محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الثانية والثلاثون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب البيوع

1568 - مسألة: والحكرة المضرة بالناس حرام سواء في الأبتياع أو في إمساك ما ابتاع ويمنع من ذلك. والمحتكر في وقت رخاء ليس آثما، بل هو محسن؛ لأن الجلاب إذا أسرعوا البيع أكثروا الجلب، وإذا بارت سلعتهم ولم يجدوا لها مبتاعا تركوا الجلب، فأضر ذلك بالمسلمين، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.

فإن قيل: فإنكم تصححون الحديث من طريق محمد بن عجلان عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوي: أن رسول الله قال: لا يحتكر إلا خاطئ. قلنا: نعم، ولكننا

روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: " كان رسول الله يحبس، نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي من ثمره مجعل مال الله. فهذا النبي عليه السلام قد احتبس قوت أهله سنة، ولم يمنع من أكثر. فصح أن إمساك ما لا بد منه مباح، والشراء مباح، والمذكور بالذم هو غير المباح بلا شك، فهذا الأحتكار الذي ذكرناه، وكل احتكار فإنه إمساك، والأحتكار مذموم، وليس كل إمساك مذموما، بل هو مباح حتى يقوم دليل بالمنع من شيء منه فهو المذموم حينئذ وبالله تعالى التوفيق. وقد روينا حديثا من طريق يزيد بن هارون عن أصبغ بن زيد الجهني عن أبي بشر عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة الحضرمي، عن ابن عمر عن النبي قال: من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه. وهذا لا يصح؛ لأن أصبغ بن زيد، وكثير بن مرة مجهولان. وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي عن ليث بن أبي سليم أخبرني أبو الحكم أن علي بن أبي طالب أحرق طعاما احتكر بمائة ألف. ومن طريق ابن أبي شيبة أنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن الحسن بن حي عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن قيس قال: قال حبيش أحرق لي علي بن أبي طالب بيادر بالسواد كنت احتكرتها، لو تركها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة البيادر أنادر الطعام.

قال أبو محمد: وهذا بحضرة الصحابة، ويلزم من شنع بمثل هذا أن يأخذ به.


1569 - مسألة: وإن كان التجار المسلمون إذا دخلوا أرض الحرب أذلوا بها وجرت عليهم أحكام الكفار، فالتجارة إلى أرض الحرب حرام، ويمنعون من ذلك، وإلا فنكرهها فقط، والبيع منهم جائز إلا ما يتقوون به على المسلمين من دواب أو سلاح أو حديد أو غير ذلك، فلا يحل بيع شيء من ذلك منهم أصلا، قال تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} فالدخول إليهم بحيث تجري على الداخل أحكامهم وهن وانسفال ودعاء إلى السلم وهذا كله محرم، وقال تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} فتقويتهم بالبيع وغيره مما يقوون به على المسلمين حرام، وينكل من فعل ذلك، ويبالغ في طول حبسه.


1570 - مسألة: ومن اشترى سلعة على السلامة من العيوب فوجدها معيبة فهي صفقة مفسوخة كلها، لا خيار له في إمساكها إلا بأن يجددا فيها بيعا آخر بتراض منهما؛ لأن المعيب بلا شك غير السالم، وهو إنما اشترى سالما فأعطي معيبا، فالذي أعطي غير الذي اشترى فلا يحل له ما لم يشتر؛ لأنه أكل مال بالباطل. قال رسول الله : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، وقال تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}

وقد ذكرنا كلاما كثيرا في هذه المسألة فيما سلف من كتابنا هذا، وفي هذا كفاية وبالله تعالى التوفيق.


1571 - مسألة: فإن لم يشترط السلامة، ولا بين له معيب فوجد عيبا فهو مخير بين إمساك أو رد، فإن أمسك فلا شيء له؛ لأنه قد رضي بعين ما اشترى فله أن يستصحب رضاه، وله أن يرد جميع الصفقة؛ لأنه وجد خديعة وغشا وغبنا والغش، والخديعة: حرامان. وليس له أن يمسك ما اشترى، ويرجع بقيمة العيب؛ لأنه إنما له ترك الرضا بما غبن فيه فقط؛ ولأنه لم يوجب له حقا في مال البائع: قرآن، ولا سنة، بل ماله عليه حرام كما ذكرنا، وليس له رد البعض؛ لأن نفس المعامل له لم تطب له ببعض ما باع منه دون بعض، ولا يحل مال أحد إلا بتراض، أو بنص يوجب إحلاله لغيره وسواء كان المعيب وجه الصفقة أو أكثرها أو أقلها؛ لأنه لم يأت بالفرق بين شيء من ذلك: قرآن، ولا سنة وبالله تعالى التوفيق.


1572- مسألة: هذا حكم كل معيب حاشا المصراة فقط، فإن حكمها أن من اشترى مصراة وهي ما كان يحلب من إناث الحيوان، وهو يظنها لبونا فوجدها قد ربط ضرعها حتى اجتمع اللبن، فلما حلبها افتضح له الأمر: فله الخيار ثلاثة أيام، فإن شاء أمسك، ولا شيء له، وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر، ولا بد. وسواء كانت المصراة واحدة أو اثنتين أو ألفا أو أكثر لا يرد في كل ذلك إلا صاعا واحدا من تمر، وسواء كان اشتراها بكثير أو بقليل، ولو بعشر صاع تمر. فإن كان اللبن الذي في ضرعها يوم اشتراها حاضرا رده كما هو حليبا أو حامضا فإن كان قد استهلكه رد معها لبنا مثله، وإن كان قد مخضه أو عقده رده، فإن نقص عن قيمته لبنا رد ما بين النقص والتمام؛ لأنه لبن البائع، وليس عليه رد ما حدث من اللبن في كونها عنده؛ لأنه حدث في ماله فهو له. فإن ردها بعيب آخر غير التصرية لم يلزمه رد التمر، ولا شيء غير اللبن الذي كان في ضرعها إذا اشتراها، فإن انقضت الثلاثة الأيام، ولم يردها بعد لزمته، وبطل خياره إلا من عيب آخر غير التصرية. وإنما سميت مصراة؛ لأن التصرية هي الجمع وهذه جمع لبنها وهي أيضا المحفلة؛ لأنه قد حفل لبنها في ضرعها.

برهان ذلك: ما روينا من طريق أحمد بن شعيب، حدثنا محمد بن منصور، حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم : من ابتاع محفلة أو مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أن يمسكها أمسكها، وإن شاء أن يردها ردها وصاعا من تمر لا سمراء السمراء: البر فهذا خبر صحيح يقتضي كل ما قلناه وهو الزائد على سائر الأخبار. وقد

روينا من طريق البخاري، حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا مكي بن إبراهيم أخبرني زياد قال: إن ثابتا مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله : من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر.

قال أبو محمد: روينا خبر المصراة من طريق ابن سيرين، وثابت مولى عبد الرحمن بن زيد، كما أوردنا.

ومن طريق محمد بن زياد، وموسى بن يسار وأبي صالح السمان وهمام بن منبه، والأعرج، ومجاهد، وأبي إسحاق، ويزيد بن عبد الرحمن بن أذينة، وغيرهم. ورواه عن هؤلاء: حماد بن سلمة، وداود بن قيس، وسهيل بن أبي صالح، ومعمر، وأيوب، وحبيب بن الشهيد، وهشام بن حسان، ومالك، وابن عيينة، وعبيد الله بن عمر، كلهم عن أبي الزناد عن الأعرج، وابن جريج عن زياد عن ثابت، والليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج وهؤلاء الأئمة الأثبات الثقات. ورواه عن هؤلاء من لا يحصيهم إلا الله، عز وجل،، فصار نقل كافة وتواتر لا يرده إلا محروم غير موفق وبهذا يأخذ السلف قديما وحديثا.

وروينا من طريق البخاري، حدثنا مسدد، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي سمعت أبي يقول: حدثنا أبو عثمان هو النهدي عن عبد الله بن مسعود قال " من اشترى محفلة فليرد معها صاعا من تمر " وهذا إسناد كاللؤلؤ وصح أيضا عن أبي هريرة من فتياه، ولا مخالف لهما من الصحابة في ذلك وهو قول الليث بن سعد، ومالك في أحد قوليه، وأصحابه، إلا أشهب.

وهو قول الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأصحابهما، وأبي ثور، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه، وأبي سليمان، وجميع أصحابنا، وأحد قولي أبي ليلى وقال زفر بن الهذيل: يردها وصاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من بر.

قال أبو محمد: وهذه زيادة على أمر رسول الله وتعد لحدوده، والزائد في الشيء كالناقص منه. وقال ابن أبي ليلى في أحد قوليه، وأبو يوسف في أحد قوليه يردها وقيمة صاع من تمر وهو أيضا خلاف أمره عليه الصلاة والسلام.

وقال مالك في أحد قوليه: يؤدي أهل كل بلد صاعا من أغلب عيشهم وهذا خلاف لأمر رسول الله .

وقال أبو حنيفة،، ومحمد بن الحسن: إن كان اللبن حاضرا لم يتغير ردها ورد اللبن، ولا يرد معها صاع تمر، ولا شيئا، وإن كان قد أكل اللبن لم يكن له ردها، لكن يرجع بقيمة العيب فقط وهذا خلاف ظاهر لأمر رسول الله نعوذ بالله من ذلك. وقال أبو يوسف: إن كان قد أكل اللبن ردها وقيمة ما أكل من اللبن. ويكفي من فساد هذين القولين: أنهما خلاف أمر رسول الله وأنه لا سلف لهم فيه، وما نعلم أحدا قاله قبلهم، وأنه خلاف قول ابن مسعود، وأبي هريرة، ولا مخالف لهم من الصحابة وهم يعظمون مثل هذا إذا خالف تقليدهم.

قال أبو محمد: واعترضوا في ذلك بأن تعللوا في الخبر بعلل، فمرة قالوا: هو مخالف للأصول.

فقلنا: كذبتم، بل هو أصل من كبار الأصول، وإنما المخالف للأصول قولكم في الوضوء من القهقهة في الصلاة خاصة. وقولكم بأن القلس لا ينقض الوضوء أصلا إلا إذا كان ملء الفم. وقولكم في جعل الآبق أربعون درهما إذا كان على مسيرة ثلاث. وقولكم في عين الدابة ربع ثمنها، والوضوء بالخمر، وسائر تلك الطوام التي هي بالمضاحك، وبما يأتي به المبرسم: أشبه منها بشرائع الإسلام. ومرة قالوا: لما لم يقس عليه القائلون به علمنا أنه متروك .

فقلنا: القياس باطل؛ وهلا عارضتم أنفسكم بهذا الأعتراض، إذ لم تقيسوا على المنع من بيع المدبر المنع من بيع الموصى بعتقه والمعتق بصفة، وإذ لم تقيسوا على الخبز في الأكل ناسيا وهو صائم، وإذ لم تقيسوا على الجنين يلقى فيكون فيه غرة. ومرة قالوا: هو منسوخ بالتحريم في الربا؛ لأنه طعام من التمر بطعام من اللبن .

فقلنا: كذبتم ما هو لبن بطعام، ولا بتمر، إنما هو تمر أوجبه الله تعالى للبائع على المبتاع إن رد عليه المصراة كما أوجب الصداق على الزوج لا على المرأة وهي مستحلة بذلك النكاح فرجه الذي كان حراما عليها، كما هو مستحل به فرجها الذي كان عليه حراما، ولا فرق. وكما أوجب الدية على العاقلة، ولا ندب لها. ومرة قالوا: أرأيتم إن كان إنما باعها منه بمد تمر أليس ترجع عليه وصاع تمر، أو أرأيتم إن كان لبنها كثيرا جدا أو قليلا جدا، أليس صاع التمر عوضا مرة عن نصف صاع اللبن، ومرة عن صيعان كثيرة من اللبن. قلنا: لا، ما هو عوضا عن اللبن، وأما في ابتياعه إياها بمد تمر فنقول: نعم، فكان ماذا وما كان لمؤمن، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وهلا عارضتم أنفسكم بهذه المعارضة إذ قلتم: يغرم سيد الآبق لمن رده عليه أربعين درهما وإن كان الآبق لا يساوي إلا درهما واحدا، ولا يؤدي قاتل الأمة خطأ إلا خمسة آلاف درهم غير خمسة دراهم ولو أنها كانت تساوي مائة ألف دينار فههنا في هذه الحماقات هو الأعتراض، لا على المتيقن عن رسول الله . ومرة قالوا: كان هذا الحكم إذ كانت العقوبات في الأموال كحرق رحل الغال، ونحو ذلك. فقلنا: كذبتم كما كذب الشيطان، وقلتم ما لم يأت قط في شيء من الروايات، وتلك الأخبار التي ذكرتم منقسمة إلى ثلاث أقسام: إما خبر باطل، كحديث أخذ نصف مال مانع الزكاة، وحديث حرق رحل الغال، وحديث واطئ أمة امرأته.

وأما خبر ثابت، فحكمه باق كالكفارة على الواطئ عامدا في نهار رمضان، والدية على قاتل العمد إذا رضيها أولياء القتيل، وجزاء الصيد.

وأما قسم ثبت بنص آخر نسخه فوجب القول بأنه منسوخ وما نذكره في وقتنا هذا إلا أنه لو وجد لصدق وأما كل من ادعى في خبر ثابت نسخا فهو كاذب آفك آثم قائل على الله تعالى ما لم يقله، ومخبر عن رسول الله بما لم يخبر به عن نفسه، قائل ما لا علم له به. وهكذا كل من حمل الحديث على غير ظاهره بأي وجه أحاله فجوابه: كذبت كذبت كذبت، وقلت على رسول الله الباطل، وقولته ما لم يقله وحكمت بالظن الذي هو أكذب الحديث، ورددت اليقين بالظنون.

وقال بعضهم هذا حديث مضطرب فيه، رواه سعيد بن منصور عن فليح بن سليمان عن أيوب بن عبد الرحمن عن يعقوب بن أبي يعقوب عن أبي هريرة عن النبي قال: من اشترى شاة مصراة فالمشتري بالخيار إن شاء ردها وصاعا من لبن. ورواه أبو داود، حدثنا أبو كامل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا صدقة بن سعيد عن جميع بن عمير التيمي قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول فذكره وفيه: فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا. ورواه حماد بن أبي الجعد عن قتادة، عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي : صاعا من تمر، لا سمراء.

وهكذا رواه أشعث بن عبد الملك الحمراني، عن ابن سيرين عن أبي هريرة مسندا

وهكذا رواه عبد الأعلى عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين عن أبي هريرة مسندا ورواه قرة بن خالد، عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي: صاعا من طعام لا سمراء. رويناه من طريق البزار، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم عن الأشعث، هو ابن عبد الملك الحمراني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : من اشترى شاة محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام إن ردها ردها ورد معها صاعا من تمر لا سمراء.

ومن طريق مسلم، حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا أبو عامر هو العقدي، حدثنا قرة، هو ابن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي قال: من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء.

وهكذا رواه الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن أيوب وحبيب بن الشهيد، عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي : صاعا من طعام لا سمراء.

ومن طريق شعبة أخبرني الحكم بن عتيبة أنه سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله : ردها ومعها صاع من طعام.

ومن طريق روح بن عبادة عن عوف بن أبي جميلة عن خلاس بن عمرو، وابن سيرين، كلاهما عن أبي هريرة عن النبي : ردها وإناء من طعام. قالوا: فهذا اضطراب شديد. قلنا: كلا، أما حديث سعيد بن منصور، ففيه: فليح وهو متكلم فيه. وأيوب بن عبد الرحمن هو العدوي ضعيف مجهول. ويعقوب بن أبي يعقوب مجهول فسقط.

وأما حديث ابن عمر ففيه صدقة بن سعيد، وجميع بن عمير، وهما ضعيفان فسقط.

وأما رواية عوف إناء من طعام فمجمل، فسرته سائر الأحاديث بأن ذلك الإناء صاع.

وأما رواية الحجاج عن حماد بن سلمة فإننا رويناها من طريق محمد بن المثنى عن الحجاج بإسناده، فشك فيه الحجاج، أهو بر أم لا. ورويناها عن حماد بن سلمة عن أيوب، وهشام بن حسان، وحبيب بن الشهيد من طريق موسى بن إسماعيل فقال: صاع تمر، ولا يشك. وحماد بن الجعد عن قتادة ضعيف. فلم يبق إلا حديث أشعث وقرة، عن ابن سيرين عن أبي هريرة، وهما صحيحان لا علة فيهما، أحدهما صاع تمر، لا سمراء والآخر صاع طعام، لا سمراء والطعام قد بينا قبل أنه البر نفسه فقط إذا أطلق هكذا. فقال قوم: إن ابن سيرين هو الذي اضطرب عليه فالواجب ترك ما اضطرب عليه فيه، والرجوع إلى رواية من رواه عن أبي هريرة سواه فلم يضطرب عليه فيه، وهم جماعة.

قال أبو محمد: ولسنا نقول بهذا؛ لأنه لم يوجد هذا الحكم قرآن، ولا سنة، ولا معقول، لكنا نقول وبالله تعالى التوفيق: إن كلا اللفظين صحيح من طريق الإسناد، ولا سبيل إلى القطع بالوهم والخطأ على رواية ثقة إلا بيقين لا يحتمل غيره. ولا تخلو " السمراء " من أن تكون لفظة واقعة على بعض أصناف البر، أو تكون اسما واقعا على جميع البر، فإن كانت واقعة على جميع البر، فحديث هؤلاء وهم بلا شك، وخطأ بلا محالة؛ لأنه لا يجوز أن يقول رسول الله صاعا من بر، ولا من بر. وإن كانت لفظة " السمراء " واقعة على بعض أصناف البر فالواجب أن لا يجزي في المصراة من جميع أنواع الحيوان كلها إلا صاع تمر فقط، إلا الشاة وحدها، فإنه يرد معها صاعا من تمر، كما ذكرنا، أو صاعا من أي أصناف البر أعطى، حاشا " السمراء " لا يجزي غير التمر، وغير " البر " في الشاة إن كان كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق. فإن لم يوجد التمر فقيمته لو وجد في ذلك المكان، أو تكليف المجيء بالتمر، ولا بد. فإن قيل: فمن أين قلتم برد اللبن أو تضمينه، وليس هو في الخبر. قلنا: ولا في الخبر أن لا يرده، إلا أن اللبن مشترى مع الشاة صفقة واحدة، والواجب إمساك الصفقة أو ردها كما قدمنا بالنصوص التي ذكرنا، لا يترك بعضها البعض. فإن قيل: قد جاء في الخبر ففي حلبتها صاع من تمر. قلنا: نعم، والحلبة هي الفعل، وقد تكون أيضا اللبن المحتلب، إلا أنه إنما سمي بذلك مجازا، ولا يجوز نقل اللفظة عن موضوعها إلى المجاز إلا بنص، والأموال محرمة إلا بنص، وبالله تعالى التوفيق.


1573 - مسألة: فإن فات المعيب بموت، أو بيع، أو عتق، أو إيلاد أو تلف، فللمشتري، أو البائع: الرجوع بقيمة العيب؛ لأنه إذا لم يرهن وأخذ العيب بما عليه من الغبن فماله حرام على آخذه بغير رضاه، ولا سبيل إلى رد الصفقة، فالواجب الرجوع بما لم يرض ببدله من ماله.

وكذلك من غبن في بيعه فإنه يرجع بقيمة الغبن، ولا بد.

وكذلك من اشترى زريعة فزرعها فلم تنبت فإنه يرجع بما بين قيمتها كما هي رديئة وبين قيمتها نابتة؛ لأنها قد تلفت عينها، فإنما له الرجوع بقيمة الغبن، فإن كان اشتراها على أنها نابتة فالصفقة فاسدة، ويرد مثلها أو قيمتها إن لم توجد ويرجع بالثمن كله، وبالله تعالى التوفيق.


1574 - مسألة: فإن باعه فرد عليه لم يكن له أن يرده، لكن يرجع بقيمة العيب فقط؛ لأنه قد بطل ما كان له من الرد بخروج المعيب عن ملكه، لقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}. ولم يجب له إلا قيمة الغبن فقط، وما سقط حكمه ببرهان فلا يرجع إلا بنص يوجب رجوعه، وبالله تعالى التوفيق.

1575 - مسألة: فإن مات الذي له الرد قبل أن يلفظ بالرد، وبأنه لا يرضى: فقد لزمت الصفقة ورثته؛ لأن الخيار لا يورث، إذ ليس مالا؛ ولأنه قد رضي بالعقد، فهو على الرضا ما لم يتبين أنه غير راض، فإن لم يتبين ذلك، فقد قال تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}.


1576 - مسألة: فإن مات الذي يجب عليه الرد كان لواجد العيب أن يرد المعيب على الورثة؛ لأن له الرضا أو الرد، فلا يبطله موت الغابن، وبالله تعالى التوفيق.


1577 - مسألة: والعيب الذي يجب به الرد: هو ما حط من الثمن الذي اشترى به أو باع به مالا يتغابن الناس بمثله؛ لأن هذا هو الغبن، لا غبن غيره. فإن كان اشترى الشيء بثمن هو قيمته معيبا، أو باعه بثمن هو قيمته معيبا وهو لا يدري العيب ثم وجد العيب فلا رد له؛ لأنه لم يجد عيبا. وقد قال قوم: له الرد وهذا خطأ فاحش؛ لأنه ظلم للبائع، وعناية ومحاباة للمشتري بلا برهان، لا من قرآن، ولا سنة.


1578 - مسألة: فلو كان قد اشترى بثمن ثم اطلع على عيب كان يحط من الثمن حين اشتراه، إلا أنه قد غلا حتى صار لا يحط من الثمن الذي اشتراه شيئا، أو زال العيب قبل أن يعلم به، أو بعد أن علم به، فله الرد في كل ذلك؛ لأنه حين العقد وقع عليه غبن فله أن لا يرضى بالغبن إذا علمه، ولا يوجب سقوط ما له من الخيار لما ذكرنا قرآن، ولا سنة، وبالله تعالى التوفيق.


1579 - مسألة: ومن باع بدراهم أو بدنانير في الذمة أو إلى أجل، أو سلم فيما يجوز فيه السلم فلما قبض الثمن، أو ما سلم فيه: وجد عيبا أو استحق ما أخذ أو بعضه: فليس له إلا الأستبدال فقط؛ لأنه ليس له عين معينة، إنما له صفة، فالذي أعطي هو غير حقه، فعليه أن يرد ما ليس له، وأن يطلب ما له، وبالله تعالى التوفيق.


1580 - مسألة: ومن وكل وكيلا ليبتاع له شيئا سماه، فابتاعه له بغبن بما لا يتغابن الناس بمثله، أو وجده معيبا عيبا يحط به من الثمن الذي اشتراه به: فله من الرد، أو الإمساك، أو الأستبدال، أو من فسخ الصفقة كالذي ذكرنا قبل سواء سواء؛ لأن يد وكيله هي يده وبالله تعالى التوفيق.


1581 - مسألة: فإن لم يعرف هل العيب حادث أم كان قبل البيع فليس على المردود عليه إلا اليمين: بالله ما بعته إياه وأنا أدري فيه هذا العيب ويبرأ، إلا أن تقوم بينة عدل بأن هذا العيب أقدم من أمد التبايع فيرد؛ لأن الصفقة بيع، وقد أحل الله البيع، فلا يجوز نقضه بالدعاوى، ولا بالظنون وبالله تعالى التوفيق.


1582 - مسألة: ومن اشترى من اثنين فأكثر سلعة واحدة صفقة واحدة فوجد عيبا له أن يرد حصة من شاء ويتمسك بحصة من شاء، وله أن يرد الجميع إن شاء، أو يمسك الكل كذلك.

وكذلك لو استحقت حصة أحدهم لم ينفسخ العقد في حصة الآخر؛ لأن بيع كل واحد منهما، أو منهم حصته عقد غير عقد الآخر؛ قال الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب البيوع
كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414) | كتاب البيوع (مسأله 1415 - 1416) | كتاب البيوع (مسأله 1417) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1417) | كتاب البيوع (مسأله 1418 - 1420) | كتاب البيوع (مسأله 1421) | كتاب البيوع (مسأله 1422) | كتاب البيوع (مسأله 1423 - 1426) | كتاب البيوع (مسأله 1427 - 1428) | كتاب البيوع (مسأله 1429 - 1446) | كتاب البيوع (مسأله 1447) | كتاب البيوع (مسأله 1448 - 1460) | كتاب البيوع (مسأله 1461 - 1464) | كتاب البيوع (مسأله 1465 - 1466) | كتاب البيوع (مسأله 1467 - 1470) | كتاب البيوع (مسأله 1471 - 1474) | كتاب البيوع (مسأله 1475 - 1479) | كتاب البيوع (مسأله 1480) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1480) | كتاب البيوع (مسأله 1481 - 1484) | كتاب البيوع (مسأله 1485 - 1491) | كتاب البيوع (مسأله 1492 - 1500) | كتاب البيوع (مسأله 1501 - 1507) | كتاب البيوع (مسأله 1508 - 1511) | كتاب البيوع (مسأله 1512 - 1516) | كتاب البيوع (مسأله 1517 - 1538) | كتاب البيوع (مسأله 1539 - 1551) | كتاب البيوع (مسأله 1552 - 1556) | كتاب البيوع (مسأله 1557 - 1559) | كتاب البيوع (مسأله 1560 - 1565) | كتاب البيوع (مسأله 1566 - 1567) | كتاب البيوع (مسأله 1568 - 1582) | كتاب البيوع (مسأله 1583 - 1594)