انتقل إلى المحتوى

مجموع الفتاوى/المجلد الثالث عشر/سئل عن طائفة من المتفقرة يدعون أن للقرآن باطنا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


سئل عن طائفة من المتفقرة يدعون أن للقرآن باطنا

[عدل]

وسُئِلَ شَيخُ الإِسْلام قَدسَ اللَّه روحه عن طائفة من المتفقرة يدعون أن للقرآن باطنا، وأن لذلك الباطن باطنًا إلى سبعة أبطن، ويروون في ذلك حديثًا أن النبي قال: «للقرآن باطن، وللباطن باطن إلى سبعة أبطن»، ويفسرون القرآن بغير المعروف عن الصحابة والتابعين والأئمة من الفقهاء، ويزعمون أن عليًا قال: لو شئت لأوقرت من تفسير فاتحة الكتاب كذا وكذا حمل جمل، ويقولون: إنما هو من علمنا إذ هو اللّدُنِّي.

ويقولون كلامًا، معناه: أن رسول الله خص كل قوم بما يصلح لهم، فإنه أمر قومًا بالإمساك، وقومًا بالإنفاق، وقومًا بالكسب، وقومًا بترك الكسب. ويقولون: إن هذا ذكرته أشياخنا في العوارف وغيره من كتب المحققين، وربما ذكروا أن حذيفة كان يعلم أسماء المنافقين، خصه بذلك رسول الله ، وبحديث أبي هريرة: «حفظت جِرَابين».

ويروون كلامًا عن أبي سعيد الخراز أنه قال: للعارفين خزائن أودعوها علومًا غريبة يتكلمون فيها بلسان الأبدية، يخبرون عنها بلسان الأزلية، ويقولون: إن رسول الله قال: «إن من العلم كهيئة المخزون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغِرَّة بالله» 1. فهل ما ادعوه صحيحًا أم لا؟

فسيدي يبين لنا مقالاتهم؛ فإن المملوك وقف على كلام لبعض العلماء ذكر فيه أن الواحدي قال: ألف أبو عبد الرحمن السلمي كتابًا سماه حقائق التفسير إن صح عنه فقد كفر، ووقفت على هذا الكتاب فوجدت كلام هذه الطائفة منه أو ما شابهه، فما رأى سيدي في ذلك؟ وهل صح عن النبي أنه قال: للقرآن باطن الحديث يفسرونه على ما يرونه من أذواقهم ومواجيدهم المردودة شرعًا؟ أفتونا مأجورين.

فأجابَ الشيخ رضي الله عنه:

الحمد للّه رب العالمين. أما الحديث المذكور، فمن الأحاديث المختلقة التي لم يروها أحد من أهل العلم، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث؛ ولكن يروى عن الحسن البصري موقوفًا أو مرسلا: «أن لكل آية ظهرًا وبطنًا وحدّا ومَطْلَعًا» وقد شاع في كلام كثير من الناس: علم الظاهر، وعلم الباطن، و أهل الظاهر، وأهل الباطن. ودخل في هذه العبارات حق وباطل.

وقد بسط هذا في غير هذا الموضع؛ لكن نذكر هنا جملا من ذلك فنقول:

قول الرجل: الباطن، إما أن يريد علم الأمور الباطنة، مثل: العلم بما في القلوب من المعارف والأحوال، والعلم بالغيوب التي أخبرت بها الرسل، وإما أن يريد به العلم الباطن، أي الذي يبطن عن فهم أكثر الناس، أو عن فهم من وقف مع الظاهر ونحو ذلك.

فأما الأول، فلا ريب أن العلم منه ما يتعلق بالظاهر، كأعمال الجوارح. ومنه ما يتعلق بالباطن، كأعمال القلوب. ومنه ما هو علم بالشهادة، وهو ما يشهده الناس بحواسهم. ومنه ما يتعلق بالغيب، وهو ما غاب عن إحساسهم.

وأصل الإيمان هو الإيمان بالغيب، كما قال تعالى: { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } 2 والغيب الذي يؤمن به ما أخبرت به الرسل من الأمور العامة، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، وملائكته والجنة، والنار. فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر يتضمن الإيمان بالغيب؛ فإن وصف الرسالة هو من الغيب، وتفصيل ذلك هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، كما ذكر الله تعالى ذلك في قوله: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } 3، وقال: { وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلا بَعِيدًا } 4.

والعلم بأحوال القلوب كالعلم بالاعتقادات الصحيحة والفاسدة، والإرادات الصحيحة والفاسدة، والعلم بمعرفة الله ومحبته، والإخلاص له وخشيته، والتوكل عليه، والرجاء له، والحب فيه، والبغض فيه، والرضا بحكمه، والإنابة إليه، والعلم بما يُحْمَد ويُذَم من أخلاق النفوس، كالسخاء والحياء، والتواضع والكبر، والعجب والفخر، والخيلاء، وأمثال ذلك من العلوم المتعلقة بأمور باطنة في القلوب ونحوه قد يقال له: علم الباطن أي علم بالأمر الباطن، فالمعلوم هو الباطن. وأما العلم الظاهر فهو ظاهر يتكلم به ويكتب، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، وكلام السلف وأتباعهم، بل غالب آي القرآن هو من هذا العلم؛ فإن الله أنزل القرآن { وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } 5. بل هذا العلم هو العلم بأصول الدين، فإن اعتقاد القلب أصل لقول اللسان، وعمل القلب أصل لعمل الجوارح، والقلب هو مَلِكَ الْبَدَن، كما قال أبوهريرة رضي الله عنه: القلب مَلِك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده. وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: «ألا وإن في الجسد مُضْغَة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب».

ومن لم يكن له علم بما يصلح باطنه ويفسده، ولم يقصد صلاح قلبه بالإيمان ودفع النفاق- كان منافقًا إن أظهر الإسلام؛ فإن الإسلام يظهره المؤمن والمنافق وهو علانية، والإيمان في القلب، كما في المسند عن النبي أنه قال: «الإسلام عَلانِية والإيمان في القلب»، وكلام الصحابة والتابعين والأحاديث والآثار في هذا أكثر منها في الإجارة والشفعة والحيض والطهارة بكثير كثير؛ ولكن هذا العلم ظاهر موجود مقول باللسان، مكتوب في الكتب؛ ولكن من كان بأمور القلب أعلم، كان أعلم به، وأعلم بمعاني القرآن والحديث.

وعامة الناس يجدون هذه الأمور في أنفسهم ذوقًا ووجْدًا، فتكون محسوسة لهم بالحس الباطن؛ لكن الناس في حقائق الإيمان متفاضلون تفاضلا عظيمًا، فأهل الطبقة العليا يعلمون حال أهل السفلى من غير عكس، كما أن أهل الجنة في الجنة ينزل الأعلى إلى الأسفل، ولا يصعد الأسفل إلى الأعلى، والعالم يعرف الجاهل؛ لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم لأنه لم يكن عالما؛ فلهذا كان في حقائق الإيمان الباطنة وحقائق أنباء الغيب التي أخبرت بها الرسل ما لا يعرفه إلا خواص الناس، فيكون هذا العلم باطنًا من جهتين: من جهة كون المعلوم باطنًا، ومن جهة كون العلم باطنًا لا يعرفه أكثر الناس. ثم إن هذا الكلام في هذا العلم يدخل فيه من الحق والباطل ما لا يدخل في غيره، فما وافق الكتاب والسنة فهو حق، وما خالف ذلك فهو باطل كالكلام في الأمور الظاهرة.


هامش

  1. [وقوله: أهل الغِرَّة أي أهل الغفلة]
  2. [البقرة: 1 3]
  3. [البقرة: 177]
  4. [النساء: 136]
  5. [يونس: 57]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثالث عشر
فصل في الفرقان بين الحق والباطل | فصل في أن الله يجمع بين الأمور المتماثلة | فصل إذا عرف تفسير القرآن والحديث من جهة النبي فلا يحتاج إلى أقوال أهل اللغة | فصل فيمن خالف ما جاء به النبي | فصل في تحريف الإنجيل | فصل في تفسير قوله تعالى ما لهم به من علم | فصل في تأويل حججهم الباطلة | فصل في اشتراك الجهمية والمعتزلة في نفي الصفات | فصل في أن ما أنزله الله على رسله هو الحق | فصل في أحوال أهل الضلال والبدع | تابع فصل في أحوال أهل الضلال والبدع | فصل من أعظم أسباب ضلالهم مشاركتهم للفلاسفة | فصل في أول التفرق والابتداع في الإسلام | فصل في ظهور القدرية في آخر عهد الصحابة | سئل عن طائفة من المتفقرة يدعون أن للقرآن باطنا | فصل في ماهية العلم الباطن | فصل في قول من قال إن النبي خص كل قوم بما يصلح لهم | فصل في أقسام القلوب | فصل في حكم إدخال أسماء الله وصفاته في المتشابه | فصل في أقسام القرآن | فصل في قسمه تعالى بالصافات والذاريات والمرسلات | مقدمة في التفسير وعلوم القرأن | فصل في أن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه | فصل في ذكر خلاف السلف في التفسير | فصل في الاختلاف في التفسير | فصل في ذكر النوع الثاني من الاختلاف في التفسير | فصل في قول القائل ما أحسن طرق التفسير | فصل في تفسير التابعين للقرآن الكريم | فصل في ذكر من انحرف عن القرآن الكريم | فصل في حكم إجراء القرآن على الظاهر | سئل عمن فسر القرآن برأيه | سئل عمن نسخ القرآن والحديث بيده | سئل عن قول النبي أنزل القرآن على سبعة أحرف | سئل عن جمع القراءات السبع | فصل في تحزيب القرآن | سئل عمن يقرؤون القرآن في ختمة إلى سورة الضحى ولم يهللوا ولم يكبروا | وسئل عن قول الإمام مالك من كتب مصحف بغير الرسم العثماني فقد أثم | سئل عن قوم يقرؤون القرآن ويلحنون فيه | سئل عن رجل يتلو القرآن مخافة النسيان