مجموع الفتاوى/المجلد السابع عشر/فصل في دلالة النصوص النبوية والآثار على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض
فصل في دلالة النصوص النبوية والآثار على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض
[عدل]وفي الجملة، فدلالة النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحجج العقلية على أن كلام الله بعضه أفضل من بعض، هو من الدلالات الظاهرة المشهورة.
وأيضا، فإن القرآن، وإن كان كله كلام الله، وكذلك التوراة والإنجيل والأحاديث الإلهية التي يحكيها الرسول عن الله تبارك وتعالى كقوله: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» الحديث، وكقوله: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي»، وأمثال ذلك، هي وإن اشتركت في كونها كلام الله، فمعلوم أن الكلام له نسبتان: نسبة إلى المتكلم به، ونسبة إلى المتكلم فيه. فهو يتفاضل باعتبار النسبتين، وباعتبار نفسه أيضا، مثل الكلام الخبري له نسبتان: نسبة إلى المتكلم المخبر، ونسبة إلى المخبر عنه المتكلَّم فيه. ف { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } ، كلاهما كلام الله، وهما مشتركان من هذه الجهة، لكنهما متفاضلان من جهة المتكلم فيه المخبر عنه. فهذه كلام الله وخبره الذي يخبر به عن نفسه، وصفته التي يصف بها نفسه، وكلامه الذي يتكلم به عن نفسه، وهذه كلام الله الذي يتكلم به عن بعض خلقه، ويخبر به عنه، ويصف به حاله، وهما في هذه الجهة متفاضلان بحسب تفاضل المعنى المقصود بالكلامين.
ألا ترى أن المخلوق يتكلم بكلام هو كله كلامه، لكن كلامه الذي يذكر به ربه أعظم من كلامه الذي يذكر به بعض المخلوقات، والجميع كلامه؟! فاشتراك الكلامين بالنسبة إلى المتكلم لا يمنع تفاضلهما بالنسبة إلى المتكلم فيه، سواء كانت النسبتان أو إحداهما توجب التفضيل أو لا توجبه. فكلام الأنبياء ثم العلماء والخطباء والشعراء بعضه أفضل من بعض وإن كان المتكلم واحدًا، وكذلك كلام الملائكة والجن، وسواء أريد بالكلام المعاني فقط أو الألفاظ فقط أو كلاهما أو كل منهما، فلا ريب في تفاضل الألفاظ والمعاني من المتكلم الواحد، فدل ذلك على أن مجرد اتفاق الكلامين في أن المتكلم بهما واحد لا يوجب تماثلهما من سائر الجهات.
فتفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه سواء كان خبرًا أو إنشاء أمر معلوم بالفطرة والشرعة، فليس الخبر المتضمن للحمد لله والثناء عليه بأسمائه الحسنى كالخبر المتضمن لذكر أبي لهب وفرعون وإبليس، وإن كان هذا كلامًا عظيمًا معظما تكلم الله به، وكذلك ليس الأمر بالتوحيد والإيمان بالله ورسوله، وغير ذلك من أصول الدين الذي أمرت به الشرائع كلها، وغير ذلك مما يتضمن الأمر بالمأمورات العظيمة، والنهي عن الشرك، وقتل النفس، والزنا ونحو ذلك مما حرمته الشرائع كلها، وما يحصل معه فساد عظيم كالأمر بلعق الأصابع، وإماطة الأذى عن اللقمة الساقطة، والنهي عن القران في التمر، ولو كان الأمران واجبين، فليس الأمر بالإيمان بالله ورسوله كالأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد، والأمر بالإنفاق على الحامل وإيتائها أجرها إذا أرضعت.
ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى تفاضل أنواع الإيجاب والتحريم وقالوا: إن إيجاب أحد الفعلين قد يكون أبلغ من إيجاب الآخر، وتحريمه أشد من تحريم الآخر، فهذا أعظم إيجابًا، وهذا أعظم تحريمًا. ولكن طائفة من أهل الكلام نازعوا في ذلك كابن عقيل وغيره فقالوا: التفاضل ليس في نفس الإيجاب والتحريم، لكن في متعلق ذلك وهو كثرة الثواب والعقاب. والجمهور يقولون: بل التفاضل في الأمرين والتفاضل في المسببات دليل على التفاضل في الأسباب. وكون أحد الفعلين ثوابه أعظم وعقابه أعظم دليل على أن الأمر به والنهي عنه أوكد، وكون أحد الأمرين والنهيين مخصوصًا بالتوكيد دون الثاني مما لا يستريب فيه عاقل، ولو تساويا من كل وجه لامتنع الاختصاص بتوكيد أو غيره من أسباب الترجيح، فإن التسوية والتفضيل متضادان.
وجمهور أئمة الفقهاء على التفاضل في الإيجاب والتحريم، وإطلاق ذلك هو قول جماهير المتأخرين من أصحاب الأئمة الأربعة، وهو قول القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب والقاضي يعقوب البرزبيني وعبد الرحمن الحلواني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم. لكن من هؤلاء من يفسر التفاضل بتفاضل الثواب والعقاب ونحو ذلك مما لا ينازع فيه النفاة. والتحقيق: أن نفس المحبة والرضا والبغض والإرادة والكرامة والطلب والاقتضاء ونحو ذلك من المعاني تتفاضل، وتتفاضل الألفاظ الدالة عليها. ونفس حب العباد لربهم يتفاضل، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } 1، ونفس حب الله لهم يتفاضل أيضا، فإن الخليلين إبراهيم و محمدا أحب إليه ممن سواهما. وبعض الأعمال أحب إلى الله من بعض، والقول بأن هذا الفعل أحب إلى من هذا مشهور ومستفيض في الآثار النبوية وكلام خير البرية، كقول بعض الصحابة: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لفعلناه، فأنزل الله سورة الصف، وهو مشهور ثابت رواه الترمذي وغيره.
وكون هذا أحب إلى الله من هذا هو داخل في تفضيل بعض الأعمال وبعض الأشخاص على بعض، وبعض الأمكنة والأزمنة على بعض، وقد قال النبي ﷺ لمكة: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك لما خرجت» قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح، رواه من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء. وكذلك تفضيل حبه وبغضه على حب غيره وبغضه، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين». وقال: «لا أحد أغير من الله» وهذا في الصحيحين. وقال تعالى: { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } الآية 2، ومن المعلوم بالاضطرار تفاضل المأمورات، فبعضها أفضل من بعض، وبعض المنهيات شر من بعض، وحينئذ فطلب الأفضل يكون في نفسه أكمل من طلب المفضول، والطالب إذا كان حكيما يكون طلبه لهذا أوكد.
ففي الجملة، من المستقر في فطر العقلاء أن كلا من الخبر والأمر يلحقهما التفاضل من جهة المخبر عنه والمأمور به، فإذا كان المخبر به أكمل وأفضل كان الخبر به أفضل، وإذا كان المأمور به أفضل؛ كان الأمر به أفضل ولهذا كان الخبر بما فيه نجاة النفوس من العذاب، وحصول السعادة الأبدية أفضل من الخبر بما فيه نيل منزلة أو حصول دراهم، والرؤيا التي تتضمن أفضل الخبرين أعظم من الرؤيا التي تتضمن أدناهما، وهذا أمر مستقر في فطر العقلاء قاطبة. وإذا قدر أميران أمر أحدهما بعدل عام عَمَّر به البلاد ودفع به الفساد، كان هذا الأمر أعظم من أمر أمير يعدل بين خصمين في ميراث بعض الأموات.
وأيضا، فالخبر يتضمن العلم بالمخبر به، والأمر يتضمن طلبًا وإرادة للمأمور به وإن لم يكن ذلك إرادة فعل الأمر، والله تعالى أمر العباد بما أمرهم به، ولكن أعان أهل الطاعة، فصار مريدًا لأن يخلق أفعالهم، ولم يُعِنْ أهل المعصية، فلم يرد أن يخلق أفعالهم. فهذه الإرادة الخلقية القدرية لا تستلزم الأمر، وأما الإرادة بمعنى أنه يحب فعل ما أمر به ويرضاه إذا فعل، ويريد من المأمور أن يفعله من حيث هو مأمور- فهذه لابد منها في الأمر؛ ولهذا أثبت الله هذه الإرادة في الأمر دون الأولى، ولكن في الناس من غلط فنفي الإرادة مطلقًا، وكلا الفريقين لم يميز بين الإرادة الخلقية والإرادة الأمرية. والقرآن فَرَّق بين الإرادتين، فقال في الأولى: { فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } 3، وقال نوح: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } 4، وقال: { وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } 5، وقال: { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } 6 ؛ ولهذا قال المسلمون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وقال في الثانية: { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } 7، وقال: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } 8، وقال: { مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عليكم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكمْ } 9، وقال: { يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عليكمْ وَاللهُ عليمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عليكمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا } 10. وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أنه لابد في الأمر من طلب واستدعاء واقتضاء، سواء قيل: إن هناك إرادة شرعية، وأنه لا إرادة للرب متعلقة بأفعال العباد سواها كما تقوله المعتزلة ونحوهم من القدرية، أو قيل: لا إرادة للرب إلا الإرادة الخلقية القدرية التي يقال فيها: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن إرادته عين نفس محبته ورضاه، وأن إرادته ومحبته ورضاه متعلقة بكل ما يوجد من إيمان وكفر، ولا تتعلق بما لا يوجد سواء كان إيمانًا أو كفرًا، وأنه ليس للعبد قدرة لها أثر في وجود مقدوره، وليس في المخلوقات قوي وأسباب يخلق بها، ولا لله حكمة يخلق ويأمر لأجلها، كما يقول هذا وما يشبهه جهم بن صفوان رأس الجبرية هو ومن وافقه على ذلك، أو بعضه من طوائف أهل الكلام وبعض متأخرى الفقهاء وغيرهم المثبتين للقدر على هذه الطريقة لا على طريقة السلف والأئمة كأبي الحسن وغيره، فإن هؤلاء ناقضوا القدرية المعتزلة مناقضة ألجأتهم إلى إنكار حقيقة الأمر والنهي والوعد والوعيد، وإن كان من يقول ببعض ذلك يتناقض، وقد يثبت أحدهم من ذلك ما لا حقيقة له في المعنى.
وأما السلف وأئمة الفقهاء وجمهور المسلمين، فيثبتون الخلق والأمر والإرادة الخلقية القدرية الشاملة لكل حادث، والإرادة الأمرية الشرعية المتناولة لكل ما يحبه الله ويرضاه لعباده، وهو ما أمرت به الرسل، وهو ما ينفع العباد ويصلحهم ويكون له العاقبة الحميدة النافعة في المعاد الدافعة للفساد. فهذه الإرادة الأمرية الشرعية متعلقة بإلهيته المتضمنة لربوبيته، كما أن تلك الإرادة الخلقية القدرية متعلقة بربوبيته؛ ولهذا كان من نظر إلى هذه فقط وراعي هذه الخلقية الكونية القدرية دون تلك يكون له بداية بلا نهاية، فيكون من الأخسرين أعمالا، يحصل لهم بعض مطالبهم في الدنيا لاستعانتهم بالله إذ شهدوا ربوبيته، ولا خلاق لهم في الآخرة إذ لم يعبدوا الله مخلصين له الدين. وقد وقع في هذا طوائف من أهل التصوف والكلام.
ومن نظر إلى الحقيقة الشرعية الأمرية دون تلك، فإنه قد يكون له عاقبة حميدة، وقد يراعي الأمر، لكنه يكون عاجزًا مخذولًا حيث لم يشهد ربوبية الله وفقره إليه، ليكون متوكلًا عليه بريًا من الحول والقوة إلا به، فهذا قد يقصد أن يعبده ولا يقصد حقيقة الاستعانة به، وهي حال القدرية من المعتزلة ونحوهم الذين يقرون أن الله ليس خالقًا أفعال العباد ولا مريدًا للكائنات؛ ولهذا قال أبو سليمان الداراني: إنما يعجب بفعله القدري؛ لأنه لا يري أنه هو الخالق لفعله. فأما أهل السنة الذين يقرون أن الله خالق أفعالهم، وأن لله المنة عليهم في ذلك، فكيف يعجبون بها؟! أو كما قال.
والأول قد يقصد أن يستعينه ويسأله ويتوكل عليه ويبرأ من الحول والقوة إلا به، ولكن لا يقصد أن يعبده بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه على ألسن رسله، ولا يشهد أن الله يحب أن يعبد ويطاع، وأنه يفرح بتوبة التائبين ويحب المتقين ويغضب على الكفار والمنافقين، بل ينسلخ من الدين أو بعضه، لا سيما في نهاية أمره. وهذه الحال إن طردها صاحبها كان شرًا من حال المعتزلة القدرية، بل إن طردها طردًا حقيقيًا أخرجته من الدين خروج الشعرة من العجين، وهي حال المشركين. وأما من هداه الله، فإنه يحقق قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } 11، ويعلم أن كل عمل لا يراد به وجه الله ولا يوافق أمره، فهو مردود على صاحبه، وكل قاصد لم يعنه الله، فهو مصدود من مآربه، فإنه يشهد أن لا إله إلا الله، فيعبد الله مخلصًا له الدين، مستعينًا بالله على ذلك مؤمنًا، بخلقه وأمره، بقدره وشرعه، فيستعين الله على طاعته، ويشكره عليها، ويعلم أنها منة من الله عليه، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويعلم أن ما أصابه من سيئة فمن نفسه، مع علمه بأن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن لله الحجة البالغة على خلقه، وأن له في خلقه وأمره حكمة بالغة ورحمة سابغة. وهذه الأمور أصول عظيمة لبسطها موضع آخر.
والمقصود هنا أن الخبر الصادق يتضمن جنس العلم والاعتقاد، والأمر يتضمن جنس الطلب باتفاق العقلاء، ثم هل مدلول الخبر جنس من المعاني غير جنس العلم، ومدلول الأمر جنس من المعاني غير جنس الإرادة، كما يقول ذلك طائفة من النظار مثل ابن كلاب، ومن وافقه؟ أو المدلول من جنس العلم والإرادة، كما يقوله جمهور نظار أهل السنة الذين يثبتون الصفات والقدر؟ فيقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، ويقولون: إن الله خالق أفعال العباد. والمعتزلة وغيرهم ممن يخالف أهل السنة في هذين الأصلين، فإن هؤلاء يخالفون ابن كلاب ومن وافقه في ذينك الأصلين؛ ولهذا يقال: إنه لم يوافقه أحد من الطوائف على ما أحدثه من القول في الكلام والصفات، وإن كان قوله خيرًا من قول المعتزلة والجهمية المحضة. وأما جمهور المسلمين من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف النظار، فلا يقولون بقول المعتزلة ولا الكلابية، كما ذكر ذلك فقهاء الطوائف من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم في أصول الفقه، فضلا عن غيرها من الكتب.
والمقصود هنا أن الناس متفقون على أن كلا من أنواع الخبر والأمر لها معان، سواء سمى طلبًا أو إرادة أو علمًا أو حكمًا أو كلاما نفسانيًا. وهذه المعاني تتفاضل في نفسها، فليس علمنا بالله وأسمائه كعلمنا بحال أبي لهب، وليس الطلب القائم بنا إذا أمرنا بالإيمان بالله ورسوله، كالطلب القائم بنا إذا أمرنا برفع اليدين في الصلاة، والأكل باليمين، وإخراج الدرهم من الزكاة.
فعلم بذلك أن معاني الكلام قد تتفاضل في نفسها كما قد تتماثل، وتبين بذلك أن ما تضمنه الأمر والنهي من المعاني التي تدل عليها صيغة الأمر سواء سميت طلبًا أو اقتضاء أو استدعاء أو إرادة أو محبة أو رضا أو غير ذلك فإنها متفاضلة بحسب تفاضل المأمور به، وما تضمنه الخبر من أنواع العلوم والاعتقادات والأحكام النفسانية، فهي متفاضلة في نفسها بحسب تفاضل المخبر عنه. فهذا نوع من تفاضل الكلام من جهة المتكلم فيه، وإن كان المتكلم به واحدًا، وهو أيضا متفاضل من جهة المتكلم به، وإن كان المتكلم فيه واحدًا كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } 12، ومعلوم أن تكليمه من وراء حجاب أفضل من تكليمه بالإيحاء وبإرسال رسول؛ ولهذا كان من فضائل موسى، عليه السلام، أن الله كلمه تكليما، وقال: { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ على النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } 13، وقال: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } 14.
والذي يجد الناس من أنفسهم: أن الشخص الواحد تتفاضل أحواله في أنواع الكلام، بل وفي الكلام الواحد يتفاضل ما يقوم بقلبه من المعاني وما يقوم بلسانه من الألفاظ، بحيث قد يكون إذا كان طالبًا هو أشد رغبة ومحبة وطلبا لأحد الأمرين منه للآخر، ويكون صوته به أقوى ولفظه به أفصح، وحاله في الطلب أقوى وأشد تأثيرًا؛ ولهذا يكون للكلمة الواحدة من الموعظة، بل للآية الواحدة إذا سمعت من اثنين من ظهور التفاضل ما لا يخفي على عاقل، والأمر في ذلك أظهر وأشهر من أن يحتاج إلى تمثيل، وكذلك في الخبر قد يقوم بقلبه من المعرفة والعلم وتصور المعلوم وشهود القلب إياه باللسان من حسن التعبير عنه لفظًا وصوتًا، ما لا يقاربه ما يقوم بالقلب واللسان إذا أخبر عن غيره.
فهذا نوع إشارة إلى قول من يقول بتفضيل بعض كلام الله على بعض، موافقًا لما دل عليه الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة.
والطائفة الثانية تقول: إن كلام الله لا يفضل بعضه على بعض، ثم لهؤلاء في تأويل النصوص الواردة في التفضيل قولان: أحدهما: أنه إنما يقع التفاضل في متعلقه، مثل كون بعضه أنفع للناس من بعض، لكون الثواب عليه أكثر، أو العمل به أخف مع التماثل في الأجر، وتأولوا قوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } 15 أي: نأت بخير منها لكم، لا أنها في نفسها خير من تلك. وهذا قول طائفة من المفسرين كمحمد بن جرير الطبري قال: نأت بحكم خير لكم من حكم الآية المنسوخة، إما في العاجل لخفته عليكم، وإما في الآخرة لعظم ثوابه من أجل مشقة حمله. قال: والمراد ما ننسخ من حكم آية كقوله: { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } 16 أي: حبه. قال: ودل على أن ذلك كذلك قوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } 17، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خيرًا من شيء؛ لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى أن يقال: بعضها أفضل من بعض، أو بعضها خير من بعض، وطرد ذلك في أسماء الله، فمنع أن يكون بعض أسمائه أعظم أو أفضل أو أكبر من بعض. وقال: معنى الاسم الأعظم: العظيم، وكلها سواء في العظمة، وإنما يتفاضل حال الناس حين الدعاء، فيكون الأعظم بحسب حال الدعاء؛ لا أنه في نفسه أعظم.
وهذا القول الذي قاله في أسماء الله نظير القول الثاني في تفضيل بعض كلام الله على بعض، فإن القول الثاني لمن منع تفضيله أن المراد يكون هذا أفضل أو خيرًا كونه فاضلًا في نفسه؛ لا أنه أفضل من غيره. وهذا القول يحكي عن أبي الحسن الأشعري ومن وافقه، قالوا: إن معنى ذلك أنه عظيم فاضل، وقالوا: مقتضي الأفضل تقصير المفضول عنه وكلام الله لا يتبعض، وهذا يقولونه في الكلام؛ لأنه واحد بالعين عندهم يمتنع فيه تماثل أو تفاضل، وأما في الصفات بعضها على بعض فلامتناع التغاير، ولا يقولون هذا في القرآن العربي، فإن القرآن العربي عندهم مخلوق، وليس هو كلام الله على قول الجمهور منهم: قالوا: لأن الكلام يمتنع قيامه بغير المتكلم كسائر الصفات، والقرآن العربي يمتنع عندهم قيامه بذات الله تعالى، ولو جوزوا أن يكون كلام الله قائمًا بغيره، لبطل أصلهم الذي اتفقوا عليه هم وسائر أهل السنة وردوا به على المعتزلة في قولهم: إن القرآن مخلوق، وهؤلاء يسلمون أن القرآن العربي بعضه أفضل من بعض؛ لأنه مخلوق عندهم، ولكن ليس هو كلام الله عند جماهيرهم.
وبعض متأخريهم يقول: إن لفظ كلام الله يقع بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس، وعلى الكلام العربي المخلوق الدال عليه، وأما كلام الله الذي ليس بمخلوق عندهم، فهو ذلك المعنى، وهو الذي يمتنع تفاضله عندهم. وأصل هؤلاء: أن كلام الله هو المعاني، بل هو المعنى الواحد فقط، وأن معاني كتاب الله هي شيء واحد لا يتعدد ولا يتبعض، فمعنى آية الكرسي، وآية الدين، والفاتحة، وقل هو الله أحد، وتبت، ومعنى التوراة والإنجيل، وكل حديث إلهي، وكل ما يكلم به الرب عباده يوم القيامة، وكل ما يكلم به الملائكة والأنبياء، إنما هي معنى واحد بالعين لا بالنوع، ولا يتعدد ولا يتبعض، وأن القرآن العربي ليس هو كلام الله، بل كلام غيره: جبريل أو محمد، أو مخلوق من مخلوقاته عبر به عن ذلك الواحد، وذلك الواحد هو الأمر بكل ما أمر به، والنهي عن كل ما نهي عنه، والإخبار بكل ما أخبر به، وأن الأمر والنهي والخبر ليست أنواعا للكلام وأقسامًا له، فإن الواحد بالعين لا يقبل التنويع والتقسيم، بخلاف الواحد بالنوع فإنه يقبل التنويع والتقسيم، وإنما هي صفات لذلك الواحد بالعين، وهي صفات إضافية له، فإذا تعلق بما يطلب من أفعال العباد؛ كان أمرًا، وإذا تعلق بما ينهي عنه كان نهيًا، وإذا تعلق بما يخبر عنه كان خبرًا.
وجمهور العقلاء يقولون: فساد هذا معلوم بالاضطرار، فإنا نعلم أن معاني: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، ليست هي معاني: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } ، ولا معاني آية الدَّين معاني آية الكرسي، ولا معاني الخبر عن صفات الله هي معاني الخبر عن مخلوقات الله، وأن تعلق ذلك المعنى بالحقائق المخبر عنها، والأفعال التي تعلق بها الأمر والنهي إن كان أمرًا وجوديًا، فلابد له من محل، فإن قام بذات الله، فقد تعددت معاني الكلام القائمة بذاته، وإن قام بذات غيره، كان صفة لذلك الغير لا لله، وإن قام لا بمحل كان ممتنعًا؛ فإن المعاني لا تقوم بأنفسها، وإن كان تعلق ذلك المعنى بالحقائق أمرًا عدميا؛ لم يكن هناك ما يميز بين الخبر والأمر والنهي، بل لا يميز بين خبر الله عن نفسه وعن قوم نوح وعاد؛ إذ كان المعنى الواحد لا تعدد فيه فضلا عن أن يمتاز بعضه عن بعض.
والحقائق المخبر عنها والمأمور بها والمنهي عنها لا تكون بأنفسها مخبرًا بها ومأمورًا بها ومنهيًا عنها، بل الخبر عنها والأمر بها والنهي عنها هو غير ذواتها، فإذا لم يكن هنا أمر موجود غير ذلك المعنى الذي لا امتياز فيه ولا تعدد، وغير المخلوقات التي لا تميز بين الأمر والنهي والخبر، لم يكن هنا ما يميز بين النهي والخبر، ولا ما يجعل معاني آية الوضوء غير معاني آية الدين، فإن الحروف المخلوقة الدالة على ذلك المعنى إن لم تدل إلا عليه، فلا تعدد فيه ولا تنويع، وإن دلت على التعلقات التي هي عدمية، فالعدم ليس بشيء حتى يكون أمرًا ونهيًا وخبرًا، وليس عند هؤلاء إلا ذلك المعنى وتعلقه بالحقائق المخبر عنها والمأمور بها، ونفس القرآن العربي المخلوق عندهم هو الدال على ذلك المعنى، فالمدلول إن كان هو ذلك المعنى، فلا يتميز فيه أمر عن خبر، ولا أمر بصلاة عن أمر بزكاة، ولا نهي عن الكفر عن إخبار بتوحيد. وإن كانت التعلقات عدمية، فالمعدوم ليس بشيء، ولا يكون العدم أمرًا ونهيًا وخبرًا، ولا يكون مدلول التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كتب الله أمورًا عدمية لا وجود لها، ولا تكون الأمور العدمية هي التي بها وجبت الصلاة وحرم الظلم، ولا يكون المعنى الواحد بتلك الأمور العدمية إلا صفات إضافية، وهي من معنى السلبية، فإنها إن لم تكن سلب أمر موجود، فهي تعلق ليس بموجود. فحقيقة الأمر على قول هؤلاء أنه ليس لله كلام لا معان ولا حروف إلا بمعنى واحد لا حقيقة له موجودة ولا معلومة.
ومن حجة هؤلاء: أنه إذا قيل: بعضه أفضل من بعض؛ كان المفضول ناقصًا عن الفاضل، وصفات الله كاملة لا نقص فيها، والقرآن من صفاته. قال هؤلاء: صفات الله كلها متوافرة في الكمال، متناهية إلى غاية التمام، لا يلحق شيئا منها نقص بحال، ثم لما اعتقد هؤلاء أن التفاضل في صفات الله ممتنع، ظنوا أن القول بتفضيل بعض كلامه على بعض لا يمكن إلا على قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم القائلين بأنه مخلوق، فإنه إذا قيل: إنه مخلوق أمكن القول بتفضيل بعض المخلوقات على بعض، فيجوز أن يكون بعضه أفضل من بعض. قالوا: وأما على قول أهل السنة والجماعة الذين أجمعوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق فيمتنع أن يقع التفاضل في صفات الله القائمة بذاته.
ولأجل هذا الاعتقاد؛ صار من يعتقده يذكر إجماع أهل السنة على امتناع التفضيل في القرآن كما قال أبو عبد الله بن الدراج في مصنف صنفه في هذه المسألة، قال: أجمع أهل السنة على أن ما ورد في الشرع مما ظاهره المفاضلة بين آي القرآن وسوره ليس المراد به تفضيل ذوات بعضها على بعض؛ إذ هو كله كلام الله وصفة من صفاته، بل هو كله لله فاضل كسائر صفاته الواجب لها نعت الكمال. وهذا النقل للإجماع هو بحسب ما ظنه لازمًا لأهل السنة، فلما علم أنهم يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وظن هو أن المفاضلة إنما تقع في المخلوقات لا في الصفات، قال ما قال. وإلا فلا ينقل عن أحد من السلف والأئمة أنه أنكر فضل كلام الله بعضه على بعض، لا في نفسه، ولا في لوازمه ومتعلقاته؛ فضلا عن أن يكون هذا إجماعًا.
وليس هو لازما لابن كلاب ومن وافقه -كالأشعري وأتباعه- فإن هؤلاء يجوّزون وقوع المفاضلة في القرآن العربي، وهو مخلوق عندهم. وهذا المخلوق يسمى كتاب الله، والمعنى القديم يسمى كلام الله، ولفظ القرآن يراد به عندهم ذلك المعنى القديم، والقرآن العربي المخلوق. وحينئذ فهم يتأولون ما ورد من تفضيل بعض القرآن على بعض على القرآن المخلوق عندهم.
وإنما القول المتواتر عن أئمة السلف أنهم قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا مقالة الجهمية الذين جعلوا القرآن مخلوقًا منفصلًا عن الله، بل كَفَّروا من قال ذلك. والكتب الموجودة فيها ألفاظهم بأسانيدها وغير أسانيدها كثيرة، مثل كتاب الرد على الجهمية للإمام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، و الرد على الجهمية لعبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري و الرد على الجهمية للحكم بن معبد الخزاعي، و كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، والسنة لحنبل ابن عم الإمام أحمد، والسنة لأبي داود السجستاني، و السنة للأثرم، والسنة لأبي بكر الخلال، و السنة والرد على أهل الأهواء لخشيش بن أصرم، و الرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي، و نقض عثمان بن سعيد علي الجهمي الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد، و كتاب التوحيد لابن خزيمة، و السنة للطبراني، ولأبي الشيخ الأصبهاني، و شرح أصول السنة لأبي القاسم اللالكائي، والإبانة لأبي عبد الله بن بطة، وكتب أبي عبد الله بن مُنده، والسنة لأبي ذر الهروي، و الأسماء والصفات للبيهقي، و الأصول لأبي عمر الطلمنكي، و الفاروق لأبي إسماعيل الأنصاري، و الحجة لأبي القاسم التيمي، إلى غير ذلك من المصنفات التي يطول تعدادها، التي يذكر مصنفوها العلماء الثقات مذاهب السلف بالأسانيد الثابتة عنهم بألفاظهم الكثيرة المتواترة التي تعرف منها أقوالهم، مع أنه من حين محنة الجهمية لأهل السنة -التي جرت في زمن أحمد بن حنبل لما صبر فيها الإمام أحمد، وقام بإظهار السنة والصبر على محنة الجهمية حتى نصر الله الإسلام والسنة وأطفأ نار تلك الفتنة ظهر في ديار الإسلام وانتشر بين الخاص والعام أن مذهب أهل السنة والحديث المتبعين للسلف من الصحابة والتابعين: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الذين أحدثوا في الإسلام القول بأن القرآن مخلوق، هم الجعد بن درهم والجهم بن صفوان ومن اتبعه من المعتزلة وغيرهم من أصناف الجهمية، لم يقل هذا القول أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، فهذا القول هو القول المعروف عن أهل السنة والجماعة، وهو القول بأن القرآن كلام الله وهو غير مخلوق.
أما كونه لا يفضل بعضه على بعض، فهذا القول لم ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمة السنة الذين كانوا أئمة المحنة كأحمد بن حنبل وأمثاله ولا عن أحد قبلهم، ولو قدر أنه نقل عن عدد من أئمة السنة؛ لم يجز أن يجعل ذلك إجماعًا منهم، فكيف إذا لم ينقل عن أحد منهم؟! وإنما هذا نقل لما يظنه الناقل لازما لمذهبهم. فلما كان مذهب أهل السنة: أن القرآن من صفات الله لا من مخلوقات الله، وظن هذا الناقل أن التفاضل يمتنع في صفات الخالق، نقل امتناع التفاضل عنهم بناء على هذا التلازم.
ولكن يقال له: أما المقدمة الأولى فمنقولة عنهم بلا ريب، وأما المقدمة الثانية وهي أن صفات الرب لا تتفاضل فهل يمكنك أن تنقل عن أحد من السلف قولًا بذلك، فضلًا عن أن تنقل إجماعهم على ذلك؟! ما علمت أحدًَا يمكنه أن يثبت عن أحد من السلف أنه قال ما يدل على هذا المعنى، لا بهذا اللفظ ولا بغيره، فضلًا عن أن يكون هذا إجماعًا، ولكن إن كان قال قائل ذلك ولم يبلغنا قوله، فالله أعلم. لكن الذي أقطع به -ويقطع به كل من له خبرة بكلام السلف أن القول بهذا لم يكن مشهورًا بين السلف، ولا قاله واحد واشتهر قوله عند الباقين فسكتوا عنه، ولا هو معروف في الكتب التي نقل فيها ألفاظهم بأعيانها، بل المنقول الثابت عنهم أو عن كثير منهم يدل على أنهم كانوا يرون تفاضل صفات الله تعالى، وهكذا من قال من أصحاب مالك أو الشافعي أو أحمد عن أهل السنة: إن القرآن لا يفضل بعضه على بعض، فإنما مستندهم: أن أهل السنة متفقون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن كلامه من صفاته القائمة بنفسه ليس من مخلوقاته وهذا أيضا صحيح عن أهل السنة.
ثم ظنوا أن التفاضل إنما يقع في المخلوق لا في الصفات، وهذا الظن لم ينقلوه عن أحد من أئمة الإسلام كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي ولا من قبل هؤلاء؛ ولهذا شنع هؤلاء على من ظن فضل بعضه على بعض، كما دلت عليه النصوص والآثار، لظنهم أن ذلك مستلزم لخلاف مذهب أهل السنة، كما قال أبو عبد الله بن المرابط في الكلام على حديث البخاري في رده لتأويل من تأول هذا الحديث على أن هذه الصورة إذا عدلت بثلث القرآن أنها تفضل الربع منه وخمسه، وما دون الثلث فهو التفاضل في كتاب الله تعالى وهو صفة من صفات الله جل جلاله، وقال: فهذا لولا عذر الجهالة لحكم على قائله بالكفر؛ إذ لا يصح التفاضل إلا في المخلوقات؛ إذ صفاته كلها فاضلة في غاية الفضيلة ونهاية العلو والكرامة، فمن تنقص شيئا منها عن سائرها فقد ألحد فيها، ألا تسمعه منع ذلك بقوله تعالى: { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } 18.
قال: وقد أجمع أهل السنة على أن القرآن صفة من صفات الله لا من صفة خلقه. قال: وإنما أوقعهم في تأويل ذلك قوله تعالى: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } 19، ولا يخلو معنى ذلك من أحد وجهين: إما أن تكون الناسخة خيرًا من المنسوخة في ذاتها، وإما أن تكون خيرًا منها لمن تعبد بها؛ إذ محال أن يتفاضل القرآن في ذاته على ما ذهب إليه أهل السنة والاستقامة، إذ كل من عند الله؛ لأن القرآن العزيز صفة الله، وأسماء الله وصفاته كلها متوافرة في الكمال، متناهية إلى غاية التمام، لا يلحق شيئا منها نقص بحال. فلما استحال أن تكون آية خيرًا من آية في ذاتها، علمنا أن المراد { بِخَيْرٍ مِّنْهَا } إنما هو للمتعبدين بها، لم ينقل عباده من تخفيف إلى تثقيل، ولكنه نقلهم بالنسخ من تحريم إلى تحليل، ومن إيجاب إلى تخيير، ومن تطهير إلى تطهير، والشاهد لنا قوله: { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا } 20.
فيقال: أما قول القائل: لولا عذر الجهالة لحكم على مثبت المفاضلة بالكفر فهم يقابلونه بمثل ذلك، وحجتهم أقوى؛ وذلك لأن الكفر حكم شرعي، وإنما يثبت بالأدلة الشرعية، ومن أنكر شيئا لم يدل عليه الشرع بل علم بمجرد العقل، لم يكن كافرًا، وإنما الكافر من أنكر ما جاء به الرسول، ومعلوم أنه ليس في الكتاب والسنة نص يمنع تفضيل بعض كلام الله على بعض، بل ولا يمنع تفاضل صفاته تعالى، بل ولا نقل هذا النفي عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أئمة المسلمين الذين لهم لسان صدق في الأمة، بحيث جعلوا أعلامًا للسنة وأئمة للأمة.
وأما تفضيل بعض كلام الله على بعض، بل تفضيل بعض صفاته على بعض، فدلالة الكتاب والسنة والأحكام الشرعية والآثار السلفية كثيرة على ذلك، فلو قدر أن الحق في نفس الأمر أنها لا تتفاضل، لم يكن نفي تفاضلها معلوما إلا بالعقل لا بدليل شرعي، وإذا قدر أنها تتفاضل، فالدال على ذلك هو الأدلة الشرعية مع العقلية، فإذا قدر أن الحق في نفس الأمر هو التفضيل، لكان كفر جاحد ذلك أولى من كفر من يثبت التفضيل إذا لم يكن حقًا في نفس الأمر؛ لأن ذلك جحد موجب الأدلة الشرعية بغير دليل شرعي، بل لما رآه بعقله وأخطأ فيه، إذ نحن نتكلم في هذا التقدير. ومعلوم أن من خالف ما جاءت به الرسل عن الله بمجرد عقله، فهو أولى بالكفر ممن لم يخالف ما جاءت به الرسل عن الله، وإنما خالف ما علم بالعقل إن كان ذلك حقًا.
ونظير هذا قول بعض نفاة الصفات لما تأمل حال أصحابه وحال مثبتيها قال: لا ريب أن حال هؤلاء عند الله خير من حالنا، فإن هؤلاء إن كانوا مصيبين، فقد نالوا الدرجات العلى والرضوان الأكبر، وإن كانوا مخطئين، فإنهم يقولون: نحن يا رب صدقنا ما دل عليه كتابك وسنة رسولك، إذ لم تبين لنا بالكتاب والسنة نفي الصفات، كما دل كلامك على إثباتها، فنحن أثبتنا ما دل عليه كلامك وكلام رسولك، فإن كان الحق في خلاف ذلك فلم يبين الرسول ما يخالف ذلك، ولم يكن خلاف ذلك مما يعلم ببداهة العقول، بل إن قُدر أنه حق، فلا يعلمه إلا الأفراد، فكيف وعامة المنتهين في خلاف ذلك إلى الغاية يقرون بالحيرة والارتياب؟! قال النافي: وإن كنا نحن مصيبين، فإنه يقال لنا: أنتم قلتم شيئا لم آمركم بقوله، وطلبتم علما لم آمركم بطلبه، فالثواب إنما يكون لأهل الطاعة، وأنتم لم تمتثلوا أمري. قال: وإن كنا مخطئين، فقد خسرنا خسرانًا مبينًا.
وهذا حال من أثبت المفاضلة في كلام الله وصفاته ومن نفاها، فإن المثبت معتصم بالكتاب والسنة والآثار، ومعه من المعقولات الصريحة التي تبين صحة قوله وفساد قول منازعه ما لا يتوجه إليها طعن صحيح. وأما النافي، فليس معه آية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله ﷺ ولا قول أحد من سلف الأمة، وإنما معه مجرد رأي يزعم أن عقله دل عليه، ومنازعه يبين أن العقل إنما دل على نقيضه، وأن خطأه معلوم بصريح المعقول، كما هو معلوم بصحيح المنقول. واحتجاج المحتج على نفي التفاضل بقوله: { جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } 21 في غاية الفساد، فإن الآية لا تدل على هذا بوجه من الوجوه، سواء أريد بها من آمن ببعضه وكفر ببعضه، أو أريد بها من عضهه فقال: هو سحر وشعر ونحو ذلك، بل من نفي فضل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } على { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } فهو أولى بأن يكون ممن جعله عضين؛ إن دلت الآية على هذه المسألة.
وذلك أن من آمن بما وصف الله به كلامه فأقر بأنه جميعه كلام الله، وأقر به كله، فلم يكفر بحرف منه، وعلم أن كلام الله أفضل من كل كلام، وأن خير الكلام كلام الله، وأنه لا أحسن من الله حديثا ولا أصدق منه قيلا، وأقر بما أخبر الله به ورسوله من فضل بعض كلامه، كفضل فاتحة الكتاب، و آية الكرسي، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، ونحو ذلك، بل وتفضيل يس، و تبارك، والآيتين من آخر سورة البقرة، بل وتفضيل البقرة، و آل عمران وغير ذلك من السور والآيات التي نطقت النصوص بفضلها، وأقر بأنه كلام الله ليس منه شيء كلامًا لغيره لا معانيه ولا حروفه، فهو أبعد عن جعله عضين ممن لم يؤمن بما فضل الله به بعضه على بعض، بل آمن بفضله من جهة المتكلم، ولم يؤمن بفضله من جهة المتكلم فيه؛ فإن هذا في الحقيقة آمن به من وجه دون وجه.
وكذلك من قال: إنه معنى واحد، وأن القرآن العربي لم يتكلم الله به، بل هو مخلوق خلقه الله في الهواء أو أحدثه جبريل أو محمد، فهذا أولى بأن يكون داخلًا فيمن عضه القرآن، ورماه بالإفك، وجعل القرآن العربي كلام مخلوق إما بشر وإما ملك وإما غيرهما فمن جعل القرآن كله كلام الله ليس بمخلوق ولا هو من إحداث مخلوق لا جبريل ولا محمد ولا شيء منه، بل جبريل رسول ملك، ومحمد رسول بشر، والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، فاصطفى لكلامه الرسول الملكي، فنزل به على الرسول البشري الذي اصطفاه، وقد أضافه إلى كل من الرسولين؛ لأنه بلغه وأداه، لا لأنه أنشأه وابتداه، قال تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } 22، فهذا نعت جبريل الذي قال فيه: { مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ } 23، وقال: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } 24، وقال: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 25، وقال في الآية الأخرى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ علينَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } 26، فهذه صفة محمد ﷺ.
وأضاف القول إلى كل منهما باسم الرسول فقال: { لَقَوْلُ رَسُولٍ } ؛ لأن الرسول يدل على المرسل، فدل على أنه قول رسول بلغه عن مرسل. لم يقل: إنه لقول ملك ولا بشر، بل كفر من جعله قول بشر بقوله: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } 27، فمن قال: إنه قول بشر أو قول مخلوق غير البشر فقد كفر، ومن جعله قول رسول من البشر فقد صدق؛ لأن الرسول ليس له فيه إلا التبليغ والأداء كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إليك مِن رَّبِّكَ } 28، وفي سنن أبي داود عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي ﷺ كان يعرض نفسه على الناس في الموسم ويقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟! فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي».
والذي اتفق عليه السلف: أن القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال غير واحد منهم: منه بدأ وإليه يعود. قال أحمد بن حنبل وغيره: منه بدأ، أي: هو المتكلم به، لم يبتد من غيره كما قالت الجهمية القائلون بأن القرآن مخلوق. قالوا: خلقه في غيره، فهو مبتدأ من ذلك المحل المخلوق، ويلزمهم أن يكون كلاما لذلك المحل المخلوق لا لله تعالى، لا سيما والجهمية كلهم يقولون بأن الله خالق أفعال العباد وهم غلاة في الجبر ولكن المعتزلة توافقهم على نفي الصفات والقول بخلق القرآن، وتخالفهم في القدر والأسماء والأحكام، فإذا كان الله خالق كل ما سواه لزمهم أن يكون كل كلام كلامه، لأنه هو الذي خلقه؛ ولذلك قال ابن عربي الطائي وكان من غلاة هؤلاء الجهمية يقول بوحدة الوجود، قال:
وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه
ولهذا قال سليمان بن داود الهاشمي نظير أحمد بن حنبل الذي قال الشافعي: ما رأيت أعقل من رجلين: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي قال: من قال: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } 29 مخلوق فهو كافر. وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعلى } 30، وزعموا أن هذا مخلوق؟! ومعنى ذلك كون قول فرعون: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعلى } كلاما قائمًا بذات فرعون، فإن كان قوله: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } كلاما خلقه في الشجرة كانت الشجرة هي القائلة لذلك كما كان فرعون هو القائل لذلك وحينئذ فيكون جعل الشجرة إلها أعظم كفرًا من جعل فرعون إلها.
والجهمية والمعتزلة لم يقم عندهم بذات الله لا طلب ولا إرادة ولا محبة ولا رضا ولا غضب، ولا غير ذلك، مما يجعل مدلول الأصوات المخلوقة، ولا قام بذاته عندهم إيجاب وإلزام ولا تحريم وحظر، فلم يكن للكلام المخلوق في غيره معنى قائم بذاته يدل عليه ذلك المخلوق حتى يفرق بين ما خلقه في الجماد وما خلقه في الحيوان. وكان مقصود السلف رضوان الله عليهم أن الله هو المتكلم بالقرآن وسائر كلامه، وأنه منه نزل لم ينزل من غيره كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 31، وقال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 32، لم يقل أحد من السلف: إن القرآن قديم، وإنما قالوا: هو كلام الله غير مخلوق، وقالوا: لم يزل الله متكلمًا إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وكما شاء، ولا قال أحد منهم: إن الله في الأزل نادى موسى، ولا قال: إن الله لم يزل ولا يزال يقول: { يا آدم }، { يانوح }، { يا موسى }، { يا إبليس } ونحو ذلك مما أخبر أنه قال.
ولكن طائفة ممن اتبع السلف اعتقدوا أنه إذا كان غير مخلوق، فلابد أن يكون قديمًا؛ إذ ليس عندهم إلا هذا وهذا، وهؤلاء ينكرون أن يكون الله يتكلم بمشيئته وقدرته، أو يغضب على الكفار إذا عصوه، أو يرضى عن المؤمنين إذا أطاعوه، أو يفرح بتوبة التائبين إذا تابوا، أو يكون نادي موسى حين أتي الشجرة، ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة كقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } 33، وقوله تعالى: { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } 34، وقوله: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا موسى } 35، وقال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ } 36، وقال تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَي عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } 37، وقد أخبر أن كلماته لا نفاد لها بقوله: { لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } 38، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } 39.
وأتباع السلف يقولون: إن كلام الله قديم، أي: لم يزل متكلما إذا شاء، لا يقولون: إن نفس الكلمة المعينة قديمة كندائه لموسى ونحو ذلك. لكن هؤلاء اعتقدوا أن القرآن وسائر كلام الله قديم العين، وأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: القديم هو معنى واحد، هو جميع معاني التوراة والإنجيل والقرآن، وإن التوراة إذا عبر عنها بالعربية، صارت قرآنا، والقرآن إذا عبر عنه بالعبرية، صار توراة. قالوا: والقرآن العربي لم يتكلم الله به، بل إما أن يكون خلقه في بعض الأجسام، وإما أن يكون أحدثه جبريل أو محمد، فيكون كلاما لذلك الرسول ترجم به عن المعنى الواحد القائم بذات الرب الذي هو جميع معاني الكلام. ومنهم من قال: بل القرآن القديم هو حروف أو حروف وأصوات، وهي قديمة أزلية قائمة بذات الرب أزلا وأبدًا، وهي متعاقبة في ذاتها وماهيتها لا في وجودها، فإن القديم لا يكون بعضه متقدمًا على بعض، ففرقوا بين ذات الكلام وبين وجوده، وجعلوا التعاقب في ذاته لا في وجوده كما يفرق بين وجود الأشياء بأعيانها وماهياتها من يقول بذلك من المعتزلة والمتفلسفة وكلا الطائفتين تقول: إنه إذا كلم موسى أو الملائكة أو العباد يوم القيامة، فإنه لا يكلمه بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته حين يكلمه، ولكن يخلق له إدراكًا يدرك ذلك الكلام القديم اللازم لذات الله أزلا وأبدًا، وعندهم لم يزل ولا يزال يقول: { يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } 40، و { يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عليكَ } 41، و { يَا إِبليسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } 42، ونحو ذلك، وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وغيرها في مواضع.
والمقصود أن هذين القولين لا يقدر أحد أن ينقل واحدًا منهما عن أحد من السلف أعني الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين المشهورين بالعلم والدين، الذين لهم في الأمة لسان صدق في زمن أحمد بن حنبل، ولا زمن الشافعي، ولا زمن أبي حنيفة ولا قبلهم وأول من أحدث هذا الأصل هو أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعرف أن الحروف متعاقبة فيمتنع أن تكون قديمة الأعيان، فإن المتأخر قد سبقه غيره والقديم لا يسبقه غيره، والصوت المعين لا يبقي زمانين، فكيف يكون قديمًا؟! فقال بأن القديم هو المعنى، ثم جعل المعنى واحدا لا يتعدد ولا يتبعض؛ لامتناع اختصاصه بعدد معين، وامتناع معان لا نهاية لها في آن واحد، وجعل القرآن العربي ليس هو كلام الله.
فلما شاع قوله، وعرف جمهور المسلمين فساده شرعا وعقلا، قالت طائفة أخرى ممن وافقته على مذهب السلف: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى الأصل الذي أحدثه من القول بقدم القرآن: إن القرآن قديم، وهو مع ذلك الحروف المتعاقبة والأصوات المؤلفة. فصار قول هؤلاء مركبا من قول المعتزلة وقول الكلابية، فإذا ناظروا المعتزلة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ ناظروهم بطريقة ابن كلاب، وإذا ناظرهم الكلابية على أن القرآن العربي كلام الله وأن القرآن الذي يقرأه المسلمون كلام الله؛ ناظروهم بحجج المعتزلة، وليس شيء من هذه الأقوال قول أحد من السلف كما بسط في غير هذا الموضع، ولا قال شيئا من هذه الأقوال لا الأئمة الأربعة ولا أصحابهم الذين أدركوهم، وإنما قاله -ممن ينتسب إليهم- بعض المتأخرين الذين تلقوها عمن قالها من أهل الكلام، ولم يكن لهم خبرة لا بأقوال السلف التي دل عليها الكتاب والسنة والعقل الصريح، ولا بحقائق أقوال أهل الكلام الذي ذمه السلف، ولم قالوا هذا؟! وما الذي ألجأهم إلى هذا؟! وقد شاع عند العامة والخاصة أن القرآن ليس بمخلوق. والقول بأنه مخلوق قول مبتدع مذموم عند السلف والأئمة، فصار من يطالع كتب الكلام التي لا يجد فيها إلا قول المعتزلة وقول من رد عليهم وانتسب إلى السنة، يظن أنه ليس في المسألة إلا هذا القول، وهذا وذاك قد عرف أنه قول مذموم عند السلف، فيظن القول الآخر قول السلف، كما يقع مثل ذلك في كثير من المسائل في غير هذه، لا يعرف الرجل في المسألة إلا قولين أو ثلاثة، فيظن الصواب واحدا منها، ويكون فيها قول لم يبلغه وهو الصواب دون تلك. وهذا باب واسع في كثير من المسائل، والله يهدينا وسائر إخواننا المسلمين إلى ما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ومن اجتهد بقصد طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده لم يكلفه الله ما يعجز عنه، بل يثيبه الله على ما فعله من طاعته، ويغفر ما أخطأ فيه، فعجز عن معرفته.
هامش
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [غافر: 10]
- ↑ [الأنعام: 125]
- ↑ [هود: 34]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [الكهف: 39]
- ↑ [البقرة: 158]
- ↑ [الأحزاب: 33]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [النساء: 26: 28]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [الأعراف: 144]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [البقرة: 106]
- ↑ [البقرة: 93]
- ↑ [البقرة: 106]
- ↑ [الحجر: 91]
- ↑ [البقرة: 106]
- ↑ [النساء: 28]
- ↑ [الحجر: 91]
- ↑ [التكوير: 19: 21]
- ↑ [البقرة: 97]
- ↑ [الشعراء 193: 195]
- ↑ [النحل 101: 102]
- ↑ [الحاقة 40: 47]
- ↑ [المدثر: 11: 25]
- ↑ [المائدة: 67]
- ↑ [طه: 14]
- ↑ [النازعات: 24]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [النحل: 102]
- ↑ [محمد: 28]
- ↑ [الزخرف: 55]
- ↑ [طه: 11]
- ↑ [الأعراف: 11]
- ↑ [آل عمران: 59]
- ↑ [الكهف: 109]
- ↑ [لقمان: 27]
- ↑ [البقرة: 35]
- ↑ [هود: 48]
- ↑ [ص: 75]