلاب وجاءت الآثار المتواترة التي قدمنا بزيادة على هذين لا يحل تركها . وأما حديث أبي هريرة : ففي غاية السقوط لأن فيه يحيى بن أيوب ، والمثنى بن الصباح ، وهما ضعيفان جدا قد شهد مالك على يحيى بن أيوب بالكذب ، وجرحه أحمد وأما المثنى : فجرحه بضعف الحديث أحمد ، وتركه يحيى ، وعبد الرحمن ثم لو صح لكان حجة عليهم ؛ لأنه ليس فيه إلا استثناء كلب الصيد فقط ، وهم يبيحون ما حرم فيه من ثمن كلب الزرع ، وكلب الماشية ، وسائر الكلاب فهم مخالفون لما فيه . وأما حديث جابر : فإنه من رواية أبي الزبير عنه ، ولم يسمعه منه بإقرار أبي الزبير على نفسه ، حدثني يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الله بن عمر ومحمد بن يوسف الأزدي نا إسحاق بن أحمد العقيلي نا زكريا بن يحيى الحلواني نا محمد بن سعيد بن أبي مريم نا أبي نا الليث بن سعد ، قال : إن أبا الزبير دفع إلي كتابين ، فقلت في نفسي : لو سألته أسمع هذا كله من جابر ؟ فرجعت إليه فقلت : هذا كله سمعته من جابر ؟ فقال : منه ما سمعته ، ومنه ما حدثت عنه ، فقلت له : أعلم لي على ما سمعت ؟ فأعلم لي على هذا الذي عندي . قال أبو محمد : فكل حديث لم يقل فيه أبو الزبير : أنه سمعه من جابر ، أو حدثه به جابر أو لم يروه الليث عنه عن جابر فلم يسمعه من جابر بإقراره . وهذا الحديث لم يذكر فيه أبو الزبير سماعا من جابر ، ولا هو مما عند الليث فصح أنه لم يسمعه من جابر ، فحصل منقطعا . ثم لو صح لكانوا مخالفين له ، لأنه ليس فيه إباحة ثمن شيء من الكلاب غير كلب الصيد ، والنهي عن ثمن سائرها وهم يبيحون أثمان سائر الكلاب المتخذة لغير الصيد : فبطل كل ما تعلقوا به من الآثار . وأما النظر فإنهم قالوا : كان النهي عن ثمنها حين الأمر بقتلها ، فلما حرم قتلها وأبيح اتخاذ بعضها انتسخ النهي عن ثمن ما أبيح اتخاذه منها . قال أبو محمد : هذا كذب بحت على الله تعالى ، وعلى رسوله عليه السلام ، لأنه إخبار بالباطل ، وبما لم يأت به قط نص ، ودعوى بلا برهان ، وليس نسخ شيء بموجب نسخ شيء آخر ، وليس إباحة اتخاذ شيء بمبيح لبيعه ، فهؤلاء هم القوم المبيحون اتخاذ دود القز ، ونحل العسل ، ولا يحلون ثمنهما إضلالا وخلافا للحق ، واتخاذ أمهات الأولاد حل ، ولا يحل بيعهن : فظهر فساد هذا الاحتجاج . وقالوا : حرم ثمن الكلب ، وكسب الحجام ، فلما نسخ تحريم كسب الحجام نسخ تحريم ثمن الكلب ؟ قال أبو محمد : وهذا كذب كالذي قبله ، وكلام فاسد ، ودعوى بلا برهان . ويلزمهم أيضا : أن ينسخ أيضا تحريم مهر الزانية ؛ لأنه ذكر معهما ، ثم من لهم بنسخ تحريم كسب الحجام إذا وقع على الوجه المنهي عنه . فوضح فساد قولهم جملة ، وهذا مما خالفوا فيه الآثار المتواترة ، وصاحبين لا يصح خلافهما عن أحد من الصحابة . فإن ذكروا قضاء عثمان وعبد الله بن عمرو بقيمة الكلب العقور ؟ قلنا : ليس هذا خلافا ؛ لأنه ليس بيعا ، ولا ثمنا ، إنما هو قصاص مال عن فساد مال فقط ، ولا ثمن لميت أصلا . وروينا من طريق ابن أبي شيبة أنا وكيع عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر ، وأبي المهزم عن أبي هريرة : أنهما كرها ثمن الكلب إلا كلب صيد ، وكرها ثمن الهر وأبو المهزم ضعيف جدا ، وقد خالفوهما في ثمن الهر كما ترى . وقد روينا إباحة ثمن الكلب عن عطاء ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، وعن إبراهيم إباحة ثمن كلب الصيد ، ولا حجة في أحد مع رسول الله . وأما من احتاج إليه ، فقد قال الله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } فما لا يحل بيعه ، وتحل هبته ، فإمساك من عنده منه فضل عن حاجته ذلك : الفضل عمن هو مضطر إليه ظلم له . وقد قال رسول الله { المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه } والظلم واجب أن يمنع منه وبالله تعالى التوفيق وأما اتخاذها : فإننا روينا من طريق مسلم حدثني إسحاق بن منصور أنا روح بن عبادة نا ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : { أمرنا رسول الله بقتل الكلاب ثم نهى رسول الله عن قتلها ، وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان } . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عمران بن موسى نا يزيد بن زريع أنا يونس بن عبيد عن الحسن البصري عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله  : { لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها الأسود البهيم ، وأيما قوم اتخذوا كلبا ليس بكلب حرث ، أو صيد ، أو ماشية ، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراط } . ومن طريق مسلم حدثنا حرملة حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله قال : { من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ، ولا ماشية ، ولا أرض ، فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم } وتدخل الدار في جملة الأرض ؛ لأنها أرض . فهذه الأحاديث فيها نص ما قلنا . وقد روينا عن إبراهيم النخعي أمرنا بقتل الكلب الأسود ، وقد ذكرناه بإسناده في " كتاب الصيد " من ديواننا هذا وبالله تعالى التوفيق .

1515 - مسألة : ولا يحل بيع الهر فمن اضطر إليه لأذى الفأر فواجب وعلى من عنده منها فضل عن حاجته أن يعطيه منها ما يدفع به الله تعالى عنه الضرر : كما قلنا فيمن اضطر إلى الكلب ولا فرق . برهان ذلك : ما روينا من طريق مسلم حدثني سلمة بن شبيب قال : نا الحسن بن أعين نا معقل عن { أبي الزبير قال : سألت جابر بن عبد الله عن ثمن الكلب والسنور ؟ فقال : زجر عن ذلك رسول الله . } قال أبو محمد : الزجر أشد النهي . وروينا من طريق قاسم بن أصبغ نا محمد بن وضاح نا محمد بن آدم نا عبد الله بن المبارك نا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه كره ثمن الكلب والسنور . فهذه فتيا جابر لما روي ولا نعرف له مخالفا من الصحابة . ومن طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص عن ليث عن طاوس ، ومجاهد أنهما كرها أن يستمتع بمسوك السنانير ، وأثمانها . ومن طريق ابن أبي شيبة نا حفص هو ابن غياث عن ليث عن طاوس ، ومجاهد أنهما كرها بيع الهر ، وثمنه ، وأكله وهو قول أبي سليمان ؛ وجميع أصحابنا . وزعم بعض من لا علم له ، ولا ورع يزجره عن الكذب : أن ابن عباس ، وأبا هريرة : رويا { عن النبي إباحة ثمن الهر } قال أبو محمد : وهذا لا نعلمه أصلا من طريق واهية تعرف عند أهل النقل ، وأما صحيحة فنقطع بكذب من ادعى ذلك جملة . وأما الوضع في الحديث فباق ما دام إبليس وأتباعه في الأرض . ثم لو صح لهم لما كان لهم فيه حجة ؛ لأنه كان يكون موافقا لمعهود الأصل بلا شك ، ولا مرية في أن حين زجره عليه السلام عن ثمنه بطلت الإباحة السالفة ، ونسخت بيقين لا مجال للشك فيه ، فمن ادعى أن المنسوخ قد عاد فقد كذب وافترى وأفك وقفا ما لا علم له به ، وحاش لله أن يعود ما نسخ ، ثم لا يأتي بيان بذلك تقوم به حجة الله تعالى فيما نسخ وفيما بقي على المأمورين بذلك من عباده . هيهات دين الله عز وجل أعز من ذلك وأحرز . وقال المبيحون له : لما صح الإجماع على وجوب دخول الهر ، والكلب المباح اتخاذه في الميراث ، والوصية ، والملك : جاز بيعهما . قال أبو محمد : وهذا مما جاهروا فيه بالباطل ، وبخلاف أصولهم : أول ذلك : أنه دعوى بلا برهان ثم إنهم يجيزون دخول النحل ، ودود الحرير في الميراث ، والوصية ، وكذلك الكلب عندهم ، ولا يجيزون بيع شيء من ذلك . ويجيزون الوصية بما لم يخلق بعد من ثمر النخل وغيرها ، ويدخلونه في الميراث . ولا يجيزون بيع شيء من ذلك ، فظهر تخاذلهم وبالله تعالى التوفيق .

1516 - مسألة : ولا يحل البيع على أن تربحني للدينار درهما ، ولا على أني أربح معك فيه كذا وكذا درهما ، فإن وقع فهو مفسوخ أبدا . فلو تعاقدا البيع دون هذا الشرط ، لكن أخبره البائع بأنه اشترى السلعة بكذا وكذا ، وأنه لا يربح معه فيها إلا كذا وكذا فقد وقع البيع صحيحا ، فإن وجده قد كذب فيما قال لم يضر ذلك البيع شيئا ، ولا رجوع له بشيء أصلا ، إلا من عيب فيه ، أو غبن ظاهر كسائر البيوع ، والكاذب آثم في كذبه فقط . برهان ذلك : أن البيع على أن تربحني كذا شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل والعقد به باطل وأيضا : فإنه بيع بثمن مجهول ، لأنهما إنما تعاقدا البيع على أنه يربح معه للدينار درهما ، فإن كان شراؤه دينارا غير ربع كان الشراء بذلك ، والربح درهما غير ربع درهم فهذا بيع الغرر الذي نهى عنه رسول الله والبيع بثمن لا يدري مقداره . فإذا سلم البيع من هذا الشرط فقد وقع صحيحا كما أمر الله تعالى ، وكذبة البائع معصية لله تعالى ليست معقودا عليها البيع ، لكن كزناه لو زنى ، أو شربه لو شرب الخمر ولا فرق . روينا من طريق وكيع نا سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كره بيع " ده دوازده " معناه أربحك للعشرة اثني عشر وهو بيع المرابحة وروينا عن ابن عباس أنه قال : هو ربا . ومن طريق وكيع ، وعبد الرزاق ، قالا جميعا : أنا سفيان الثوري عن عمار الدهني عن ابن أبي نعم عن ابن عمر أنه قال : بيع " ده دوازده " ربا . وقال عكرمة : هو حرام وكرهه الحسن وكرهه مسروق وقال : بل أشتريه بكذا أو أبيعه بكذا . وروينا عن ابن مسعود أنه أجازه إذا لم يأخذ للنفقة ربحا . وأجازه ابن المسيب ، وشريح ، وقال ابن سيرين : لا بأس " ده دوازده " وتحسب النفقة على الثياب . ولمن أجازه تطويل كثير فيمن ابتاع نسيئة ، وباع نقدا ، وفيمن اشترى في نفاق ، وباع في كساد ، وما يحسب كراء الشد والطي ، والصباغ ، والقصارة ، وما أطعم الحرفا ، وأجرة السمسار ، وإذا ادعى غلطا ، وإذا انكشف أنه كذب وكله رأي فاسد . لكن نقول : من امتحن بالتجارة في بلد لا ابتياع فيه إلا هكذا فليقل : قام علي بكذا ، وبحسب نفقته عليه أو يقول : ابتعته بكذا ، ولا يحسب في ذلك نفقة ، ثم يقول : لكني لا أبيعه على شرائي ، تريد أخذه مني بيعا بكذا وكذا ، وإلا فدع فهذا بيع صحيح لا داخلة فيه . وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة نا جرير هو ابن عبد الحميد عن أبي سنان عن عبد الله بن الحارث قال { مر رجل بقوم فيهم رسول الله ومعه ثوب ، فقال له بعضهم بكم ابتعته ؟ فأجابه ، ثم قال : كذبت وفيهم رسول الله فرجع فقال : يا رسول الله ابتعته بكذا وكذا بدون ما كان فقال له رسول الله  : تصدق بالفضل } وهم يقولون : المرسل كالمسند ، وهذا مرسل قد خالفوه ؛ لأنه لم يرد بيعه ، ولا حط عنه شيئا من الربح .

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب البيوع
كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414) | كتاب البيوع (مسأله 1415 - 1416) | كتاب البيوع (مسأله 1417) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1417) | كتاب البيوع (مسأله 1418 - 1420) | كتاب البيوع (مسأله 1421) | كتاب البيوع (مسأله 1422) | كتاب البيوع (مسأله 1423 - 1426) | كتاب البيوع (مسأله 1427 - 1428) | كتاب البيوع (مسأله 1429 - 1446) | كتاب البيوع (مسأله 1447) | كتاب البيوع (مسأله 1448 - 1460) | كتاب البيوع (مسأله 1461 - 1464) | كتاب البيوع (مسأله 1465 - 1466) | كتاب البيوع (مسأله 1467 - 1470) | كتاب البيوع (مسأله 1471 - 1474) | كتاب البيوع (مسأله 1475 - 1479) | كتاب البيوع (مسأله 1480) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1480) | كتاب البيوع (مسأله 1481 - 1484) | كتاب البيوع (مسأله 1485 - 1491) | كتاب البيوع (مسأله 1492 - 1500) | كتاب البيوع (مسأله 1501 - 1507) | كتاب البيوع (مسأله 1508 - 1511) | كتاب البيوع (مسأله 1512 - 1516) | كتاب البيوع (مسأله 1517 - 1538) | كتاب البيوع (مسأله 1539 - 1551) | كتاب البيوع (مسأله 1552 - 1556) | كتاب البيوع (مسأله 1557 - 1559) | كتاب البيوع (مسأله 1560 - 1565) | كتاب البيوع (مسأله 1566 - 1567) | كتاب البيوع (مسأله 1568 - 1582) | كتاب البيوع (مسأله 1583 - 1594)