مجموع الفتاوى/المجلد الثالث عشر/فصل في تفسير قوله تعالى ما لهم به من علم
فصل في تفسير قوله تعالى ما لهم به من علم
[عدل]وقوله تعالى في هذه: { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ } 1، هو ذم لهم على اتباع الظن بلا علم، وكذلك قوله: { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } 2، وكذلك قوله: { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } 3، وقوله تعالى: { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } 4، وقوله: { أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } 5.
فهذه عدة مواضع يذم الله فيها الذين لا يتبعون إلا الظن، وكذلك قوله: { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } 6، مطالبة بالعلم وذم لمن يتبع الظن وما عنده علم، وكذلك قوله: { نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 7، وقوله: { وَإِنَّ كَثِيرا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ } 8، وأمثال ذلك ذم لمن عمل بغير علم، وعمل بالظن.
وقد ثبت في السنة المتواترة وإجماع الأمة أن الحاكم يحكم بشاهدين، وإن لم يكن شهود حلف الخصم. وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار».
والاجتهاد في تحقيق المناط مما اتفق المسلمون عليه، ولابد منه كحكم ذوي عدل بالمثل في جزاء الصيد، وكالاستدلال على الكعبة عند الاشتباه ونحو ذلك، فلا يقطع به الإنسان، بل يجوز أن تكون القبلة في غير جهة اجتهاده، كما يجوز إذا حكم أن يكون قد قضى لأحدهما بشيء من حق الآخر، وأدلة الأحكام لابد فيها من هذا؛ فإن دلالة العموم في الظواهر قد تكون محتملة للنقيض، وكذلك خبر الواحد والقياس، وإن كان قوم نازعوا في القياس، فالفقهاء منهم لم ينازعوا في خبر الواحد كالظاهرية، ومن نازع في هذا وهذا لم ينازع في العموم كالمعتزلة البغداديين، وإن نازع في العموم والقياس منازع، كبعض الرافضة مثل الموسوي ونحوه لم ينازع في الأخبار؛ فإن الإمامية عمدتهم على ما نقل عن الاثنى عشر، فلابد لهم من الرواية، ولا يوجد من يستغنى عن الظواهر والأخبار والأقيسة، بل لابد أن يعمل ببعض ذلك مع تجويز نقيضه، وهذا عمل بالظن، والقرآن قد حرم اتباع الظن.
وقد تنوعت طرق الناس في جواز هذا؛ فطائفة قالت: لا يتبع قط إلا العلم ولا يعمل بالظن أصلا، وقالوا: إن خبر الواحد يفيد العلم، وكذلك يقولون في الظواهر، بل يقولون: نقطع بخطأ من خالفنا، وننقض حكمه، كما يقوله داود وأصحابه، وهؤلاء عمدتهم إنما هو ما يظنونه ظاهرًا. وأما الاستصحاب، فالاستصحاب في كثير من المواضع من أضعف الأدلة وهم في كثير مما يحتجون به قد لا يكون ما احتجوا به ظاهر اللفظ، بل الظاهر خلافه، فطائفة قالت: لما قام الدليل على وجوب العمل بالظن الراجح كنا متبعين للعلم، فنحن نعمل بالعلم عند وجود العلم، لا نعمل بالظن. وهذه طريقة القاضي أبي بكر وأتباعه.
وهنا السؤال المشهور في حد الفقه: إنه العلم بالأحكام الشرعية العملية. وقال الرازي: العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة قال:
فإن قلت: الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علمًا؟
قلت: المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناطالحكم قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه، فالعلم حاصل قطعًا، والظن واقع في طريقه. وحقيقة هذا الجواب أن هنا مقدمتين: إحداهما: أنه قد حصل عندي ظن، والثانية: قد قام الدليل القطعي على وجوب اتباع هذا الظن.
فالمقدمة الأولى وجدانية والثانية عملية استدلالية؛ فليس الظن هنا مقدمة في الدليل كما توهمه بعضهم، لكن يقال: العمل بهذا الظن هو حكم أصول الفقه، ليس هو الفقه، بل الفقه هو ذاك الظن الحاصل بالظاهر، وخبر الواحد والقياس والأصول تفيد أن العمل بهذا الظن واجب. وإلا فالفقهاء لا يتعرضون لهذا، فهذا الحكم العملي الأصولي ليس هو الفقه، وهذا الجواب جواب القاضي أبي بكر، وهو بناه على أصله؛ فإن عنده كلَّ مجتهد مصيبٌ، وليس في نفس الأمر أمر مطلوب، ولا على الظن دليل يوجب ترجيح ظن على ظن، بل الظنون عنده بحسب الاتفاق.
وقال الغزالي وغيره ممن نصر قوله: قد يكون بحسب ميل النفس إلى أحد القولين دون الآخر، كميل ذي الشدة إلى قول، وذي اللين إلى قول.
وحينئذ فعندهم متى وجد المجتهد ظنًا في نفسه، فحكم الله في حقهاتباع هذا الظن. وقد أنكر أبو المعالي وغيره عليه هذا القول إنكارًا بليغًا، وهم معذورون في إنكاره؛ فإن هذا أولا مكابرة، فإن الظنون عليها أمارات ودلائل يوجب وجودها ترجيح ظن على ظن، وهذا أمر معلوم بالضرورة، والشريعة جاءت به ورجحت شيئًا على شيء، والكلام في شيئين: في اتباع الظن، وفي الفقه هل هو من الظنون؟
أما الأول: فالجواب الصحيح هو الجواب الثالث، وهو أن كل ما أمر الله تعالى به فإنما أمر بالعلم، وذلك أنه في المسائل الخفية عليه أن ينظر في الأدلة، ويعمل بالراجح، وكون هذا هو الراجح أمر معلوم عند أمر مقطوع به، وإن قدر أن ترجيح هذا على هذا فيه شك عنده لم يعمل به، وإذا ظن الرجحان فإنما ظنه لقيام دليل عنده على أن هذا راجح، وفرق بين اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد، أما اعتقاد الرجحان فقد يكون علمًا وقدلا يعمل حتى يعلم الرجحان، وإذا ظن الرجحان أيضا فلابد أن يظنه بدليل يكون عنده أرجح من دليل الجانب الآخر، ورجحان هذا غير معلوم، فلابد أن ينتهي الأمر إلى رجحان معلوم عنده، فيكون متبعًا لما علم أنه أرجح، وهذا اتباع للعلم لا للظن وهو اتباع الأحسن، كما قال: { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } 9، وقال: { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } 10، وقال: { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم } 11. فإذا كان أحد الدليلين هو الأرجح فاتباعه هو الأحسن، وهذا معلوم.
فالواجب على المجتهد أن يعمل بما يعلم أنه أرجح من غيره، وهو العمل بأرجح الدليلين المتعارضين. وحينئذ، فما عمل إلا بالعلم وهذا جواب الحسن البصري، وأبيّ وغيرهم. والقرآن ذم من لا يتبع إلا الظن فلم يستند ظنه إلى علم بأن هذا أرجح من غيره؛ كما قال: { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ } 12، وقال: { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ } 13، وهكذا في سائر المواضع يذم الذين إن يتبعون إلا الظن، فعندهم ظن مجرد لا علم معه، وهم يتبعونه، والذي جاءت به الشريعة وعليه عقلاء الناس أنهم لا يعملون إلا بعلم بأن هذا أرجح من هذا، فيعتقدون الرجحان اعتقادًا عمليًا، لكن لا يلزم إذا كان أرجح ألا يكون المرجوح هو الثابت في نفس الأمر.
وهذا كما ذكر النبي ﷺ، حيث قال: «ولعل بعضكم أن يكون ألْحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع»، فإذا أتى أحد الخصمين بحجة، مثل بينة تشهد له، ولم يأت الآخر بشاهد معها، كان الحاكم عالمًا بأن حجة هذا أرجح، فما حكم إلا بعلم، لكن الآخر قد يكون له حجة لا يعلمها أو لا يحسن أن يبينها، مثل أن يكون قد قضاه أو أَبرأه، وله بينة تشهد بذلك، وهو لا يعلمها، أو لا يذكرها، أو لا يجسر أن يتكلم بذلك، فيكون هو المضيع لحقه، حيث لم يبين حجته، والحاكم لم يحكم إلا بعلم وعدل، وضياع حق هذا كان من عجزه وتفريطه لا من الحاكم.
وهكذا أدلة الأحكام، فإذا تعارض خبران، أحدهما مسند ثابت والآخر مرسل، كان المسند الثابت أقوى من المرسل، وهذا معلوم؛ لأن المحدث بهذا قد علم عدله وضبطه، والآخر لم يعلم عدله ولا ضبطه، كشاهدين زكى أحدهما ولم يزك الآخر، فهذا المزكى أرجح، وإن جاز أن يكون في نفس الأمر قول الآخر هو الحق، لكن المجتهد إنما عمل بعلم، وهو علمه برجحان هذا على هذا، ليس ممن لم يتبع إلا الظن، ولم يكن تبين له إلا بعد الاجتهاد التام فيمن أرسل ذلك الحديث، وفي تزكية هذا الشاهد، فإن المرسل قد يكون راويه عدلا حافظًا، كما قد يكون هذا الشاهد عدلا.
ونحن ليس معنا علم بانتفاء عدالة الراوي، لكن معنا عدم العلم بعدالتهما، وقد لا تعلم عدالتهما مع تقويتها ورجحانها في نفس الأمر، فمن هنا يقع الخطأ في الاجتهاد، لكن هذا لا سبيل إلى أن يكلفه العالم أن يدع ما يعلمه إلى أمر لا يعلمه لإمكان ثبوته في نفس الأمر، فإذا كان لابد من ترجيح أحد القولين وجب ترجيح هذا الذي علم ثبوته على ما لا يعلم ثبوته، وإن لم يعلم انتفاؤه من جهته، فإنهما إذا تعارضا وكانا متناقضين، فإثبات أحدهما هو نفي الآخر، فهذا الدليل المعلوم قد علم أنه يثبت هذا وينفي ذلك، وذلك المجهول بالعكس، فإذا كان لابد من الترجيح وجب قطعًا ترجيح المعلوم ثبوته على ما لم يعلم ثبوته.
ولكن قد يقال: إنه لا يقطع بثبوته، وقد قلنا: فرق بين اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد، أما اعتقاد الرجحان فهو علم، والمجتهد ما عمل إلا بذلك العلم، وهو اعتقاد رجحان هذا على هذا، وأما رجحان هذا الاعتقاد على هذا الاعتقاد فهو الظن، لكن لم يكن ممن قال الله فيه: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } 14، بل هنا ظن رجحان هذا وظن رجحان ذاك، وهذا الظن هو الراجح، ورجحانه معلوم، فحكم بما علمه من الظن الراجح ودليله الراجح، وهذا معلوم له لا مظنون عنده، وهذا يوجد في جميع العلوم، والصناعات، كالطب، والتجارة، وغير ذلك.
وأما الجواب عن قولهم: الفقه من باب الظنون: فقد أجاب طائفة منهم أبو الخطاب بجواب آخر، وهو أن العلم المراد به العلم الظاهر، وإن جوز أن يكون الأمر بخلافه، كقوله: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } 15.
والتحقيق أن عنه جوابين:
أحدهما: أن يقال: جمهور مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس ويفتون بها هي ثابتة بالنص أو الإجماع، وإنما يقع الظن والنزاع في قليل مما يحتاج إليه الناس، وهذا موجود في سائر العلوم، وكثير مسائل الخلاف هي في أمور قليلة الوقوع ومقدرة، وأما ما لابد للناس منه من العلم مما يجب عليهم ويحرم ويباح فهو معلوم مقطوع به، وما يعلم من الدين ضرورة جزء من الفقه، وإخراجه من الفقه قول لم يعلم أحد من المتقدمين قاله، ولا احترز بهذا القيد أحد إلا الرازي ونحوه، وجميع الفقهاء يذكرون في كتب الفقه وجوب الصلاة والزكاة، والحج واستقبال القبلة، ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة، وتحريم الخمر والفواحش، وغير ذلك مما يعلم من الدين ضرورة.
وأيضا، فكون الشيء معلومًا من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام، ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية، فضلا عن كونه يعلمه بالضرورة، وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي ﷺ سجد للسهو، وقضى بالدية على العاقلة، وقضى أن الولد للفراش وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة، وأكثر الناس لا يعلمه البتة.
الجواب الثاني: أن يقال: الفقه لا يكون فقهًا إلا من المجتهد المستدل، وهو قد علم أن هذا الدليل أرجح وهذا الظن أرجح، فالفقه هو علمه برجحان هذا الدليل وهذا الظن؛ ليس الفقه قطعه بوجوب العمل، أي بما أدى إليه اجتهاده، بل هذا القطع من أصول الفقه، والأصولي يتكلم في جنس الأدلة، ويتكلم كلامًا كليلا، فيقول: يجب إذا تعارض دليلان أن يحكم بأرجحهما، ويقول أيضا: إذا تعارض العام والخاص فالخاص أرجح، وإذا تعارض المسند والمرسل فالمسند أرجح، ويقول أيضا: العام المجرد عن قرائن التخصيص شموله الأفراد أرجح من عدم شموله، ويجب العمل بذلك.
فأما الفقيه: فيتكلم في دليل معين في حكم معين، مثل أن يقول: قوله: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } 16، خاص في أهل الكتاب، ومتأخر عن قوله: { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } 17 وتلك الآية لا تتناول أهل الكتاب، وإن تناولتهم فهذا خاص متأخر، فيكون ناسخًا ومخصصًا، فهو يعلم أن دلالة هذا النص على الحِلِّ أرجح من دلالة ذلك النص على التحريم، وهذا الرجحان معلوم عنده قطعًا، وهذا الفقه الذي يختص به الفقيه هو علم قطعي لا ظني، ومن لم يعلم كان مقلدًا للأئمة الأربعة والجمهور الذين جوزوا نكاح الكتابيات، واعتقاد المقلد ليس بفقه.
ولهذا قال المستدل على أعيانها: والفقيه قد استدل على عينالحكم المطلوب والمسؤول عنه، وحيث لا يعلم الرجحان فهو متوقف لا قول له، وإذا قيل له: فقد قال: { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } 18 قال: هذا نزل عام الحُدَيْبِيَة، والمراد به المشركات، فإن سبب النزول يدل على أنهن مرادات قطعًا، وسورة المائدة بعد ذلك، فهي خاص متأخر وذاك عام متقدم، والخاص المتأخر أرجح من العام المتقدم.
ولهذا لما نزل قوله: { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فارق عمر امرأة مشركة، وكذلك غيره، فدل على أنهم كانوا ينكحون المشركات إلى حين نزول هذه الآية، ولو كانت آية البقرة قد نزلت قبل هذه لم يكن كذلك، فدل على أن آية البقرة بعد آية الممتحنة، وآية المائدة بعد آية البقرة. فهذا النظر وأمثاله هو نظر الفقيه العالم برجحان دليل، وظن على دليل، وهذا علم لا ظن.
فقد تبين أن الظن له أدلة تقتضيه، وأن العالم إنما يعلم بما يوجب العلم بالرجحان لا بنفس الظن إلا إذا علم رجحانه، وأما الظن الذي لا يعلم رجحانه فلا يجوز اتباعه، وذلك هو الذي ذم الله به من قال فيه: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } 19، فهم لا يتبعون إلا الظن، ليس عندهم علم، ولو كانوا عالمين بأنه ظن راجح، لكانوا قد اتبعوا علمًا لم يكونوا ممن يتبع إلا الظن، والله أعلم.
هامش
- ↑ [النساء: 157]
- ↑ [النجم: 23]
- ↑ [النجم: 28]
- ↑ [يونس: 66]
- ↑ [يونس: 35، 36]
- ↑ [الأنعام: 148، 149]
- ↑ [الأنعام: 143]
- ↑ [الأنعام: 119]
- ↑ [الأعراف: 145]
- ↑ [الزمر: 18]
- ↑ [الزمر: 55]
- ↑ [النساء: 157]
- ↑ [الأنعام: 148]
- ↑ [النجم: 23]
- ↑ [الممتحنة: 10]
- ↑ [المائدة: 5]
- ↑ [البقرة: 221]
- ↑ [الممتحنة: 10]
- ↑ [النجم: 23]