مجموع الفتاوى/المجلد الثالث عشر/فصل في ذكر النوع الثاني من الاختلاف في التفسير
فصل في ذكر النوع الثاني من الاختلاف في التفسير
[عدل]وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف، وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان؛ فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفًا لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين، مثل تفسير عبد الرزاق، ووَكِيع، وعبد بن حُمَيد، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم. ومثل تفسير الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وبَقِيّ بن مُخَلَّد، وأبي بكر ابن المنذر، وسفيان بن عيينة، وسُنَيْد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي سعيد الأشج، وأبي عبد الله بن ماجه، وابن مردويه:
إحداهما: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.
والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه والمخاطب به.
فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.
والآخرون راعوا مجرد اللفظ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيرًا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة، كما يغلط في ذلك الذين قبلهم، كما أن الأولين كثيرًا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق.
والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقًا فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول.
وهذا كما أنه وقع في تفسير القرآن، فإنه وقع أيضا في تفسير الحديث، فالذين أخطؤوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهبًا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة، كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم. تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه، ومن هؤلاء فرق الخوارج، والروافض، والجهمية والمعتزلة، والقدرية، والمرجئة، وغيرهم.
وهذا كالمعتزلة مثلا فإنهم من أعظم الناس كلامًا وجدالا، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبم؛ مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي، ومثل كتاب أبي علي الجبائي، والتفسير الكبير للقاضي عبد الجابر بن أحمد الهمداني، ولعلي بن عيسى الرماني، والكشاف لأبي القاسم الزمخشري، فهؤلاء وأمثالهم اعتقدوا مذاهب المعتزلة.
وأصول المعتزلة خمسة، يسمونها هم: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتوحيدهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات وغير ذلك، قالوا: إن الله لا يرى، وإن القرآن مخلوق، وإنه ليس فوق العالم، وإنه لا يقوم به علم ولا قدرة، ولا حياة ولا سمع، ولا بصر ولا كلام، ولا مشيئة ولا صفة من الصفات.
وأما عدلهم فمن مضمونه أن الله لم يشأ جميع الكائنات ولا خلقها كلها، و لا هو قادر عليها كلها، بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أمر به شرعًا، وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته، وقد وافقهم على ذلك متأخرو الشيعة، كالمفيد، وأبي جعفر الطوسي وأمثالهما، ولأبي جعفر هذا تفسير على هذه الطريقة، لكن يضم إلى ذلك قول الإمامية الاثنى عشرية؛ فإن المعتزلة ليس فيهم من يقول بذلك ولا من ينكر خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
ومن أصول المعتزلة مع الخوارج: إنفاذ الوعيد في الآخرة، وأن الله لا يقبل في أهل الكبائر شفاعة، ولا يخرج منهم أحدًا من النار. ولا ريب أنه قد رد عليهم طوائف من المرجئة والكرامية والكلابية وأتباعهم، فأحسنوا تارة وأساؤوا أخرى، حتى صاروا في طرفي نقيض كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيًا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين: تارة من العلم بفساد قولهم، وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن، إما دليلا على قولهم أو جوابًا على المعارض لهم.
ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحًا، ويدس البدع في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله. وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك.
ثم إنه لسبب تطرف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية، ثم الفلاسفة، ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغ من ذلك، وتفاقم الأمر في الفلاسفة والقرامطة والرافضة، فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالم منها عجبه، فتفسير الرافضة كقولهم: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } 1 هما أبو بكر وعمر، و { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } 2، أي بين أبي بكر وعلى في الخلافة، و { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } 3 هي عائشة، و { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } 4 طلحة والزبير، و { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } 5 على وفاطمة، و { اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } 6 الحسن والحسين، و { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } 7 في علي بن أبي طالب، و { عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } 8 علي بن أبي طالب، و { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون } 9 هو علي. ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم، وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة، وكذلك قوله: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } 10 نزلت في علي لما أصيب بحمزة.
ومما يقارب هذا من بعض الوجوه ما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله: { الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } 11 أن الصابرين رسول الله، والصادقين أبو بكر، والقانتين عمر، والمنفقين عثمان، والمستغفرين علي، وفي مثل قوله: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أبو بكر { أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ } عمر { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } عثمان { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } 12 علي.
وأعجب من ذلك قول بعضهم { وَالتِّينِ } أبو بكر { وَالزَّيْتُونِ } عمر { وَطُورِ سِينِينَ } عثمان { وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } 13 علي، وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال، فإن هذه الألفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } كل ذلك نعت للذين معه، وهي التي يسميها النحاة خبرًا بعد خبر. والمقصود هنا أنها كلها صفات لموصوف واحد وهم الذين معه، ولا يجوز أن يكون كل منها مرادًا به شخص واحد، وتتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام منحصرًا في شخص واحد كقوله: إن قوله: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } أريد بها على وحده، وقول بعضهم: إن قوله: { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } 14 أريد بها أبو بكر وحده، وقوله: { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } 15 أريد بها أبو بكر وحده ونحو ذلك.
وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيرًا ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبري، وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرًا، ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة، لكن ينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب.
فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا.
وفي الجملة من عَدَل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك، بل مبتدعًا، وإن كان مجتهدًا مغفورًا له خطؤه. فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته، وطرق الصواب. ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله ﷺ، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعًا. ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية، كما هو مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير، وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دعت أهلها إلى أن حرفوا الكلم عن مواضعه، وفسروا كلام الله ورسوله ﷺ بغير ما أريد به، وتأولوه على غير تأويله، فمن أصول العلم بذلك أن يعلم الإنسان القول الذي خالفوه وأنه الحق، وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم، وأن يعرف أن تفسيرهم محدث مبتدع، ثم أن يعرف بالطرق المفصلة فساد تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق.
وكذلك وقع من الذين صنفوا في شرح الحديث وتفسيره من المتأخرين، من جنس ما وقع فيما صنفوه من شرح القرآن وتفسيره.
وأما الذين يخطؤون في الدليل لا في المدلول فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم، يفسرون القرآن بمعان صحيحة، لكن القرآن لا يدل عليها، مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في حقائق التفسير، وإن كان فيما ذكروه ما هو معان باطلة، فإن ذلك يدخل في القسم الأول، وهو الخطأ في الدليل والمدلول جميعًا، حيث يكون المعنى الذي قصدوه فاسدًا.
هامش
- ↑ [المسد: 1]
- ↑ [الزمر: 65]
- ↑ [البقرة: 67]
- ↑ [التوبة: 12]
- ↑ [الرحمن: 19]
- ↑ [الرحمن: 22]
- ↑ [يس: 12]
- ↑ [النبأ: 1، 2]
- ↑ [المائدة: 55]
- ↑ [البقرة: 157]
- ↑ [آل عمران: 17]
- ↑ [الفتح: 29]
- ↑ [التين: 1-3]
- ↑ [الزمر: 33]
- ↑ [الحديد: 10]