مجموع الفتاوى/المجلد الثالث عشر/فصل في ذكر من انحرف عن القرآن الكريم
فصل في ذكر من انحرف عن القرآن الكريم
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:
لما بعث الله محمدا ﷺ بكتابه الذي هو الهدى والشفاء والنور، وجعله أحسن الحديث، وأحسن القصص، وجعله الصراط المستقيم لأهل العقل والتدبر، ولأهل التلاوة والذكر، ولأهل الاستماع والحال؛ فالمعتصمون به علمًا وحالا وتلاوة وسمعًا باطنًا وظاهرًا هم المسلمون حقًا، خاصة أمة محمد ﷺ.
ثم لما انحرف من انحرف من أهل الكلام والحروف إلى كلام غيره، ومن أهل السماع والصوت إلى سماع غيره. كان الانحراف في أربع طوائف متجانسة:
قوم تركوا التعلم منه والنظر فيه والتدبر له إلى كلام غيره، من كلام الصابئة أو اليهود، أو ما هو مُوَلَّد من ذلك أو مجانس له أو نحو ذلك، وهم منحرفة المتكلمة.
وبإزائهم قوم أقاموا حروفه وحفظوه وتلوه من غير فقه فيه، ولا فهم لمعانيه، ولا معرفة للمقالات التي توافقه أو تخالفه، ووجه بيانه لمسائلها ودلائلها، وهم ظاهرية القراء والمحدثين ونحوهم. وهذان الصنفان نظير متفقه لا يعرف الحديث، أو صاحب حديث لا يتفقه فيه. وكذلك متكلم لا يتدبر القرآن أو قارئ لا يعرف من القرآن أنواع الكلام الحق والباطل، فهاتان فرقتان علميتان.
والثالثة: قوم تركوا استماع القلوب له والتنعم به، وتحرك القلب عن محركاته وذوق حلاوته، ووجود طعمه إلى سماع أصوات تغيره من شعر أو ملاهٍ، من أصوات الصابئة أو النصارى، أو ما هو مولد عن ذلك ومجانس له، أو نحو ذلك، وهم منحرفة المتصوفة والمتفقرة.
وبإزائهم قوم يصوتون به، ويسمعون قراءته من غير تحرك عنه، ولا وجْد فيه، ولا ذوق لحقائقه ومعانيه، وهم ظاهرية العباد والمتطوعة والمتقرئة، فهذان الصنفان صاحب حال تحرك الأصوات حاله، وليست تلك الحركة والحال عن الصوت بالقرآن، وصاحب مقال يميز بين الأقوال وينظر فيها وليس ذلك النظر والمقال عن القرآن، وبإزائهما صاحب عبادة ظاهرة معه استماع ظاهر القرآن وتلاوته، وصاحب علم ظاهر معه حفظ حروف القرآن أو تفسير حروفه من غريبه وإعرابه، وأسباب نزوله ونحو ذلك.
فهذه الأقسام الأربعة الذين وقفوا مع ظاهر العلم والعمل المشروعين، والذين خاضوا في باطن العلم والعمل، لكن غير المشروعين جاء التفريط والاعتداء منهم.
ولهذا وقع بينهم التعادي؛ فالأولون يرمون الآخرين بالبدعة والضلالة، وقد صدقوا. والآخرون ينسبون الأولين إلى الجهالة والعجز، وقد صدقوا. ثم قد يكون مع بعض الأولين كثير من العلم والعمل المشروع، كما قد يكون مع بعض الآخرين كثير من العلم الباطن والحال الكامن، كما قد روى الحسن البصري في مراسيله عن النبي ﷺ أنه قال: «العلم علمان: علم في القلب، وعلم في اللسان. فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده». وقال يحيى بن سعيد التيمي أبو حيان فيما رواه الخلال في جامعه عن الثوري: العلماء ثلاثة: فعالم بالله ليس عالمًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، وعالم بالله وبأمر الله.
هامش