مجموع الفتاوى/المجلد السابع عشر/فصل في تفسير قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
فصل في تفسير قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
[عدل]وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وسلم تسليمًا.
فصل
في تفسير: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } .
والاسم الصَّمَدُ فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة -وليست كذلك- بل كلها صواب، والمشهور منها قولان:
أحدهما: أن الصمد هو الذي لا جوف له.
والثاني: أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج. والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة. والثاني قول طائفة من السلف والخلف، وجمهور اللغويين، والآثار المنقولة عن السلف بأسانيدها في كتب التفسير المسندة، وفي كتب السنة وغير ذلك، وقد كتبنا من الآثار في ذلك شيئا كثيرًا بإسناده فيما تقدم.
وتفسير الصَّمَدُ بأنه الذي لا جوف له، معروف عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا، وعن ابن عباس، والحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وقتادة. وبمعني ذلك قال سعيد بن المسيب قال: هو الذي لا حشو له. وكذلك قال ابن مسعود: هو الذي ليست له أحشاء. وكذلك قال الشعبي: هو الذي لا يأكل ولا يشرب. وعن محمد بن كعب القرظي، وعكرمة: هو الذي لا يخرج منه شيء. وعن ميسرة قال: هو المصمت. قال ابن قتيبة: كأن الدال في هذا التفسير مبدلة من تاء، والصمت من هذا.
قلت: لا إبدال في هذا، ولكن هذا من جهة الاشتقاق الأكبر، وسنبين إن شاء الله وجه القول من جهة الاشتقاق واللغة.
وفي الحديث المأثور في سبب نزول هذه الآية الذي رواه الإمام أحمد في المسند وغيره من حديث أبي سعد الصغاني، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أن المشركين قالوا لرسول الله ﷺ: انسب لنا ربك، فأنزل الله: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } إلى آخر السورة. قال: «الصمد الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله لا يموت ولا يورث».
وأما تفسيره بأنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج، فهو أيضا مروي عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا، فهو من تفسير الوالبي عن ابن عباس. قال: الصمد: السيد الذي كمل في سؤدده. وهذا مشهور عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: هو السيد الذي انتهى سؤدده. وعن أبي إسحاق الكوفي عن عكرمة: الصمد: الذي ليس فوقه أحد. ويروى هذا عن علي، وعن كعب الأحبار: الذي لا يكافئه من خلقه أحد. وعن السدي أيضا: هو المقصود إليه في الرغائب، والمستغاث به عند المصائب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: هو المستغني عن كل أحد، المحتاج إليه كل أحد. وعن سعيد بن جبير أيضا: الكامل في جميع صفاته وأفعاله. وعن الربيع: الذي لا تعتريه الآفات. وعن مقاتل بن حيان: الذي لا عيب فيه. وعن ابن كَيْسان: هو الذي لا يوصف بصفته أحد. قال أبو بكر الأنباري: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد: السيد الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم.
وقال الزجاج: هو الذي ينتهي إليه السؤدد، فقد صمد له كل شيء، أي: قصد قصده، وقد أنشدوا في هذا بيتين مشهورين.
أحدهما:
ألا بَكَّرَ الناعي بخيري بني أَسَدْ ** بعمرو بن مسعود وبالسيد الصَّمَدْ
وقال الآخر:
علوته بحسام ثم قلت له ** خذها حذيفُ فأنت السيدُ الصمدُ
وقال بعض أهل اللغة: الصَّمَدُ: هو السيد المقصود في الحوائج، تقول العرب: صمدت فلانًا أَصْمِدُه بكسر الميم وأَصْمُدُهُ بضم الميم صَمْدًا بسكون الميم إذا قصدته، والمصمود صمد كالقبض بمعني المقبوض، والنقض بمعني المنقوض. ويقال: بيت مصمود ومصمد، إذا قصده الناس في حوائجهم. قال طرفة:
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ** إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
وقال الجوهري: صمده يصمده صمدًا: إذا قَصَدَهُ. والصمد بالتحريك: السيد؛ لأنه يصمد إليه في الحوائج، ويقال: بيت مُصمَّد بالتشديد أي: مقصود.
وقال الخطابي: أصح الوجوه أنه السيد الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائج؛ لأن الاشتقاق يشهد له، فإن أصل الصمد: القصد. يقال: أَصْمُدُ صَمْدَ فلان، أي: أقصد قَصْدَهُ، فالصمد: السيد الذي يصمد إليه في الأمور، ويقصد في الحوائج. وقال قتادة: الصمد: الباقي بعد خلقه. وقال مجاهد، ومعمر: هو الدائم. وقد جعل الخطابي وأبو الفرج ابن الجوزي الأقوال فيه أربعة، هذين، واللذين تقدما. وسنبين إن شاء الله أن بقاءه ودوامه من تمام الصمدية. وعن مرة الهمداني: هو الذي لا يبلي ولا يفني. وعنه أيضا قال: هو الذي يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.
وقال ابن عطاء: هو المتعالى عن الكون والفساد. وعنه أيضا قال: الصمد الذي لم يتبين عليه أثر فيما أظهر يريد قوله: { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } 1. وقال الحسين بن الفضل: هو الأزلي بلا ابتداء. وقال محمد بن على الحكيم الترمذي: هو الأول بلا عدد، والباقي بلا أمد، والقائم بلا عمد. وقال أيضا: الصمد الذي لا تدركه الأبصار، ولا تحويه الأفكار، ولا تبلغه الأقطار، وكل شيء عنده بمقدار. وقيل: هو الذي جل عن شبه المصورين. وقيل: هو بمعني نفي التجزي والتأليف عن ذاته. وهذا قول كثير من أهل الكلام. وقيل: هو الذي أيست العقول من الاطلاع على كيفيته. وكذلك قيل: هو الذي لا تدرك حقيقة نعوته وصفاته، فلا يتسع له اللسان، ولا يشير إليه البنان. وقيل: هو الذي لم يعط خلقه من معرفته إلا الاسم والصفة. وعن الجنيد قال: الذي لم يجعل لأعدائه سبيلًا إلى معرفته.
ونحن نذكر ما حضرنا من ألفاظ السلف بأسانيدها، فروى ابن أبي حاتم في تفسيره قال: ثنا أبي، ثنا محمد بن موسى بن نفيع الجرشي، ثنا عبد الله بن عيسى يعني أبا خلف الخزاز ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: { الصَّمَدُ } قال: الصمد الذي تصمد إليه الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء.
حدثنا أبو زُرْعَة، ثنا محمد بن ثعلبة بن سواء السَّدُوسي، ثنا محمد بن سواء، ثنا سعيد ابن أبي عَرُوَبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: الصمد: الذي يصمد العباد إليه في حوائجهم.. حدثنا أبي، ثنا عبد الرحمن بن الضحاك، ثنا سويد بن عبد العزيز، ثنا سفيان ابن حسين، عن الحسن قال: الصمد: الحي القيوم الذي لا زوال له. حدثنا أبي، ثنا نصر ابن علي، ثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: الصمد: الباقي بعد خلقه، وهو قول قتادة. حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، ثنا ابن نُمَيْر، عن الأعمش، عن شَقِيق في قوله: { الصَّمَدُ } قال: السيد الذي قد انتهى سؤدده.
حدثنا أبي، ثنا أبو صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { الصَّمَدُ } قال: السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، هو الله سبحانه وتعالى هذه صفته لا تنبغي لأحد إلا له، ليس له كفؤ، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار.
حدثنا كثير بن شهاب المدْحجي القزويني، ثنا محمد بن سعيد بن سابق، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس في قوله: { الصَّمَدُ } قال: الذي لم يلد ولم يولد. حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رَجَاء، عن عِكْرِمَة في قوله: { الصَّمَدُ } قال: الذي لم يخرج منه شيء. حدثنا أبو سعيد الأشج، ثنا أبو أحمد، ثنا مَنْدَل بن علي، عن أبي روق عطية بن الحارث عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عبد الله بن مسعود قال: { الصَّمَدُ }: الذي ليس له أحشاء. وروي عن سعيد بن المسيب مثله.
حدثنا أبي، ثنا محمد بن عمر بن عبد الله الرومي، ثنا عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش عن صالح بن حيان، عن عبد الله بن بُرَيْدَة عن أبيه قال: لا أعلمه إلا قد رفعه قال: { الصَّمَدُ }: الذي لا جوف له. وروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايات، والحسن وعكرمة وعطية وسعيد بن جبير ومجاهد في إحدى الروايات والضحاك مثل ذلك. حدثنا أبي، ثنا قَبِيصة، ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: الصمد: المصمت الذي لا جوف له.
حدثنا أبو عبد الله الطهراني، ثنا حفص بن عمر العَدَني، ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: { الصَّمَدُ } قال: { الصَّمَدُ }: الذي لا يُطْعَم. حدثنا أبي، ثنا على بن هاشم بن مرزوق، ثنا هُشَيْم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أنه قال: { الصَّمَدُ }: الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب. حدثنا أبي وأبو زُرْعَة قالا: ثنا أحمد بن مَنِيع، ثنا محمد بن ميسر يعني أبا سعد الصغاني ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله: { الصَّمَدُ } قال: { الصَّمَدُ }: الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه ليس شيء يلد إلا يموت، وليس شيء يموت إلا يورث، وإن الله لا يموت، ولا يورث، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } قال: لم يكن له شبه ولا عدل، وليس كمثله شيء.
حدثنا على بن الحسين، ثنا محمود بن خِدَاش، ثنا أبو سعد الصغاني، ثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: أن المشركين قالوا: انسب لنا ربك، فأنزل الله هذه السورة. حدثنا أبو زُرْعَة، ثنا العباس بن الوليد، ثنا يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد عن قتادة { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } قال: إن الله لا يكافئه من خلقه أحد. حدثنا على بن الحسين، ثنا أبو عبد الله الجرشي، ثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إن اليهود جاءت إلى النبي ﷺ منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وجُدِّي بن أخطب، فقالوا: يا محمد، صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ } فيخرج منه الولد { وَلَمْ يُولَدْ } فيخرج منه شيء.
وقال ابن جرير الطبري في تفسيره: حدثنا أحمد بن منيع المروزي، ومحمود بن خداش الطالقاني، فذكر مثل إسناد ابن أبي حاتم، عن أبي بن كعب سؤال المشركين للنبي ﷺ: انسب لنا ربك، فأنزل الله: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . حدثنا ابن حميد، ثنا يحيي بن واضح، ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة؛ أن المشركين قالوا لرسول الله ﷺ أخبرنا عن صفة ربك ما هو؟ ومن أي شيء هو؟ فأنزل الله هذه السورة. ورواه أيضا عن أبي العالية، وعن جابر بن عبد الله، حدثنا شريح، ثنا إسماعيل بن مجاهد، عن الشعبي، عن جابر، فذكره قال: وقيل: هو من سؤال اليهود.
حدثنا ابن حميد، ثنا سلمة، ثنا ابن إسحاق، عن محمد بن سعيد قال: أتي رهط من اليهود إلى النبي ﷺ فقالوا: يا محمد، هذا الله خلق الخلق فمن خلقه؟ فغضب النبي ﷺ حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبًا لربه، فجاءه جبريل فسكنه، وقال: اخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه قال: يقول الله: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إلى آخرها فلما تلاها عليهم النبي ﷺ قالوا له: صف لنا ربك كيف خَلْقه؟ كيف عَضده؟ كيف ساعده؟ وكيف ذراعه؟ فغضب النبي ﷺ أشد من غضبه الأول، وساورهم، فأتاه جبريل فقال له مثل مقالته الأولى، وأتاه بجواب ما سألوه فأنزل الله: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } 2.
وروي الحكم بن مَعْبَد في كتاب الرد على الجهمية قال: ثنا عبد الله بن محمد بن النعمان، ثنا سلمة بن شبيب، ثنا يحيي بن عبد الله، ثنا ضرار، عن أبان، عن أنس قال: أتت يهود خيبر إلى النبي ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم، خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النار، والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك؟ قال: فلم يجبهم النبي ﷺ، فأتاه جبريل فقال: يا محمد: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، ليس له عروق شُعِّب إليها، { الصَّمَدُ } ليس بأجوف ولا يأكل ولا يشرب، { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } ليس له ولد ولا والد ينسب إليه، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ليس شيء من خلقه يعدل مكانه، يمسك السموات والأرض أن تزولا. الحديث.
وقال ابن جرير: ثنا عبد الرحمن بن الأسود، ثنا محمد بن ربيعة، عن سلمة بن سابور، عن عطية، عن ابن عباس قال: { الصَّمَدُ }: الذي ليس بأجوف. حدثنا ابن بشار، ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد { الصَّمَدُ }: المصمت الذي لا جوف له. حدثنا أبو كُرَيْب، ثنا وَكيع، عن سفيان، عن منصور مثله سواء.
حدثنا الحارث، ثنا الحسن، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد مثله. حدثنا ابن بشار، ثنا عبد الرحمن، ثنا الربيع بن مسلم، عن الحسن، قال: { الصَّمَدُ }: الذي لا جوف له، وبهذا الإسناد عن إبراهيم بن ميسرة قال: أرسلني مجاهد إلى سعيد بن جبير أسأله عن { الصَّمَدُ } فقال: الذي لا جوف له. حدثنا ابن بشار، ثنا يحيي، ثنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال: { الصَّمَدُ }: الذي لا يَطْعَمُ الطعام. ورواه يعقوب، عن هُشَيْم، عن إسماعيل عنه قال: لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب.
حدثنا ابن بشار وزيد بن أخزم قالا: ثنا ابن داود، عن المستقيم بن عبد الملك، عن سعيد بن المسيب قال: { الصَّمَدُ }: الذي لا حشو له. حدثنا الحسين، ثنا أبو معاذ، ثنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول: { الصَّمَدُ }: الذي لا جوف له. وروي عن ابن بريدة فيه حديثًا مرفوعًا لكنه ضعيف قال: وقال آخرون: هو الذي لا يخرج منه شيء. حدثنا يعقوب بن أبي عُلَيَّة، عن أبي رجاء، سمعت عكرمة قال في قوله: { الصَّمَدُ }: لم يخرج منه شيء، لم يلد، ولم يولد. حدثنا ابن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي رجاء محمد بن يوسف عن عكرمة قال: { الصَّمَدُ }: الذي لا يخرج منه شيء.
وقال آخرون: لم يلد ولم يولد، وذكر حديث أبي بن كعب الذي رواه ابن أبي حاتم، والذي فيه: إنه سبحانه لا يموت ولا يورث. قال: وقال آخرون: هو السيد الذي انتهى في سؤدده. قال: وثنا أبو السائب، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شَقِيق قال: { بصَّمّدٍ }: هو السيد الذي انتهى في سؤدده. حدثنا أبو كُرَيب وابن بشار وابن عبد الأعلى قالوا: ثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: { الصَّمَدُ }: السيد الذي انتهى في سؤدده. حدثنا ابن حميد، ثنا مِهْرَان، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل مثله. حدثنا أبو صالح، ثنا معاوية عن علي، عن ابن عباس في قوله: { الصَّمَدُ } قال: السيد الذي قد كمل في سؤدده، وذكر مثل الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم، كما تقدم.
قلت: الاشتقاق يشهد للقولين جميعًا قول من قال: إن { الصَّمَدُ }: الذي لا جوف له، وقول من قال: إنه السيد. وهو على الأول أدل؛ فإن الأول أصل للثاني، ولفظ { الصَّمَدُ } يقال على ما لا جوف له في اللغة. قال يحيي بن أبي كثير: الملائكة صمد والآدميون جوف. وفي حديث آدم أن إبليس قال عنه: إنه أجوف ليس بصمد. وقال الجوهري: المصمد لغة في المصمت، وهو الذي لا جوف له. قال: والصماد: عفاص القارورة. وقال الصَّمْدُ: المكان المرتفع الغليظ. قال أبو النجم:
يغادر الصمد كظهر الأجزل وأصل هذه المادة: الجمع والقوة، ومنه يقال: يصمد المال، أي يجمعه، وكذلك السيد أصله سيود، اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت. كما قيل: ميت وأصله ميوت. والمادة في السواد والسؤدد تدل على الجمع، واللون الأسود هو الجامع للبصر. وقد قال تعالى: { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } 3، قال أكثر السلف: { وَسَيِّدًا }: حليمًا. وكذلك يروي عن الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، وأبي الشعثاء، والربيع بن أنس، ومقاتل. وقال أبو روق عن الضحاك: إنه الحسن الخلق. وروي سالم عن سعيد بن جبير أنه التقي، ولا يسود الرجل الناس حتى يكون في نفسه مجتمع الخلق ثابتًا. وقال عبد الله بن عمر: ما رأيت بعد رسول الله ﷺ أسود من معاوية، فقيل له: ولا أبو بكر، ولا عمر، قال: كان أبو بكر وعمر خيرًا منه، وما رأيت بعد رسول الله ﷺ أسود من معاوية. قال أحمد بن حنبل: يعني به الحليم، أو قال: الكريم؛ ولهذا قيل:
إذا شئت يومًا أن تسود قبيلة ** فبالحلم سد لا بالتسرع والشتم
ولهذا فسر طائفة من السلف السيد بأنه سيد قومه في الدين. وقال ابن زيد: هو الشريف. وقال الزجاج: الذي يفوق قومه في الخير. وقال ابن الأنباري: السيد هنا الرئيس، والإمام في الخير. وعن ابن عباس ومجاهد: هو الكريم على ربه. وعن سعيد بن المسيب: هو الفقيه العالم. وقد تقدم أنهم يقولون لعفاص القارورة: صماد. قال الجوهري: العِفَاصُ: جلدٌَ يلْبَسهُ رأسُ القارورة، وأما الذي يدخل في فمه فهو الصمام وقد عفصت القارورة، شددت عليها العفاص.
قلت: وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ في اللقطة: «ثم اعرف عفاصها ووكاءها». والمراد بالعفاص: ما يكون فيه الدراهم كالخرقة التي تربط فيها الدراهم، والوكاء: مثل الخيط الذي يربط به، وهذا من جنس عفاص القارورة. ولفظ العفص والسد والصمد والجمع والسؤدد معانيها متشابهة، فيها الجمع والقوة: ويقال: طعام عفص وفيه عفوصة، أي: تقبض، ومنه العفص الذي يتخذ منه الحبر.
وقد قال الجوهري: هو مولد ليس من كلام أهل البادية. وهذا لا يضر؛ لأنه لم يكن عندهم عفص يسمونه بهذا الاسم، لكن التسمية به جارية على أصول كلام العرب، وكذلك تسميتهم لما يدخل في فمها صمام، فإن هذه المادة فيها معني الجمع والسد.
قال الجوهري: صمام القارورة سدادها، والحجر الأصم: الصلب المصمت، والرجل الأصم: هو الذي لا يسمع؛ لانسداد سمعه، والرجل الصمة: الشجاع، والصمة: الذكر من الحيات، وصميم الشيء: خالصة، حيث لم يدخل إليه ما يفرقه ويضعفه، يقال: صميم الحر، وصميم البرد، وفلان من صميم قومه، والصمصام: الصارم القاطع الذي لا ينثني، وصمم في السير وغيره، أي: مضي، ورجل صم، أي: غليظ.
ومنه في الاشتقاق الأكبر الصوم، فإن الصوم هو الإمساك. قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم؛ لأن الإمساك فيه اجتماع، والصائم لا يدخل جوفه شيء، ويقال: صام الفرس، إذا قام في غير اعتلاف. قال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وكذلك السد والسداد والسؤدد والسواد، وكذلك لفظ الصمد فيه الجمع، والجمع فيه القوة، فإن الشيء كلما اجتمع بعضه إلى بعض، ولم يكن فيه خلل كان أقوي مما إذا كان فيه خلو؛ ولهذا يقال للمكان الغليظ المرتفع: صمد؛ لقوته وتماسكه، واجتماع أجزائه، والرجل الصمد: هو السيد المصمود، أي: المقصود، يقال: قصدته وقصدت له، وقصدت إليه، وكذلك هو مصمود، ومصمود له وإليه. والناس إنما يقصدون في حوائجهم من يقوم بها، وإنما يقوم بها من يكون في نفسه مجتمعًا قويًا ثابتًا، وهو السيد الكريم، بخلاف من يكون هلوعًا جزوعًا يتفرق ويقلق ويتمزق من كثرة حوائجهم وثقلها، فإن هذا ليس بسيد صمد يصمدون إليه في حوائجهم.
فهم إنما سموا السيد من الناس صمدًا؛ لما فيه من المعنى الذي لأجله يقصده الناس في حوائجهم، فليس معني السيد في لغتهم معني إضافي فقط كلفظ القرب والبعد بل هو معني قائم بالسيد؛ لأجله يقصده الناس. والسيد من السؤدد والسواد. وهذا من جنس السداد في الاشتقاق الأكبر، فإن العرب تعاقب بين حرف العلة والحرف المضاعف، كما يقولون: تقضي البازي، وتقضض. والساد: هو الذي يسد غيره، فلا يبقي فيه خلو، ومنه سداد القارورة، وسداد الثغر بالكسر فيهما، وهو ما يسد ذلك، ومنه السَّداد بالفتح وهو الصواب، ومنه القول السديد. قال الله تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } 4، قالوا: قصدا حقًا، وعن ابن عباس: صوابًا. وعن قتادة ومقاتل: عدلا. وعن السدي: مستقيمًا. وكل هذه الأقوال صحيح، فإن القول السديد هو المطابق الموافق، فإن كان خبرًا، كان صدقًا مطابقًا لمخبره، لا يزيد ولا ينقص، وإن كان أمرًا، كان أمرًا بالعدل الذي لا يزيد ولا ينقص؛ ولهذا يفسرون السداد بالقصد، والقصد بالعدل.
قال الجوهري: التسديد: التوفيق للسداد وهو الصواب والقصد في القول والعمل. ورجل مسدد إذا كان يعمل بالسداد والقصد. والمسدد: المقوم، وسدد رمحه. وأمر سديد وأسد، أي: قاصد. وقد استد الشيء، استقام. قال الشاعر:
أعلمه الرماية كل يوم ** فلما استد ساعده رماني
وقال الأَصْمَعِي: اشتد بالشين المعجمة ليس بشيء، وتعبيرهم عن السد بالقصد يدلك على أن لفظ القصد فيه معني الجمع والقوة. والقصد: العدل كما أنه السداد والصواب، وهو المطابق الموافق الذي لا يزيد ولا ينقص، وهذا هو الجامع المطابق، ومنه قوله تعالى: { وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } 5 أي: السبيل القصد، وهو السبيل العدل؛ أي: إليه تنتهي السبيل العادلة، كما قال تعالى: { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } 6. أي: الهدي إلينا. هذا أصح الأقوال في الآيتين، وكذلك قوله تعالى: { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ على مُسْتَقِيمٌ } 7.
ومنه الاشتقاق الأوسط: الصدق، فإن حروفه حروف القصد، فمنه الصدق في الحديث لمطابقته مخبره، كما قيل في السداد. والصَّدق بالفتح الصلب من الرماح. ويقال: المستوي، فهو معتدل صلب ليس فيه خلل ولا عوج. والصندوق واحد الصناديق، فإنه يجمع ما يوضع فيه.
ومما ينبغي أن يعرف في باب الاشتقاق أنه إذا قيل: هذا مشتق من هذا، فله معنيان:
أحدهما: أن بين القولين تناسبا في اللفظ والمعني، سواء كان أهل اللغة تكلموا بهذا بعد هذا أو بهذا بعد هذا، وعلى هذا فكل من القولين مشتق من الآخر، فإن المقصود أنه مناسب له لفظًا ومعني، كما يقال: هذا الماء من هذا الماء، وهذا الكلام من هذا الكلام، وعلى هذا فإذا قيل: إن الفعل مشتق من المصدر، أو المصدر مشتق من الفعل، كان كلا القولين صحيحًا، وهذا هو الاشتقاق الذي يقوم عليه دليل التصريف.
وأما المعنى الثاني في الاشتقاق: وهو أن يكون أحدهما أصلًا للآخر، فهذا إذا عني به أن أحدهما تكلم به قبل الآخر لم يقم على هذا دليل في أكثر المواضع، وإن عني به أن أحدهما متقدم على الآخر في العقل لكون هذا مفردًا وهذا مركبًا، فالفعل مشتق من المصدر، والاشتقاق الأصغر اتفاق القولين في الحروف وترتيبها، والأوسط اتفاقهما في الحروف لا في الترتيب، والأكبر اتفاقهما في أعيان بعض الحروف وفي الجنس لا في الباقي، كاتفاقهما في كونهما من حروف الحلق، إذا قيل: حزر وعزر وأزر، فإن الجميع فيه معني القوة والشدة، وقد اشتركت مع الراء والزاي والحاء، في أن الثلاثة حروف حلقية، وعلى هذا فإذا قيل: الصمد بمعني المصمت، وأنه مشتق منه بهذا الاعتبار، فهو صحيح؛ فإن الدال أخت التاء، فإن الصمت السكوت، وهو إمساك وإطباق للفم عن الكلام.
قال أبو عبيد: المصمت: الذي لا جوف له، وقد أصمته أنا، وباب مصمت: قد أبهم إغلاقه، والمصمت من الخيل: البهيم، أي: لا يخالط لونه لون آخر. ومنه قول ابن عباس: إنما حرم من الحرير المصمت. فالمصمد والمصمت متفقان في الاشتقاق الأكبر، وليست الدال منقلبة عن التاء، بل الدال أقوي، والمصمد أكمل في معناه من المصمت، وكلما قوي الحرف كان معناه أقوي، فإن لغة العرب في غاية الإحكام والتناسب؛ ولهذا كان الصمت: إمساك عن الكلام مع إمكانه، والإنسان أجوف يخرج الكلام من فيه لكنه قد يصمت، بخلاف الصمد، فإنه إنما استعمل فيما لا تفرق فيه، كالصمد والسيد والصمد من الأرض وصماد القارورة، ونحو ذلك، فليس في هذه الألفاظ المتناسبة أكمل من ألفاظ الصمد، فإن فيه الصاد والميم والدال، وكل من هذه الحروف الثلاثة لها مزية على ما يناسبها من الحروف، والمعاني المدلول عليها بمثل هذه الحروف أكمل.
ومما يناسب هذه المعاني معني الصبر، فإن الصبر فيه جمع وإمساك؛ ولهذا قيل: الصبر: حبس النفس عن الجزع. يقال: صبر وصبرته أنا. ومنه قوله تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } 8، وكذلك معني السيد الصمد خلاف معني الجزوع المنوع. ومنه الصبرة من الطعام، فإنها مجتمعة مكومة. والصِّبَارَةُ: الحجارة. وصبر الشيء: غلظه، وضده الجزع، وفيه معني التقطع والتفرق. يقال: جَزَعَ له جَزْعَةً من المال، أي: قطع له قطعة، والجُزيْعَةُ: القطعة من الغنم، واجْتَزَعْتُ من الشجر عودًا، أي: اقتطعته واكتسرته، وجَزَعْتُ الوادي: إذا قَطَعْتُهُ عرضًا، والجِزْع: منعطف الوادي، ومنه الجَزْعُ: وهو الخرز اليماني الذي فيه بياض وسواد، وكذلك جزع البُسْرَ تجزيعًا: إذا أرطب نصفه أو ثلثاه، وهو خلاف قولهم: مصمت للون الواحد لما في ذلك من الاجتماع، وفي هذا من التفرق.
وقد قال تعالى: { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } 9، قال الجوهري: الهَلَعُ: أفحش الجزع. وقال غيره: هو في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع. ومنه قول النبي ﷺ: «شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع». وناقة هلوع: إذا كانت سريعة السير خفيفة، وذئب هُلَعٌ بُلَعٌ، والهلْعُ من الحرص، والبلع من الابتلاع؛ ولهذا كان كلام السلف في تفسيره يتضمن هذه المعاني. فروي عن ابن عباس قال: هو الذي إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا. وروي عنه أنه قال: هو الحريص على ما لا يحل له. وعن سعيد بن جبير: شحيحًا. وعن عكرمة: ضجورًا. وعن جعفر: حريصًا. وعن الحسن والضحاك: بخيلًا. وعن مجاهد: شرهًا. وعن الضحاك أيضا: الهلوع: الذي لا يشبع. وعن مقاتل: ضيق القلب. وعن عطاء: عجولًا، وهذه المعاني كلها تنافي الثبات والقوة والاجتماع، والإمساك والصبر، وقد قال تعالى: { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } 10، وهذا وإن كان قد قيل: إن المراد به أنها تنصدع فيموتون، فإنه كما قيل في مثل ذلك: قد انصدع قلبه، وقد تفرق قلبي، وقد تشتت قلبي. وقد تقسم قلبي، ومنه يقال للخوف: قد فرق قلبه، ويقال: بإزاء ذلك هو ثابت القلب مجتمع القلب، مجموع القلب.
هامش
- ↑ [ق: 38]
- ↑ [الزمر: 67]
- ↑ [آل عمران: 39]
- ↑ [الأحزاب: 70]
- ↑ [النحل: 9]
- ↑ [الليل: 12]
- ↑ [الحجر: 41]
- ↑ [الكهف: 28]
- ↑ [المعارج: 19: 21]
- ↑ [التوبة: 110]