محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة العاشرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب البيوع

1429 - مسألة : ومن باع ممن ذكرنا الظاهر دون المغيب ، أو باع مغيبا : يجوز بيعه بصفة ، كالصوف في الفراش ، والعسل في الظرف ، والثوب في الجراب ، فإنه إن كان المكان للبائع فعليه تمكين المشتري من أخذ ما اشترى ولا بد ، وإلا كان غاصبا مانع حق ، وعلى المشتري إزالة ماله عن مكان غيره ، وإلا كان غاصبا للمكان مانع حق ؛ فإن كان المكان للمشتري فعلى البائع نزع ماله عن مكان غيره ، وإلا كان ظالما مانع حق ، فإن كان المكان لهما جميعا فأيهما أراد تعجيل انتفاعه بمتاعه فعليه أخذه ، ولا يجبر الآخر على ما لا يريد تعجيله من أخذ متاعه . فإن كان المكان لغيرهما فعليهما جميعا أن ينزع كل واحد منهما ماله من مكان غيره ، وإلا فهو ظالم مانع حق ، لقول رسول الله  : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . { ولقوله إذ قال سلمان لأبي الدرداء أعط كل ذي حق حقه ، فصدقه عليه السلام ، وصوب قوله } . فمن باع تمرا دون نواها ، فأخذ التمرة وتخليصها من النوى على المشتري لأنه مأمور بأخذ متاعه ونقله وترك النوى مكانه - إن كان المكان للبائع - فإن أبى أجبر ، واستؤجر عليه من يزيل التمر عن النوى ، ولا يكلف البائع ذلك إلا أن يشاء ؛ لأنه لا يلزمه فتح ثمرة غيره ، ولا أن يعمل له فيه عملا . فإن كان المكان للمشتري ، فإن أراد المشتري قلع ثمرته فله ذلك ، ولا يترك غيره يؤثر له فيها أثرا لا يريده ، فإن أبى المشتري من ذلك فعلى البائع إخراج نواه ونقله على ألطف ما يمكن ، ولا شيء عليه فإن تعدى ضمن مقدار تعديه في إفساد الثمرة . فإن كان المكان لهما ؟ فكما قلنا : أيهما أراد تعجيل أخذ متاعه فله أخذه ، فإن أراد ذلك الذي له النوى كان له إخراج نواه بألطف ما يمكن ، إذ لا بد له من ذلك ، ولا شيء عليه ؛ لأنه فعل مباحا له ، فإن تعدى ضمن . فإن كان المكان لغيرهما أجبرا جميعا على العمل معا في تخليص كل واحد منهما ماله . وهكذا القول في نافجة المسك ، والظروف دون ما فيها ، والقشور دون ما فيها ، والشمع دون العسل ، والتبن دون الحب ، وجلد الحيوان المذبوح أو المنحور ، ولحمة الزيتون ، والسمسم ، وكل ذي دهن . وأما من باع الأرض دون البذر ، أو دون الزرع ، أو دون الشجر ، أو دون البناء ، فالحصاد على الذي له الزرع ، والقلع على الذي له الشجر ، والبناء والقطع أيضا عليه ؛ لأن فرضا عليه إزالة ماله عن أرض غيره . ومن باع الحيوان دون اللبن ، أو دون الحمل ، فالحلب على الذي له اللبن ولا بد - وأجرة القابلة عليه أيضا ؛ لأن واجبا عليه إزالة لبنه عن ضرع حيوان غيره ، وليس على صاحب الحيوان إلا إمكانه من ذلك فقط ، لا خدمته في حلب لبنه . وكذلك على الذي له ملك الولد : العمل في العون في أخذ مملوكه ، أو مملوكته في بطن أمة غيره بما أبيح له من ذلك . ومن باع سارية خشب ، أو حجر في بناء فعلى المشتري قلع ذلك بألطف ما يقدر عليه من التدعيم لما حول السارية من البناء ، وهدم ما حواليها مما لا بد له من هدمه ، ولا شيء عليه في ذلك ؛ لأن له أخذ متاعه كما يقدر . ومن هو مأمور بشيء ، ويعمل في شيء فلا ضمان عليه ؛ لأنه يفعل ما يفعل من ذلك : محسن ، وقد قال الله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } ، { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } فإن تعدى ضمن لما ذكرنا .

1430 - مسألة : ومن باع صوفا ، أو وبرا ، أو شعرا على الحيوان فالجز على الذي له الصوف ، والشعر ، والوبر ؛ لأن عليه إزالة ماله عن مال غيره ، ومكان الشعر ، والوبر ، والصوف - وهو جلد الحيوان - فعلى الذي له كل ذلك إزالة ماله عن مكان غيره ، وعلى الذي له المكان أن يمكنه من ذلك فقط . وكذلك من اشترى خابية في بيت فعليه إخراجها ، وله أن يهدم من باب البيت ما لا بد له من هدمه لإخراج الخابية - ولا ضمان عليه في ذلك ، إذ لا سبيل له إلى عمل ما كلف إلا بذلك - وبالله تعالى التوفيق .

1431 - مسألة : ولا يحل بيع تراب الصاغة أصلا بوجه من الوجوه لأنه إنما يقصد المشتري ما فيه من قطع الفضة والذهب - وهو مجهول لا يعرف - فهو غرر ، وقد { نهى رسول الله عن بيع الغرر } .

1432 - مسألة : وكل ما نخله الغبارون من التراب ، أو استخرجه غسالوا الطين من الطين ، أو استخرج من تراب الصاغة ، فهو لقطة ما أمكن أن يعرف ، كالفص ، أو الدينار ، أو الدرهم ، فما زاد فتعريفه كما ذكرنا في اللقطة ثم هو للملتقط مضمونا لصاحبه إن جاء - وما كان منه لا يمكن أن يعرف صاحبه أبدا من قطعة أو غير ذلك : فهو حلال لواجده على ما ذكرنا في " كتاب اللقطة " وبالله تعالى التوفيق .

1433 - مسألة : وأما تراب المعادن : فما كان منه معدن ذهب فلا يحل بيعه ألبتة بوجه من الوجوه ، لأن الذهب فيه مخلوق في خلاله مجهول المقدار . فلو كان الذهب الذي فيه مرئيا كله محاطا به : جاز بيعه بما يجوز به بيع الذهب - على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى . وما كان منه تراب معدن فضة : جاز بيعه بدراهم وبذهب نقدا ، وإلى أجل وإلى غير أجل ، وبالعرض نقدا ، وجاز السلم فيه . وكذلك تراب سائر المعادن ؛ لأنه ليس فيه شيء من الفضة أصلا ، وإنما هو تراب محض ، لا يصير فضة إلا بمعاناة وطبخ ، فيستحيل بعضه فضة كما يستحيل الماء ملحا ، والبيض فراريج ، والنوى شجرا - ولا فرق .

1434 - مسألة : وبيع القصيل قبل أن يسنبل : جائز وللبائع أن يتطوع للمشتري بتركه ما شاء إلى أن يرعاه ، أو إلى أن يحصده ، أو إلى أن - ييبس بغير شرط ، فإن غفل عنه حتى زاد فيه أولادا من أصله لم تكن ظاهرة إذا اشتراه فاختصما فيها : فأيهما أقام البينة بمقدار المبيع : قضي بها ، ولم يكن للمشتري إلا القدر الذي اشترى ، وكانت الزيادة من الأولاد للبائع ، فإن لم تكن له بينة : حلفا ، وقسمت الزيادة التي يتداعيانها بينهما . وأما السنبل ، والخروب ، والحب : فللمشتري على كل حال ، وكذلك ما زاد في طوله ، فإذا سنبل الزرع لم يحل بيعه أصلا - لا على القطع ولا على الترك - إلا حتى يشتد ، فإذا اشتد : حل بيعها حينئذ . برهان صحة بيع القصيل قبل أن يسنبل - : قول الله تعالى : { وأحل الله البيع } . وقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فالبيع كله حلال ، إلا بيعا منع منه نص قرآن أو سنة ، ولم يأت في منع بيع الزرع مذ ينبت إلى أن يسنبل : نص أصلا . وبرهان تحريم بيعه إذا سنبل إلى أن يشتد - : ما رويناه من طريق مسلم نا علي بن حجر ، وزهير بن حرب ، قالا جميعا : نا إسماعيل ابن علية عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال { إن رسول الله نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة - نهى البائع والمشتري } . ومن طريق أبي داود نا الحسن بن علي نا أبو الوليد - هو الطيالسي - عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس " أن النبي { نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد } ولا يصح غير هذا أصلا . وهكذا روينا عن جمهور السلف - : روينا من طريق وكيع نا إسرائيل بن يونس عن جابر عن الشعبي عن مسروق عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، قالا جميعا : لا يباع النخل حتى يحمر ، ولا السنبل حتى يصفر . ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن أيوب السختياني عن ابن سيرين قال : نهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، وعن السنبل حتى يبيض . ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن عاصم عن ابن سيرين قال : لا يشترى السنبل حتى يبيض . ومن طريق وكيع نا الربيع - هو ابن صبيح - عن الحسن أنه كره بيع السنبل حتى يبيض . ومن طريق ابن أبي شيبة نا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني ، قال : سألت عكرمة عن بيع القصيل ؟ فقال : لا بأس ، فقلت : إنه يسنبل ؟ فكرهه - وهذا هو نفس قولنا ، فلم يستثن رسول الله إذ منع من بيع السنبل حتى يشتد ، أو يبيض : جواز بيعه على الحصاد { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } ، { وما كان ربك نسيا } . وكذلك عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، لا مخالف لهما نعلمه من الصحابة رضي الله عنهم . قال أبو محمد : فإن حصاد السنبل رطبا لم يجز بيعه أيضا ؛ لأنه سنبل يمكن فيه بعد أن يشتد ويبيض - وكذلك إن صفي فصار حبا ولا فرق ، للنهي عن ذلك أيضا . فإن كان إن ترك لم ييبس ، ولكن يفسد : جاز بيعه ؛ لأنه قد خرج عن الصفة التي جاء النهي عن بيع ما هي فيه . والسنبل في لغة العرب معروف وهو في القمح والشعير ، والعلس ، والدخن ، والسلت ، وسائر ما يسمى في اللغة " سنبلا "

1435 - مسألة : وأما بيع القصيل قبل أن يسنبل على القطع فجائز ؛ لأن فرضا على كل أحد أن يزيل ماله عن أرض غيره ، وأن لا يشغلها به ، فهذا شرط واجب ، مفترض ، فإن تطوع له رب الأرض بالترك من غير شرط : فحسن ؛ لأن لكل أحد إباحة أرضه لمن شاء ، ولما شاء ، مما لم ينه عنه ، فإن زاد فلصاحب المال أن يتطوع له بالزيادة ؛ لأنه ماله يهبه لمن شاء ما لم يمنعه قرآن ، أو سنة ، والهبة فعل خير وفضل ، قال الله تعالى : { وافعلوا الخير } ، وقال تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } . فإن أبى فالبينة ، فإن لم تكن بينة فهما متداعيان في الزيادة - وهي بأيديهما معا - فكل واحد يقول : هي لي ، فيحلفان ، لأن كل واحد منهما مدعى عليه ، ثم يبقى لكل أحد ما بيده لبراءته من دعوى خصمه بيمينه - وبالله تعالى التوفيق . ومنع أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، من بيع القصيل حتى يصير حبا يابسا ، ولم يأت بهذا نص أصلا - ثم تناقضوا ، فأجازوا بيعه على القطع - . وكل هذا بلا برهان أصلا لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا قول صاحب ، ولا قياس ، ولا رأي له وجه ، ولا دليل لهم على ما منعوا من ذلك ، ولا على ما أباحوا منه . وقال سفيان الثوري ، وابن أبي ليلى : لا يجوز بيع القصيل لا على القطع ولا على الترك - وقول هؤلاء أطرد وأصح في السنبل قبل أن يشتد . واختلفوا إن ترك الزرع فزاد ؟ فقال مالك : ينفسخ البيع جملة . وقال أبو حنيفة : للمشتري المقدار الذي اشترى ويتصدق بالزيادة - ويروى عنه أنه رجع فقال : للمشتري المقدار الذي اشترى ، وأما الزيادة فللبائع . وقال الشافعي : البائع مخير بين أن يدع له الزيادة فيجوز البيع والهبة معا أو يفسخ البيع - وقال أبو سليمان : الزيادة للمشتري مع ما اشترى . قال أبو محمد : أما فسخ مالك للبيع فقول لا دليل على صحته أصلا ، ولأي معنى يفسخ بيعا وقع على صحة بإقراره ؟ هذا ما لا يجوز إلا بقرآن ، أو سنة . وأما أول قولي أبي حنيفة فخطأ ؛ لأن الزيادة إذ جعلها للمشتري فلأي شيء يأمره بالصدقة بها دون أن يأمره بأن يتصدق بالقدر الذي اشترى وكلاهما له - وأما القول الذي رجع إليه من أن الزيادة للبائع : فصحيح ، إذا قامت البينة بها وبمقدار ما اشترى . وأما قول الشافعي فظاهر الخطأ ؛ لأنه إذ جعل الزيادة للبائع ؛ فلأي معنى أجبره على هبتها للمشتري أو فسخ البيع ؟ ولأي دليل منعه من طلب حقه والخصام فيه والبقاء عليه ؟ فهذه آراء القوم كما ترى في التحليل والتحريم . وأما قول أبي سليمان : إن الزيادة للمشتري فخطأ ؛ لأن المشتري إنما اشترى قدرا معلوما فله ما حدث في العين الذي اشترى ، وللبائع ما زاد فيما استبقى لنفسه ولم يبعه من المشتري ، فالزيادة في طول الساق للبائع لما ذكرنا لأنه ليس للمشتري إلا زرع ما اشترى فقط ، وإنما تأتي الزيادة من الأصل . وأما السنبل ، والحب ، والنور ، والورق ، والتبن ، والخروب فللمشتري لأنه في عين ماله حدث - وقد جاء في هذا عن بعض التابعين - : ما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير قال : لا بأس ببيع الشعير للعلف قبل أن يبدو صلاحه إذا كان يحصده من مكانه ، فإن غفل عنه حتى يصير طعاما فلا بأس به .

1436 - مسألة : ويجوز بيع ما ظهر من المقاثي - وإن كان صغيرا جدا - لأنه يؤكل - ولا يحل بيع ما لم يظهر بعد من المقاثي ، والياسمين ، والنور ، وغير ذلك ، ولا جزة ثانية من القصيل ؛ لأن كل ذلك بيع ما لم يخلق - ولعله لا يخلق - وإن خلق فلا يدري أحد غير الله تعالى ما كميته ، ولا ما صفاته : فهو حرام بكل وجه ، وبيع غرر ، وأكل مال بالباطل . وأجاز مالك كل ذلك وما نعلم له في تخصيص هذه الأشياء سلفا ، ولا أحد قاله غيره قبله ، ولا حجة . واحتج بعضهم باستئجار الظئر - وهذا تحريف لكلام الله تعالى عن موضعه وأين الاستئجار من البيع ، ثم أين اللبن المرتضع من القثاء ، والياسمين ؟ وهم يحرمون بيع لبن شاة قبل حلبه ، ولا يقيسونه على الظئر ثم يقيسون عليه بيع القثاء ، والنور ، والياسمين قبل أن يخلق - : روينا من طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أنا يونس بن عبيد عن الحسن أنه كره بيع الرطاب جزتين جزتين . وروينا من طريق ابن أبي شيبة أنا شريك عن المغيرة عن إبراهيم النخعي والشعبي ، قالا جميعا : لا بأس ببيع الرطاب جزة جزة . ومن طريق وكيع عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن بيع الرطبة جزتين ؟ فقال : لا تصلح إلا جزة . ومن طريق وكيع عن محمد بن مسلم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كره بيع القضب ، والحناء ، إلا جزة - وكره بيع الخيار والخربز إلا جنية . ومن طريق وكيع عن إسرائيل عن جابر عن ابن أشوع ، والقاسم : أنهما كرها بيع الرطاب إلا جزة - وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي سليمان ، وغيرهم .

1437 - مسألة : فلو باعه المقثأة بأصولها ، والموز بأصوله ، وتطوع له إبقاء كل ذلك في أرضه بغير شرط جاز ذلك - فإذا ملك ما ابتاع كان له كل ما تولد فيه ؛ لأنه تولد في ماله ، وله أخذه بقلع كل ذلك متى شاء لأنه أملك بماله . ولا يحل له اشتراط إبقاء ذلك في أرضه مدة مسماة أو غير مسماة ؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل - فإن احتجوا ب " المسلمون عند شروطهم " ، قلنا : هذا لا يصح ، وأنتم تصححونه ، فأين أنتم عنه في منعكم جواز بيع القصيل على شرط الترك ، وإباحتكم بيعه بشرط القطع ، وكلاهما شرط مجرد لم يأت به نص قرآن ، ولا سنة أصلا ، ففرقتم بلا دليل - وبالله تعالى التوفيق .

1438 - مسألة : وبيع الأمة ، وبيان أنها حامل من غير سيدها ، لكن من زوج ، أو زنى ، أو إكراه - : بيع صحيح ، سواء كانت رائعة أو وخشا كان البيع في أول الحمل أو في وسطه أو في آخره . وقال مالك : يجوز في الوخش ولا يجوز في الرائعة - وهذا قول لا دليل عليه صلا ، وما نعلم أحدا سبقه إليه أصلا ، وقال تعالى { وأحل الله البيع } وما خص حاملا من حائل ، ولا رائعة من وخش ، ولا امرأة من سائر إناث الحيوان { وما كان ربك نسيا } .

1439 - مسألة : وبيع السيف دون غمده جائز . وبيع الغمد دون النصل جائز . وبيع الحلية دونهما جائز - وبيع نصفها مشاع ، أو ثلثها ، أو عشرها ، أو شيء منها بعينه : كل ذلك جائز { وأحل الله البيع } . ومنع أبو حنيفة من بعض ذلك - وما نعلم أحدا قاله قبله ، وما نعلم له دليلا أصلا - وبالله تعالى التوفيق . وكذلك بيع قطع من ثوب أو من خشبة معينة محدودة : جائز { وأحل الله البيع } .

1440 - مسألة : وبيع حلقة الخاتم دون الفص جائز ، وقلع الفص حينئذ على البائع ، وبيع الفص دون الحلقة جائز ، وقلع الفص حينئذ على المشتري ؛ لأن رسول الله يقول : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } والفص في الحلقة فهي مكان للفص ، ففرض على الذي له الفص إخراج الفص من مال غيره وليس له أن يشغل مال غيره بغير إذنه ، وليس على صاحب الحلقة إلا إمكانه من ذلك فقط ، وأن لا يحول بينه وبين ماله . ولمتولي إخراج الفص توسيع الحلقة بما لا بد منه في استخراج متاعه ، ولا ضمان عليه ، لأنه فعل ما هو مأمور بفعله ، فإن تعدى ضمن . وهكذا القول في الجذع يباع دون الحائط ، أو الحائط يباع دونه والشجرة دون الأرض ، أو الأرض دون الشجرة ولا فرق وبالله تعالى التوفيق .

1441 - مسألة : ومن باع شيئا فقال المشتري : لا أدفع الثمن حتى أقبض ما ابتعت ؟ وقال البائع : لا أدفع حتى أقبض : أجبرا معا على دفع المبيع والثمن معا ؛ لأنه ليس أحدهما أحق بالإنصاف والانتصاف من الآخر وبيد كل واحد منهما حق للآخر ، وفرض على كل واحد منهما أن يعطي الآخر حقه ، فلا يجوز أن يخص أحدهما بالتقدم ، وفعل ذلك جور ، وحيف ، وظلم - وهذا قول أصحابنا ، وعبيد الله بن الحسن .

1442 - مسألة : فإن أبى المشتري من أن يدفع الثمن من قبضه لما اشترى وقال : لا أدفع الثمن إلا بعد أن أقبض ما اشتريت ؟ فللبائع أن يحبس ما باع حتى ينتصف وينصف معا ، فإن تلف عنده من غير تعد منه فهو من مصيبة المشتري وعليه دفع الثمن ، ولا ضمان على البائع فيما هلك عنده من غير تعديه ؛ لأنه احتبس بحق ؟ قال الله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } إلا أن يكون في بعض ما حبس وفاء بالثمن ، فإنه يضمن ما زاد على هذا المقدار ، لأنه متعد باحتباسه أكثر مما تعدى عليه فيه الآخر - هذا إن كان مما يمكن أن ينقسم ، فإن كان مما لا يمكن قسمته إلا بفساده ، أو حط ثمنه فلا ضمان عليه أصلا . فلو قال البائع : لا أدفع إلا بعد قبض الثمن ، ودعاه المشتري إلى أن يقبض ويدفع معا فأبى ، فهو ههنا ضامن ؛ لأنه متعد باحتباسه ما حبس ، وقد دعي إلى الإنصاف فأبى - وبالله تعالى التوفيق .

1443 - مسألة : ومن قال حين يبيع أو يبتاع : لا خلابة ؟ فله الخيار ثلاث ليال بما في خلالهن من الأيام ، إن شاء رد بعيب أو بغير عيب ، أو بخديعة أو بغير خديعة ، وبغبن أو بغير غبن ، وإن شاء أمسك - : فإذا انقضت الليالي الثلاث بطل خياره ولزمه البيع ، ولا رد له ، إلا من عيب إن وجد والليالي الثلاث مستأنفة من حين العقد ، فإن بايع قبل غروب الشمس - بقليل أو كثير ولو من حين طلوعها - : فإنه يستأنف الثلاث مبتدئة وله الخيار أيضا في يومه ذلك . وإن بايع بعد غروب الشمس فله الخيار من حينئذ إلى مثل ذلك الوقت من الليلة الرابعة - : حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة نا محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال { : إن منقذا سفع في رأسه في الجاهلية مأمومة فخبلت لسانه ، فكان إذا بايع خدع في البيع فقال له رسول الله  : بايع وقل : لا خلابة ثم أنت بالخيار } . نا أحمد بن قاسم أنا أبو قاسم بن محمد بن قاسم أنا جدي قاسم بن أصبغ أنا محمد بن وضاح نا حامد بن يحيى البلخي نا سفيان بن عيينة نا محمد بن إسحاق عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال { : إن منقذا سفع في رأسه مأمومة في الجاهلية فخبلت لسانه فكان يخدع في البيع فقال له رسول الله  : بع ، وقل : لا خلابة ، ثم أنت بالخيار ثلاثا من بيعك } . قال ابن عمر : فسمعته يقول إذا بايع : لا خلابة لا خلابة .

1444 - . مسألة : فإن لم يقدر على أن يقول " لا خلابة " قالها كما يقدر لآفة بلسانه أو لعجمة ، فإن عجز جملة قال بلغته ما يوافق معنى " لا خلابة " وله الخيار المذكور ، أحب البائع أم كره . برهان ذلك - : { أن رسول الله أمر منقذا أن يقولها ، وقد علم أنه لا يقول إلا : لا خذابة } وقال تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .

1445 - مسألة : فإن رضي في الثلاث وأسقط خياره لزمه البيع ، وذلك أن رسول الله جعل له الخيار ثلاثا ، فلو كان لا يلزمه الرضا إن رضي في الثلاث لكان إنما جعل له عليه السلام الخيار في الرد فقط لا في الرضا - وهذا باطل ؛ لأن رسول الله أجمل له الخيار فكان عموما لكل ما يختار من رضا أو رد . ولو كان الخيار لا ينقطع بإسقاطه إياه وإقراره بالرضا لوجب أيضا ضرورة أن لا ينقطع خياره وإن رد البيع حتى ينقضي الثلاث وهذا محال - : فظاهر اللفظ ومعناه : أن له الخيار مدة الثلاث إن شاء رد فيبطل البيع ولا رضا له بعد الرد ، وإن شاء رضي فيصح البيع ولا رد له بعد الرضا - : لا يحتمل أمره عليه السلام غير هذا أصلا فإن لم يلفظ بالرضا ولا بالرد : لم يجز أن يجبر على شيء من ذلك ، وبقي على خياره إلى انقضاء الثلاث - إن شاء رد وإن شاء أمسك - فإن انقضت الثلاث ولم يرد فقد لزمه البيع ؛ لأنه بيع صحيح جعل له الخيار في رده ثلاثا ، لا أكثر - فإن لم يبطله فلا إبطال له بعد الثلاث ، إلا من عيب كسائر البيوع ، وبقي البيع بصحته لم يبطل - وبالله تعالى التوفيق .

1446 - . مسألة : فإن قال لفظا غير " لا خلابة " لكن أن يقول : لا خديعة ، أو لا غش ، أو لا كيد ، أو لا غبن ، أو لا مكر ، أو لا عيب ، أو لا ضرر ، أو على السلامة ، أو لا داء ، ولا غائلة ، أو لا خبث ، أو نحو هذا - : لم يكن له الخيار المجعول لمن قال : لا خلابة ، لكن إن وجد شيئا مما بايع على أن لا يعقد بيعه عليه : بطل البيع ، وإن لم يجده لزمه البيع . برهان ذلك - : أن رسول الله إذا أمر في الديانة بأمر ، ونص فيه بلفظ ما : لم يجز تعدي ذلك اللفظ إلى غيره - وسواء كان في معناه أو لم يكن - ما دام قادرا على ذلك اللفظ ، إلا بنص آخر يبين أن له ذلك ؛ لأنه عليه السلام قد حد في ذلك حدا فلا يحل تعديه ؟ قال الله تعالى : { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها } . وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } وقال تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } ولو جاز غير هذا لجاز الأذان بأن يقول : العزيز أجل ، أنت لنا رب إلا الرحمن ، أنت ابن عبد الله بن عبد المطلب مبعوث من الرحمن ، هلموا [ إلى ] نحو الظهر ، هلموا نحو البقاء ، العزيز أعظم ، ليس لنا رب إلا الرحيم . قال أبو محمد : من أذن هكذا فحقه أن يستتاب ؟ فإن تاب وإلا قتل ؛ لأنه مستهزئ بآيات الله عز وجل متعد لحدود الله . ولا فرق بين ما ذكرناه وبين ما أمر به عليه السلام في ألفاظ الصلاة ، والأذان ، والإقامة ، والتلبية ، والنكاح ، والطلاق ، وسائر الشريعة ، وعلى المفرق الدليل ؟ وإلا فهو مبطل . وأما من أجاز مخالفة الألفاظ المحدودة من رسول الله في الأذان والإقامة ، وأجاز تنكيسها ، وقراءة القرآن في الصلاة بالأعجمية - وهو فصيح بالقرآن - : فما عليه أن يقول بتنكيس الصلاة ؟ فيبدؤها بالتسليم ، ثم بالقعود ، والتشهد ، ثم بالسجود ، ثم بالركوع ، ثم بالقيام ، ثم بالتكبير ويقرأ في الجلوس ، ويتشهد في القيام ، وأن يصوم الليل في رمضان ، ويفطر النهار ، ويحيل الحج ، ويبدل ألفاظ القرآن بغيرها مما هو في معناها ، ويقدم ألفاظه ويؤخرها ما لم يفسد المعنى ، ويكتب المصحف كذلك ، ويقرأ في الصلاة كذلك ، ويقرئ الناس كذلك ، ويبدل الشرائع - ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ذلك ، ومن أن نتعدى شيئا مما حده لنا رسول الله إلينا ، لا علم لنا إلا ما علمنا - ونحمد الله كثيرا على ذلك . وقد وافقنا كثير من مخالفينا أن لفظ " البيع " لا ينوب عن لفظ " السلم " وهذا " منقذ " المأمور باللفظ المذكور لم ير أن يتعداه إلى غيره ، وإن كان في معناه - بل قاله كما أمر ، وكما قدر ، وكما كلف . ونسأل المخالف لنا في هذا عن الفرق بين الألفاظ المأمور بها في الأحكام وبين الأوقات المأمور بها في الأحكام ، وبين المواضع المأمور بها في الأحكام ، وبين الأحوال والأعمال المأمور بها في الأحكام ، ولا سبيل له إلى فرق أصلا ، فإن سوى بين الجميع في الإيجاب وفق - وهو قولنا - وإن سوى بين الجميع في جواز التبديل - : كفر ، بلا خلاف ، وبدل الدين كله ، وخرج عنه . وقد { علم النبي البراء بن عازب دعاء يقوله ، وفيه آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت فذهب البراء يستذكره فقال : وبرسولك الذي أرسلت ؟ فقال له ونبيك الذي أرسلت } فلم يدعه أن يبدل لفظة مكان التي أمره بها ، والمعنى واحد . ومن أعجب وأضل ممن يجيز تبديل لفظ أمر به رسول الله ثم يقول : إن قال الشاهد : أخبرك أو أعلمك بأني أعلم أن لهذا عند هذا دينارا : أنها ليست شهادة ، ولا يحكم بها حتى يقول : أشهد ، فاعجبوا لعكس هؤلاء القوم للحقائق ؟ وأما الألفاظ الأخر فهي ألفاظ معروفة المعاني بايع عليها فله ما بايع عليه إن وجده كذلك ؛ لأنه مما تراضيا عليه ، كما قال الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فإن وجد غير ما تراضيا به في بيعه ، فلم يجد ما باع ولا ما ابتاع ، وليس له غير ذلك ، فلا يحل له من مال غيره ما لم يبايعه فيه عن تراض منهما ، وهذا بين - وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب البيوع
كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414) | كتاب البيوع (مسأله 1415 - 1416) | كتاب البيوع (مسأله 1417) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1417) | كتاب البيوع (مسأله 1418 - 1420) | كتاب البيوع (مسأله 1421) | كتاب البيوع (مسأله 1422) | كتاب البيوع (مسأله 1423 - 1426) | كتاب البيوع (مسأله 1427 - 1428) | كتاب البيوع (مسأله 1429 - 1446) | كتاب البيوع (مسأله 1447) | كتاب البيوع (مسأله 1448 - 1460) | كتاب البيوع (مسأله 1461 - 1464) | كتاب البيوع (مسأله 1465 - 1466) | كتاب البيوع (مسأله 1467 - 1470) | كتاب البيوع (مسأله 1471 - 1474) | كتاب البيوع (مسأله 1475 - 1479) | كتاب البيوع (مسأله 1480) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1480) | كتاب البيوع (مسأله 1481 - 1484) | كتاب البيوع (مسأله 1485 - 1491) | كتاب البيوع (مسأله 1492 - 1500) | كتاب البيوع (مسأله 1501 - 1507) | كتاب البيوع (مسأله 1508 - 1511) | كتاب البيوع (مسأله 1512 - 1516) | كتاب البيوع (مسأله 1517 - 1538) | كتاب البيوع (مسأله 1539 - 1551) | كتاب البيوع (مسأله 1552 - 1556) | كتاب البيوع (مسأله 1557 - 1559) | كتاب البيوع (مسأله 1560 - 1565) | كتاب البيوع (مسأله 1566 - 1567) | كتاب البيوع (مسأله 1568 - 1582) | كتاب البيوع (مسأله 1583 - 1594)